مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
حِجاجية السياقِ المقامي في الخطبة الفدكية / م. د. موفق مجيد ليلو / المديرية العامة لتربية ميسان
+ = -

حِجاجية السياقِ المقامي

في الخطبة الفدكية

م. د. موفق مجيد ليلو

المديرية العامة لتربية ميسان

muaffaqmajeed@gmail.com

ملخص

   تحاول هذه الدراسة أن تسلط الضوء على بعدٍ مهمٍ من أبعاد الخطاب في الخطبة الفدكية للسيدة الزهراء (ع)، ربما لم ينل حظه من الدراسة بشكل كافٍ، وهذا البعد هو السياق المقامي أو المقام أو سياق الموقف، وأثر ذلك من وجهة نظر حجاجية إقناعية، أي السياق بوصفه استراتيجية إقناعية يستثمرها المخاطِب للتأثير في الجمهور وتوجيه ميولهم وعواطفهم، كي يتحقق غرض الاقناع الذي يسعى إليه الخطاب. من خلال دراسة موجهات السياق للمخاطب وما يحيط به من محددات سياقية كدخولها (ع) ومشيتها وما يحفُّ بها من بيئة زمانية ومكانية.  

Summary

    This study attempts to highlight one important dimension. The speech in Mrs. Al-Zahraa’s  Fadak speech,( p) may not have received . Adequately studied, this dimension is the denominator context (or position context) and its effect from an argumentative persuasive point of view, i.e. context as a persuasive strategy to be invested by the speaker. In the audience and to direct their inclinations and emotions, so that the purpose of persuasion is achieved .What the discourse seeks by examining the context guides of the speaker and its contextual determinants, such as her entering (P) ,walking .and the temporal and spatial environment that surrounds her.

مقدمة

  كثيرةٌ هي الدراسات التي تناولت شخصية الزهراء(ع) وخطبتيها وخاصة الخطبة الفدكية، لأهمية هذه الخطبة في فهم الوقائع التاريخية المفصلية التي أدَّت بالأمة إلى الانحراف عن مسار الإمامة والخلافة الالهية وخسرانها الكثير، لعدم إلتفاتها إلى ما حدَّدته الخطبة من معايير وسنن كونية.

   تحاول هذه القراءة استنطاق الخطاب الفاطمي في زاوية ربما لم يتم التركيز عليها في الدراسات وأعني به السياق الخارجي، أو مقدمة الخطبة ومدخلها، وهو الجزء الذي يصف دخول الزهراء (ع) وهيأتها ومشيتها من خلال توظيف التقنيات والآليات الحجاجية غير اللغوية (السياق الخارجي) بوصفها موجِّها إقناعيا وحجاجيا يستثمر كل ممكنات السياق في تحفيز المخاطب واذكاء مشاعره وتجييش العواطف، بفرادة لا تتكرر الا في بيت النبوة والعصمة.

   فالسياق بوصفه القرينة الكبرى لفهم الخطاب ومقاصده ، يضم كل عناصر الخطاب وأبعاده التي أشار اليها أرسطو وهي: الايتوس (المخاطِب) والباتوس (المخاطبين) واللوغوس (الخطاب)، فإذا نظرنا الى السياق بصورة عامة فإنه سيشمل كل الاركان الثلاثة، الا أننا سنركز هنا على السياق الخارجي وأثره في تحقيق الاقناع من خلال تسليط الضوء على محددات الخطيب وحركته بالدرجة الأساس ، والبيئة الخطابية والزمان والمكان والعوامل الثقافية والاجتماعية والعاطفية التي تحف الخطاب وظروفه الموضوعية، التي توجه المخاطبين وتعبئهم وتستميل عواطفهم، وهو ما تطمح اليه الدراسة الاقناعية، فظهور العواطف الجياشة كالبكاء والنحيب والتعجب والصمت والاطراق مما تصفه النصوص هو ما يقتضي الاقناع او الهزيمة أما الادلة والبراهين والحجج الساطعة للخطيب التي تترك الجماهير تذعن لخطابها.

    تنقسم الدراسة الى قسمين: تضمن القسم الأول تعريفًا بمصطلحات البحث ومتعلقاته كالخطاب والحجاج والسياق والعوامل الحجاجية والمبادئ وغير ذلك، حيث ركّز المبحث الثاني على تحليل مدخل الخطبة الفدكية الروائي (وأعني به ما وصفه الراوي – مما يتفق عليه- من دخول الزهراء (ع) الى ابتدائها بخطبتها المباركة دون المرور بمضمون الخطبة فإن هناك دراسات ومؤلفات كثيرة في هذا الميدان، لذا ركزت الدراسة على تقسيم الموجهات السياقية وفق فقرات: الهيأة- الوفد– المشية– الجلوس- بكاء الجماهير– الصمت– الأنين، مع محاولة الوقوف على بعض الاسرار الفاطمية لهذه الصورة – والله المستعان وعليه التكلان.  

المبحث الأول

الخطاب([1]) والحجاج([2]) والسياق

الخطاب

   يشير لفظ (خطب) في اللغة الى معانٍ منها كما قيل: «الخَطْب: سَبَبُ الأمر… والخِطاب: مراجعة الكلام»([3]). وقيل: «الخَطْبُ: الشَّأْنُ أو الأَمْرُ، صَغُر أو عَظُم؛ وَقِيلَ: هُوَ سَبَبُ الأَمْر. يُقَالُ: مَا خَطْبُك؟ أَي مَا أَمرُكَ؟ وَتَقُولُ: هَذَا خَطْبٌ جليلٌ، وخَطْبٌ يَسير. والخَطْبُ: الأَمر الَّذِي تَقَع فِيهِ المخاطَبة، والشأْنُ والحالُ؛ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَلَّ الخَطْبُ أَي عَظُم الأَمرُ والشأْن»«[4].

   أما في الاصطلاح فيتنوع مفهوم الخطاب بتنوع المداخل المعرفية التي ينظر اليه من خلالها، وفي الاحوال كلها فإنّ هذا المصطلح ربما تبلور بشكل واضح بصورته المعرفية في كتابات ميشيل فوكو، الذي استحال عنده الى رؤية متكاملة وايديولوجيا لتفسير المعرفة. ومن هنا فإن الوقوف على تعريف أو تحديد لهذا المفهوم مع الثورة الاصطلاحية التي تجتاح العالم يكاد يكون صعبا مستصعبا، ولكننا سنقف على بعض التعريفات ونخرج منهابتعريف يمكن أن نعتمده في دراسة النصوص والخطابات المختلفة. فالخطاب «لا سبيل لحصره في معنى بعينه؛ لأنّ له تاريخًا معقدًا ويرد في سياقات شتى لدى المفكرين المختلفين، بل لدى المفكر الواحد أحيانًا»([5]).

  ويشير مصطلح (discourse) الى مجموعة من المعاني والدلالات، ويمكن تحديد أهم ملامح الخطاب من خلال المقارنة بينه وبين النص، أذ يرى بعضهم «أنّ النص قد يكون مكتوبًا في بعض الاستخدامات، في حين أنَّ الخطاب شفاهي، وقد يكون النص غير تفاعلي بينما الخطاب تفاعلي… قد يكون النص قصيرا أو طويلا، أما الخطاب فيدل على طول مؤكد ، ولابد للنص ان يتسم بتماسك سطحي، في حين لابد ان يتميز الخطاب بتماسك أعمق»([6]).

   ويرى د. سعيد علوش أنَّ الخطاب يتحدد بأنَّه “مجموع خصوصي لتعابير تتحدد بوظائفها الاجتماعية ومشروعها الأيديولوجي ([7])، وربما عبر عن أجزائه بأنها “أنماط كلمات جمعت بحسب وظيفتها وخصوصيتها الصرف– تركيبية ([8]).

الحجاج

  تشير معنى الحُجَّة الى «وَجْهُ الظَّفَر عند الخُصومة. والفِعل حاجَجْتُه فَحَجَجْتُه. واحتَجَجْتُ عليه بكذا. وجمع الحُجَّة: حُجَجٌ. والحِجاج المصدر»([9])، ويحدد ابن فارس هذا الأصل في أربعة معانٍ هي: القصد، الحِجَّة وهي السّنَة. الحِجَاجُ، وهو العظْم المستدير حَولَ العَين. والحَجْحَجة النُّكوص([10]). ولا شك أن المعنى الأول هو الاقرب الى معنى الحجاج؛ لأنه تضمن معنى الظفر على الخصم والغلبة بالحجة.

   وأما الحجاج بوصفه نظرية فموضوعه وغايته “هو درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات، أو أن تزيد في درجة ذلك التسليم”([11]). فالحجاج “هو العملية التي من خلالها يسعى المتكلم الى تغيير نظام المعتقدات والتصورات لدى مخاطبه بواسطة الوسائل اللغوية”([12]).

   وغايته إذعان المتلقي بطريق الاقتناع، وليس الإقناع، وثمة فرق بينهما، إذ “إنَّ المرء في حالة الاقتناع يكون قد اقنع نفسه، بواسطة أفكاره الخاصة، أما في حالة الإقناع فان الغير هم الذين يقنعونه دائما”([13]). ويعرَّفه د. العزاوي بأنه “تقديم الحجج والادلة  المؤدية الى نتيجة معينة، وهو يتمثل في انجاز تسلسلات استنتاجية داخل الخطاب، وبعبارة اخرى، يتمثل الحجاج في انجاز متواليات من الاقوال، بعضها هو بمثابة الحجج، وبعضها الآخر هو بمثابة النتائج التي تستنج منها”([14]). فميدانه ليس البديهيات وإنما القضايا المشككة.

   وقيل بأنه “تقديم براهين بواسطة البشر لتبرير معتقداتهم وقيمهم وللتأثير في أفكار الآخرين وأفعالهم”([15])، وعرَّفه د. الولي بأنّضه ” توجيه  خطاب إلى متلق ما لأجل تعديل رأيه أو سلوكه أو هما معا، وهو لا يقوم إلا بالكلام المتألف من معجم اللغة الطبيعية”([16])، وهذا يعني ان الحجاج هدفه التأثير والإقناع بالدرجة الأولى عن طريق توظيف اللغة بأساليبها وجمالياتها للإقناع، مع التركيز على إقناع المخاطب وإذعانه لواضح الحجج وقوة البرهان.

  وثمة فروق بين الاستدلال والحجاج؛ “لأنهما ينتميان الى نظامين جد مختلفين، نظام ما نسميه عادة بـ(المنطق)، ونظام الخطاب. إنَّ استدلالا ما (القياس الحملي أو الشرطي مثلا) لا يشكل خطابا بالمعنى القوي الذي يعطيه ديكرو لهذا المصطلح،… أما الحجاج فهو مؤسس على بنية الأقوال اللغوية، وعلى تسلسلها واشتغالها داخل الخطاب”([17]).    

    ويشير بعض الدارسين الى أسس الحجاج وهي: القصد المعلن، والتناغم والاستدلال، والبرهنة([18]). ويرتكز على ثلاثة أبعاد رئيسة، وهي:

” أولا: أخلاق القائل (المحددات السياقية).

 ثانيا: تصيير السامع في حالة نفسية ما (التأثير)

 ثالثا: القول نفسه من حيث هو يثبت أو يبدو انه يثبت”([19]).

 وهي المحددات والابعاد التي ذكرها ارسطو في بيان الحجة تحت مسميات ” الايتوس والباتوس واللوغوس”([20]).

    أما وسائل الحجاج واستراتيجياته فتتوزع بين اللغويّة الصرفة والبلاغية والمنطقية وشبه المنطقية، وأما المبادئ الحجاجية فهي “مجموعة من المسلَّمات والافكار والمعتقدات المشتركة بين أفراد مجموعة لغوية وبشرية معينة، والكل يسلم بصدقها وصحتها”([21])، وهي مشتركات ترتبط بالأيديولوجيات الجماعية يتقبلها العقل السليم، واحيانا تكون بديهيات أو وجدانيات لا تحتاج برهنة، أو مشتركات معرفية وجماعية لمجموعة بشرية معينة، كما في عادات الشعوب واخلاقها وقيمها. وتتصف عادة بأنَّها (مشتركة، وعامة، نسبية، وتدرجية)([22]).

   ويرى د.جميل حمداوي أنّ المقاربة الحجاجية تهدف الى ” تحليل النصوص أو الخطابات التي تتضمن أبعادًا حجاجية مباشرة أو غير مباشرة، لذا على الباحث أن يحلِّل النصَّ بنية ودلالة ووظيفة”([23])، وتتلخـص خطـوات المقـاربة الحجاجية في:

  1. دراسة الحـجاج في لغتـه الطبيعية وماديته الخـطابية ضمن خطـاب وظيـفي كلّيّ.
  2. ربط الحجاج بسياقه التواصلي.
  3. رصـد آليـات الحجاج وخطاطـاته وتبيان طبيعتها وطـريقة اشتغالها داخل الخطاب قبل الكلام وبعده.
  4. استــجلاء اللوغوس والإيتوس والباثوس([24]).

    السياق المقامي

   يشير الجذر اللغوي (سوق) الى السوق والمتابعة([25])، وأما الكلمة التي استعملها القدماء وهي الأقرب الى لفظة السياق ودلالتها فهي المقام وخاصة في البلاغة، والمقام هو البيئة والمحددات التي تحيط بالخطاب وظروفه الموضوعية والاجتماعية. ولذا فهو أقرب الى البيئة المكانية والزمانية للخطاب. أما المفهوم المقابل للمقام فهو السياق، الا أنه أعم وأوسع ويشمل الخطاب بكل أجزائه ومكوناته، وربما قسمه المحدثون الى لفظي وخارجي أو تداولي مع اختلاف التسميات والاصطلاحات، واذا كان السياق قد استقام على عوده بوصفه نظرية تحتضن الخطاب وتهيمن عليه، وتحيط به، فان الحديث لا يمكن أن يستوفي هذه النظرية، لأنه يتداخل مع كثير من النظريات ويشكل ركنا مهما ي عملية انتاج الخطاب وتفسيره. لذا سنحاول بإيجاز الوقوف على ما يفيدنا في هذه القراءة.   

   ويُحدَّد السياق بأنَّه «مجموعة الظروف التي تحفُّ حدوث فعل التلفظ بموقف الكلام»…([26]).  ويعرفه معجم اكسفورد للتداولية «بصورة عامة هو أية سمات ذات صلة من سمات الخلفية أو المحيط الديناميكي حيث تستعمل الوحدة اللغوية بانتظام»([27])، ويتقوَّم بثلاثة مقومات هي: اللغة، والمقام (الموقف) وظروف التقويم أو العالم الممكن، ثم يحتوي المقام والموقف على مقومات سياقية فرعية مثل المتكلم والمخاطب والزمان والمكان([28]).

   وأما سياق المقام المرتبط ب(مالينوفسكي) فيشير إلى «مجموعة الظروف ذات الصلة التي يحصل فيها فعل كلامي»([29])، أو بعبارة أخرى «مجموع العوامل غير اللغوية المتضمنة في استعمال الوحدة اللغوية، ولهذا فهو مساوٍ تقريبا للسياق»([30]).

  وكان لآراء مالينوفسكي أثر كبير في تبلور النظرية السياقية لفيرث، فقد استعمل مصطلح (سياق الحال = الماجريات)، وقد تطور هذا المصطلح عند فيرث ليكون نوعا من (( التجريد من البيئة، او الوسط الذي يقع فيه الكلام))([31])، ولذا فإنهم يدخلون جملة أمور في سياق الحال أو الماجرى، يقول د.السعران: ((إن سياق الحال أو الماجري هو جملة العناصر المكونة للموقف الكلامي (أو للحال الكلامية) ومن هذه العناصر المكونة للحال الكلامية:

  1. شخصية المتكلم والسامع، وتكوينها الثقافي وشخصيات من يشهد الكلام غير المتكلم والسامع- إن وجدوا- وبيان ما لذلك من علاقة بالسلوك اللغوي، ودورهم أيقتصر على الشهود أم يشاركون من آن لآن بالكلام، والنصوص الكلامية التي تصدر عنهم.
  2. العوامل والظواهر الاجتماعية ذات العلاقة باللغة وبالسلوك اللغوي لمن يشارك في الموقف الكلامي كحالة الجو إن كان لها دخل ، وكالوضع السياسي ، وكمكان الكلام الخ. وكل ما يطرأ أثناء الكلام ممن يشهد الموقف الكلامي من انفعال أو أي ضرب من ضروب الاستجابة وكل ما يتعلق بالموقف الكلامي أيا كانت درجة تعلقه .
  3. أثر النص الكلامي في المشتركين، كالاقتناع، أو الالم، أو الاغراء ، أو الضحك الخ))[32].

     والسياق هو الوجه الآخر للخطاب ولا يمكن تصور خطاب ما دون سياقه بحيث لا يمكن الفصل بينهما «لأنَّ سمة الخطابية التي بها يكون الخطاب خطابا، هي أساسا حاصل تفاعل مكون اللغة والمقام، أو لنقل حاصل اقتران ملفوظات معينة بمواقف تواصلية محددة»([33]). وقد يلتبس بهذا المفهوم مع فكرة المقام– كما يرى د.الشهري – ولذا فهو يرجح تصور د.تمام حسان عن السياق الذي يشير الى ذلك بقوله: «لقد فهم البلاغيون (المقام) أو مقتضى الحال فهما سكونيا قالبيا نمطيا مجردا ثم قالوا لكل مقام مقال … فهذه المقامات نماذج مجردة، وأطر عامة، وأحوال ساكنة… وبهذا يصبح المقام عند البلاغيين سكونيا (static) فالذي اقصده بالمقام ليس إطارا ولا قالبا، وانما هو جملة الموقف المتحرك الاجتماعي الذي يعتبر المتكلم جزءا منه، كما يعتبر السامع والكلام منه، وغير ذلك ممل له اتصال بالمتكلمSpeech event) )، وذلك أمر يتخطى مجرد التفكير في موقف نموذجي ليشمل كل عملية الاتصال… وعلى الرغم من هذا الفارق بين فهمي وفهم البلاغيين للمصطلح الواحد، أجد لفظ المقام أصلح ما أعبر به عما أفهمه من المصطلح الحديث (of situation context  ( الذي يستعمله المحدثون»([34]).

    يتمظهر السياق غير اللغوي او المقام بكل الملابسات التي تحيط بالنص من زمان ومكان وهيأة وكل ما تصوره اللغة والرواية. ويحقق الوصف والسرد هذا السياق في الوقائع التاريخية والمرويات المنقولة وخاصة إذا كان الراوي دقيقا وأمينا في نقل فضاءات الخطاب. ومن هنا تكمن أهمية هذا السياق في انه يقول ما لا يقال او ينطق بمضمرات النص. ويمكن ان نرى هذا الامر واضحا في مدخل الرواية، مع التسليم بصحة الرواية وثقة الراوي([35]). إنَّ الخطابة كما يرى أرسطو «قوة تتكلف الاقناع الممكن في كل واحد من الأمور المفردة  أو هي الكشف عن الطرق الممكنة للإقناع في أي موضوع كان»([36])، فان عناصرها كما حددها هي:

  1. وسائل الاقناع أو البراهين.
  2. والاسلوب أو البناء اللغوي.
  3. وترتيب أجزاء القول.

    ثم هناك عنصر الالقاء الذي اعتبره الدارسون للخطابة بعد ارسطو ومنهم البلاغيون العرب عنصرا مستقلا ويتضمن الحركة والصوت»([37]).

   ولما كانت الاركان الثلاثة للخطاب عنده (الايتوس والباتوس واللوغوس)، فإن الاول متعلق بالخطيب والثاني متعلق بالمستمعين والثالث بالخطاب نفسه، فإننا سنركز في هذه القراءة على السياق الذي ربما نحتاج فيه الى التركيز على المخاطِب وتأثيره على المخاطبين. فالسياق «عالم مشترك  تفاصيله غير محددة يحتضن العلامات اللغوية، وهذه المعرفة المتقاسمة التي تتيح تبادل الكلام تسمى السياق، والسياق هو مجموعة الاجوبة المفترضة التي يجب ان يتقاسمها بوصفها معارف، الخطيب والسامعون»([38]).

المبحث الثاني

فاعلية السياق المقامي في الخطبة الفدكية([39])

النص

    «روى عبد الله بنُ الحسن (عليه السلام) بإسنادِه عن آبائه (عليهم السلام): أنَّه لَمّا أجْمَعَ أبو بكر عَلى مَنْعِ فاطمةَ (عليها السلام) فَدَكَ، وبَلَغَها ذلك، لاثَتْ خِمارَها على رأسِها، واشْتَمَلَتْ بِجِلْبابِها، وأَقْبَلَتْ في لُمَةٍ مِنْ حَفَدتِها ونساءِ قَوْمِها، تَطأ ذُيُولَها، ما تَخْرِمُ مِشْيَتُها مِشْيَةَ رَسولِ الله صلى الله عليه وآله، حَتّى دَخَلَتْ عَلى أَبي بَكْر وَهُو في حَشْدٍ مِنَ المهاجِرين والأَنصارِ وَ غَيْرِهِمْ فَنيطَتْ دونَها مُلاءَةٌ، فَجَلَسَتْ، ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّةً أَجْهَشَ القومُ لها بِالْبُكاءِ. فَارْتَجَّ الْمَجلِسُ. ثُمَّ أمْهَلَتْ هَنِيَّةً حَتَّى إذا سَكَنَ نَشيجُ القومِ، وهَدَأَتْ فَوْرَتُهُمْ، افْتَتَحَتِ الْكَلامَ بِحَمدِ اللهِ وَالثناءِ عليه والصلاةِ على رسولِ الله، فعادَ القومُ في بُكائِهِمْ، فَلَما أمْسَكُوا عادَتْ فِي كلامِها، فَقَالَتْ عليها السلام:…»([40]).

  عتبة الخطاب

   عندما ندرس خطابًا تاريخياً ووثيقة مهمة مروية بأسانيد متواترة وموثقة كالخطاب الفاطمي، فإننا لا شك أمام خطاب يحتاج الى التأمل والتدقيق في كل كلمة ووصف سواء أكان من مقدمات الخطاب وسياقاته الخارجية أو متنه اللغوي وتقنياته اللغوية. ولذا سيكون الاهتمام في هذه القراءة منصباً على عتبة الرواية وسياقها المقامي، دون الخوض في متنها.

   تطالعنا في مدخل الرواية وعتبتها صورة متكاملة عن دخول السيدة الزهراء (عليها السلام)، وهو وصف دقيق لكل تفاصيل الواقعة بحيث جعلت الراوي يدقق في صورتها ودخولها ومشيتها والوفد المرافق لها في صورة درامية مؤثرة مليئة بالصور البلاغية التي سنفرد لها شيئا من الكلام.

  ما يهمنا هنا هو أنّ كلَّ من نقل الخطبة قدَّم بهذه المقدمة واهتم بنقل تلك التفاصيل، مع أنَّ العادة في نقل الرواية ربما في أكثر الأحيان تقتضي ذكر سلسلة السند دون الخوض في هذه التفاصيل. إلا أننا نرى أنَّ ذلك مهمٌ جدًا في قراءة ما بين السطور، وبيان أهمية الحق المطلوب الذي أرادت (ع) المطالبة به ومدى تأثير ذلك في حياة الأمة على المدى البعيد. ولابدَّ أن نشير الى أنّ مقدمات هذا الخطاب الثوري والتوجيهي وملابساته الخارجية يزداد أهمية وتأثيرًا كلما علا شأن المخاطِب وارتفعت مكانته بين الجمهور، فكيف اذا كانت بضعة النبوة. ثم أنَّ ظهور الزهراء بهذا الهيأة لم يكن متداولا أو مألوفا لدى القوم، بل لم يعهد القوم رؤية ظلها- كما تصف ذلك الروايات– فالأمر عظيم وشديد أدى إلى إخراج الحرة الكريمة من عرينها للمطالبة بميراث النبوة والامامة الحقة، وكشف المؤامرات وفضح المزيفين والنفعيين. فبمجرد أنينيها أجهش القوم بالبكاء وكأنها استعادة لصورة الرسول الأعظم وشخصه وحديثه، وهو ما يستميل المتلقي المخدوع بالشعارات الزائفة أو المغلوب على أمره، والذي خضع للتخطيط المبرمج من القوم لنيل الخلافة والحصول على البيعة مع أن هناك من لم يبايع أو يفاوض عليها.

  وثمة توثيق آخر وجزئية تكمن في اجهاش القوم بالبكاء وهو نوع من التعاطف والشعور بالندم وجلد الذات مع نوع من الحنين الى الماضي المقدس الذي استحضرته هذه الصور المتوالية.

  وقد حدث البكاء من الجمهور في اكثر من مرة، مرتين منهما في افتتاح الخطبة فبعد استماعهم الى الأنين الفاطمي وارتجاج المجلس واجهاش القوم بالبكاء، بدأت بالحمد والثناء والصلاة فعاد القوم الى البكاء، وهذا انما يشير الى أقصى درجات التأثر التي تصيب الجمهور الى مرحلة الانهيار القسري وانفجار العاطفة.

  إننا هنا أمام فضاء الخطاب وسياقه الخارجي الذي تزاحمت فيه صور التأثير والاقناع في جمهور المخاطبين من صورة الزهراء (ع) ودخولها ومشيتها وحتى أنينيها وكلامها، فهذه اللحظات القليلة والصورة المترتبة خلقت جوا انفعاليا وتأثيرا في نفوس القوم والعهد لا زال قريبا بالنبي المصطفى (ع). وسنحاول في هذه القراءة المتأنية  لفضاء الخطاب وسياق الموقف أن نقرأ دلالات ذلك وأثره في الاقناع والتحشيد بوصفه استراتيجية([41]) ناجحة ومؤثرة في الجمهور، ويمكن تجزئة وحدات أو استراتيجيات السياق المقامي على النحو الآتي– مستلهما ذلك من الرواية أعلاه:

  1. أنَّه لَمّا أجْمَعَ أبو بكر عَلى مَنْعِ فاطمةَ عليها السلام فَدَكَ، وبَلَغَها ذلك، لاثَتْ خِمارَها على رأسِها، واشْتَمَلَتْ بِجِلْبابِها،
  2. وأَقْبَلَتْ في لُمَةٍ مِنْ حَفَدتِها ونساءِ قَوْمِها،
  3. تَطأ ذُيُولَها، ما تَخْرِمُ مِشْيَتُها مِشْيَةَ رَسولِ الله صلى الله عليه وآله،
  4. حَتّى دَخَلَتْ عَلى أَبي بَكْر وَهُو في حَشْدٍ مِنَ المهاجِرين والأَنصارِ وَ غَيْرِهِمْ
  5. فَنيطَتْ دونَها مُلاءَةٌ، فَجَلَسَتْ،
  6. ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّةً أَجْهَشَ القومُ لها بِالْبُكاءِ. فَارْتَجَّ الْمَجلِسُ.
  7. ثُمَّ أمْهَلَتْ هَنِيَّةً حَتَّى إذا سَكَنَ نَشيجُ القومِ، وهَدَأَتْ فَوْرَتُهُمْ، افْتَتَحَتِ الْكَلامَ بِحَمدِ اللهِ وَالثناءِ عليه والصلاةِ على رسولِ الله، فعادَ القومُ في بُكائِهِمْ، فَلَما أمْسَكُوا عادَتْ فِي كلامِها، فَقَالَتْ عليها السلام:…

   هذه الوحدات السبع أو المفاصل الدرامية التي توثق لأجواء النص وسياقه الموقفي يمكن تحليلها بالاستعانة برمزية الحركات وسيميائية الإشارات التي ظهرت في الرواية مثل بلاغة الصمت، الانين، الثياب، المشية، دخولها المسجد، الحشود النسوية، حشود المهاجرين والانصار… ومع أنه مشهد قصير لكنه يمكن أن يعطي صورة واضحة عن المضمون ويشي بالكثير مما لم تذكره (عليها السلام) من السخط والغضب واللعنة التي لحقت القوم لتخاذلهم عن النصرة وغصبهم الحق.

سياق الخطاب

    يتحدد مسرح الخطاب وفضاؤه في بيئة المدينة المنورة، وبشكل أخص المسجد النبوي وبيت النبي الأكرم (ص) والزهراء وعلي (ع)، وتكتسب هذه البقعة شرفية الدعوة الاسلامية وريادتها ومنطلق النور والحضارة الاسلامية، ولا يخفى على أحد أهمية الدور الكبير الذي يحمله المسجد النبوي عبر تأريخ الاسلام، فضلاً عن بيت النبوة الكريم الذي يزيد هذا المكان قدسية وتعظيما في قلوب جماهير المتلقين. فالمسجد وبيت النبي (ص) يشكلان مكانية السياق ومقامه. والسياق المقامي «يوفر، جزئيا، بعض العوامل أو المحددات التي تسهم في تحديد معاني التعبيرات اللغوية، والمقامات، بوصفها سياقا، هي صنف متأصل في المحددات الاجتماعية فقد يكون هذا السياق اطارا للمؤسسات (محكمة ، مدرسة،…)، أو لأوضاع الحياة اليومية مطعما، تسوق)، إذ تؤطر هذه المحددات خصائص المحادثة في النصوص الكبرى، وكذلك في بناء الخطاب الإقناعي والحجاجي»([42]).

          فالتأطير المكاني للخطاب أو مكانية الخطاب يضفي عليه أبعادا إقناعية تختلف باختلاف المقامات والسياقات المكانية، وتعزز في الوقت ذاته قوة الخطاب وتأثيره في المتلقي.

  وفي الخطبة الفدكية نرى هذا الاستثمار المكاني واضحًا، فخروج الزهراء (ع) من بيتها– وهو بيت النبي (ص)– الى المسجد (اطار الخطاب وبيئته) يمكن أن يفسر بعدة تفسيرات ويستدل منه على أمور منها:

  1. قدسية المكان وأهميته لدى جميع المسلمين بالاتفاق، وهو ما يوفر غطاءً قدسيًا وأمنيًا لإيصال الخطاب كاملا وإلقاء الحجة، فربما لو كان الأمر في بيت أحدهم كأبي بكر أو في جمع من الملأ لمنعوها (ع) بالقوة أو بالضوضاء، ثم إنّ مقام السيدة عليها السلام يأنف أن يختار غير هذه البقعة المقدسة لتوضيح المعالم الصحيحة للدين وتصحيح الانحراف. فليس من شأنها أن تذهب وهي صاحبة الحق، بل شأنها أن تطالب بحقها أمام الملأ وفي مشهد مقدس سيذكره التأريخ وتوثقه الأقلام– حتى من المخالفين- فضلًا عن الموالين.
  2. المكانة القريبة والخصوصية النبوية لبيت النبوة من المسجد.
  3. أهمية الخطاب الذي سيلقى على الجماهير، فكلما زادت أهمية الخطاب والمخاطِب كان انتقاء المكان والزمان مهما جدًا لتحقيق الأثر المنشود.
  4.  ضمان وصول الخطاب إلى أكثر الجماهير والصحابة الموجودين في المسجد وخارجه، وعضَّد ذلك المسير مع النسوة وطريقة الخطاب والتهيئة النفسية للمخاطبين.
  5. تحشيد الطاقات والجماهير واستنصارهم وإلقاء الحجة عليهم، فلا يكون لأحد عذر بعد ذلك في القعود عن نصرة الحق بحجة أنه لم يسمع أو لا يعلم طبيعة القضية، فاختيار المسجد شكل البيئة الاكثر ملاءمة لهذا الخطاب التاريخي المفصلي، والذي أصبح فرقانًا وفيصلًا بين الحزبين، وما ترتب على ذلك بعده من غصب الخلافة وخسارة الأمة لقادتها الحقيقيين.

    وهذا الأمر لم يغب عن علمائنا، ففي كتابه (فدك في التاريخ) يشير الشهيد الصدر الى التفاتة لطيفة وهي أنَّ بيت فاطمة (ع) كان في المسجد النبوي وهو جزء منه، فهل كان دخولها عليها السلام لجذب الانظار ولفت الانتباه، والا كيف يمكن للراوي أن يصف مشيتها، يقول: «لم يكن الطريق الذي اجتازته الثائرة طويلا؛ لأنَّ البيت الذي انبعث منه شرر الثورة ولهيبها هو بيت علي (ع) بالطبع الذي كان يصطلح عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيت النبوة وهو جار المسجد لا يفصل بينهما سوى جدار واحد، فلعلها دخلته من الباب المتصل به، والمؤدي اليه من دارها مباشرة، كما يمكن أن تكون مدخلها الباب العام ولا يهمنا تعيين أحد الطريقين، وان كنت أرجح أنها سلكت الباب العام؛ لأنّ سياق الرواية التاريخية التي حكت لنا هذه الحركة الدفاعية يشعر بهذا، فان دخولها من الباب الخاص لا يكلفها سيراً في نفس المسجد ولا اجتياز طريق بينه وبين بيتها، فمن أين للراوي أن يصف مشيها، وينعته بأنَّه لا يخرم مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو لم يكن معها بالطبع، ولو تصورنا أنها سارت في نفس المسجد، فلا ينتهي سيرها بالدخول على الخليفة، وإنما يبتدئ بذلك؛ لأنّ من دخل المسجد صدق عليه أنه دخل على من فيه، وان سار في ساحته مع أن الراوي يجعل دخولها على أبي بكر متعقباً لمشيها، وهذا وغيره يكون قرينة على ما استقريناه»([43]).

   ما يهمنا هو ذلك الاثر الإقناعي الذي يحققه دخول الزهراء (ع) على القوم وسيرها وهيئة دخولها ومشيتها التي تضفي بعدا آخر يستميل المخاطَب ويعود به الى لحظة حياة النبي الاكرم  (ص)، والعهد به لا زال قريبا والذاكرة الجمعية لا تزال تستثير العواطف وتقدم الأدلة العملية والحضورية لطالب الحق.  فالانفعال يمثل جوابا عما يقدمه المتكلم من جواب([44]).

    وما يرجِّحه الشهيد الصدر من أنَّ دخولها من الباب العام أقرب الى تحقق هذه الأهداف، ولا سيما أنها في موقع المطالب بالحق والمدافع عن الهدف الأسمى، وهو ما يستدعي من المخاطب استنهاض كل ما من شأنه تحقيق الاقناع بالفعل قبل القول، ولكي تتهيأ النفوس باستحضار المقدس بشخصه وحركته ومشيته لاستقبال الخطاب والتفاعل معه والتماهي مع المخاطِب.

    وأَقْبَلَتْ في لُمَةٍ مِنْ حَفَدتِها ونساءِ قَوْمِها،

تَطأ ذُيُولَها، ما تَخْرِمُ مِشْيَتُها مِشْيَةَ رَسولِ الله صلى الله عليه وآله،

   ثم تأتي صورة الجمع المحيط بها (ع) من حفدتها ونسائها، لتستدعي صورة الوفد المفاوض أو المحاجج في الحق، ثم ضرب الستار وجلوسها وأنينها (كما ينقل الراوي) كل هذه الصور تحفز المخاطب عاطفيا وتنقله الى توحد التجربة واستعراضها وتذكرها بطرق الصدمة والمفاجأة، والحديث العام أمام الجمهور يخلق وعيا بعظم المطلوب وقداسة الطالب ومنزلته الكريمة.

فضلاً عن الصحبة والوفد النسوي الذي ترأسته، وهذا التحشيد لا يخلو من حكمة وحصافة، «وتدلنا الرواية على أنَّ الزهراء كانت تصحبها معها نسوة من قومها وحفدتها كما سبق ذكره ومرد هذه الصحبة، وذلك الاختيار للباب العام الى أمر واحد، وهو تنبيه الناس، وكسب التفاتهم باجتيازها في الطريق مع تلك النسوة ليجتمعوا في المسجد، ويتهافتوا حيث ينتهي بها السير بقصد التعرف على ما تريده وتعزم عليه من قول أو فعل، وبهذا تكون المحاكمة علنية تعيها اسماع عامة المسلمين في ذلك الوسط المضطرب»([45]).كما أنَّ هذا الحضور والتحشيد يهيئ شهودًا وتوثيقًا للواقعة أو ما يمكن أن نطلق عليه غطاءً اعلاميا يؤرخ للحادثة([46])، وفي الوقد ذاته يمنح الخطاب بعدا مركزيا ومهما بحيث يلفت الانظار دخول جمع من النسوة أو (وفد) نسوي في هذه الصورة. في الوقت الذي غابت فيه الرجال عن تأدية أدوارها.

  «تَطأ ذُيُولَها، ما تَخْرِمُ مِشْيَتُها مِشْيَةَ رَسولِ الله صلى الله عليه وآله»

   أمّا بيان فلسفة (وصف المشية) في هذه الرواية، فيكفي أن نسرد هذا التحليل الذي ذكره الصدر مع الالتفات الى مصدر الهيأة (مِشية) الذي يزيد الصورة تأكيدا حتى كأن المشية هي هي، يقول الصدر: «ويتسع لنا المجال لفلسفة هذا التقليد الدقيق فلعله كان طبيعة قد جرت عليها في موقفها هذا بلا تكلف ولا اعتناء خاص، وليس هذا ببعيد فإنَّها (صلوات ا‏لله عليها) قد اعتادت أن تقلد أباها وتحاكيه في سائر أفعالها وأقوالها، ويحتمل أن يكون لهذه المشابهة المتقنة وجه آخر، بأن كانت الحوراء قد عمدت في موقفها يومذاك الى تقليد أبيها في مشيه عن التفات وقصد فأحكمت التمثيل وأجادت المحاكاة، فلم تكن لتخرم مشية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأرادت بهذا أن تستولي على المشاعر واحساس الناس وعواطف الجمهور بهذا التقليد الباهر الذي يدفع بأفكارهم الى سفر قصير، وتجول لذيذ في الماضي القريب حيث عهد النبوة المقدس. والاُيام الضواحك التي قضوها تحت ظلال نبيهم الاعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكون في إرهاف هذه الإحساسات وصقلها صقلاً عاطفيا ما يمهد للزهراء الشروع في مقصودها. ويوطئ القلوب لتقبل دعوتها الصارخة واستجابة استنقاذها الحزين، ونجاح محاولتها اليائسة أو شبه اليائسة.  ولذا ترى أنَّ الراوي نفسه أثرت عليه هذه الناحية أيضاً من حيث يشعر أو لا يشعر، ودفعه تأثره هذا الى تسجيلها فيما سجل من تصوير الحركة الفاطمية»(. ([47]

   وسواء أكان الأمر طبيعة أو محاكاة فإنَّه استطاع أن يوصل رسالتها (ع) ويبقي الجماهير في اتصال زمني مع الحقبة النبوية، ويحقق التوجيه والتأثير على عواطفهم ويستميلهم ويتضافر مع بقية الصور والموجهات الحجاجية السياقية لتحقيق الهدف الإقناعي. وهذا ما يوفره الايتوس وهو «الخطيب  بوصفه مبدأ سلطة (أو قل حجتها). إنَّ خلق الخطيب هو خبرته بوصفه انسانًا، وهذه الانسانية هي أخلاقياته التي تعد مصدر سلطة. ومن المؤكد أنَّ ذلك يرتبط بما يكونه وبما يمثله»([48]).

   باقتضاء التربية النبوية كان لابد من أن يضرب بينها وبين القوم بحجاب من باب الستر والحرمة، أو ربما أنَّها كرهت النظر الى القوم المتخاذلين وأشباه الرجال، فضلا عما يوفره من هيبة في نفوس السامعين، فهو أشد وقعا في النفوس، ويجعل المتلقي يترقب بلهفة حديث المخاطِب.

ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّةً أَجْهَشَ القومُ لها بِالْبُكاءِ. فَارْتَجَّ الْمَجلِسُ.

ثُمَّ أمْهَلَتْ هَنِيَّةً حَتَّى إذا سَكَنَ نَشيجُ القومِ، وهَدَأَتْ فَوْرَتُهُمْ، افْتَتَحَتِ الْكَلامَ بِحَمدِ اللهِ وَالثناءِ عليه والصلاةِ على رسولِ الله، فعادَ القومُ في بُكائِهِمْ،

 فَلَما أمْسَكُوا عادَتْ فِي كلامِها، فَقَالَتْ عليها السلام:…

   سنحاول هنا أن نقف على بعض أسرار بلاغة الصمت في الخطاب، إذ ربما كان الصمت أبلغ من الكلام في موضعه، وأكثر تأثيرًا، فالرواية تصف بدقة الستار الذي ضرب بين الزهراء (ع) والقوم في المسجد، وثمة التفاتة دقيقة أشار اليها الراوي من خلال استعمال حروف الترتيب والتراخي (ثم) في موضعين قال: «فجلست ثم أنَّت أنَّة»، فثمة فاصلة زمنية ليست قليلة بين جلوسها وأنَّتها (ع)، وكأنها تهيئة للنفوس واستعداد لخطب عظيم تلاه (أنين)، فجَّر الجماهير بالبكاء بعد لحظة صمت استعادتْ من خلالها ذكرى النبي الاعظم (ص) واستحضرت مقامه الكريم، فليس على وجه الخليقة أشبه منها به (ص)، وتعبير الراوي (أَجْهَشَ القومُ لها بِالْبُكاءِ. فَارْتَجَّ الْمَجلِسُ) أجهش أي بكى بكاء شديدًا عاليًا وارتجَّ المجلس بمجرد حضورها (ع) وجلوسها وصمتها الذي شكل صرخة بوجه الغاصبين، فعبأت الجماهير الحاضرة وهيأت النفوس ووجهت الأذهان، ثم أمهلت هنيهة، حتى سكن نشيج القوم وشدة فورتهم (مما يدل على التعاطف الكبير والتأثر والانفعال مع قضيتها (عليها السلام) وهي لم تنطق الى الآن سوى (الأنين)، وبعد سكون القوم وسكوتهم ابتدأت الخطبة بالحمد والثناء فعاد القوم الى البكاء… الى هنا ينتهي مشهد الصمت الفاطمي والمؤثرات الصورية لتبدأ بعرض خطابها القاصع…

   كل ما مرَّ كان صمتا وسياقات لا نصية أو مقامية. فثمة لحظات للصمت استطاعت ايصال الرسالة قبل النطق فهي عتاب وتأنيب وغضب. فالصمت في مقدمة الخطبة يخلق نوعا من الترقب والشوق لسماع الخطاب لدى المخاطبين، وفي الوقت ذاته يهيئ الجو لاستلام الرسالة، كما أنَّ الرواية أشارت الى أنَّ أنين الزهراء (عليها السلام) قد فجّر مشاعر الجماهير وعواطفها واهتاج القوم وعلا النشيج. وهذا التأثير هو  ما يمكن أن يندرج تحت الباتوس «وهو البعد البلاغي الذي تضمن 1-مسائل السامعين 2-العواطف التي تنتابهم أمام تلك المسائل وأجوبتها. 3-القيم التي تعلل في نظرهم تلك الأجوبة عن تلك الاسئلة»([49]). فقمة التفاعل والتأثر الانساني تكمن في البكاء والندم الذي توضحه الرواية وتصفه بالاهتياج وعلو النشيج ما يدلل على ندم الأمة التي أضاعت القيادة الحقيقة وخسرت بذلك ما خسرت.

   وثمة لحظة أخرى للصمت تلت مقدمة الخطبة، فبعد هدوء القوم وسكوتهم حمدت الله وأثنت عليه، فعاد القوم إلى البكاء ثانية، ولعل القوم قد استعادوا النموذج النبوي والعهد لازال قريبا، إذ إنها (عليها السلام) التجسيد الحقيقي للشخصية المحمدية بكل دقائقها، ومن يستمع إليها- لا شكَّ- يستحضر شخص النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) خَلْقاً وخُلُقاً ومنطقاً. 

الخاتمة ونتائج البحث

   في ختام هذه القراءة لابدَّ أن نشير الى أهم ما تمخضت عنه بنقاط:

  1. مثَّل السياق المقامي عنصرا فاعلا في توجيه المخاطَب واذعانه من خلال البيئة المكانية التي أحاطت بالخطاب .
  2. استطاعت السيدة الزهراء (عليها السلام) بخطبتها المباركة أن تنتزع من القوم اعترافا لسانيا وحاليا من خلال حالات البكاء وارتجاج المجلس بالنشيج، وهو ما يوثق تاريخيا انحراف الأمة عن قيادتها الصحيحة.
  3. كان دخول الزهراء (عليها السلام) من الباب العام للمسجد وأمام الملأ لإثارة الانتباه في هذا المكان العام الذي مثل بؤرة المؤسسة الدينية والسياسية، لما للمسجد من أثر معهود في حياة الأمة.
  4. تدقيق الرواة في نقل وقائع ما قبل الخطبة وظروفها الموضوعية وتوقيتها، كل ذلك لم يكون لولا الصورة المباركة لخروجها (عليها السلام) وظهورها، وهو ظهور نوعي، فلم يعهد أن تتحدث (عليها السلام) أو تخرج الى الملأ، فضلا عن محاكاة مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مما أعاد الى الأذهان صورة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) في مسجده.     
  5. كان التحشيد الفاطمي للخطاب واضحا جدا ومؤثرا بشكل كبير في استمالة المخاطبين من خلال الوفد النسوي الذي أحاط بها وصحبها أثناء خطبتها ليكون هو الآخر شاهدا على حالة الضياع للأمة والتضييع لأئمتها.
  6. نقلت لنا الروايات أن الزهراء(عليها السلام) بمجرد أن جلست ونيطت دونها الستارة وأنّت أجهش القوم بالبكاء، والمعروف أن الأنين يحمل رمزية الحزن والسخط والغضب على الجماهير التي لم تنصر القيادة الحقيقية وداهنت الآخر. علما أن في طيات الخطبة الفدكية استنصار الزهراء (عليها السلام) للأنصار والمهاجرين وإعلانها للثورة، فلم تكتفِ بإظهار السخط على القوم بل كررت ذلك في معرض حديثها، وهو ما يقيم الحجة عليهم ويؤكدها.     

المصادر

القرآن الكريم

  1. الاحتجاج: ابو منصور احمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (من اعلام القرن السادس الهجري) مكتبة دار المجتبى، النجف الاشرف، ط1، 2009م .
  2.  استراتيجيات الخطاب- مقاربة لغوية تداولية: د.عبد الهادي ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد، بنغازي- ليبيا، ط1، 2004م.
  3. الأصول: تمام حسان، دار الثقافة – الدار البيضاء ، 1411ه .
  4. بلاغة الحجاج في الشعر القديم: د.محمد سيد علي عبد العال، مكتبة الآداب- القاهرة، ط1، 2014م.
  5. البلاغة: ميشيل مايير، تر: محمد اسيداه، مراجعة محمد الولي، دار الكتاب الجديدة المتحدة لبنان، ط1، 2021م.   
  6. التعريفات: السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني (816ه)، دار أحياء التراث العربي- بيروت  ط1، 2003م.
  7. الحجاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: د. سامية الدريدي، عالم الكتب الحديث، أربد– الأردن، ط2، 2011م.
  8. الحجاج والمواطنة: د. توبي لحسن، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2014م.
  9. الخطاب سارة ميلز، تر: عبد الوهاب علوب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2016م.
  10. الخطابة لأرسطو: حققه وعلق عليه: عبد الرحمن بدوي، وكالة المطبوعات– الكويت، دار القلم بيروت، 1979م.
  11. شرح خطبة الزهراء (ع): للمجلسي والنعمان المغربي والانصاري التبريزي، تحقيق: باقر الكيشوان الموسوي، مؤسسة البلاغ بيروت، ط2، 2012م.
  12. علم اللغة– مقدمة للقارئ العربي: د. محمود السعران، دار النهضة العربية، بيروت- لبنان.
  13. فدك في التاريخ: السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رض)، تح: د.عبد الجبار شرارة. مركز الغدير للدراسات الاسلامية– ايران.
  14. في بلاغة الحجاج نحو مقاربة بلاغية حجاجية لتحليل الخطاب: د.محمد مشبال، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، عمان، ط1، 2017م.
  15. في بلاغة الخطاب الإقناعي: د. محمد العمري، افريقيا الشرق بيروت لبنان، ط2 ، 2002م.
  16. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: د.عبد الله صولة، دار الجنوب، تونس، ط1، 2011م.
  17. قضايا الخطاب في الفكر اللساني والسيميائي، اعداد: عبدالسلام اسماعيل علوي، دار كنوز عمان، ط1، 2019م. بحث (في التأصيل التداولي لمفهوم الخطاب)، العياشي أدراوي.
  18. كتاب العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (170هـ)، تحـ: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال.
  19. لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الأفريقي (ت711هـ)، دار صادر– بيروت، ط3- 1414هـ.
  20. اللسان والميزان أو التكوثر العقلي: د. طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 2006م.
  21. اللغة والحجاج: د. أبو بكر العزاوي، الدار البيضاء، مطبعة العمدة، ط1، 1426ه-2006م.
  22. مدخل إلى الحجاج- أفلاطون وأرسطو وشاييم بيرلمان: د. محمد الولي، مجلة عالم الفكر، الكويت، مج40، ع2، 2011م.
  23. معجم اكسفورد للتداولية: يان هوانغ، ترجمة وتقديم: هشام ابراهيم عبد الله الخليفة، دار الكتاب الجديد المتحدة- ليبيا، ط1، 2020م.
  24. المعجم الفلسفي: د. جميل صليبا، منشورات ذوي القربى، مطبعة سليمانزاده، قم،ط1، 1385هـ.ش.  
  25. معجم المصطلحات الادبية المعاصرة: د. سعيد علوش، دار الكتاب اللبناني بيروت ط1، 1985م.
  26. المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي، مطبعة دار الكتب المصرية، دار الحديث – القاهرة، 1364ه.
  27. معجم تحليل الخطاب: باتريك شارودو ودومينيك مانغونو، ترجمة: عبد القادر المهيري وحمادي صمود، المركز الوطني للترجمة، تونس 2008م.
  28. المفردات في غريب القرآن: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الاصفهاني(502ه)، تح: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة- بيروت.
  29. مفهوم الحجاج عند بيرلمان وتطوره في البلاغة المعاصرة، محمد سالم محمد الأمين، عالم الفكر- الكويت، مج28، ع3، 2000م.
  30. مفهوم الحجاج في القران الكريم– دراسة مصطلحية: د. لمهابة محفوظ ميارة، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مج81، ج3. 2006م.
  31. مقاييس اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارِس بن زكَرِيّا (395ه)، تحقيق: عبد السَّلام محمد هَارُون، اتحاد الكتاب العرب، 2002م.
  32. من الحجاج الى البلاغة الجديدة: د. جميل حمداوي، أفريقيا الشرق، المغرب، 2014م.
  33. موسوعة البلاغة: تحرير: توماس أ. سلون، ترجمة: نخبة، اشراف وتقديم عماد عبد اللطيف، المركز القومي للترجمة- القاهرة، ط1، 2016م

[1] وردت هذه اللفظة في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع، وهي:{وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ }ص20

{إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}ص23، {رَبِّ السماوات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً}النبأ37 ،ويوحي التأمل في النصوص القرآنية أنّ الخطاب يقترب من مفهوم الحجة الدامغة والبالغة، فقد اقترنت بالحكمة في النص الأول، وفي النص الثاني جاءت لتشير الى هيمنة خطاب أحد المتخاصمين على الآخر من خلال الغَلَبَة فِي المُحَاجَّةِ. وكذلك النص الثالث الذي يشعر المتلقي بأنَّ الوقوف بين يدي الرحمن سبحانه لا يترك حجَّة أو مجالا للدفاع؛ لأنه العالم بخفيات الأمور والمطلع على السر وما هو أخفى. قال الراغب في مفرداته: «الخطب والمخاطبة والتخاطب: المراجعة في الكلام، ومنه الخُطبة والخِطبة…والخطب: الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب، قال تعالى:{قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} طه:95،{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} الحجر:57، وفصل الخطاب: ما ينفصل به الأمر من الخطاب»([1]). ينظر: المفردات في غريب القرآن: ، 150.

[2] ترد مادة (حجج) في القرآن الكريم ومشتقاتها في ثلاثة وثلاثين موضعا. ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم:194، والحجة في القرآن الكريم: “الدلالة المبينة للمحاجة أي المقصد المستقيم والذي يقتضى صحة أحد النقيضين، وقال: {لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا} سورة البقرة :150، فجعل ما يحتج بها الذين ظلموا مستثنى من الحجة وإن لم يكن حجة،… ويجوز أنه سمى ما يحتجون به حجة كقوله: {والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم} سورة الشورى:16 ، فسمى الداحضة حجة. وقوله تعالى: {لا حجةَ بيننا وبينكم} سورة الشورى: 15، أي لا احتجاج لظهور البيان، والمحاجة: أن يطلب كل واحد أن يرد الآخر عن حجته ومحجته. المفردات في غريب القران : 108. ومن هنا يتبين ان الحجاج في القرآن الكريم دلالة على اقتران هذه اللفظة بوجود طرفين وتأتي في مواضع المخاصمة والجدال، مع الالتفات الى ان النص القرآني استعمل المحاجَّة، ولعل استقراء الآيات الكريمة يشي بمعنى الذم للمحاجة، في حين يستعمل القرآن لفظ الحجة مقترنا بـ (بالغة، أو داحضة)، ففيه وجهان ممدوح وآخر مذموم، وهو اقرب الى مفهوم الحجاج الحديث. ينظر: مفهوم الحجاج في القران الكريم – دراسة مصطلحية: د. لمهابة محفوظ ميارة، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مجلد81، ج3.

[3] كتاب العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي البصري (ت170هـ)، تحـ: د.مهدي المخزومي، د.إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال، 4/ 222.

[4] لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الأفريقي (ت711هـ)، دار صادر – بيروت، ط3- 1414 هـ، 1/ 360

[5] الخطاب: سارة ميلز، تر: عبد الوهاب علوب، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2016م:18

[6] الخطاب: 16.

[7] معجم المصطلحات الادبية المعاصرة: د. سعيد علوش، 83، دار الكتاب اللبناني بيروت ط1، 1985م.

[8] معجم المصطلحات الادبية المعاصرة:83

[9] كتاب العين: ج3/ 10.

[10] ينظر: مقاييس اللغة: ج2/23- 24

[11] في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: 13، نقلا عن مصنف في الحجاج :5

[12] في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: 68، نقلا عن مصنف في الحجاج :146

[13] في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: 15، نقلا عن مصنف في الحجاج: 54

[14]  اللغة والحجاج: 15.

[15] موسوعة البلاغة:ج1/143.

[16] مدخل إلى الحجاج- أفلاطون وأرسطو وشاييم بيرلمان: محمد الولي، مجلة عالم الفكر، مج40، ع2 ،2011م. 11

[17] اللغة والحجاج: 17

[18] ينظر :الحجاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: 26- 27

[19] بلاغة الحجاج في الشعر القديم : 17.

[20] معجم تحليل الخطاب باتريك شارودو ودومينيك مانغولو: 23.

[21] اللغة والحجاج: 33

[22] ينظر :اللغة والحجاج: 31

[23]  من الحجاج الى البلاغة الجديدة: 59.

[24]  من الحجاج الى البلاغة الجديدة: 61

[25] لسان العرب : سوق

[26] استراتيجيات الخطاب ( الشهري) : 1/ 78

[27] معجم اكسفورد للتداولية: يان هوانغ، ترجمة وتقديم: هشام ابراهيم عبد الله الخليفة، دار الكتاب الجديد المتحدة – ليبيا، ط1/ 2020 ، 176

[28] معجم اكسفورد للتداولية : 181   

[29] معجم اكسفورد للتداولية : 178   

[30] معجم اكسفورد للتداولية : 606

[31] علم اللغة (السعران): 310

[32] علم اللغة (السعران): 311

[33] في التأصيل التداولي لمفهوم الخطاب، العياشي أدراوي، 118، ضمن كتاب قضايا الخطاب في الفكر اللساني والسيميائي ، اعداد عبدالسلام اسماعيل علوي ، دار كنوز عمان، ط1، 2019 .

[34] الأصول: تمام حسان، دار الثقافة- الدار البيضاء ، 1411ه ، 332.

[35] الاحتجاج :1/115- 128، ابو منصور احمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي (من أعلام القرن السادس الهجري) مكتبة دار المجتبى، النجف الأشرف، ط1، 2009م .

[36] الخطابة :29 ارسطو  تح بدوي

[37] في بلاغة الخطاب الإقناعي: د. محمد العمري، افريقيا الشرق بيروت لبنان ط2- 2002. 20 وينظر: الخطابة لأرسطو: 181

[38] البلاغة: 38  مايير

[39] لعل أبرز الخصائص العامة للخطبة الفدكية يمكن أن يكون: 

  • التقديم للنص بمقدمات سردية تصف الحدث والمشية وهيأة المخاطب ومتعلقاته. وهي بيئة مهمة لفهم الخطاب وتوجهاته. وهو ما سندرسه تفصيلا هما إن شاء الله.
  • استعمال الوعظ والإرشاد في بداية الخطبة. 
  • استعمال الروابط الحجاجية ووسائل التعليل وخاصة في مواضع الحجاج العقائدي. واستعمال البرهان والحجة بأشكالها المختلفة.
  • استعمال الاستفهام الإنكاري للتوبيخ والتعجب، وفرادة الانتقاء للكلمة.
  • الاستشهاد بالنص القرآني لربط المخاطب وتذكيره وهو توظيف لحجة سلطة المقدس في المجتمع.
  • استخدام التصوير (التشبيه والمجاز والكناية) في خلق القناعات وتبديد الشبهات.
  • التكرار في مناسبات كثيرة والتركيز على المقدمات العقدية. وقوة الإيقاع وتساوي الفقرات، بل تماثلها أحيانا، وتوظيف البديع كوسيط إقناعي تذعن له النفس.
  • البناء الهرمي للنصوص (أو القضايا) بالتعبير المنطقي.

[40] الاحتجاج :1/115- 128 .   وأما معاني المفردات:

أجمع: أحكم النية والعزيمة. لاثت خمارها: عصبته وشدته وربطته. والخمار: المقنعة سميت بذلك لأنَّ الرأس يخمَّر بها أي يغطى. الجلباب: الثوب الواسع ويطلق على الملحفة والرداء والازار، والمراد أنها غطت رأسها وصدرها أولا بالمقنعة، ثم لبست ملحفة تغطي جميع بدنها فالتفت بها، وهذا كناية عن غاية التستر وهي عادة الخفرات اذا اردن الخروج من الدار الى الخارج تحفظا من الاجانب. لمَّة: الجماعة قيل ما بين الثلاثة الى العشرة. حفدتها: الأعوان والخدم وأصله من الحفد: السرعة. تطأ ذيولها: أي كانت أثوابها طويلة تستر قدميها، وتضع عليها قدمها عند المشي وجمع الذيل باعتبار الاجزاء او تعدد الثياب. ما تخرم مِشيتها: الخرم الترك والنقص والعدول، والمشية بالكسر، أي لم تنقص مشيها من مشيه (ص) شيئا كأنه هو بعينه. الحشد: الجمع اذا دعوا فأتوا لما دعوا له. فنيطت: علقت.  وملاءة: الربطة والازار يعلق للستر والحجاب بينها وبين القوم. أجهش: الجهش ان يفزع الانسان الى غيره  وهو يريد البكاء ، كما الصبي الى امه بالبكاء. ارتج: الاضطراب. وهنيهة: زمنا قليلا. نشيج: صوت معه توجع وبكاء، اذا غص البكاء في حلقه ولم ينتحب، الفورة: الشدة وفارت بمعنى جاشت. ينظر: شرح خطبة الزهراء (ع): للمجلسي والنعمان المغربي والانصاري التبريزي، تحقيق: باقر الكيشوان الموسوي، مؤسسة البلاغ بيروت، ط2، 2012. 18- 43

[41] يعود تاريخ هذا المصطلح الى القرن الخامس قبل الميلاد (stratege)، في القبائل الاثينية التي كانت تختار عشرة اشخاص مخططين تنحصر وظيفتهم في تأمين مدرسة للتخطيط تتولى قيادة الجيش. فهو مفهوم عسكري بالدرجة الأولى يتعلق بالتخطيط من خلال استخدام الموارد بفاعلية من أجل تدمير الاعداء، أو فن إعداد الخطط العامة ووضعها كوسيلة للوصول الى الهدف، من خلال الاستثمار الأمثل للإمكانات المتوافرة لتحقيق الاهداف. ثم استخدم هذا المصطلح في مجالات أخرى كالإدارة والسياسة وتحليل الخطاب، غير أنَّه أدى دورا مهما في التعبير عن التقنيات والآليات والوسائل التي يستعين بها المخاطِب لإقناع المتلقي… وحدّد بعضهم الاستراتيجية بأنها: “مجموعة من القواعد المحددة لسلوك لاعب في أي موقف لعب ممكن” في بلاغة الحجاج نحو مقاربة بلاغية حجاجية لتحليل الخطاب: د. محمد مشبال، ص:71، ط1، 2017، دار كنوز المعرفة للنشر والتوزيع، عمان. وعرفها الشهري بأنها” المسلك المناسب الذي يتخذه المترسل للتلفظ بخطابه، من أجل تنفيذ ارادته والتعبير عن مقاصده، التي تؤدي لتحقيق أهدافه، من خلال استعمال العلامات اللغوية وغير اللغوية، وفقا لما يقتضيه سياق اللفظ بعناصره المتنوعة، ويستحسنه المرسل” . استراتيجيات الخطاب: مقاربة لغوية تداولية: 62.  ويرى جين كارون انه من أجل الاستعمال الدقيق لهذا اللفظ يجب ان تتوفر الشروط الاتية: أن يتسم الموقف بعدم اليقين. وان يروم المتكلم هدفا بطريقة واعية أو بطريقة غير واعية. وأخيرا أن يكون هناك تتابع منتظم لاختيارات، يترجم (خطة) عامة، وهي خطة ليست واعية بالضرورة، (لا يمكن ان توصف بالاستراتيجية سلسلة من القرارات خاضعة للمصادفة)”. في بلاغة الحجاج: 72 نقلا عن Jean Caron: discursives dans les tests projectifs: op, cit, p. 182

[42] استراتيجيات الحجاج :1/80- 81

[43] فدك في التاريخ: 29-30، السيد الشهيد محمد باقر الصدر(رض)، تح: د.عبد الجبار شرارة. مركز الغدير للدراسات الإسلامية – إيران.

[44] ينظر: البلاغة: 32

[45] فدك في التاريخ: 30- 31.

[46] يؤكد ذلك ماروته بعض المصادر عن تلك النسوة أنهن كن يروين خطبة الزهراء عليها السلام وتفاصيل الحادثة.

[47] فدك في التاريخ: 31.

[48] البلاغة: ميشيل مايير، ترجمة: محمد اسيداه، مراجعة: محمد الولي، دار الكتاب الجديدة المتحدة، لبنان، ط1،2021، 28

[49] البلاغة : 34