قصدية الخطاب الفاطمي
أ.م.د موفق مجيد ليلو
المديرية العامة لتربية ميسان
07705616454
ملخص
لكلِّ خطاب مقاصد ينشدها، وتعد المقاصد والقصد صورة من صور القصدية، إذ فرق سيرل بين القصدية والقصد عن طريق معنى الكلمتين، فالأولى تعني التوجه، والثانية تعني إرادة عمل شيء معين أو النية، فهي نوع من أنواع القصدية، وقد أدى التركيز على القصدية والقصد إلى تصور أن المقاصد بالمعنى العادي لها دور خاص بالنظرية القصدية. والقصدية كما يراها فلاسفة اللغة تعد توجهاً يطلقه الوعي تجاه موضوع ما، فهي تمثل نمط العلاقة التي تربط الوعي بمضمون الظاهرة، وقد ربط الفلاسفة الوعي بالقصدية ربطا وثيقاً؛ لأن المقاصد تنبع من توجه الفرد نحو شيء ما، وهذا التوجه نابع عن وعي تام بالموضوعات التي يتوجه إليها.
تحاول هذه القراءة أن تستشرف الخطاب الفاطمي بحثا عن قصديته، فكل خطاب يستبطن بلا شك جملة من المقاصد الواعية التي يتوخاها المخاطِب، ويخلقها بمقولاته، والقصدية بوصفها منهجا جديدا تلتقي فيه علوم النفس والوعي واللسان واللغة وغيرها، يسعى الى الكشف عن مكنونات الخطاب ومضمراته عبر منطوقاته، التي تشي بمفهوماته الواعية للمخاطِب، وهي جوهر الخطاب وبؤرته، ستقف هذه القراءة على المقاصد الكبرى للخطاب باستنطاقه والبحث في حفرياته، وبيان السلطة التي مارسها الخطاب باستراتيجياته وتقنياته اللغوية. ولعل بؤرة الخطاب الفاطمي ترتكز على ترسيخ عقيدة التوحيد بوصفها القضية المركزية والأسمى والأس لكل فلسفة كونية إلهية، وعدم الإيمان بها يؤدي الى انحراف الأمة عن مسارها وخسرانها لقيادتها الحقَّة.
المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الأنام وآله الطيبين الكرام .
وبعد:
تقدِّم هذه القراءة محاولة لفهم قصدية الخطاب الفاطمي، فكل خطاب يستبطن بلا شك جملة من المقاصد الواعية التي يتوخاها المخاطِب، ويخلقها بمقولاته، والقصدية بوصفها أداة جديدة تلتقي فيها علوم النفس والوعي واللسان واللغة وغيرها، تسعى الى الكشف عن مكنونات الخطاب ومضمراته عبر منطوقاته، التي تشي بمفهوماته الواعية للمخاطِب، وهي جوهر الخطاب وبؤرته، ستقف هذه القراءة على المقاصد الكبرى للخطاب باستنطاقه والبحث في حفرياته، وبيان السلطة التي مارسها الخطاب باستراتيجياته وتقنياته اللغوية. ولعل بؤرة الخطاب الفاطمي ترتكز على ترسيخ عقيدة التوحيد بوصفها القضية المركزية والأسمى والأس لكل فلسفة كونية إلهية، وعدم الإيمان بها يؤدي الى انحراف الأمة عن مسارها وخسرانها لقيادتها الحقَّة.
ويرى سيرل أن القصدية هي «ذلك الملمح للحالات العقلية الذي عن طريقه تتجه الى وتدور حول أشياء وحالات للواقع خلاف ذاتها»([1]). أو يمكن التعبير عنها بأنها «ذلك الملمح من العقل الذي بواسطته يمثل الأشياء وحالات الواقع في العالم تمثيلا جوهريا»([2]).
واذا كان لكلِّ خطاب مقاصد ينشدها، فإن المقاصد والقصد صورة من صور القصدية، إذ فرق سيرل بين القصدية والقصد عن طريق معنى الكلمتين، فالأولى تعني التوجه، والثانية تعني إرادة عمل شيء معين أو النية، فهي نوع من أنواع القصدية، وقد أدى التركيز على القصدية والقصد إلى تصور أن المقاصد بالمعنى العادي لها دور خاص بالنظرية القصدية. والقصدية كما يراها فلاسفة اللغة تعد توجهاً يطلقه الوعي تجاه موضوع ما، فهي تمثل نمط العلاقة التي تربط الوعي بمضمون الظاهرة، وقد ربط الفلاسفة الوعي بالقصدية ربطا وثيقاً؛ لأن المقاصد تنبع من توجه الفرد نحو شيء ما، وهذا التوجه نابع عن وعي تام بالموضوعات التي يتوجه إليها.
المبحث الأول
القصدية- المفهوم والمستويات والأهداف
القصدية
لغة
يأتي القصد للدلالة على: استقامة الطريق، قال تعالى: {وَعلى اللهِ قصدُ السبيل}([3])، أي على الله تبيين الطريق المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبراهين الواضحة، وهناك طريق جائر أي غير قاصد وطريق قاصد: سهل مستقيم، ويقال للسفر قاصد أي سفر سهل و قريب وغير شاق، وطريق قاصد: سهل مستقيم، والقصد العدل، و جاء في الحديث: كانت صلاته قصداً وخطبته قصداً، …، وقصدتُ قصده: نحوتُ نحوه([4]).
ونستنتج من ذلك بأن القصد في المعنى اللغوي هو إتيان الشيء لغاية في نفس المتكلم، وهو العدل والاستقامة، والبيان، ويستمد القصد مفهومه من كل فعل كلامي يفترض فيه وجود نية التواصل والإبلاغ.
اصطلاحا:
ليست القصدية منهجا ولا نظرية بل هي فكرة تتعلق بالعقل والوعي والادراك ، ونجد أن سيرل وهو أبو القصدية وموطدها لم يطلق عليها لفظة منهج ونظرية، بل هي فكرة ومشكلة واشكالية أو حالة، وربما جاءت في اكثر كلماته يتيمة غير مقترنة بأي من هذه الأوصاف.
وأما أهدافها فهي:
«الاول: هو اثبات كيف ترتبط اللغة بالعقل، ذلك ان الطريقة التي يرتبط بها العقل باللغة هي انهما يظهران القصدية معا ولكن لمن تكون الاسبقية: قصدية اللغة أم قصدية العقل؟ جوابنا عن هذا السؤال: أن سيرل يجعل قصدية العقل أسبق من قصدية اللغة، قصدية العقل أساسية وقصدية اللغة مشتقة…
والهدف الثاني من وراء دراسة القصدية هو رسم معالم الطريق لدراسة العقل دراسة صحيحة، تفيد من نتائج العلم…»([5]).
و يعرّف برنتانو (ت1917)([6]) القصدية: «بأنها صفة للأفعال العقلية أو الذهنية التي يتجه الوعي بها نحو شيء ما، بطريقة أو بأخرى، أو هي وصفٌ للأفعالِ العقليةِ و الوجدانية التي تتوسط بيننا وبين الأشياء»([7])، فالقصدية كما يرى تعد سمة من سمات العقل.
ويعرف هوسرل (ت 1938) القصدية بأنها: «تلك الخاصية المتعلقة بالكثير من الحالات العقلية والاحداث، التي من خلالها تكون موجهة إلى، أو متعلقة بِ، أو حول موضوعات بعينها، أو قضايا في العالم»([8]).
كما يرى بول ريكور (ت 2005)([9]) أن الفعل الأول للوعي هو المعنى، والقصدية (Intentionality): هي فعل تحديد هذا المعنى بالعلامة التي تتوسط علاقة الوعي بالأشياء، كما تنقسم دلالة المقصد إلى شقّين: الدلالة الأولى للقصد هي النية، أو التصميم على القيام بشيء ما، والدلالة الثانية هي غاية أو هدف يرمي المرء إلى بلوغه([10]).
ويرى (سيرل) أن القصدية: «هي تلك السمة العقلية التي يتوجه بها العقل إلى أو حول أو عن الموضوعات وظروف العالم. وهي قبل كل شيء ظاهرة بيولوجية مشتركة بين البشر وبعض الحيوانات الأُخرى»([11])، فهو يرى سيرل أنَّ للقصدية أشكالاً وهي :الأشكال البدائية بيولوجيا مثل الوعي، والإدراك، والأفعال المتعددة، والجوع، والعطش، والمشاعر مثل الغضب والشهوة والخوف. وأشكال ثانوية: هي أشياء مثل الإيمان، والرغبة، والأمل([12])، فيربط القصدية بالشعور، حيث لا يمكننا فهم القصدية إلا من خلال الشعور. فهي « ذلك الملمح للحالات العقلية الذي عن طريقه تتجه الى وتدور حول أشياء وحالات للواقع خلاف ذاتها»([13]). أو يمكن التعبير عنها بأنها «ذلك الملمح من العقل الذي بواسطته يمثل الأشياء وحالات الواقع في العالم تمثيلا جوهريا»([14]).
فالقصدية تعد صفة للأفكار العقلية التي تربط الوعي بالأشياء، أي تربط حالات الفرد الذهنية بالعالم، والتي بموجبها يتم اختيار موضوعات العالم الخارجي، لذلك فهي تحتل مكانة متقدمة في اللسانيات التداولية، ولا يمكن للتحليل التداولي أن يستغنى عنها. وترتبط بمباحث العقل، و«الدور التطوري الاساسي للعقل هو ربطنا بطرق معينة بالبيئة المحيطة، وبغيرنا من الناس على وجه الخصوص، إن حالاتي الذاتية التي تربطني ببقية العالم، والاسم العام لهذه العلاقة هو القصدية (intentionality)، وهذه الحالات الذاتية تتضمن الاعتقادات والرغبات والمقاصد والادراكات الحسية، بالإضافة الى مشاعر المحبة والكراهية والمخاوف والآمال وأقول مرة أخرى أن القصدية هي الاسم العام لكل الصور المنوعة التي عن طريقها يستطيع العقل أن يتوجه تلقاء وحالات الواقع في العالم أو يكون حولها أو يرتبط بها»([15]).
القصدية والمعنى
ثمة اشكالية تؤدي في كثير من الأحيان الى إساءة فهم القصدية وارتباطها بالمعنى، اذ يفهم منه أن القصد يساوي المعنى، وهذا ليس بصحيح فالقصد يقتضي النية والرغبة والوعي بالفكرة وليس اللفظ فقط، فيما يتعلق المعنى باللفظ ويرتبط به بغض النظر عن نيته أو ادراك المتكلم، فكلام النائم والغائب والساهي ربما يحمل معنى، ولكنه لا يحمل قصدا.
أنواع القصدية
يرى سيرل أن ثمة أنماط للقصدية ويمكن تقسيمها على نوعين: قصدية «مستقلة عن الملاحظ، فأنا أملك حالة الجوع بصرف النظر عما يفكر فيه أي ملاحظ. والقصدية المشتقة معتمدة على الملاحظ وهي لا توجد الا في علاقة الملاحظين والمستعملين وهلم جرا الذين يملكون المعنى الذي تملكه الجملة الفرنسية على سبيل المثال» ([16])، أو القصدية المجازية: القصدية كما لو كانت.
القصدية والاعتباطية
ربما يتبادر الى ذهن القارئ أن القصدية في الضد من الاعتباطية التي تعني عدم وجود علاقة بين الدال والمدلول، والقصدية وجود الارتباط بين الدال والمدلول، ومنه خرج المنهج القصدي الذي نادى به (عالم سبيط النيلي) وحاول تطبيقه على النص القرآني، وإن كانت له جذور في كتابات ابن جني وابن فارس وغيرهم.
القصدية المرادة عند هؤلاء ترتبط بالمعنى والدلالة بوصفها مفهوما يعبر عن العلاقة بين الدال والمدلول بغض النظر عن الاستعمال، الذي هو مدار القصدية. فهي كما يراها سيرل باختصار إجابة عن سؤال: كيف يعمل العقل؟([17]). وثمة ترابط واضح بين القصدية والعقل أو بعبارة أوضح قصدية العقل وقصدية اللغة، ذلك «إنّ المشكلة هي أننا لا نستطيع ان نفسر قصدية العقل عن طريق الاستعانة بقصدية اللغة، لأنّ قصدية اللغة تعتمد بالفعل على قصدية العقل»([18]).
القصدية والوعي:
ربما رادف بعض الدارسين بين القصد والوعي ولكن سيرل يفرق بينهما قائلا: «فالوعي والقصدية على الرغم من أنهما جانبان للعقل، فإنهما مستقلان عن الملاحظ بمعنى اذا كنت واعيا أو أملك حالة قصدية مثل الظمأ، فإن هذه الجوانب لا تعتمد في وجودها على ما يفكر فيه أي شخص سواي، انها ليست مثل جمل اللغة، فقط الاشياء التي توجد لأن الغرباء يفكرون فيما عساها أن تكون»([19]). ولذا فإنه ليست كل الحالات القصدية واعية ولا كل الحالات الواعية([20]) قصدية ، فلكَ أن تعتقد بشيء دون وعي كما في المسلمات والامور التي تكون راسخة في الذهن ما ت
القصدية فلسفياً
يعود الاهتمام بمفهوم (القصدية) الى الفكر الفلسفي الأوربي، وربما أسبق، والقصد عندهم هو الفعل الذي يتجه فيه العقل نحو الموضوع ليدركه، وفعل القصد هو فعل التوجه نحو الموضوعات الخارجية، أي أدراك العقل للموضوعات في العالم الخارجي وتوجيه الأفكار نحوها.
ويعد الفيلسوف (فرانز برنتانو) أول من قدم فكرة القصدية إلى الفلسفة الحديثة، إذ تحدث في القرن التاسع عشر عن المقصدية في كتابه (علم النفس من وجهة نظر تجريبية) فقال: «إنَّ الموضوع الذي يتجه إليه العقل ليس في حاجة إلى أن يوجد، و زعم أيضاً أنَّ القصدية الموجودة في الظواهر العقلية هي التي تميزها عن الظواهر الفيزيائية»([21])، حيث أراد أن يدخل القصدية في صلب النشاط النفسي، فقام بتركيز الوعي على بعض الظواهر النفسية. فهو أول من أدخل مفهوم القصدية إلى الفكر الحديث بقصد التمييز بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة النفسية، وانتهى إلى اعتبارها الصفة الأساسية التي تميز الظواهر النفسية.
وأشار إلى وجود فئتين من العلاقات، علاقات أولية وعلاقات ذهنية، فأما العلاقات الأولية فعنده ترتبط بالظواهر الطبيعية، أي العالم الخارجي، وأما العلاقات الذهنية فهي تستند إلى أفعال قصدية، كالتخيل والحكم والرغبة…، وتساعد هذه الأفعال على ترابط الموضوعات فيما بينها([22])، فيؤكد على أن القصدية هي السمة المميزة للظواهر العقلية.
ويرى برنتانو أن القصدية هي الخاصية الأساسية المميزة لكل الخبرات أو الظواهر النفسية، حيث ترتبط كل ظاهرة بموضوعها ارتباطاً تلازمياً، وهو الأمر الذي يعدَّه هوسرل اكتشافاً عظيماً بدونه ما كان يمكن للفينومينولوجيا أن تقوم على الاطلاق([23])، وبذلك يرى أن القصدية تعد سمة مميزة للظواهر العقلية.
ثم جاء (هوسرل) فأخذ فكرة القصدية عن أستاذه برنتانو، وتمثل القصدية عند هوسرل العنصر الذاتي، بل النفسي الخالص في المعرفة، فالقصد كما يقول هوسرل: «اتجاه الذات نحو موضوع متجه إليه»([24])، وبعضهم يرى بأنَّ هوسرل أول من جاء بفكرة القصدية فيقول جارودي: «الفكرة الجديدة التي أدخلها هوسرل في الفلسفة المعاصرة هي فكرة الاتجاه القصدي«([25]).
لم يبقَ مفهوم القصدية على ما أراده برنتانو في تمييز الظواهر النفسية، وإنما أدخل عليه هوسرل تعديلات فقام بتحويله من مجرد مقولة نفسية سيكولوجيّة إلى مقولة منطقية، فقد أصبحت عند هوسرل نظرية أساسية في الفينومينولوجيا، وطورها هوسرل عبر ثلاثة مراحل: (المرحلة الرياضية، والمرحلة المنطقية، والمرحلة الفينومينولوجيا)([26]). حاول المشكلات الرياضية والمنطقية وتفسير المفاهيم والتصورات الأساسية الرياضية تفسيراً نفسياً، فاشتق المفاهيم الأساسية في الرياضة من أفعال نفسية محددة([27])، فأصبحت طبيعة القصدية في هذه المرحلة نفسية محدودة.
ثم تراجع هوسرل عن النتائج التي توصل إليها في التفسير النفسي التجريبي في المرحلة الرياضية، وجعل القصدية للشعور الإدراكي في المرحلة المنطقية، ودمجها بالمشكلات النفسية، وأهمل الطابع التجريبي النفسي الجامد، فقام هوسرل بانتقاد أستاذه برنتانو في قصديته الشعورية النفسية([28])، فاشتق قوانين المنطق من قوانين علم النفس، وجعل القوانين المنطقية قوانين نسبية واحتمالية؛ لأنها تستند إلى الاستقراء([29])، فارتقى في هذه المرحلة إلى المعنى الخالص للمعرقة وإدراك قيمة الماهيات. ثم رأى أنه يجب تأسيس علم نفس فينومينولوجي جديد يكون هدفه الاختيار النسقي المنظم لأنماط وأشكال التجربة القصدية و رد مكوناتها إلى مقاصدها الأولية بوصفها الخلفية الثابتة التي تؤسس عليها المعرفة اليقينية المطلقة([30]).
يجمع الباحثون على أنَّ الظاهراتية أو الفينومينولوجيا التي أوجدها هوسرل هي تطور لفلسفة برنتانو، الذي يرى أنَّ ماهية الوعي دائماً وعيٌ بشيء، فقد استعمل هوسرل الفينومينولوجيا للدلالة على منهج فكري واضح، ففي علم النفس تدل على الظواهر النفسية (كالإدراك، والرغبة، ومظاهر الوعي،…)، أما في الفلسفة فاستعملها في معالجة مشكل الوجود لأية ظاهرة واتصالها بالوعي، بقصد رصد تركيبات الظواهر الجوهرية الثابتة التي تتجلى للوعي([31]). وأهم ما يميزها هو الطابع القصدي للوعي.
ثم جاء سيرل ففسر قصدية اللغة بقصدية العقل وليس العكس، فالأصوات والعلامات تشير إلى أشياء وحوادث، لأن العقل يفرض قصدية عليها، أي أن معنى اللغة هو قصدية مستمدة من قصدية العقل([32])، فيقول في ذلك: «إنَّ الأشكال الأساسية للوعي والقصدية يسببها سلوك العصابات وتتحقق بجهاز الدماغ الذي هو بدوره الذي هو بدوره يتشكل من عصابات»([33])، فالعطش، والجوع، والخوف، والرغبة، والإدراك،… كلها ظواهر قصدية، وهي حالات ذهنية تتشكل داخل الذهن البشري، ويقول سيرل: «القصدية تمتلك توجه تناسب عالمي نحو العقل، أو مسؤولية تناسب العالم نحو العقل»([34])، فهو يرى أنَّ القصدية تربط حالات الفرد الذهنية بالعالم الواقعي. وأنَّ مصطلح (القصدية intentionality)، لم يكن دقيقاً وأدى في معظم الحالات إلى نوع من الخلط داخل المذهب التقليدي ذاته، فهو لا يلزم نفسه بالصفات التي ينسبها التراث الفلسفي لمصطلح القصدية، ويطرح وجهة نظره في مصطلح القصدية في ثلاث نقاط:
1- يرى بأنَّ هناك حالات تكون قصدية، وهناك حالات لا تكون قصدية، فالحالات التي تكون قصدية هي الحالات غير الموجهة، ويطلق عليها سيرل الحالات غير المباشرة مثل: البهجة، والقلق، والاحباط، والانفعالات، والسعادة،… تأتي من غير تحسب مسبق لها، أما الحالات التي يعدها سيرل قصدية وهي الحلات الموجهة، أو التي يسميها سيرل المباشرة مثل: المعتقدات، والمخاوف، والرغبات،…، فيميز سيرل بين هاتين الحالتين وفقا للطريقة التي يتم بها التعبير عن الكلام ومقاصده ووفقا للقيود التي تخضع لها تلك الحالات([35]).
2- فرق سيرل بين القصدية والوعي، فهو يرى بأنَّ هناك العديد من الحالات الواعية ليست قصدية، مثل الفرح أو الشعور المفاجئ بالسعادة، وفي المقابل هناك حالات قصدية لكنها غير واعية، مثل المعتقدات الثابتة التي لم نفكر بها، فلا يوجد هناك داعي للتفكير بها([36]).
3- تعد المقاصد والقصد مجرد صورة من صور القصدية، فيفرق سيرل بين القصد والقصدية عن طريق المعنى العلمي علمي لكلا الكلمتين، فالقصدية تعني التوجه، والقصد يعني قصد عمل شيء معين أو النية، ويعد القصد نوع من أنواع القصدية و صورة من صورها، فحسب وجهة نظر سيرل لا يكون القصد من القيام بفعل معين إلا مجرد صورة من صور القصدية، وقد أدى التركيز على القصدية والقصد إلى تصور أن المقاصد بالمعنى العادي لها دور خاص بالنظرية القصدية([37]).
والقصدية كما يراها فلاسفة اللغة تعد توجهاً يطلقه الوعي تجاه موضوع ما، فالقصدية تمثل نمط العلاقة التي تربط الوعي بمضمون الظاهرة، فقد ربط الفلاسفة الوعي بالقصدية ارتباطاً وثيقاً؛ وذلك لأن المقاصد تنبع من توجه الفرد نحو شيء ما وهذا التوجع نابع عن وعي تام بالموضوعات التي يتوجه إليها.
القصدية وأفعال الكلام
تشكل نظرية أفعال الكلام محور التداولية، وقد أرسى قواعدها أوستين ثم طورها وعمقها تلميذه سيرل، وتعد هذه النظرية من أهم النظريات التي اهتمت بالمضامين والمقاصد التواصلية، واعتبر أوستين أن كل فعل كلامي يقوم على مبدأ القصدية، وكذلك للسياق أهمية كبيرة في فهم قصد المتكلم في الخطاب([38])، كما أن اللغة العامل المهم في تعبير المتكلم عن قصده، فاللغة هي التي تحدد معنى الكلام أو الخطاب، وأن غاية قصد المتكلم هي إفهام السامع.
وتعد نظرية أفعال الكلام أحدى أهم مفاهيم القصدية، فهي تتسم بالاتصال اللغوي والقوة الإنجازية في ضوء قصدية المتكلم، وهذه النظرية لا تشير فقط إلى مجرد استعمال اللغة، بل هي تنجز حدثاً اجتماعياً في آن واحد، وهذا يعد تأليف بين المقصد والعمل.
ويفرق أوستين بين نوعين من الأفعال الكلامية: الأفعال الوصفية التي تخضع لمعيار الصدق والكذب، فتكون صادقة إذا طابقت قصديتها الواقع، وتكون كاذبة إذا خالفت قصديتها الواقع، والثاني فهو: الأفعال الإنجازية التي تخضع لمعيار النجاح والفشل، فإذا طابقت قصديتها شروط إنجازها تكون ناجحة، وإذا خالفت تكون فاشلة. فهنا يجعل أوستين القصدية مهمة في تحقيق الأفعال الإنجازية([39]).
يرى سيرل بأنَّ المضمون القضوي أمراً مهماً في الحالات القصدية، فكل كلام يحتوي على مقاصد فيه مضمون قضوي، وأنَّ وجود القصدية أكثر أهمية من وجود المضمون القضوي في نظرية أفعال الكلام فأحياناً توجد أفعال كلام لا تحتوي على مضمون قضوي مثل: (آخ، وأهلا، ومع السلامة،…)([40])، حيث يقول: « إنَّنا عند تقديم فعل كلامي ذي مضمون لغوي، نعبر عن حالة قصدية معينة بهذا المضمون اللغوي (القضية)»([41])، فيقصد سير أن كل فعل كلامي نريد فيه طرح قضية، أو توضيح مضمون، أو طلب، أو أمر، أو نهي، فلا بد من أن يكون هناك قصد وراء هذا المضمون، فإذا أصدرت وعداً بفعل شيء ما فإني أعبر عن قصد أو نية القيام بهذا الفعل، وإذا أعطيت أمراً بفعل شيء ما فاني أقصد التعبير عن رغبتي في القيام بهذا الفعل، ويذكر سيرل أنَّه يجب أن تكون المقاصد والنوايا صادقة، فإنك عندما تهنئ شخصاً بنجاحه يجب أنْ يكون قصدك صادقاً في التعبير عن فرحتك له، ولا يكون في داخلك بعدم السعادة لنجاح ذلك الشخص([42]).
ويستنتج لنا سيرل الصلات والروابط بين أفعال الكلام والقصدية([43]):
١- كل حالة قصدية تتكون من مضمون تمثيلي وفي حالة نفسية معينة. أي أن القصد يتعلق بحالة الشخص النفسية وما يدور بها.
٢- أن الحالات القصدية تمثل أحوال الأشياء والموضوعات المختلفة بالمعنى نفسه الذي تمثل به نظرية أفعال الكلام للموضوعات وأحوال الأشياء.
٣- أن الحالات القصدية التي تحتوي على مضمون لغوي ولها أتجاه للتطابق، فأنها تقدم شروط تحقيقها بنفس المعنى الذي تمثل به أفعال الكلام ذات المضمون اللغوي (القضية)، ولها اتجاه للتطابق وشروط تحقيقها. فالقصدية مرتكز مهم لنظرية الفعل الكلامي؛ لأنَّ الأخير لا ينجح إلا إذا حقق مقاصده، وإذا لم يتحقق القصد من الكلام فلا تكون النتيجة حقيقية، ويتعين على المخاطَب فهم قصد المخاطِب حتى يوفق في تحقيق قصديته.
المبحث الثاني
معالم القصدية في الخطاب الفاطمي
ثمة مقاصد استبطنها الخطاب الفاطمي، وتكمن مركزية هذا الخطاب في (التوحيد) الذي يمثل قطب المقاصد وبؤرتها، ومنه تنبثق بقية المقاصد، فالتوحيد هو القصد المهيمن على الخطاب وعدم الإيمان بهذه العقيدة الكونية هو ما يقلب القيم، وبها تثبت العقائد الأخرى عقلا ونقلا.
وهذا القصد (الأكبر) الذي تطلبه الخطبة الفدكية، يأتي في كل مفصل من مفاصل الخطاب، فالمقاصد تتعدد بشكل تراتبي، بحيث يوصل كل قصد الى ما هو أعمق منه وأعلى مرتبة، وهو ما سنحاول الوقوف عليه– بقدرنا لا بقدره بكل تأكيد- فليست المطالبة بحق الخلافة او فدك الا مسلكا وطريقا الى المقاصد الكبرى التي تضمنها الخطبة.
مراتب الخطاب القصدية
ينقسم القصد الى قصد اخباري وهو المفهوم من الظاهر ولفظ الكلام، وآخر يكون تواصليا يفهم من سياق الكلام وملابساته، فالخطاب اللغوي هو اخبار يمثل قصدا اوليا، ومتضمناته ومستلزماته تتضمن (قصودا) أخرى .
ولو تأملنا مراتب الخطاب ومستوياته القصدية لوجدنا على سبيل المثال مقاصد تترتب عموديا، فظاهر الخطاب الفاطمي ومنطوقه يشي بالحمد والثناء والتذكير بنعم الله وفضله ومنزلة النبي (ص) وأهل بيته، ثم التذكير بأهمية العبادات وعلل تشريعها و(جعلها)، ومن ثم الاحتجاج لحقها وحق ابن عمها، والاستدلال على ذلك بالنقل والعقل، ما هي الا مقاصد أولية تنبني عليها مقاصد أخرى، والصديقة (عليها السلام) تعتقد بذلك وهذا هو المستوى الثاني من القصد، وقصد ثالث بأن اعتقادها بأنهم يعتقدون بأحقيتها، وتريد منهم أن يذعنوا لهذا الاعتقاد.
ويمكن ترتيبها كالآتي :
من هنا نفهم عمق المقاصد في الخطاب الفاطمي ، فهذه مستويات ستة للخطاب،
فالحمد والثناء والتذكير بنعم الله قصد اول
ينبثق منه قصد ثان هو انهم يعتقدون بهذه الحقائق والنعم
وهي تريد (عليها السلام) وهو قصد ثالث أن يعتقدوا بما يلازم هذه النعم
وهو قصد رابع باعتقادها وهو التوحيد التي لا ينجم عنه الا القيادة الحقة
وكذا الأمر مثلا في مطالبتها بفدك
تعتقد المطالبة بفدك
يعتقدون بحقها
في كونها تريد ارجاع فدك
وان يعتقدوا بهذا الحق الذي يترتب عليه
الاعتراف بخلافة الامير (عليه السلام) وان يبايعوه على ذلك.
ومن هنا فإننا يمكن أن نقسم الخطاب الفاطمي الى وحدات (قصدية) أم مقاصد صغروية أو ظاهرة ، تؤلف بمجموعها قصدا باطنيا تواصليا، وهو القصد الأسمى .
وهذه الوحدات هي :
فهذه اثنا عشر قصدا في ضوء الوحدات التي تضمنتها الخطبة ، وربما نجد غيرها في التأمل. وهي كما نرى تتسلسل بشكل هرمي وبنظام مقصود للوصول الى القصد المضمر، وهو القصد المركزي للخطاب الفاطمي، وهو امتداد لخطاب النبوة.
إنَّ الخطاب بمقاصده الفرعية او الصغرى يحقق باجتماعها المقصد الأكبر، فالوحدات الاثنتا عشرة تتواشج فيما بينها لإثبات حق الامامة الذي يمثل امتدادا للنبوة وخلاصة رسالة الأنبياء (عليهم السلام)، والتي جاءت لنشر عقيدة التوحيد.
قصدية المقام([44])
مما لا شك فيه أن ماروته كتب التاريخ عن صورة خروج الزهراء ع بالصورة التي نُقلت يعطي الخطبة ابعادا ومقاصد عميقة تتجاوز الجانب الظاهري من المطالبة بفدك، وهي (ع) أكبر من أن تتحمل كل هذا العناء وهذا التحشيد والبيان العظيم في اعظم المسجد النبوي المعظم لهذا الغرض وقد تناولنا هذا الجانب في بحث سابق . ولكن لنا ان نلخص المقاصد التي ترتبت على هذا القيام الفاطمي كالآتي :
واثبات هذه المراحل لا يحتاج جهدا بحثيا كبيرا، اذ إنَّ هيأتَها ودخولَها بهذه الصورة معززات إقناعية لترسيخ هذه الاعتقادات، فضلا عن طبيعة الخطاب والاحتجاج بخطاب المقدس من القرآن والسنة النبوية فضلا عن استدلال العقل، فالخطاب الفاطمي كان واعيا بدرجات القصد ومؤثراته واستطاع ان يحشد لذلك من السياق اللغوي والمقامي ما يؤيد ذلك ويعززه.
ومن هذا القصد انبثقت بقية المقاصد فهي ليست قضية شخصية او مادية بقدر ما هي قيمة وقضية ترتبط بعقيدة التوحيد.
فدك قصد( القصد الظاهر )
خلافة الامام قصد القصد ( قصد باطن اول)
عقيدة التوحيد قصد قصد القصد (قصد باطن ثان)
قصدية الاقرار والشهادة لله والحمد والثناء والشهادة لله والرسول (صلى الله عليه وآله)
تقول (ع) في مطلع خطبتها: «الْحَمْدُ للهِ عَلى ما أنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ على ما أَلْهَمَ، وَالثَّناءُ بِما قَدَّمَ، مِنْ عُمومِ نِعَمٍ ابْتَدَأها، وَسُبُوغ آلاءٍ أسْداها، وَتَمامِ مِنَنٍ والاها، جَمَّ عَنِ الإحْصاءِ عدَدُها، وَنأى عَنِ الْجَزاءِ أَمَدُها، وَتَفاوَتَ عَنِ الإْدْراكِ أَبَدُها، وَنَدَبَهُمْ لاِسْتِزادَتِها بالشُّكْرِ لاِتِّصالِها، وَاسْتَحْمَدَ إلَى الْخَلايِقِ بِإجْزالِها، وَثَنّى بِالنَّدْبِ إلى أمْثالِها.
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإْخْلاصَ تَأْويلَها، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَها، وَأَنارَ في الْفِكَرِ مَعْقُولَها. الْمُمْتَنِعُ مِنَ الإَْبْصارِ رُؤْيِتُهُ، وَمِنَ اْلأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَوْهامِ كَيْفِيَّتُهُ. اِبْتَدَعَ الأَشَياءَ لا مِنْ شَيْءٍ كانَ قَبْلَها، وَأَنْشَأَها بِلا احْتِذاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَها، كَوَّنَها بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَها بِمَشِيَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ حاجَةٍ مِنْهُ إلى تَكْوينِها، وَلا فائِدَةٍ لَهُ في تَصْويرِها إلاّ تَثْبيتاً لِحِكْمَتِهِ، وَتَنْبيهاً عَلى طاعَتِهِ، وَإظْهاراً لِقُدْرَتِهِ، وَتَعَبُّداً لِبَرِيَّتِهِ، وإِعزازاً لِدَعْوَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ الثَّوابَ على طاعَتِهِ، وَوَضَعَ العِقابَ عَلى مَعْصِيِتَهِ، ذِيادَةً لِعِبادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ، وَحِياشَةً مِنْهُ إلى جَنَّتِه»([45]).
ففي هذه الوحدة النصية ثناء وتحميد لله سبحانه واقرار بالنعم الجمة التي لا تحصى، والتي تستدعي الشكر والثناء، وفيها توجيه للمخاطبين للاعتراف بهذه النعم وتقديرها، ثم يليها الفعل الاقراري (الاعلان) بالشهادة لله تعالى وبيان لبعض صفاته الجلالية والجمالية ، مع بيان علة الخلق وهي: «تَثْبيتاً لِحِكْمَتِهِ، وَتَنْبيهاً عَلى طاعَتِهِ، وَإظْهاراً لِقُدْرَتِهِ، وَتَعَبُّداً لِبَرِيَّتِهِ، وإِعزازاً لِدَعْوَتِهِ» وهذه هي المقاصد التي خلق الله بني آدم لأجلها، وهذا ما أضحته (عليها السلام) منذ افتتاح الخطبة وحتى خواتيمها، فمن يدرك أنه عبد لله ويدرك نعمه ويقر بالشهادة لابد أن يشكر المنعم عليه.
فمقصدية المخاطِب تتجلى في البدء بالحوار في ضوء المسلمات والمشتركات وفق أرضية واحدة لا يختلف فيها الطرفان، بل يسلم ويذعن لذلك، وبهذا يتحقق القصد الأولي تمهيدا لإلقاء المقاصد الاخرى وصولا الى اعتراف المخاطَب واذعانه للمتكلم، فالحجج المقدسة والتي يؤمن بها الآخر يمكن أن تحقق قصدية المخاطَب، أو ما أسميناه بالقصد الأولي.
ثم تتلو تلك الوحدة ما يتعلق بذكر النبي الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) في إشارة الى مقصودة بقولها (عليها السلام) : «وَأَشْهَدُ أنّ أبي مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله عبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتارَهُ وَانْتَجَبَهُ قَبْلَ أَنْ أَرْسَلَهُ، … فَأَنارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله ظُلَمَها، وكَشَفَ عَنِ القُلُوبِ بُهَمَها، وَجَلّى عَنِ الأَبْصارِ غُمَمَها، وَقَامَ في النّاسِ بِالهِدايَةِ، وأنقَذَهُمْ مِنَ الغَوايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ العَمايَةِ، وهَداهُمْ إلى الدّينِ القَويمِ، وَدَعاهُمْ إلى الطَّريقِ المُستَقيمِ»
فإشارة الصديقة (عليها السلام) بقولها: «أبي محمد (صلى الله عليه وآله» تحمل قصدية لإشعار المخاطَب بمنزلة النبي الأعظم أولا ومنزلتها (عليها السلام)، ولكي تستنطق القوم في اثبات حقها وما جرى عليها من الظلم وهي من هي بتلك المنزلة العظيمة، في الوقت الذي تبين فيه ما قدمه النبي (صلى الله عليه وآله) في سبيل الدين لاستنقاذ الناس من الضلالة.
وحقيق لمن كانت هذه منزلته العظيمة أن يُحفظ في ولده وأهل بيته، فالقصد الاول هو بيان عظم منزلة النبي (صلى الله عليه وآله) والاقرار بفضله وأهل بيته، ولكن هذا القصد يستبطن قصدا باطنيا وهو: أنهم مع اعتقادهم بمنزلة الرسول (ص) وعلمهم بأنها ابنته، غير أن ذلك لم يمنعهم من ظلمها وسلب حقها. فهي تنتزع منهم اقرارا بحقها وما جرى عليها من الظلم مع عظم منزلتها ومنزلة أبيها.
قصدية الوعظ والتذكير
الوحدة الرابعة تتضمن الوعظ والارشاد الممزوج بلغة العتاب والتأنيب، تقول الصديقة(عليها السلام): «أَنْتُمْ عِبادَ الله نُصْبُ أمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَحَمَلَةُ دينِهِ وَوَحْيِهِ، وِأُمَناءُ اللهِ عَلى أنْفُسِكُمْ، وَبُلَغاؤُهُ إلى الأُمَمِ، وَزَعَمْتُمْ حَقