ابتداء خلقها وإبداع نور المخدرة الطاهرة صلوات الله عليها
الأخبار الدالة على خلقتها النورانية ، وما ذهب إليه الفريقان من العقيدة الراسخة الثابتة للشيعة الإمامية ، وما ذهب إليه العامة العمياء .وقد اتفق الفريقان على أن نور الرسول ( صلى الله عليه وآله ) الموفور السرور كان في أول الإيجاد ، لم يسبقه سابق ولا تقدمه متقدم .واتفق الفريقان على رواية حديث « أول ما خلق الله نوري »; ومن نوره المقدس انسلت بقية الأنوار وظهرت في عرصة الوجود ، فهو ( صلى الله عليه وآله ) أنور الأنوار .وفي الحديث « خلق الله الأشياء بالمشيئة » ، والمشيئة بنفسها تعني أن وجوده لم يكون مسبوقا بوجود آخر ، وأن كل الموجودات معلولة لوجوده المبارك « لولاك لما خلقت الأفلاك » والذات المقدسة علة لها والعله أسبق وأشرف من المعلول .وفي حديث « أول ما خلق الله نوري » إشارة إلى أن وجودي من الحق تعالى ، ونوري مشتق من مبدأ الربوبية ، ولي خالق أوجدني من العدم وألبسني خلعت الوجود وأفاض علي الحياة .وقد تبين من الأخبار المتواترة والآثار المتكاثرة أن عالم الأنوار يختلف عن العوالم الأخرى ، فهو أفضل وأعلى رتبة ، كما أن اختلاف مراتب الأنوار أيضا مطلب في غاية الوضوح ، ولا ضير في اختلاف الأخبار في ابتداء الخلقة في ذكر الأعوام والسنين ، مثل الأربعة آلاف سنة ، ومائة وأربعة وعشرين ، وألف ألف دهر ، وأربعين ألف ، وألفي عام وغيرها ، لإمكان الجمع بينها .ونبدأ في إثبات المراد وصحة المقصود بحديث أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي أخرجه أبو الحسن البكري شيخ الشهيد الثاني في كتاب الأنوار ، وفيه كفاية ، قال في أول الحديث : « كان الله ولا شئ معه ، فأول ما خلق الله نور حبيبه محمد قبل خلق العرش والكرسي والسماوات والأرض واللوح والقلم والجنة والنار والملائكة وآدم وحواء بأربعة وعشرين وأربعمائة ألف عام » وكانت له تسبيحات الخاصة » .فأول ما خلق ، وأول ما صدر ، وأول ما ظهر نور نبينا ( صلى الله عليه وآله ) .وحديث جابر « أول شئ خلق الله نور نبيك يا جابر ثم خلق منه كل خير » .وأيضا عن جابر بن عبد الله [ قال : ] قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « أول ما خلق الله نوري ، ففتق منه نور علي ( عليه السلام ) . . الخ » .وفي حديث جابر بن يزيد الجعفي عن الباقر ( عليه السلام ) : كان الله ولا شئ غيره ، ولا معلوم ولا مجهول ، فأول ما ابتدأ من خلقه أن خلق محمدا ( صلى الله عليه وآله ) وخلفاءه من أهل بيته معه من نوره وعظمته » .وأما إيجاد نور فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بالإنفراد ، مع قدم نور النبوة والولاية ، فالمستفاد من بعض الأخبار والآثار أن نورها مقدم ومخلوق بالاستقلال ، ومن بعضها أنها خلقت من نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ويظهر من بعض الأخبار المعتبرة أنها خلقت من نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .وفي حديث الخصال ومعاني الأخبار والعلل عن معاذ بن جبل ، أن نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأمير ( عليه السلام ) والحسنين ( عليهما السلام ) خلق جميعا قبل سبعة آلاف سنة ، وليس فيه ترتب بين أنوارهم ( عليهم السلام ) .وعليه ففي إبداع النور الفاطمي أربعة طوائف من الأخبار ، أرجحها وأوضحها حديث جابر وأبي الحسن البكري .وروي اتحاد نور النبوة والولاية بمفاد « أنا وعلي من نور واحد » .ثم انقسم هذا النور إلى جزئين ، النور النبوي ، والنور العلوي ، فخلق النور الفاطمي من نور النبوة ، ونور الحسنين ( عليهما السلام ) من نور فاطمة أو من نور الولاية .نعم ; يستفاد من الحديث الذي أخرجه المجلسي ( رحمه الله ) في المجلد السابع والعاشر من البحار ، عن كتاب رياض الجنان لفضل الله بن محمود الفارسي بحذف الاسناد ، عن أنس بن مالك ، عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذيل قوله تعالى ( أولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين ) : أن نور فاطمة خلق في أول الإيجاد والإبداع بالإنفراد دون الاشتراك ; قال ( صلى الله عليه وآله ) في آخر الحديث : ثم إن الله خلق الظلمة بالقدرة ، فأرسلها في سحائب البصر ، فقالت الملائكة : سبوح قدوس ربنا ، مذ عرفنا هذه الأشباح ما رأينا سوء ; فبحرمتهم إلا كشفت ما نزل بنا ، فهنالك خلق الله تعالى قناديل الرحمة وعلقها على سرادق العرش ، فقالت الملائكة : إلهنا لمن هذه الفضيلة وهذه الأنوار ؟ ! فقال : هذا نور أمتي فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، فلذلك سميت أمتي الزهراء لأن السماوات والأرضين بنورها زهرت ، وهي آنية نبيي وزوجة وصيه .ولا تعارض بين ظهور نور تلك المخدرة في السماوات وبين سبق النور النبوي المقدس وقدمه ، فهذا الإظهار والأزهار جلوة من جلوات سيدة الكائنات ، كما أن الوجود الفاطمي المقدس جلوة من الجلوات المحمدية ( صلى الله عليه وآله ) .روى الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والطبرسي وصاحب كشف الغمة رضوان الله عليهم عن الفضل بن شاذان معنعنا عن الإمام موسى بن جعفر ، قال : « إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد من اختراعه من نور عظمته وجلاله ، وهو نور لاهوتيته الذي تبدى وتجلى لموسى ( عليه السلام ) في طور سيناء ، فما استقر له ولا أطاق موسى لرؤيته ولا ثبت له حتى خر صعقا مغشيا عليه ، وكان ذلك النور نور محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، فلما أراد أن يخلق محمدا ( صلى الله عليه وآله ) منه ، قسم ذلك النور شطرين : فخلق من الشطر الأول محمدا ، ومن الشطر الآخر علي بن أبي طالب ، ولم يخلق من ذلك النور غيرهما ، خلقهما بيده ، ونفخ فيهما بنفسه لنفسه ، وصورهما على صورتهما ، وجعلهما أمناء له وشهداء على خلقه ، وخلفاء على خليقته ، وعينا له عليهم ، ولسانا له إليهم ، قد استودع فيهما علمه ، وعلمهما البيان ، واستطلعهما على غيبه ، وبهما فتح بدء الخلائق ، وبهما يختم الملك المقادير [ فجعل أحدهم بمنزلة النفس والآخر بمنزلة الروح ، فلا يقوم أحدهم إلا بالآخر ، ظاهرهم بشري وباطنهم لاهوتي ، فجعل ظاهرهم بري ، ليطيق الناس النظر إلى شمسهم المشرقة وبدرهم الساطع ] ثم اقتبس من نور محمد فاطمة ابنته كما اقتبس نوره من المصابيح ، هم خلقوا من الأنوار وانتقلوا من ظهر إلى ظهر ، ومن صلب إلى صلب ، ومن رحم إلى رحم في الطبقة العليا من غير نجاسة ، بل نقل بعد نقل ، لا من ماء مهين ولا نطفة خشرة كسائر خلقه ، بل أنوار انتقلوا من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات ، لأنهم صفوة الصفوة . . . »صلوات الله عليهم أجمعين . وفي كتاب مقتضب الأثر في النص على الأئمة الإثنا عشر ، عن سلمان ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في حديث طويل :« . . خلقني الله من صفوة نوره ، ودعاني فأطعت ، وخلق من نوري عليا فدعاه فأطاعه ، وخلق من نوري ونور علي فاطمة ، فدعاها فأطاعته ، وخلق مني ومن علي وفاطمة الحسن والحسين ، فدعاهما فأطاعاه ، فسمانا بالخمسة الأسماء من أسمائه : الله المحمود وأنا محمد ( صلى الله عليه وآله ) ، والله العلي وهذا علي ، والله الفاطر وهذه فاطمة ، والله ذو الإحسان وهذا الحسن ، والله المحسن وهذا الحسين ، ثم خلق منا من صلب الحسين تسعة أئمة ، فدعاهم فأطاعوه قبل أن يخلق الله سماء مبنية وأرضا مدحية أو هواء أو ماء أو ملكا أو بشرا ، وكنا بعلمه نورا نسبحه ونسمع ونطيع . . الخبر .فنور النبي ونور الأمير ( عليهما السلام ) كان واحدا وفي درجة ومقام واحد ، ونور الحسنين أدنى منهما ، ونور فاطمة منفردا بين الدرجة الأولى والأخرى ، نقطة واحدة بين الخطين ، ينتهي إليها الخط العالي وينتمي إليها الداني ، قال تعالى : ( مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان * يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان ) .وبعبارة أخرى : إن فاطمة الزهراء بمنزلة القلب من الأركان الأربعة لعالم الإمكان ، والقطب والقلب واحد في مملكة البدن .وقال العرفاء : أغلب أعضاء البدن زوجية إلا القلب واللسان فهي فرد فرد ، واللسان ترجمان القلب ، يعني عليك أن تنظر إلى أحدهما وتمكن الآخر في القلب ، وتقرأ أحدهما وتجري الآخر على اللسان .فإذا كان الأربعة في مقامهم يمثلون الأركان العظمى في هذا العالم ، ففاطمة الزهراء ( عليها السلام ) بمثابة القلب والفؤاد والروح لهم ، وذاتها المقدسة مجهولة بلا عنوان .وبعبارة أخرى : إن اسمها وذاتها وأصلها وفرعها وزوجها وذريتها الطاهرة وشيعتها الباهرة كلهم جاؤوا من عالم النور ، واستغرقوا في النور ، بل هم نور على نور .وإذا كان أبوها نور الأنوار ، فهي أم الأنوار ، وهذا هو المراد من قوله تعالى ( واتبعوا الرسول والنور الذي أنزل معه ).وسواء كان نور فاطمة ( عليها السلام ) مخلوقا بالإنفراد ، أو من نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، أو من نور الرب ، فهو على كل حال من نوع واحد ومن مصدر واحد ومن مبدأ ومنشأ واحد ، ولكنه كان يختلف في تجلياته حسب الوقت والزمان والحكمة المعلومة واستعداد القبول في تلك المستورة ، أم الفضائل ، فهي بذاتها وحقيقتها تتجلى في الملكوت الأعلى تجليات خاصة ، وتتسمى في كل تجل باسم ولقب خاص ، كما ذكرنا ذلك في الكلام عن معنى الزهراء والمنصورة والنورية .وكان آخر تجليات أم الأنوار وعيبة الأسرار في عالم الشهود ، حيث تجلت وهي في الكسوة البشرية الحسية .ومن المعلوم أن العوالم العلوية أفسح وأوسع من العوالم السفلية ، ويختلف الاستعداد والقابلية في كل واحد منهما بالنسبة إلى الآخر حسب العلو والدنو ، ولذا تكون الجلوة الوجودية والأنوار الحقة لفاطمة الزهراء هناك أظهر وأجلى .أما في هذا الفضاء الضيق الدنيوي ، فكانت تبدو لسلطان الولاية شمسا مرة وقمرا مرة وكوكبا دريا مرة أخرى ، وتتجلى له بأنوار وأطوار أخرى أحيانا ، وتتجلى للآخرين حسب قابلياتهم ولياقاتهم ، وتتجلى لأهل السماء كلما وقفت في محراب عبادتها بنحو خاص ، وتتجلى لقلوب شيعتها الصافية بنور إيمانها إلى يوم القيامة . .فإذا كان يوم القيامة كشف حقائق الأعيان والأشخاص يوم الحاقة ، أمر الله بإظهار أنوارها تامة ، فتتجلى بنورها البهيج فتحيط كل من في المحشر من الأولين والآخرين ، بل تعم به الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين والأولياء الكاملين والشهداء والصالحين والصديقين من المؤمنين ، فتدهش الأبصار وتوله القلوب ، حتى يتمنى كل واحد أن يكون فاطميا وأن يحسب في الفاطميين ، وكأن قبة القيامة فاطمية ، وجميع الشرائع والملل منضوية تحت الراية الإسلامية ، فلا يبقى ذكر ولا فكر ولا همة إلا انحصر في النظر إلى أنوارها الجمالية وآثارها الجلالية ، ولتشبت الجميع بالأذيال الفاطمية .ولا يبعد أن يتوسل بها حتى الأنبياء العظام ، وكل منهم قطرة من قطرات بحار أنوار أبيها ، فيمدون يد الحاجة إلى شفيعة يوم الجزاء ، ويلتجأون إليها ليأمنوا من أهوال القيامة وفزعها .ولذا ينادى في أهل المحشر أن « غضوا أبصاركم ونكسوا رؤوسكم » وطأطئوا رؤوسكم ، فلا أحد يقوى على مشاهدة جلوات أنوارها في عالم الملكوت وعرصات القيامة ، وغضوا أبصاركم لأن أهل المحشر لا قابلية لهم لمشاهدة الأنوار الزاهرة الباهرة ، فغضوا الأبصار لئلا يفنى الناظرين .ولا يدري أحد كيف ستشرق أنوارها وكيف تتجلى سيدة نساء الأولين والآخرين في أعلى عليين وفي الخلد وهي ( في مقعد صدق عند مليك مقتدر ) فتلك الأنوار كانت منذ اليوم الأول ، وظهرت وتلألأت في اليوم الآخر ، فمنذ مبدأ المبادي إلى يوم ينادي المنادي تتقلب أنوارها من عالم إلى عالم ، وكلما دخلت عالما نشرت فيه النور والسرور ، حتى تسطع في يوم المعاد والميقات ، وسيأتي بيانه في بحث القيامة في خصيصة الشفاعة إن شاء الله تعالى .وبعد هذه المقدمة الموجزة أرى لزاما أن أتعرض في هذه الخصيصة إلى ما خلق الله من نور فاطمة ( عليها السلام ) .ففي رياض الجنان والبحار عن أنس بن مالك والعباس بن عبد المطلب في حديث ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مخاطبا عمه العباس : « يا عم ! لما أراد الله أن يخلقنا تكلم بكلمة خلق منها نورا ، ثم تكلم بكلمة أخرى فخلق منها روحا ، ثم مزج النور بالروح فخلقني وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين ، فكنا نسبحه حين لا تسبيح ، ونقدسه حين لا تقديس .فلما أراد الله تعالى أن ينشئ خلقه فتق نوري فخلق منه العرش ، فالعرش من نوري ، ونوري من نور الله ، ونوري أفضل من العرش .ثم فتق نور أخي علي فخلق منه الملائكة ، فالملائكة من نور علي ، ونور علي من نور الله ، وعلي أفضل من الملائكة .ثم فتق نور ابنتي فخلق منه السماوات والأرض ، فالسماوات والأرض من نور ابنتي فاطمة ، ونور ابنتي فاطمة من نور الله ، وابنتي فاطمة أفضل من السماوات والأرض .ثم فتق نور ولدي الحسن فخلق منه الشمس والقمر ، فالشمس والقمر من نور ولدي الحسن ، ونور الحسن من نور الله ، والحسن أفضل من الشمس والقمر .ثم فتق نور ولدي الحسين فخلق منه الجنة والحور العين ، فالجنة والحور العين من نور ولدي الحسين ، ونور ولدي الحسين من نور الله ، وولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين . . . » .ثم ذكر ظهور الظلمة وخلق قنديل الرحمة وتعليقه على سرادقات العرش وظهور نور الزهراء ( عليها السلام ) في السماوات والأرضين ، وقد مر ذكره في ما مضى .فتبين أن العرش والسماوات والأرضين والشمس والقمر والجنة وما فيها والملائكة جميعا خلقت من الوجود المقدس للخمسة الطيبة الطاهرة ( عليهم السلام ) .ولنعم ما قيل :أقول وروح القدس ينفث في نفسي * فإن وجود الحق في عدد الخمس وفي إرشاد القلوب عن سلمان عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه قال للعباس : إن السماوات والأرضين خلقت من نور أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) فهو أفضل من السماوات والأرضين ، ثم ذكر قنديل النور وخلق نور الزهراء .والحديث السابق أصح .نكتة شريفة والآن فلنعلم لماذا خلقت المخلوقات من أنوار الخمسة الطاهرة بهذا الترتيب ؟ ولماذا خلقت السماوات والأرضين من نور فاطمة ( عليها السلام ) ؟ [ معنى العرش ] لقد عبروا عن العرش الأعظم تعابير عديدة في ذيل قوله تعالى ( لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ) منها : إن العرش جسم أعظم وأكبر من جميع الأجسام العلوية والسفلية ، والعالم كله العالي والسافل كحصاة في فلاة ، أو كقطرة في بحر لا متناه بالقياس إلى العرش .والعرش مجمع ومخزن لعالم الغيب والشهود بمفاد قوله ( وإن من شئ إلا عندنا خزائنه ) وفيه تمثال كل شئ من البر والبحر .وهو مرآة الملائكة يرتسم فيه كل عمل ، ويسمى فلك الأفلاك وفلك الكل وفلك الأطلس أيضا ، وهو منتهى الجسمانيات ومطاف الملائكة الحافين في قوله ( وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ) .ويحمله ثمانية من الأولين والآخرين ، كما قال الله تعالى : ( ويحمل عرش ربك يومئذ ثمانية ) .وهو محيط بكل ما خلق ، ومظهر لتجلي واستواء الحضرة الأزلية ( إن الله على العرش استوى ) .ولما كانت الذات النبوية المقدسة أشرف الذوات وأفضل الموجودات وأعظم المخلوقات ، خلق الله منها العرش وهو أعظم الأجرام والأجسام .وقد نسب العلي الأعلى العرش إليه ، فقال : ( وهو رب العرش العظيم ) .ويمكن أن يقال : أن العرش كما في قوله : ( ولها عرش عظيم ) هو كسرير الربوبية الأعظم ومقر السلطنة الإلهية الحقة ، وأن استيلاء الله سبحانه عليه بمعنى استوائه واستيلائه على عالم الإمكان ، أي ( بيده ملكوت كل شئ ) .ويمكن أن يقال : أن العرش هو السقف الرفيع المحيط بعالم الملك والملكوت والجنات الثمانية .وعلى كل تقدير يثبت المطلوب من حيث الإحاطة .فنقول : إن شرف المعلول يعرف من شرف العلة ، وخلق العرش بتلك العظمة يدل على عظمة النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذي خلق العرش من نوره ، وكل تلك الإفاضات والبركات والخيرات والسعادات صدرت وظهرت من المعلول الأول ليعلم أشرفيته وأفضليته وسبق وجوده على ما سواه ، فالعرش محيط بالكرسي وما دونه ، وقد أعطى الله خاتم النبيين الإحاطة التامة ، ودعاه إلى المقام المحمود ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) الذي يلي العرش ، واستضافه ثلث ليلة في مقام الأبرار ( إن الأبرار لفي عليين ) ، وأراه كل شئ « وأرني حقائق الأشياء كما هي » ، وكل ما خلقه لأجله بالباصرة الظاهرة ، حتى لكأن العرش كل ما سوى الله .والتعبير عن العرش بالسرير الذي يتربع عليه الملوك والسلاطين لإبراز قدرتهم وإظهار سلطنتهم يشهد له قوله تعالى : ( الرحمن على العرش استوى ) .فالله تعالى يتجلى أولا بالتجليات الحقة للعرش ، وهو مظهر رحمانيته ثم يتجلى ثانيا للكرسي وهو مظهر رحيميته .وفي الحديث يغش العرش في كل يوم سبعون ألف ألف نور بألوان مختلفة والمقصود بالأنوار هي الإفاضات الإلهية التي تفاض عليه في كل آن لكمال استعداده ( صلى الله عليه وآله ) .وبديهي أن ما خلق لأجل أمير المؤمنين وفاطمة والحسنين لا يبلغ في الشأن والشرف حد العرش الأعظم ، حتى الملائكة الذين يعتبرون الأفضل والأشرف في عالم الجسمانيات ، فهم بتمام طبقاتهم ودرجاتهم خلقوا من نور أمير المؤمنين ، وهم سكان عالم الملك والملكوت ، والسماوات السبعة مساكنهم ومعابدهم كما أن الأرض خلقت للنوع الإنساني ، وشرف المحل من شرف الحال .والملائكة رسل الله ; لهذا اشتق اسمهم من « ألوكه » أي الرسالة ، ويشهد لذلك القرآن الكريم ( جاعل الملائكة رسلا ) وبعضهم تمحض للعبادة فقط فلا دخل لهم في التدبير والتصرف ، ولا تعلق لهم بعالم آخر ، لم يؤمروا بأمر سوى ما هم فيه من الهيمان والنظر بوجل إلى العرش وما فوقه .والإيمان بوجود الملائكة عامة في أي مرتبة ودرجة واجب ، وعددهم غير معلوم ، والإحاطة بهم جميعا غير مقدورة ، وشرف وجودهم من وجود أمير المؤمنين ظاهر ، ولم يخلق الله بعد العرش خلقا أشرف من الملائكة الذين زين بهم السماوات .فالنبي ( صلى الله عليه وآله ) أفضل وأشرف من العرش ، ونوره من نور الله ، والعرش أشرف الموجودات مما سوى الله ، ونور سلطان الولاية أمير المؤمنين ( عليه السلام ) من نور الله ، والملائكة من نوره ، فهو أشرف من الملائكة ، والملائكة أشرف من غيرهم .وبعبارة أخرى : خلق العرش من نور النبوة فهو معلول لوجوده ، وخلق الملائكة من نور الولاية فهم معلولون لوجوده المسعود ، والولاية باطن النبوة ، والنبي والولي من نور واحد ، فالملائكة خلقوا من نور النبي أصلا ومصدرا .ولهذا عبر أهل الاصطلاح عن وجود النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالعرش ، وعن وجود الولي بالكرسي ، وجعلوا الكرسي تلو العرش ، فشرف العرش والملائكة من شرف وجودهما ، ووجودهم من نور وجودهما .ثم بعد مرتبة النبوة والولاية مرتبة الصديقين ، وفاطمة الزهراء هي الصديقة الكبرى ، وهي منشأ كل بركة ، ومنبع كل سعادة ، ومصدر كل خير ، ومحل كل فيض ، وأفضل قابل لإفاضات النبوة وإشراقات الولاية .ولما كان وجود التناسب بين العلة والمعلول والمشتق والمشتق منه واجبا ، وكانت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) في الإستفاضة من المبدأ وامتثال الأمر والتسليم في محل القبول ; لذا صارت معلولات وجودها أيضا محال البركات ومعادن الطاعات ومعابد الأملاك ومساجد سكان الأرض .ولذا جعل الله السماوات والأرضين في ذيل ذينك المقامين مباشرة ، أي بعد العرش والكرسي – وهما رتبة النبوة ودرجة الولاية – بلا فصل ولا حائل ، ثم جعل الشمس والقمر الآيتين الساطعتين في قلب السماوات من نور المجتبى ، ثم جعل السماوات السبع فوق الجنان الثمانية – وهي مظاهر الرحمة الأحدية – من النور الساطع لسيد المظلومين والرحمة الإلهية الواسعة ، كل ذلك ليرتبط كل معلول بعلته ولا ينفك أحدهما عن الآخر .أما حديث إرشاد القلوب الذي يقول : إن السماوات خلقت من نور أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، فهو يحكي اتحادهما مع الملائكة مع أن الملائكة أشرف وأفضل من السماوات ، وإنما خلقت السماوات مستقرا وقرارا لها ، والملائكة أجسام لطيفة نورانية منسوبة لأحد الأنوار الخمسة لا للسماوات .نعم ; المهم بل الضروري أن يقال : أن الملائكة خلقت من نور سلطان الولاية ، وأن السماوات والأرض خلقت من نور سيدة نساء الأولين والآخرين مع ملاحظة أشرفية الحال على المحل ، وأفضلية الأمير ( عليه السلام ) على بضعة النبي المختار ، وهو أولى وأقوى .كانت هذه إشارة إجمالية وعبارات كلامية موجزة في علة خلق هذه الأقسام الخمسة من المخلوقات من العالي إلى الداني من الأنوار المقدسة للخمسة الطيبة الطاهرة عليهم السلام .ولطالما بحثت في كتب الأحاديث والأخبار فلم أجد عللا وحكما منصوصة في هذا الباب .كلمة طريفة ورد في خبر « إرشاد القلوب » و « البحار » و « مصباح الأنوار » : إن الملائكة فزعت – من الظلمة – ودعت الله أن يكشفها عنهم ، فخلق الله قنديل أو قناديل من نور الزهراء الزاهر ، وعلقها بالعرش فانكشفت الظلمة ، ولذا سميت فاطمة الزهراء بالزهراء .فما هي علة إيجاد الظلمة ؟ ولماذا فزع الملائكة من مشاهدتها ؟ وما هي الغشاوة التي اعترتهم منها ؟ الجواب : ذكروا في علة ذلك وجهين :الوجه الأول : إن الجلوة الزهرائية حصلت في السماوات العلوية ليعرفها سكان الأفلاك ، ويعرفوا حقيقة معدن العصمة والطهارة ، ويعلم الملائكة مفزعهم في المهالك الموحشة والمخاوف المفزعة ، فيتمسكوا بأذيالها ويتشبثوا بها ، ويعلموا أن فاطمة وسيلتهم في رفع الحاجات والقوة على الطاعات وقبول العبادات .إن السماوات معلولة لوجود فاطمة ، وتلك المساكن الرفيعة مخلوقة من نورها ، فلا بد للمستورة الكبرى أن تعرف نفسها لهم وتظهر نفسها لأنظار سكان السماوات بنورانيتها .الوجه الثاني : إن هذا التجلي الخاص خاص بشيعة فاطمة ( عليها السلام ) ، ليعرف الشيعة أن نجاتهم في الدنيا والآخرة من كل ورطة ، وخلاصهم من كل بلاء وشديدة ، وهدايتهم في كل تيه وظلمة بمحبتها ، فالطريق منحصر ، والدليل موصل ، وشفاعة المحبوبة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) مقبولة بلا شك . . . وهذه الإفاضات تنزل علينا من العالم الأعلى ، بواسطة الملائكة فنفوز بهذه الهداية وهذا الرشاد والسداد .