مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
دفاع السيدة فاطمة الزهراء (ع)عن الإمام والإمامة / دراسة وتحليل / الشيخ صباح الركابي
+ = -

دفاع السيدة فاطمة الزهراء (ع) عن الإمام والإمامة / دراسة وتحليل / الشيخ صباح الركابي

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين حبيب إله العالمين  أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

تعتبر الزهراء (ع) ركن ركين من أهل البيت (ع)، بحيث تأتي بالمرتبة الثالثة في الوجود بعد رسول الله (ص) والإمام علي (ع)، وقد سطرت في الخطبة الفدكية واحدة من الملاحم والمآثر الفكرية والعقدية العظيمة، لما حوته من كنوز إلهية وعلوم ربانية، تطرقت إليها الزهراء (ع)، وأوضحت كل ما أرده الله تعالى وما قام به نبيه (ص) من تبليغ تام للرسالة إلى الأمة الإسلامية، ومنها مسألة الإمامة وحق أهل البيت بها، وبالخصوص أحقية الإمام علي بن أبي طالب (ع).

خطة البحث

جعلت البحث على مقدمة ومبحثين، المبحث الأول: الإمامة، والمبحث الثاني: الإمام علي بن أبي طالب (ع).

المبحث الأول: الإمامة

تعتبر الإمامة أصل من أصول الدين عند المذهب الشيعي، وهي على حد النبوة، وقد دافعت عنها الزهراء (ع) دفاعاً مستميتاً، حتى أحرجت الحاضرين في مجلس ابن أبي قحافة فضلاً عن تعريتها للحاكم الأول واحتجاجاتها عليه بالقرآن الكريم والسنة النبوية.

سأقوم بتقطيع النص بحسب المبحث والمقام، أي لن أمر على النص بالتتابع.

قالت: [وبقية استخلفها عليكم وهما كتاب الله الناطق والقرآن الصادق] (1)، هذا النص يشمل جميع الأئمة بدءً من الإمام علي (ع) وانتهاءً بالمهدي (عج)، صحيح أن مصداق القرآن الناطق جاء بالنص على الإمام علي (ع) من لسان علي (ع)، إلا أن المورد لا يخصص الوارد، فالحديث شامل لجميع عدل القرآن، وهم أهل البيت (ع)، بل أن هذا النص يشمل سيدة نساء العالمين (ع)، سوى تولي الإمامة، لأن الإمامة خاصة بالرجال كالنبوة، ولا يمنع من ولاية المرأة التكوينية كما كانت الزهراء (ع).

إن قولها هذا، لتذكر المسلمين بحديث النبي الأكرم (ص): [إني مخلف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، انظروا كيف تخلفوني فيهما، يا أيها الناس لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم] (2)، فالقرآن الصادق والقرآن الناطق هما الثقلان، الكتاب والعترة، وهنا نرى منطق الزهراء (ع) القرآني فقولها: [بقية استخلفها] للتدليل على أن خلافة الأئمة (ع) خلافة ربانية، وليست من شؤون المسلمين، كما قال تعالى: [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً] (3)، والآية تذكر خلافة أول إنسان خلقه الله تعالى على الأرض وهو النبي آدم (ع)، فلم يجعل الله تعالى الأرض بغير حجة وهو خليفته في الأرض، فقد ورد عن أبي عبدالله الصادق (ع) أنه قال: [.. لو لم يبق في الارض إلا اثنان لكان أحدهما الحجة] (4)، وقال تعالى: [يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّه] (5)، فالاستخلاف جعل إلهي وليس من شؤون الناس، وهذا الجعل والتنصيب يجعل الخليفة يحكم بما أنزل الله، وأما غيره فيحكم بآرائه وأهوائه، وقد أشار القرآن الكريم في ثلاث آيات إلى الذين يحكمون بغير ما أنزل الله تعالى: الآية الأولى قوله تعالى: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ] (6)، وقال تعالى: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ] (7)، وقال تعالى: [وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ] (8)، لذلك نجد في ذيل الآية ص/26 المفهوم المخالف لمنطوقها: وهو أن من يحكم من غير أن يكون مستخلَفاً يتبع الهوى فيضل نفسه ويضل الآخرين، وهذا ما جرى للأمة بعد رحيل رسول الله (ص)، ولا بما تملي عليه البطانة، لأنها رغبات وأهواء دنيوية ومكر وخداع في أغلبه، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ] (9)، نعم هذا فعل البطانة، وما فعله مروان الوزغ ابن الوزغ بوزارته لعثمان أدى إلى مقتل عثمان وانحراف الأمة وسرقة أموال المسلمين، حتى أن عثمان اقتطع له خمس أفريقيا.

إن حديث الثقلين يصف الخلافة في قوله (ص): إني مخلف، أي أني تارك ومستخلف فيكم وعليكم، أي بقية، وهما لن يفترقا أبداً مهما طالت الحياة الدنيا، والقرآن والعترة شيئان موضوعهما واحد، فالقرآن هو القانون والدستور الأعلى للأمة وللدولة الإسلامية، المعبر عنه الآن بقوانين السلطة التشريعية، وأما أهل البيت (ع) والإمام خاصة فهو الحاكم الشرعي المطبق للدستور وهو السلطة التنفيذية.

إن الجميل في مفهوم الاستخلاف، أن سبقته كلمة يا لها من كلمة معبرة بتعبير قرآني باسلوب فاطمي، وهو كلمة [بقية]، وهي مصداق قوله تعالى: [بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ] (10)، أي أن النبي (ص) لم يستخلف عليكم أحداً إلا وأن يكون بقية من بقايا الأنبياء والأوصياء، وهم بقية الله لا بقيتكم، وهل هناك بقية أفضل من رسول الله (ص)، حتى يكون لغيره بقية للمؤمنين من غير البقية التي أبقاها الله تعالى على الأمة بعد رحيل رسول الله (ص) على لسان نبيه (ص)؟ فهم ذرية بعضها من بعض. والمعنى الآخر من كلمة بقية، أنهم ليس هناك من المسلمين غيرهم من هو أهلٌ لأن يكون خليفة على الأمة، فهم البقية الربانية، أي أنهم ما تبقى من النبوة فيهم هي الائمة إلى يوم الدين، وهذا هو الذي ذكرته آنفاً في حديث الثقلين. ثم تقول: إن هذا الكتاب أو القرآن سواء كان الساكت أو الناطق كلاهما النور الساطع والضوء اللامع لتفرق بين النور والضوء، فالنور هو الضوء المأخوذ من غيره والمنتشر في الأجواء لغيره، والأئمة (ع) هم نور الله في الأرض والسموات، وهم مصداق قوله تعالى: [اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ] (11)، أي أن الله تعالى يتجلى في خلقه وليس أفضل من أهل البيت (ع) من يكون أهلاً لهذا التجلي، وهم معدن العلم، فهم النور الذي يهتدي به الناس، لذلك نقرأ في زيارة الإمام المهدي (عج) [السلام عليك يا نور الله الذي يهتدي به المهتدون] (12) وهذا النور هو المعبر عنه بالولاية التشريعية من جهة، وهو التبليغ والبيان، لأن القرآن لا يمكن فهمه لعوام الناس، فقال تعالى مخاطباً نبيه (ص): [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (13)، فالأمة لا تستطيع أن تهدي لبيان القرآن إلا عن طريق النبي (ص) أو من ينوب عنه، وكذلك قوله تعالى: [وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ] (14)، فالنبي (ص) وأهل بيته، هم الأمان من الفرقة والاختلاف كما قالت الزهراء (ع) طاعتنا نظاماً للملة وأماناً من الفرقة، وكانت سلام الله عليها تعلم علم اليقين أن الأمة ستخلف قول الله وقول النبي (ص)، ولكن من باب إقامة الحجة عليهم.

 وأما الجهة الثانية فهي الولاية التكوينية بشقيها، فأما الشق الأول: فهو إراءة الطريق وكشفه وبيانه ووصفه للأمة حتى تهتدي به. أهل البيت (ع) هم الضوء الساطع، أي أنهم بأنفسهم هم الدين وهم الضوء المنتج من نفسه لنفسه ولغيره، المعبر عنه بالولاية التكوينية في شقها الثاني، وهو الأخذ بيد الأمة نحو الطريق المنجي، وليس فقط إراءة الطريق وكشفه، فقد ورد عن النبي (ص) مخاطباً عمار بن ياسر قائلاً: [يا عمار فإن سلك الناس كلهم وادياً وسلك علي وادياً، فاسلك وادي علي بن أبى طالب عليه السلام وخل الناس] (15)، فوادي علي هو وادي الحق، وهنا يأمر النبي (ص) عماراً بأن يسلك وادي علي (ع)، أي أن علياً (ع) يأخذ بيد عمار ومن سار مع عمار إلى طريق الحق، والنجاة والفوز في الدنيا والآخرة لا يكون إلا باتباع من استخلفه النبي (ص) عليكم، حيث بينت مفهوم الاستخلاف في المنظور الإسلامي، أي طبيعة نظام الحكم وفق بيعة الغدير الربانية، وسنرى الذين اعترضوا على النبي الأكرم (ص) في هذه البيعة حتى خاطبه أحدهم بعبارة نابية بالقياس إلى منزلة النبي (ص)، فقال: يا محمد، ولم يقل يا رسول الله.

ثم قالت: [بيّنة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائداً إلى الرضوان أتباعه، مؤدٍّ إلى النجاة استماعه، به تنال حجج الله المنوّرة، وعزائمه المفسّرة، ومحارمه المحذّرة، وبيّناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة] (16) بعد أن قرنت الكتاب الساكت بالكتاب الناطق وصفت الوصف في أعلاه بينة بصائره إلى آخر العبارة، فالذي أحتمله، أنها (ع) تقصد الاثنين، ولما كان موضوعنا الإمامة وليس القرآن فأقول: إن كل شيء ظاهر ولا يحتاج إلى مزيد بيان أو تجديد بيان، فبعد بيان بصائره وانكشاف سرائره وانجلاء ظواهره وغيرها، صار القرآن الناطق قائداً لرضوان الله اتباعه، وخلافه قائداً للشيطان، لأن ليس بعد الحق إلا الظلال، قال تعالى: [فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ] (17)، ثم صار استماعه، أي الاستماع إلى أوامره، وتقصد الزهراء (ع) بالاستماع هو التطبيق والامتثال له ولأوامره مهما كانت، قال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ] (18)، حيث قرن طاعة ولي الأمر بطاعة رسول الله (ص)، وبسبب هذه الطاعة والامتثال تتحقق جميع حجج الله لعباده المؤمنين على خلقه أجمعين، ثم تذكر أن جميع ما أراد الله من عبادة في الواجبات والمحرمات وتتبعها المستحبات والمكروهات، تتحقق بفضل اتباع الولي الذي فرض الله طاعته على عباده أجمعين، ولا يجوز العدول عنه إلى صف الباطل، ثم قالت: وشرائعه المكتوبة، حتى لا يستغل كلامها المستغلون والذين في قلوبهم زيغ، فيقولوا: إن هذا الوصف للقرآن وليس للعترة كما تدعون أيها الشيعة، فقولها شرائعه المكتوبة هي القرآن لأننا لسنا مطالبين بأن نطبق آيات الله في التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من شرائه الله، بل هذا القران قد نسخ جميع كتب الله، فهو المهيمن على جميع الكتب، قال تعالى: [وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ] (19)، ثم قالت: [فجعل الله طاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة] (20)، إن قولها جعل تحتمل معنيين لهذا الجعل: فأما المعنى الأول: أنه جعل تكويني، تشير به الزهراء (ع) إلى عصمة أهل البيت (ع)، لأن النص لم يحدد طبيعة وكيفية الجعل، كما لم يشخص أحداً منهم، فيكون مجموع أهل البيت (ع) هم المشمولين بهذا الجعل، وقد بين القرآن الكريم الجعل التكويني في قوله تعالى: [إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا] (21)، والإرادة في إذهاب الرجس والتطهير المطلق إنما يكون بالخَلْق لا بالخُلُق، لأن إبعاد النجاسة والتطهر والتطهير أمر تشريعي، ينطبق على جميع المسلمين والكل مطالب بالتطهير بحسب المقام والوضع، قال تعالى: [وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ….وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ] (22)، وكذلك قوله تعالى: [فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ] (23)، فمنهم من يتطهر ومنهم من لا يتطهر، فهي إذن إرادة تكوينية، وإرادة الله ليس قبلها ولا بعدها إرادة، فهي نافذة ولو كره المشركون، لأن الخلق بيده تعالى، وهذا الجعل لا خلاف عليه في أنه يعني الجعل الخًلْقِي لا الخُلُقِي، لأن الخُلُقَ يتبع الخَلْقَ، وهذا الجعل لجميع الأنبياء والمرسلين والأوصياء بنسب متفاوتة، كما قال تعالى: [تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ] (24)، وكذلك تمييز أنبياء أولي العزم الخمسة عن غيرهم من الأنبياء والمرسلين، وهذا التفضيل ورفع الدرجات ينطبق على الأئمة، فقد ورد عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: [قال: ما أرسلت رسولا فانقضت ايامه الّا أقام بالأمر بعده وصيّه، فأنا جعلت علي بن أبي طالب خليفتك وامام أمتك، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي، ثم جعفر بن محمد، ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم الحجة بن الحسن، يا محمد ارفع رأسك! فرفعت رأسي، فاذا بأنوار علي والحسن والحسين وتسعة أولاد الحسين والحجة في وسطهم يتلألأ كأنه كوكب درّي. فقال الله تعالى: يا محمد! هؤلاء خلفائي، وحججي في الأرض، وخلفاؤك وأوصياؤك من بعدك، فطوبى لمن أحبّهم، والويل لمن أبغضهم] (25)، وأما الجعل الثاني: فهو الجعل التشريعي، وهو الأمر الإلهي بوجوب طاعتهم (ع)، إلا أن هذا الوجوب بالأصل وجوب عقلي، نبهت وأشارت إليه الآية لغرض تذكير المؤمنين الذين ليس في قلوب مرض فتزيغ عن الحق، فصار وجوباً شرعياً حتى لو لم يقبل به الناس عقلياً، وهو إلزام من الله على ذوي القلوب الزائغة التي تتبع المتشابه من الآيات، كما ذكره الله تعالى في المحكم الكريم في الآية السابعة من سورة آل عمران، فقال تعالى عن الطاعة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا] (26)، فجمع الله تعالى طاعة الرسول وطاعة أولي الأمر في طاعة واحدة، ولم يقل تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر، للدلالة على أن طاعة ولي الأمر هي عين طاعة الرسول، وهنا يجب على الأمة أن تخضع لقوله وحكمه تعالى وما أمر به الرسول الأعظم (ص)، وهذا لا خلاف عليه في وجوب طاعة أولي الأمر من حيث المفهوم، ولكن الاختلاف في المصداق، فمن هم أولو الأمر الذين أوجب الله طاعتهم وجمعها مع طاعة الرسول وقرنها بطاعته تعالى؟ هذا ما بينه حديث الثقلين تفصيلاً وتحديداً وتشخيصاً في العترة من أهل البيت (ع)، وأما حديث الغدير ووقعته فقد حدد النبي الأكرم (ص) المصداق الأول لحديث الثقلين وهو الإمام علي (ع)، فقد قال النبي الأكرم (ص) في جمع غفير من المسلمين يقدر بـ80 -120 ألف حاج بعد حجة البلاغ (الوداع) حيث قال: [من كنت مولاه فعلى مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله] (27) وما ذكره القرآن الكريم بنوعه لا بشخصه في قوله تعالى: [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ] (28) ، وكما نعلم أن الذكر بالنوع أبلغ في الوصف والتحديد من الذكر بالاسم، لأن الاسم يتكرر والوصف المنفرد لا يتكرر، وقد كان الإمام علي (ع) في التصدق بالخاتم في الركوع منفرداً ولم يشاركه أحد مع اقتران هذا الفعل بالذكر الإلهي كما ذكرت الآية في أعلاه.

بينت الزهراء (ع) في العبارة [طاعتنا نظاماً للملة](29)، أي نظام الحكم وطبيعته واتساقه ونسقه لا يكون إلا بطاعة أهل البيت (ع)، وبان هذا واضحاً للمسلمين عندما تركوا وصية رسول الله (ص) ولم ينتظموا ولم يلتزموا في أمره (ص) في موقعة أحد، عندما ترك المسلمون مواقعهم الخلفية وغار عليهم خالد بن الوليد مع نفر من قريش، وكادت أن تكون أكبر هزيمة للمسلين، فقالت إن نظام الملة الإسلامية لا تكون إلا بطاعتهم طاعة عمياء، لأنهم حبل الله الذي يتصل بين السماء والأرض. ثم قالت: [وإمامتنا أماناً من الفرقة] (30)، وفعلاً، لمَّا يُلحدْ رسول الله (ص)، عقدوا سقيفتهم، وبقي نظام الإسلام غير منتظم، فلا هو بالجمهوري ولا بالملكي ولا بالشورى، ولكل دولة نظام بحسب رغبات الحكام وبما يمليه عليهم الأجنبي، وإذا كان اليهود قد اشتركوا في حكم المسلمين كما كان كعب الأحبار ووهب ابن منبه، فاليوم أغلب المسلمين يحكمهم وبشكل مباشر  العدو اليهودي الصهيوني والاستعمار الغربي والشرقي، وستبقى نظام الأمة الإسلامية غير مستقر إلى ظهور صاحب العصر والزمان (عج).

بين وقفة الزهراء مطالبة بحقها في فدك وبيعة الغدير أقل من أربعة أشهر، حيث البيعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في غدير خم في الثامن عشر من ذي الحجة الحرام من عام 10 للهجرة، ووفاة رسول الله (ص) في الثامن والعشرين من شهر صفر من عام 11 للهجرة، وجلوس أبي بكر في نفس يوم وفاة النبي الأكرم (ص) حيث تركوه مسجى، ودخول الزهراء (ع) على أبي بكر بعد تسلمه منصب الحاكم بأيام بعد أن أخرج عمال فاطمة من أرض فدك، وابن عمها علي (ع) لمَّا يبايع أبا بكر، هذه الأيام القلائل أثبتت أن عدم اتباع النبي (ص) وأهل بيته (ع) يعني اختلال النظام وحدوث الفرقة التي ذكرتها الزهراء (ع) في الأيام الأولى لتسلم أبي بكر الحكم.

أعود لقولها: وطاعتنا نظاماً للملة، هل كان أبو بكر يعتقد بصدق كلام الزهراء (ع) أو لا يصدق؟ لنرى ما قاله أبو بكر لفاطمة الزهراء (ع) بعد أن فندت مزاعمه في الإرث بآيات القرآن الكريم، وبعد أن شهد الإمام علي (ع) وشهدت أم أيمن (رض)، بل في بعض الروايات أن عمر شهد بذلك، فماذا قال أبو بكر لفاطمة (ع): [صدقت يا بنت رسول الله، وصدق علي، وصدقت أُمّ أيمن] (31)، لا أريد أن أدخل في تفاصيل التصديق، وهل أن الزهراء صادقة صدّيقة أم أنها صادقة فيما ادعت به، ولكن أنقل ما قاله المحب الطبري قال: [روى أبو سعيد في شرف النبوة أن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم قال لعلي، أوتيت ثلاثاً لم يؤتهن أحد ولا أنا، أوتيت صهراً مثلي ولم أؤت أنا مثلك، وأوتيت زوجة صديقة مثل ابنتي، ولم أؤت مثلها زوجة وأوتيت الحسن والحسين من صلبك، ولم أؤت من صلبي مثلهما، ولكنكم مني وأنا منكم] (32)، فأقول إذا كانت الزهراء (ع) صادقة فكيف يكذبها؟ فهنا إما أن يكون هو الكذّاب أو تكون الزهراء (ع) [حاشاها] هي الكاذبة، يأتي الجواب من قول أبي بكر لها: صدقت يا بنت رسول الله، ثم أن الزهراء (ع) ردت عليه بتفنيد قوله في الحديث المزعوم على رسول الله (ص) في أن معاشر الأنبياء لا يورثون والذي لم يروى إلا عن طريق المدعي لهذا الحديث فقط وهو أبي بكر، فهذا يعني أنه كذب على الله ورسوله (ص)، وقد قال رسول الله (ص): [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ] (33) ، هنا تكمن عظمة الزهراء (ع)، فقد بينت للأمة حقيقة الحكام الذين سيحكمون باسم الدين وخلافة الرسول (ص)، لأنه كذب صراح على رسول الله (ص) ولو كان الحديث صحيحاً لما طالبت الزهراء (ع) بفدك من البداية، ثم قال: وصدق علي (ع)، وعلي (ع) كما في الحديث المروي عن الفريقين، أنه مع الحق، قال رسول الله (ص): (عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال: دخلت على أم سلمة فرأيتها تبكي وتذكر علياً وقالت: سمعت رسول الله ( صلى الله عليه [وآله] وسلم ) يقول: [علي مع الحق والحق مع علي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة] (34)، فقوله صدق، لأن الحق لا يكذب مطلقاً، والحق هو الله تعالى، فعلي (ع) مع الله، والله مع علي (ع)، فهل يقسم علي (ع) على الباطل من أجل حطام الدنيا؟ وهذا فضلاً عن كون أرض فدك كانت بيد فاطمة الزهراء (ع)، وقاعدة اليد الفقهية تحكم لها، ولكن ابن أبي قحافة علم أن الزهراء (ع) لم تقصد فدك من أول مطلب لها، ومن خلال دعوتها المسلمين للعودة إلى بيعة الغدير واتصالها بنساء المسلمين في المدينة وجولاتها فيها، فخططوا أن لا تصل دعوتها للمسلمين جميعاً، وفعلاً نجحوا في الدنيا ولكن سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.    

وأما قولها: (وإمامتنا أماناً من الفرقة)، النص لا يحتاج إلى تأويل وتفسير، فقد ذكرت بصريح العبارة: إمامتنا، ولم تقل ولايتنا حتى يتم تأويل الولي إلى اثنين وعشرين معنى، السيد والعبد والنار والمعتِق والمُعتَق وبعد ويلي وغيرها من التأويلات، فالإمام هو الذي يتقدم الأمة في كل شيء، كإمامة الصلاة لا يجوز أن يتقدم عليه المأموم، وقد كانت الزهراء (ع) قد رأت مستقبل الأمة إما من خلال أبيها وإخباره لها، وإما من علمها اللدني، باعتبار أنها محدثة، وقد شهدت لنا الأيام والسنون ما قالته الزهراء (ع) عن تفرق الأمة حتى أدى بها إلى قتل أمير المؤمنين (ع) وسم ابن بنت رسول الله (ص) الحسن (ع) وقتل ابن بنت رسول الله (ص) الحسين (ع).

المبحث الثاني: الإمام علي بن أبي طالب (ع)

قالت (ع): [وبقيّة استخلفها عليكم : كتاب الله الناطق والقرآن الصادق،… كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة من المشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه، ويخمد لهبها بسيفه، مكدوداً في ذات الله، مجتهداً في أمر الله، قريباً من رسول الله، سيداً في أولياء الله، مشمّراً ناصحاً، مجدّاً كادحاً، لا تأخذه في الله لومة لائم] (35)، قولها: وبقية استخلفها عليكم وهما كتاب الله الناطق والقرآن الصادق والمقصود هنا كمصداق أول، هو الإمام علي (ع)، حيث قال الإمام (ع) عن نفسه: [ذلك القرآن (الكتاب) الصامت وأنا القرآن (الكتاب) الناطق] (36)، وورد عنه أيضاً (ع) أنه قال: [هذا كتاب اللَّه الصامت، وأنا المعبّر عنه، فخذوا بكتاب اللَّه الناطق، وذَرُوا الحُكم بكتاب اللَّه الصامت؛ إذ لا معبّر عنه غيري] (37)، فهل هناك أوضح من هذا النص، وهو كما قالت الزهراء (ع)، ولكن يبدو أن القوم قد بيتوا ودبروا أمرهم لما بعد رحيل النبي الأكرم (ص) ، وهذا واضح من خلال الحوار الذي دار بين ابن عباس وعمر بن الخطاب بعد أن تسلم منصبه كحاكم على المسلمين بعد موت أبي بكر: [يا ابن عباس أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمد فكرهت أن أجيبه فقلت إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني فقال عمر كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً فاختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فقلت يا أمير المؤمنين إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت فقال: تكلم يابن عباس فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين اختارت قريش لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها حيث اختار الله عز و جل لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود، وأما قولك إنهم كرهوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإن الله عز وجل وصف قوماً بالكراهية فقال: ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم، فقال: عمر هيهات، والله يابن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أفرك عنها فتزيل منزلتك مني، فقلت: وما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كانت باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه، فقال: عمر بلغني أنك تقول إنما صرفوها عنا حسداً وظلماً، فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين ظلماً فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك حسداً فإن إبليس حسد آدم، فنحن ولده المحسودون، فقال: عمر هيهات أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسداً ما يحول وضغناً وغشاً ما يزول، فقلت: مهلاً يا أمير المؤمنين، لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً بالحسد والغش، فإن قلب رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم من قلوب بني هاشم، فقال عمر: إليك عني يابن عباس، فقلت: أفعل فلما ذهبت لأقوم، استحيا مني فقال: يابن عباس مكانك فوالله، إني لراع لحقك محب لما سرك، فقلت: يا أمير المؤمنين إن لي عليك حقاً وعلى كل مسلم فمن حفظه فحظه أصاب، ومن أضاعه فحظه أخطأ، ثم قام فمضى] (38).

إن قريش هيئوا للسقيفة قبل زمن طويل، ولكن الرسول (ص) فوت عليهم الفرصة فبايع لعلي (ع) في غدير خم، وأمر جميع المسلمين بمبايعة علي (ع)، فبايعه عمر: ” عن ابي هريرة قال: من صام يوم ثماني عشرة ذى الحجة، كتب له صيام ستين شهراً، وهو يوم غدير خم، لمَّا اخذ النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم بيد علي بن ابي طالب فقال: ألست ولي المؤمنين؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: “من كنت مولاه فعلي مولاه” فقال: عمر بن الخطاب بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مسلم، فأنزل الله عز وجل، [اليوم اكملت لكم دينكم] (39) ، ومع كل ذلك فلم يرقَ لهم، وتصوروا أن التنصيب من قبل النبي (ص) وليس من الله تعالى، وقالوا لو كان هذا من عند النبي (ص) لا نلتزم به بعد وفاته، بل حتى لو كان الأمر من عند الله، نقول هو من عند النبي (ص)، أو نقول إن الأمة اجتمعت على فلان وكفى، لأن الأمة لابد لها من إمام بر أو فاجر، لذلك حين تم للنبي (ص) تنصيب علي (ع)، اعترض النعمان بن الحرث [الحارث] الفهري على رسول الله (ص) في تنصيبه (ع)، وقال للنبي (ص): [يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأمرتنا بالجهاد، والحج، والصوم، والصلاة، والزكاة، فقبلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام، فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه] (40)، والقصة معروفة. وأنا أعتقد أن الحرث كان مدفوعاً من غيره حتى يكون هو الضحية، بحيث لا يستطيع أحد أن يقول إن الأول والثاني هما اللذان أعترضا على رسول الله (ص)، والذي يتابع أحوال عمر بن الخطاب، يجده كثيراً ما كان يعترض على أفعال النبي (ص)، كما في صلح الحديبية وغيره من الاعتراضات.

 إن الزهراء (ع) بخطابها هذا أرادت أن تقول: إن الحكم لا يكون لعامة الناس، إنما هو شأن من شؤون الله تعالى، ولا يحق حتى للنبي الأكرم (ص) أن يستخلف حاكماً على المسلمين من غير أن يكون حكماً ربانياً أو لإمضاءٍ من الله لحكم من أحكام النبي (ص)، وهي بنت القرآن بل هي القرآن الناطق أيضاً، وتعي قوله تعالى: [يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ] (41) ، فما قاله لهم رسول الله (ص)، هو ما أمره به الله تعالى، ثم طلبوا أخف من هذا المطلب فقالوا: بدله، فنزل قوله تعالى: [قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ] (42).

لقد أغلقت الزهراء (ع) الأبواب كلها بوجه الردة والانحراف، ولكنهم لم يصغوا إليها، لأن المؤامرة كبيرة وقديمة قدم الإسلام نفسه، ولكنها ظهرت مباشرة يوم وفاة النبي الأكرم (ص)، وهي فعلاً – المؤامرة – لا تقبل التأجيل والتأخير، لأن الأمة بايعت علياً (ع)، ولو انتظروا ريثما ينتهي الإمام علي (ع) وأهل البيت (ع) من تجهيز النبي الأكرم (ص) إلى مرقده الطاهر، لما عَدَتُ الإمامة عن الإمام علي (ع) ولا آلت لغيره، ولكن الأدوار كانت معدة من الطرفين، فعلي (ع) وأهل البيت (ع) يعلمون بالمؤامرة، ويعرفون أبطالها، وكان الجواب منهم أن يحافظوا على الإسلام، وكل يقوم بدوره، فالأمام علي (ع) لا يبايع، وعندما تطلب البيعة منه لأبي بكر يحتج ببيعة الغدير، وفعلاً احتج، ولكن القوم قد هيئوا لها، فيسكت علي (ع)، فقد روى العلامة المجلسي: [روى البلاذري قال: لما قتل الحسين عليه السلام، كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية: أما بعد، فقد عظمت الرزية وجلت المصيبة، وحدث في الاسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم الحسين، فكتب إليه يزيد: أما بعد يا أحمق، فإننا جئنا إلى بيوت منجدة، وفرش ممهدة، ووسائد منضدة، فقاتلنا عنها فلإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا، وإن كان الحق لغيرنا فأبوك أول من سن هذا وابتز واستأثر بالحق على أهله] (43).

كان دور الزهراء (ع) أن تعلن رفضها للبيعة مادامت على قيد الحياة، وأن تطالب الحكم السقيفي بحقها الذي غصبه أبو بكر ومن معه من قريش وبني أمة عامة، وأن تخبر نساء المسلمين بذلك،  فعقدت الجلسات والخطابات للحق المغصوب، سواء حقها في فدك أو حق الإمامة لابن عمها وهو الأصل، ونجحت في إعلام الأمة بعد خطابها الذي كاد أن يقلب الأمور على رأسها ويسقط المؤامرة الكبيرة التي قلبت موازين الحكم الإسلامي ونقلت الحكم من أولاد الأنبياء وأولاد الأوصياء ومن الشرفاء أولاد الشرفاء إلى الطلقاء أولاد الطلقاء، ولكن دهاء قريش ومن ورائهم التخطيط اليهودي وتدبير قريش من أول يوم للدعوة الإسلامية، حال بين أهل البيت (ع) والزهراء (ع) خاصة من نجاح خطتهم على تنصيب من نصبه الله تعالى على لسان نبيه (ص)، ولم يصلوا إلى مطلب على مستوى الحياة الدنيا في حكم المسلمين، ولكنهم مع ذلك، أقاموا الحجة على أعدائهم وأغلقوا أبواب من يأتي من بعد مؤامرة السقيفة ليقول: إن علياً (ع) وأهل البيت (ع) قد سكتوا، ولو كان لهم حق لطالبوا به، وبالنتيجة فإن فاطمة (ع) وعلي (ع) من قبلها وأهل البيت (ع) قد ربحوا الدنيا والآخرة.  

في هذا النص: [.. فإن تُعزوه وتعرفوه، تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمّي دون رجالكم، ولنعم المعزى إليه(ص)] (44) نجد الزهراء (ع) تميز علياً (ع) عن غيره، فتقول عن أبيها إنه أخ ابن عمها دون رجالكم، وتقصد الزهراء (ع) الأخوة الإيمانية أولاً وبالأخص، لأم النبي (ص) آخا بينه وبين علي (ع)، كما آخا بين أبي بكر وعمر، وكأنه يريد أن يقول، بل يريد، أن يقول إن الأخوة على التشابه، ففي قول للنبي (ص): [علي مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي] (45)، ثم تقول: ولنعم المعزى إليه، وهنا تؤكد أن المعزى وهو النسب بين أبي رسول الله (ص) وابن عمي علي (ع) هو خير النسب، وليس النسب القبلي مع ما له من منزلة، ولكنه النسب الرباني الإلهي كما قال تعالى: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (46)

ثم قالت: [فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لمّا يُقبر] (47) تصفهم بأنهم علّموا إبل غيرهم، وهي إشارة لطيفة لتمييز الهدي الخاص بكل حاج، حيث يعلم بعلامة خاصة بكل حاج حتى يتعرف على أنعامه التي ساقها للهدي، أما أنتم فقد أخذتم أنعام غيركم وعلمتموها بعلامة حتى تأخذوها من صاحبها، وفعلاً فقد أخذتموها، وجلستم في غير مجلسكم، لأنكم وردتم غير موردكم، والغريب في فعلتكم الشنيعة، أن العهد قريب، فلم يكن بين غياب رسول الله (ص) وبيعتكم وغصبكم للخلافة إلا سويعات، حتى قالت (ع): [وكفن رسول الله (ص) مازال رطباً مبتلاً من أثر غسله (ص)] (48)، أي كنت قبل سويعات في بيعة أمير المؤمنين (ع) بأمر من الله تعالى لنبيه، نعم والعهد قريب لم يتجاوز الثلاثة أشهر، وكان جثمان رسول الله الطاهر (ص) مازال بينكم، فتركتموه مسجى ونازعتم المهاجرين والأنصار على تراثه وتراث أهل بيته.

الهوامش

1- بلاغات النساء / لابن طيفور ج1 الخطبة الفدكية ص7

2- تحف العقول عن آل الرسول / لابن شعبة الحراني

3- البقرة / 30

4- أصول الكافي / الشيخ الكليني ج1 باب أنه لو لم يبق في الأرض إلا رجلان لكان أحدهما الحجة ح1

5- ص / 26

6- المائدة / 44

7- المائدة / 45

8- المائدة / 47

9- آل عمران / 118

10- هود / 86

11- النور / 35

12- مفاتيح الجنان / الشيخ عباس القمي زيارة الإمام المهدي

13- النحل / 44

14- النحل / 64

15- ج1 ص178

16- كتاب بلاغات النساء / لابن أبي طيفور ج1 الخطبة الفدكية ص7

17- يونس / 32

18- النساء / 59

19- المائدة / 48

20- كتاب بلاغات النساء / لابن أبي طيفور ج1 الخطبة الفدكية ص7

21- الأحزاب / 33

22- المائدة / 6

23- التوبة / 108

24- البقرة / 253

25- النجم الثاقب / آية الله حسين الطبرسي ج1 ص 500

26- النساء / 59

27- عيون أخبار الرضا / الشيخ الصدوق ح183

28- المائدة / 55

29- كتاب بلاغات النساء / لابن أبي طيفور ج1 الخطبة الفدكية ص7

30- كتاب بلاغات النساء / لابن أبي طيفور ج1 الخطبة الفدكية ص7

31- السيدة فاطمة الزهراء (س) / محمد بيومي ص 168

32- الرياض النضرة / المحب الطبري ج1 ص 270

33- مسند أحمد ج2 ص57

34- تاريخ دمشق / لابن عساكر ج43 ص449

35- كتاب بلاغات النساء / لابن أبي طيفور ج1 الخطبة الفدكية ص7

36- اثنا عشر رسالة / الداماد ج1 ص 13

37- موسوعة الإمام علي ج9 ح3957 ص 185

38- تاريخ الطبري ج2 ص578

39- البداية والنهاية / لابن كثير ج7 ص350

40- تفسير مجمع البيان/ للطبرسي ج10 تفسير سورة المعارج

41- آل عمران / 154

42- يونس / 15

43- بحار الأنوار / العلامة المجلسي ج45 باب 47

44- كتاب بلاغات النساء/ لابن أبي طيفور ج1 الخطبة الفدكية ص7

45- دعائم الإسلام ج1 ص 20

46- الحجرات / 10

47- كتاب بلاغات النساء/ لابن أبي طيفور ج1 الخطبة الفدكية ص7

48- كتاب بلاغات النساء/ لابن أبي طيفور ج1 الخطبة الفدكية ص7

المصادر

1- القرآن الكريم

2- اثنا عشر رسالة / الداماد

3- البداية والنهاية / لابن كثير

4- بحار الأنوار / العلامة المجلسي

5- بلاغات النساء/ لابن أبي طيفور

6- دعائم الإسلام / القاضي النعماني

7- مفاتيح الجنان / الشيخ عباس القمي

8- موسوعة الإمام علي / المكتبة الشاملة قرص حاسوب

9- مسند أحمد

10- السيدة فاطمة الزهراء (س) / محمد بيومي

11- النجم الثاقب / آية الله حسين الطبرسي

12- عيون أخبار الرضا / الشيخ الصدوق

13- فرائد السمطين / العلامة الجويني الشافعي

14- الرياض النضرة / المحب الطبري

15- تاريخ الطبري

16- تاريخ دمشق / لابن عساكر

17- تحف العقول عن آل الرسول / لابن شعبة الحراني

18- تفسير مجمع البيان/ للطبرسي