مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
 عَليٌّ.. وَقَبرُ فاطمة../ بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
+ = -

 عَليٌّ.. وَقَبرُ فاطمة..

بسم الله الرحمن الرحيم

لَا شَفِيعَ لِلْمَرْأَةِ أَنْجَحُ عِنْدَ رَبِّهَا مِنْ رِضَا زَوْجِهَا(1).

للزَّوجِ حَقٌّ عظيمٌ على الزَّوجة، بلَغَ بحسب باقرِ العلوم حدَّاً: صار رِضاهُ عنها سبيلاً لرضا الله تعالى، في الدُّنيا والآخرة.

لَم تؤمَر المرأة بالسُّجود لزوجها، لأنَّ أحداً لم يؤمر بالسجود لغير الله تعالى، ولكن ظَلَّ رضا الزّوج طريقاً يُمَهِّدُ أمام المرأة الدُّخول إلى جنان الرحمان.

يكمل الباقر (عليه السلام) فيقول: وَلمَّا مَاتَتْ فَاطِمَةُ (عليها السلام) قَامَ عَلَيْهَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) وَقَالَ: اللهمَّ إِنِّي رَاضٍ عَنِ ابْنَةِ نَبِيِّكَ!

عليٌّ زوجُها راضٍ عنها، وعليٌّ إمامها راضٍ عنها.

أمّا رضاهُ عنها كزوجها، فهي التي قالت له: وَلَا خَالَفْتُكَ مُنْذُ عَاشَرْتَنِي(2)‏، فكيف لا يرضى أميرُ المؤمنين عن الطاهرة الكاملة المعصومة سيدة نساء أهل الجنة.

وأمّا رضاهُ عنها كإمامها، فهي التي حالت بينه وبين القوم لمّا أرادوا أخذَه، فتعرَّضَت للضَّرب دِفاعاً عن إمامها: حَالَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَاطِمَةُ (عليها السلام) عِنْدَ بَابِ البَيْتِ، فَضَرَبَهَا قُنْفُذٌ المَلْعُونُ بِالسَّوْطِ(3).

قال (عليه السلام) هذه الكلمة (اللهمَّ إِنِّي رَاضٍ عَنِ ابْنَةِ نَبِيِّكَ)، ثمَّ أتبَعها بكلماتٍ تُقَطِّعُ القلوب:

1. اللهمَّ إِنَّهَا قَدْ أُوحِشَتْ فَآنِسْهَا.

2. اللهمَّ إِنَّهَا قَدْ هُجِرَتْ فَصِلْهَا.

3. اللهمَّ إِنَّهَا قَدْ ظُلِمَتْ فَاحْكُمْ لَهَا، وَأَنْتَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ(4).

وَحشَةٌ وهُجرانٌ وظُلمٌ، هو ما لاقته الزَّهراء من الأمّة المنقلبة على أعقابها، وعَليٌّ إلى جانبها، ولكن.. ما أمكَنَهُ أن يَرُدَّ القوم عَنها.

هيَ مُتَألِّمَةٌ لفراق أبيها، والقومُ يمنعونها حتى من البكاء عليه!

هي مظلومةٌ مقهورةٌ، وعليٌّ لا يَسَعُه الدَّفع عنها، وإرجاع حقِّها إليها.

عَليٌّ ذو القلب المكلوم، يوكِلُ أمرَها إلى الله تعالى، فهو الذي سيحكم لها، وهكذا يفعلُ كلُّ مُحِبٍّ لها عندما يزورها بقوله:

اللهمَّ إِنَّها خَرَجَتْ مِنْ دُنْيَاهَا مَظْلُومَةً مَغْشُومَةً، قَدْ مُلِئَتْ دَاءً وَحَسْرَةً وَكَمَداً وَغُصَّةً، تَشْكُو إِلَيْكَ وَإِلَى أَبِيهَا مَا فُعِلَ بِهَا، اللهمَّ انْتَقِمْ لَهَا وَخُذْ لَهَا بِحَقِّهَا(5).

الزَّهراء مغشومةٌ: أي مقهورةٌ مظلومةٌ مغلوبة.. الزَّهراء مملوءةٌ داءً وهمَّاً وحُزناً لا يمكن إمضاؤه.. الزَّهراء مغمومةٌ قد مُلئت غُصَّةً مما جرى عليها من القوم.. فلا حول ولا قوّة إلا بالله، والمشتكى إلى الله.

أُوحِشَت الزَّهراء وظُلِمَت وهي فوق التُّراب، فأراد عليٌ (عليه السلام) أن تُراعى تحتَ التُّراب!

لئن أبى أكثرُ الناس إلا كفوراً بولاية عليٍّ ومودَّة الزّهراء ‘، وقد قَسَت قلوبهم فصارت كالحجارة أو أشدّ قسوَة، فإنَّ الجمادات تعرِفُ قدرَ الأعاظم، لقد جَلَسَ عليٌّ على شفير قبرها (عليها السلام) وقال:

يَا أَرْضُ اسْتَوْدَعْتُكِ وَدِيعَتِي! هَذِهِ بِنْتُ رَسُولِ الله.

وكان الأعجبُ من كلامه أن سمعَ نداءً من الأرض:

يَا عَلِيُّ أَنَا أَرْفَقُ بِهَا مِنْكَ، فَارْجِعْ وَلَا تَهْتَمَّ!

أيُّ معنى عَجيبٍ هذا؟ النّاسُ يظلمونها ويقهرونها وهي حيَّةٌ، ثمَّ تصيرُ (عليها السلام) وديعةَ عَليٍّ عند الأرض، فتكون الأرضُ أرفقَ بها!

ههنا اطمأنَّ (عليه السلام) على الزَّهراء: فَرَجَعَ، وَانْسَدَّ القَبْرُ، وَاسْتَوَى بِالأَرْضِ، فَلَمْ يُعْلَمْ أَيْنَ كَانَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ(6).

ولكن.. كيف يرجعُ عَليٌّ ويَدَعُ الزَّهراء وحدَها؟!  

كيف لا يهتمُّ بعدما أوسدَها التُّراب؟!

إنَّ من هوان الدّنيا على الله تعالى أن لا يتمكَّنَ عليٌّ من المقام عند قبر فاطمة (عليها السلام)، وهو القائل: وَلَوْ لَا غَلَبَةُ المُسْتَوْلِينَ، لَجَعَلْتُ المُقَامَ وَاللَّبْثَ لِزَاماً مَعْكُوفاً، وَلَأَعْوَلْتُ إِعْوَالَ الثَّكْلَى عَلَى جَلِيلِ الرَّزِيَّةِ(7).

عَليٌّ يُريدُ أن يلبث عند قبر فاطمة، ويتّخذه مقراً ومُستَقرّاً ومُعتَكفاً!

 يُريدُ أن يحبسَ نفسه للبكاء والعويل على فاطمة (عليها السلام).

لكنَّ هناك ما يمنعه، إنَّهُ لا يريدُ أن يعرف الأجلاف المتسلِّطون بقوّة السلاح موضع قبر فاطمة (عليها السلام)، فصارَ حُزنُه مضاعَفاً: حُزنٌ على ما جرى عليها، وآخرُ على فَقدِها، وثالثٌ لعدم اللُّبث عند لَحدها.

لقد أوصته أن لا يُعرفَ قبرُها، فكيف له أن يلبث قُربَها دائماً! مع أنَّها تأنس به حيَّةً وميِّتة.. وقد أوصته أن يجلس عند رأسها بعد أن يسوي التراب عليها لتأنس به!

 وأنّى له أن يلازمَ قبرَها ويَبكيها جهاراً نهاراً وقد عُفِّيَ موضعُه، والتبس الأمر على القوم لمّا أعدَّ أربعين قبراً جُدداً.

ذاك حيثُ: ضَجَّ النَّاسُ وَلَامَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، وَقَالُوا: لَمْ يُخَلِّفْ نَبِيُّكُمْ فِيكُمْ إِلَّا بِنْتاً وَاحِدَةً، تَمُوتُ وَتُدْفَنُ وَلَمْ تَحْضُرُوا وَفَاتَهَا وَلَا دَفْنَهَا وَلَا الصَّلَاةَ عَلَيْهَا! بَلْ وَلَمْ تَعْرِفُوا قَبْرَهَا!

فَقَالَ وُلَاةُ الأَمْرِ مِنْهُمْ: هَاتُوا مِنْ نِسَاءِ المُسْلِمِينَ مَنْ يَنْبُشُ هَذِهِ القُبُورَ حَتَّى نَجِدَهَا فَنُصَلِّيَ عَلَيْهَا وَنَزُورَ قَبْرَهَا.

ما رضيَت الزَّهراء عنهم في حياتها حتى ترضى عنهم في مماتها.

ما احتملت أن يدخلا عليها حيَّةً حتى أعرضت بوجهها عنهما، ثم خَصَمَتهُمَا وتوفيَّت غاضبةً عليهما، أفَتَرضَى ويرضى عليٌّ أن يقفا عند قبرِها؟!

