مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
حجيّة السيدة الزهراء عليها السلام على الأئمة الأطهار / المرجع الالكتروني للمعلومات
+ = -

لما كانت علّة الخلق هي عبادة الله تعالى لقوله : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )[1] فانّ العبادة لا تتم إلا بمعرفته تعالى ، ومعرفته لا تتم إلا برسله وأوليائه ، إذ هم حججه على العباد في كل زمان فهم الطريق اليه والمسلك إلى سبيله .

عن هشام بن الحكم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) . . . قال : ” انّما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنّا وعن جميع ما خلق ، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه ، ثبت أن له سفراء في خلقه ، يُعبّرون عنه إلى خلقه وعباده ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم وفى تركه فناؤهم ، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه جلّ وعزّ وهم الأنبياء ( عليهم السلام ) وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدبين بالحكمة ، مبعوثين بها ، غير مشاركين

للناس على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب في شيء من أحوالهم ، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان ممّا أتت به الرسل والأنبياء من الدلائل والبراهين ، لكيلا تخلو أرض الله من حجة يكون معه علمٌ يدلّ على صدق مقالته وجواز عدالته “[2].

فالحجّة اذن هو الدليل إلى الله تعالى يُحذّر به عباده وينذرهم ويهديهم .

فمقام الحجية إلهي تصل بوساطته العلوم الإلهية اللدنيّة إلى عباده .

وإذا كان أهل البيت ( عليهم السلام ) حجج الله على خلقه فانّ أمّهم فاطمة حجة الله عليهم ، وهي ما صرّحت به رواية العسكري ( عليه السلام ) : ” نحن حجة الله على الخلق ، وفاطمة ( عليها السلام ) حجّة علينا “[3]، ويشهد لهذا المعنى ما ورد عن مصادر علومهم ( عليهم السلام ) كالجفر والصحيفة والجامعة ، وأن منها مصحف فاطمة ( عليها السلام ) مما يدلّ على كونها واسطة علمية بين الأئمة ( عليهم السلام ) وبين اللّه تعالى في العلم المحفوظ في مصحفها المتعلق بما يكون إلى يوم القيامة ، فهي حجة في هذا العلم الجم على الأئمة ( عليهم السلام ) يأخذون به ، نظير حجية النبي ( صلى الله عليه وآله ) في شأن القرآن الكريم الذي هو مصدر علوم الأئمة ( عليهم السلام ) كما في الروايات الآتية .

ولا يخفى أن وساطتها ( عليها السلام ) لذلك العلم ليس عبر نقش وخط ذلك المصحف ، إذ الوجود الكتبي لمصحفها وجود تنزلي تنزيلي لحقائق ذلك العلم الذي ألقي إليها ، فوساطتها بلحاظ عالم الأنوار لهم ( عليهم السلام ) فقد روى فرات الكوفي في تفسيره ، قال : حدّثنا محمّد بن القاسم بن عبيد معنعناً عن أبي عبداللّه ( عليه السلام ) أنّه قال : ” ( انّا أنزلناه في ليلة القدر ) الليلة فاطمة والقدر اللّه ، فمن عرف فاطمة حقّ معرفتها فقد أدرك ليلة القدر ، وانّما سميت فاطمة ، لأن الخلق فطموا عن معرفتها ، وقوله ( وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر ) يعني خير من ألف مؤمن ، وهي أمّ المؤمنين ، ( تتنزل الملائكة والروح فيها ) والملائكة المؤمنون الذين يملكون علم آل محمد ( صلى الله عليه وآله ) والروح القدس هي فاطمة ( عليها السلام ) ( باذن ربّهم من كلّ أمر سلام هي حتّى مطلع الفجر ) يعني حتّى يخرج القائم ( عليه السلام ) “[4]

فقد روى زرارة عن حمران قال سألت أبا عبداللّه ( عليه السلام ) عمّا يفرّق في ليلة القدر هل هو ما يقدر اللّه فيها ؟ قال : ” لا توصف قدرة اللّه ، إلا أنه قال ( فيها يفرق كل أمر حكيم ) فكيف يكون

حكيماً إلا ما فُرق ، ولا توصف قدرة اللّه سبحانه لأنه يحدث ما يشاء . وأما قوله ( ليلة القدر خير من الف شهر ) يعني فاطمة ( عليها السلام ) ، وقوله ( تتنزّل الملائكة والروح فيها ) والملائكة في هذا الموضع المؤمنون الذين يملكون علم آل محمّد ( عليهم السلام ) و ( الروح ) روح القدس ، وهو في فاطمة ( عليها السلام ) ( من كل أمر سلام ) يقول من كل أمر مسلّمة ( حتّى مطلع الفجر ) يعني حتّى يقوم القائم ( عليه السلام ) “[5] وكما هو الحال في وساطة النبي ( صلى الله عليه وآله ) لايصال القرآن لهم ، ففي صحيحة زرارة قال : ” سمعت أبا جعفر ( عليه السلام ) يقول : لولا أننا نزداد لأنفدتا ، قال قلت : تزدادون شيئاً لا يعلمه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله ) ، قال : أما إنّه إذا كان ذلك عرض على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله ) ثم على الأئمة ثم انتهى الأمر الينا ” .

وفي رواية عن أبي عبداللّه ( عليه السلام ) قال : ” ليس يخرج شيء من عند اللّه عزّوجلّ حتّى يُبدأ برسول اللّه ( صلى الله عليه وآله ) ثم بأمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم واحداً بعد واحد لكي لا يكون آخرنا أعلم من أولنا “[6] فالوساطة ليست في خصوص الوجود الكتبي للقرآن ، بل في ايصال الحقائق النورية للقرآن إلى أنوار أرواحهم ( عليهم السلام ) ، فالإلقاء والتلقي نوريٌ بلحاظ نشأة الملكوت المطوي في وجوداتهم وأرواحهم

كما يشير اليه قوله تعالى : ( انّه لقرآن كريم في كتاب مكنون )[7].

وقد بيّن الإمام أبو عبد الله الصادق ( عليه السلام ) ما يتضمنه هذا المصدر العلمي الإلهي في رواية بقوله : ” انّ فاطمة مكثت بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خمسة وسبعين يوماً ، وكان دخلها حزنٌ شديد على أبيها ، وكان جبرئيل ( عليه السلام ) يأتيها فيُحسن عزاءها على أبيها ويُطيّب نفسها ويُخبرها عن أبيها ومكانه ، ويُخبرها بما يكون بعدها في ذريتها ، وكان علي ( عليه السلام ) يكتب ذلك ، فهذا مصحف فاطمة ( عليها السلام ) “[8].

وفي رواية أخرى يبيّن الإمام ( عليه السلام ) جانباً آخر من جوانب ما يتضمنه هذا المصدر الإلهي ، ففي حديث قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ” ومصحف فاطمة ما أزعم انّ فيه قرآناً وفيه ما يحتاج الناس الينا ولا نحتاج إلى أحد حتى أنّ فيه الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة وربع الجلدة وأرش الخدش . . . “[9].

ولعل الرواية الأخرى تفيدنا جانباً آخر مما يتضمنه مصحف فاطمة ( عليها السلام ) :

عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) : ” إلى أن قال : وانّ عندنا لمصحف فاطمة ( عليها السلام ) وما يدريهم ما مصحف فاطمة ( عليها السلام ) قال : قلت : وما مصحف فاطمة ( عليها السلام ) ؟ قال : مصحف فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد “[10].

وقوله ( عليه السلام ) : ” والله ما فيه من قرآنكم حرف واحد ” ليس المراد منه خلو القرآن الكريم عن ذلك العلم المودع في مصحف فاطمة ( عليها السلام ) إذ القرآن تبيان كل شيء ، بل المراد أن ليس فيه من ألفاظ وآيات وكلمات القرآن شيء ، إذ علمها ( عليها السلام ) بذلك بنزول جبرئيل عليها هو ما سيأتي بيانه من كونها مطهرة تُمسُ القرآن الكريم في الكتاب المكنون ، واللوح المحفوظ الذي يستطرُ فيه كل غائبة ورطب ويابس وما كان وما يكون ، فعلمها بذلك هو من العلم بحقيقة القرآن العلوية ، لا هو شيء خارج عن حقيقة القرآن ، غاية الأمر أن تلك الحقيقة بالألفاظ الموجودة بين الدفتين وما علمت به ( عليها السلام ) كالشرح لبطونه وحقائقه التكوينية العلوية . ويشهد لذلك رواية أخرى عن مصحفها ( عليها السلام ) وهي ما رواه الطبري في دلائل الإمامة من معتبرة أبي بصير قال : ” سألت أبا جعفر محمّد بن علي ( عليهما السلام ) عن مصحف فاطمة فقال : أنزل عليها بعد موت أبيها .

قلت : ففيه شيء من القرآن .

فقال : ما فيه شيء من القرآن .

قلت : فصفه لي .

قال : له دَفتان من زبرجدتين على طول الورق ، وعرضه حمراوين .

قلت : جعلت فداك فصفه لي ورقه .

قال : ورقه من در أبيض ، قيل له : كني فكان .

قلت : جعلت فداك فما فيه ؟

قال : فيه خبرُ ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، وفيه خبر سماء سماء ، وعدد ما في السماوات من ملائكة وغير ذلك ، وعدد كل ما خلق اللّه مرسلا وغير مرسل ، وأسمائهم ، وأسماء من أرسل إليهم ، وأسماء من كذب ومن أجاب ، وأسماء جميع من خلق اللّه من المؤمنين والكافرين من الأولين والآخرين ، وأسماء البلدان وصفة كل بلد في شرق الأرض وغربها ، وعدد ما فيها من مؤمنين ، وعدد ما فيها من كافرين ، وصفة كل من كذب ، وصفة القرون الأولى وقصصهم ، ومن وليَ من الطواغيت ومدة ملكهم وعددهم ، وأسماء الأئمة وصفتهم وما يملك كل واحد واحد ، وصفة كبرائهم ، وجميع من تردد في الأدوار .

قلت : جعلت فداك وكم الأدوار ؟

قال : خمسون الف عام ، وهي سبعة أدوار فيها أسماء جميع ما

خلق اللّه وآجالهم ، وصفة أهل الجنّة ، وعدد من يدخلها ، وعدد من يدخل النار ، وأسماء هؤلاء وهؤلاء ، وفيه علم القرآن كما أنزل ، وعلم التوراة كما أنزلت ، وعلم الإنجيل كما أنزل ، وعلم الزبور وعدد كل شجرة ومدرة في جميع البلاد .

قال أبو جعفر : ولما أراد اللّه تعالى ، أن يُنزل عليها جبرئيل وميكائيل وإسرافيل أن يحملوه فينزلون بها عليها ، وذلك في ليلة الجمعة ، الثلث الثاني من الليل ، فحيطوا به وهي قائمة تصلي ، فما زالوا قياماً حتّى قعدت ، ولما فرغت من صلاتها سلّموا عليها ، وقالوا : السلام يقرئك السلام ووضعوا المصحف في حجرها .

فقالت : للّه السلام ومنه السلام ، واليه السلام ، وعليكم يا رسل الله السلام .

ثم عرجوا إلى السماء . فما زالت بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس تقرأه حتّى أتت على آخره ، ولقد كانت ( عليها السلام ) مفروضة الطاعة على جميع ما خلق اللّه من الجن والإنس والطير والوحش ، والأنبياء والملائكة .

قلت : جعلت فداك ، فلمن صار ذلك المصحف بعد مضيها .

قال : دفعته إلى أمير المؤمنين ، فلما مضى صار إلى الحسن ( عليه السلام ) ثم الحسين ( عليه السلام ) ثم عند أهله حتّى يدفعوه إلى صاحب هذا الأمر ( عليه السلام ) .

فقلت : انّ هذا العلم كثير .

قال : يا أبا محمّد انّ هذا الذي وصفته لك لفي ورقتين من أوله ، وما وصفت بعد في الورقة الثالثة[11] ولا تكلمت بحرف منه[12] ” .

ويجدر التنبيه إلى أن اختلاف ألسن الروايات في كيفية مصحفها امّا راجع إلى تعدد صحفها ( عليها السلام ) أو الاختلاف في أبعاض المصحف الواحد أو وجوه أخرى لا تخفى على القارئ بعد ملاحظة مجموع الكلام في هذا المقام . ويدلّ على ظاهرها ومفادها من اشتمال مصحفها على كل صغيرة وكبيرة ورطب ويابس وجميع ما خلق مما كان وما يكون وما هو كائن ، وعلوم الكتب السماوية وكما سيأتي في المقامات اللاحقة من كونها مطهرة كما في صورة الأحزاب ، والمطهّر كما في سورة الواقعة يمس حقيقة القرآن العلوية المكنونة في الكتاب واللوح المحفوظ الموصوف بأنّه تبيان لكل شيء كما في سورة النحل ، وهو الكتاب المبين كما في سورة الدخان ، والكتاب المبين وهو الذي يستطر فيه كل غائبة في السماوات والأرض كما في سورة النمل ، وكل ما في البرّ والبحر وكل رطب ويابس كما في سورة الأنعام ، فمضمون هذه الرواية مما دلّت عليه تلك الآيات مضافاً إلى كون القرآن هو الكتاب المهيمن على بقية الكتب السماوية ،

فهو يحيط بها ، فالذي يمسُ حقيقته العلوية تتنزل عليه مثل تلك الحقائق .

وفي رواية ثالثة قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : ” . . وليخرجوا مصحف فاطمة فانّ فيه وصية فاطمة “[13].

فلم يكن مصحف فاطمة عليها السلام مصدراً لجانب علمي معيّن ، بل يعمّ علوماً عدّة أشار لبعضها الإمام ( عليه السلام ) كالحوادث الواقعة إلى يوم القيامة أي ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ، فضلاً عن الأحكام التي يتضمنه مصحفها ليشمل حتى إرش الخدش ، على أنا لا نغفل عن قول الإمام ( عليه السلام ) من انّ مصحف فاطمة فيه وصيّتها ( عليها السلام ) ، ووصيتها هذه تتضمن أمراً خطيراً هاماً لم يصرح به الامام إلا انّه يُشعر من كلامه مدى خطورة وصيّتها هذه ، إذ قوله ( عليه السلام ) ” وليخرجوا مصحف فاطمة ” نوع تهديد وتحدي لبعض الجهات يكمن من خلاله أن في وصيتها ( عليها السلام ) توصيات الهية تعيّن الامام الذي إمامته من عند الله تعالى ، فالإيصاء بإمامة الأئمة ( عليهم السلام ) ، مما يدل على أن العهد بإمامة الأئمة ( عليهم السلام ) من ذريتها هو من شؤونها ( عليها السلام ) إذ متعلق الوصية لابد أن يكون ممّا يشمله ولاية الموصي ، ومن ثم كان الإمام السابق يوصي بإمامة اللاحق ، وكوصية النبي ( صلى الله عليه وآله ) بإمامة علي ( عليه السلام ) والأئمة من ولده ( عليهم السلام ) ويصرّح

بهذا المقام لها ( عليها السلام ) النص الوارد في نزول اللوح الأخضر عليها المتضمن لتعيين أسماء الأئمة ( عليهم السلام ) ، ومن ثمّ يصح أن الأئمة من ذريتها أوصياء لها كما هو الحال في كون الامام اللاحق وصي الامام السابق ، وكما ورد في زيارة الحسين ( عليه السلام ) وزيارة الرضا ( عليه السلام ) ” السلام عليك يا وارث فاطمة . . . ” الدال على وراثة إلهية بينها وبين الأئمة وعلى الاجمال فإن مقام الوصاية بالإمامة مقام خطير إلهي نظير ما كان لمريم بنت عمران من مقام حيث ألقي إليها كلمة الله عيسى ، وكان لها مسؤولية البشارة بنبوّة عيسى للناس .

مما يعني أن لمصحف فاطمة ( عليها السلام ) شأناً في تحديد منصب الإمامة الإلهية ، ويدلل في الوقت نفسه ما لفاطمة ( عليها السلام ) من صلاحية خاصة في تحديد معالم القيادة الاسلامية المتمثلة زعامتها الحقة في إمامة المعصومين ( عليهم السلام ) ويؤكد كذلك عِظم حجيتها ( عليها السلام ) في أخطر شأن من شؤون الدين والأمة وهو تحديد مناصب الإمامة الإلهية ، علماً انّ هذا التحديد سيكون على مستوى الوصية الإلهية التي تلقى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليحمّلها فاطمة ( عليها السلام ) ، ومن هنا سنرى مدى خطورة مسؤوليات فاطمة ( عليها السلام ) في رسم مبدأ مسار الأمة ومنتهاه إلى يوم القيامة ، وسيتّضح انّ من هذا القبيل أمراً خطيراً ومهماً ، وهو مدى أهمية موقف فاطمة ( عليها السلام ) إبّان أحداث البيعة وتوجهات السقيفة ، واعلان استنكارها لما

أقدمت عليه جماعة السقيفة وقتذاك ، إذ يعني استنكار فاطمة ( عليها السلام ) على ما أقدم عليه القوم مخالفتهم للمسار الذي جعله الله تعالى ورسمه لهذه الأمة ما تعاقبت أجيالها بحسب ما عهد إليها ( عليها السلام ) من وصية في تعيين الامام وهو ما تكفّله مصحف فاطمة ( عليه السلام ) وستؤكد الرواية التالية ما نذهب اليه من أن هذه الوصية هي وحي إلهي ألقي إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وألقاه إليها ( عليها السلام ) .

قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) في حديث : ” . . . وخلّفت فاطمة مصحفاً ما هو قرآن ولكنه كلام من كلام الله أُنزل عليها ، املاء رسول الله وخط علي ( عليه السلام ) “[14].

مضمون هذه الرواية أن بعض مصحفها هو من إملاء الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بعد وفاته على فاطمة ( عليها السلام ) لا من نزول جبرئيل عليها نظير الرواية المتقدمة في أصول الكافي من أن ما ينزل من العلم المتجدد من الله تعالى على الامام الحي القائم بالأمر يتنزل أولاً على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في نشأته الأخروية ثم على أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ثم على الإمام اللاحق فاللاحق إلى أن يصل في تنزله على الامام الحي القائم بالأمر . . .

مما يدلل على وساطة النبي ( صلى الله عليه وآله ) في علوم المعصومين ( عليهم السلام ) اللدنية منه تعالى ، وفي الرواية إشارة إلى أن علياً ( عليه السلام ) كان يخط ما يمليه ويلقيه له بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) في تلك النشأة على فاطمة ( عليها السلام ) ، وهذا نظير ما كان من شأن علي ( عليها السلام ) من أنه كان يسمع ما يسمعه النبي ( صلى الله عليه وآله ) من الوحي ويرى ما يراه النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما ورد ذلك في روايات عديدة وكما نقل ( عليه السلام ) ذلك عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قوله ” انك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ” في آخر الخطبة القاصعة من نهج البلاغة ، ويقتضيه مفاد حديث المنزلة ” أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ” إذ كان ما يتنزل على موسى يسمعه ويراه هارون كما هو مفاد الآيات الكريمة المشتركة بينهما فيما ينزل : فالذي يتنزل هو على فاطمة ( عليه السلام ) ، لكنه يسمعه علي ( عليه السلام ) ، ونظير ما سيأتي من نزول الملائكة على مريم بل والوحي المباشر من الله تعالى لها ، مع أنها لم تكن نبياً ولكن كانت آية من حجج الله تعالى . ثم أن في التصريح بأن ما نزل عليها كلام من كلام الله تعالى القدسي غير القرآني ، تبيان لمقام حجيتها الإلهية .

على أن مصحف فاطمة هو أحد دلائل إمامة الامام عند حيازته له .

عن أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : ” ما مات أبو جعفر ( عليه السلام ) حتى قبض مصحف فاطمة ( عليها السلام ) “[15].

فمصحف فاطمة أحد المنابع العلمية التي يتزود منها الامام

إبّان مهمته الإلهية ، فضلاً عن كونه أحدى دلائل إمامته الحقّة .

من هنا تبيّن أن حجية فاطمة ( عليها السلام ) على أبنائها الحجج المعصومين ( عليهم السلام ) ، فهي الواسطة العلمية بين الله تعالى وبين الأئمة ( عليهم السلام ) ومن خلال العلم المحفوظ في مصحفها المتعلق بما يكون إلى يوم القيامة ، فحجيتها نظير حجية النبي ( صلى الله عليه وآله ) في شأن القرآن المجيد الذي هو مصدر علوم الأئمة ( عليهم السلام ) كما هو المقرر .

كما تؤكد أن العلم الذي يتلقونه ( عليهم السلام ) عن مصحف فاطمة غير مقتصر على ما نقش من وجود كتبي في ذلك المصحف ، بل هذا الوجود الكتبي تنزلي تنزيلي لحقائق ذلك العلم الذي أُلقي عليها كما تقدم ، فوساطتها اذن بلحاظ عالم الأنوار لهم ( عليهم السلام ) ، ويشهد لوساطتها لعلومهم وحجيتها روايات بدء الخلقة وخلقة أنوارهم واشتقاقها على الترتيب من نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونور علي ، ثم اشتقاق نور الحسنين من نورهم مما يدل على كون رتبتها بعد علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ، وأن بقية أنوار الأئمة ( عليهم السلام ) أُشتقت منها فهي واسطة فيض تكوينية لوجودهم وكمالاتهم وهو مقام رفيع وسرّ عظيم .

ففي حديث عن رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله ) مسنداً عن سلمان قال : ” دخلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلمّا نظر اليّ قال : يا سلمان انّ الله عزّ وجل لم يبعث نبياً ولا رسولاً إلا جعل له اثني عشر نقيباً ، قال :

قلت : يا رسول الله قد عرفت هذا من الكتابين[16] قال : يا سلمان فهل علمت نقبائي الاثني عشر الذين اختارهم الله للإمامة من بعدي ؟ فقلت : الله ورسوله أعلم ، قال : يا سلمان خلقني الله من صفاء نوره فدعاني فأطعته وخلق من نوري علياً فدعاه إلى طاعته فأطاعه ، وخلق من نوري ونور علي ( عليه السلام ) فاطمة فدعاها فأطاعته ، وخلق مني ومن علي ومن فاطمة الحسن والحسين ، فدعاهما فأطاعاه ، فسمّانا الله عزّ وجل بخمسة أسماء من أسمائه : فالله المحمود وأنا محمد ، والله العلي وهذا علي ، والله فاطر وهذه فاطمة ، والله الاحسان وهذا الحسن ، والله المحسن وهذا الحسين .

ثم خلق من نور الحسين تسعة أئمة فدعاهم فأطاعوه قبل أن يخلق الله سماء مبنية أو أرضاً مدحية ، أو هواء أو ماء أو ملكاً أو بشراً ، وكلنا بعلمه أنواراً نسبحه ونسمع له ونطيع “[17].

فالخلقة والاصطفاء كما جرى على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلي ( عليه السلام ) ، جرى مثله على فاطمة ( عليها السلام ) ، وهذا لعمري مقام خطير وشأن رفيع .

كما أن اشتقاق نور علي من نور محمد ونور فاطمة من نور علي ونور الحسن والحسين من نور فاطمة وأنوار التسعة من

ذرية الحسين من نور الحسين ، دلالة على ترتيب النورانية وكون المتقدم واسطة فيض للمتأخر ، لذا فانّ فاطمة ( عليها السلام ) تُعد واسطة فيض نورانية للأئمة ( عليهم السلام ) لتقدمها عليهم بالنورانية ، وهذا معنى كونها واسطة إفاضة على أولادها المعصومين ( عليهم السلام ) فهي بالتالي حجّة عليهم .

ومما يؤكد أنهم من نور واحد ما روي عن الرضا صلوات الله عليه : ” . . انّ الله تبارك وتعالى أوحى إلى عمران : أني واهب لك ذكراً ، فوهب له مريم ، ووهب لمريم عيسى ، فعيسى من مريم ومريم من عيسى ، ومريم وعيسى شيء واحد ، وأنا من أبي ، وأبي مني ، وأنا وأبي شيء واحد “[18].

فإذا كان عيسى من مريم ومريم من عيسى شيء واحد ، فكيف بمن كانوا أنواراً يسبّحون الله قبل الخلق بألفي ألف عام ؟

عنهم ( عليهم السلام ) : ” انّ الله خلقنا قبل الخلق بألفي ألف عام ، فسبّحنا فسبحت الملائكة لتسبيحنا “[19].

فهم ( عليهم السلام ) من فاطمة ، وفاطمة منهم .

وهذا دليل قولنا : أنها ( عليها السلام ) واسطة فيض تكوينية لوجودهم وكمالاتهم صلوات الله وسلامه عليهم وعلى أمّهم سيدة نساء

العالمين .

فيتلخص بذلك وجهان لمقام حجّيتها على الأئمة ( عليهم السلام ) :

الأول : كون مصحفها مصدر من مصادر علوم الأئمة ( عليهم السلام ) ومعنى ذلك وساطتها العلمية المنصوبة من قبله تعالى للأئمة .

الثاني : اشتقاق نورهم ( عليهم السلام ) من نورها في بدء الخلقة وهو يستلزم مقام الحجية لهيمنة المتقدم على اللاحق .


[1] الذاريات : 56 .

[2] الكافي ، كتاب الحجة 1 : 128 .

[3] تفسير أطيب البيان 13 : 235 .

[4] تفسير فرات الكوفي : 581 طبعة طهران 1416 ه – .

[5] تأويل الآيات الظاهرة : 791 والظاهرة أنّه أخرجه عن تفسير محمّد بن عباس .

[6] الكافي 1 : 255 .

[7] الواقعة : 77 .

[8] الكافي كتاب الحجة باب في ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة ( عليها السلام ) 1 : 188 .

[9] بصائر الدرجات باب في الأئمة ( عليهم السلام ) أعطوا الجفر والجامعة ومصحف فاطمة ( عليها السلام ) : 150 .

[10] الكافي 1 ، كتاب الحجّة باب مصحف فاطمة : 239 .

[11] في نسخة الثانية بدلاً من الثالث .

[12] دلائل الإمامة للطبري : 27 .

[13] المصدر السابق : 157 .

[14] بصائر الدرجات : 156 .

[15] نفس المصدر : 158 .

[16] أي التوراة والإنجيل .

[17] البحار 25 : 6 .

[18] البحار 25 : 1 .

[19] نفس المصدر .