أيرضى عليٌّ أن ينبشا قبرَها وَيُخرِجَاها ويطمِسَا معالمَ الظُّلامة؟!

لن ترضى الزَّهراء بأقل من ظلامةٍ باقية على مرَّ الدُّهور، ولن يرضى عليٌّ بأقلَّ من أن ينفذ وصيَّةَ فاطمة، ويمنعهم من نبش قبرها.

فَخَرَجَ مُغْضَباً قَدِ احْمَرَّتْ عَيْنَاهُ، وَدَرَّتْ أَوْدَاجُهُ، وَعَلَيْهِ قَبَاؤُهُ الأَصْفَرُ الَّذِي كَانَ يَلْبَسُهُ فِي كُلِّ كَرِيهَةٍ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى سَيْفِهِ ذِي الفَقَارِ، حَتَّى وَرَدَ البَقِيعَ، فَسَارَ إِلَى النَّاسِ مَنْ أَنْذَرَهُمْ، وَقَالَ:

هَذَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي‏ طَالِبٍ قَدْ أَقْبَلَ كَمَا تَرَوْنَهُ، يُقْسِمُ بِالله لَئِنْ حُوِّلَ مِنْ هَذِهِ القُبُورِ حَجَرٌ لَيَضَعَنَّ السَّيْفَ فِي رِقَابِ الآمِرِينَ.

الناس تعرفُ بأسَ حيدَر، فليست صولاته وجولاته بالشيء الذي يُنسى، وها هو اليوم يعودُ بالتاريخ إلى أيام الشدائد، ويَظهَرُ ذلك عليه جَلياً، فيسبقُهُ خَبَرُه إلى البقيع إنذاراً مُدَويَّاً.

لكنَّ القومَ ظنوا أنَّ ما قَيَّدَ علياً عن المطالبة بحقِّه فيما سَبَق سيكون سيَّالاً:

فَتَلَقَّاهُ عُمَرُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَقَالَ لَهُ: مَا لَكَ يَا أَبَا الحَسَنِ، وَالله لَنَنْبِشَنَّ قَبْرَهَا وَلَنُصَلِّيَنَّ عَلَيْهَا.

فَضَرَبَ عَلِيٌّ (عليه السلام) بِيَدِهِ إِلَى جَوَامِعِ ثَوْبِهِ فَهَزَّهُ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ الأَرْضَ، وَقَالَ لَهُ:

يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ:

أَمَّا حَقِّي: فَقَدْ تَرَكْتُهُ مَخَافَةَ أَنْ يَرْتَدَّ النَّاسُ عَنْ دِينِهِمْ.

وَأَمَّا قَبْرُ فَاطِمَةَ: فَوَ الَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ، لَئِنْ رُمْتَ وَأَصْحَابُكَ شَيْئاً مِنْ ذَلِكَ لَأَسْقِيَنَّ الأَرْضَ مِنْ دِمَائِكُمْ، فَإِنْ شِئْتَ فَاعْرِضْ يَا عُمَرُ(8).

رأى القومُ بأسَ حيدر المعهود، وعلموا أنَّ الموردَ ليس من الموارد التي يمكن لعليٍّ أن يسكت عنها، فانكفؤوا ورجعوا خاسئين، قد امتلؤوا رُعباً.

قال (عليه السلام) مخاطباً مَن اشتهر بالفرار والإنكسار:

لَئِنْ سَلَلْتُ سَيْفِي لَا غَمَدْتُهُ دُونَ إِزْهَاقِ نَفْسِكَ، فَرُمْ ذَلِكَ! فَانْكَسَرَ عُمَرُ وَسَكَتَ(9).

هكذا أنفذَ عليٌّ (عليه السلام) وصيَّة حبيبة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)، لتظلَّ الظلامةُ حيَّةً إلى ظهور المنتقم الآخذ بالثار.

اللهم عجِّل فرجه، وسهِّل مخرجه، واجعلنا من أعوانه، المنتقمين معه لفاطمة (عليها السلام). ولا حول ولا قوة إلا بالله(10).


(1) الخصال ج‏2 ص588.

(2) روضة الواعظين ج1 ص151.

(3) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص586.

(4) الخصال ج‏2 ص588.

(5) المزار الكبير ص79.

(6) بحار الأنوار ج‏43 ص215.

(7) الكافي ج‏1 ص459.

(8) دلائل الإمامة ص137.

(9) كتاب سليم بن قيس ج‏2 ص871.

(10) الإثنين 27 جمادى الثانية 1443 هـ الموافق 31 – 1 – 2022 م.

بقلم: الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي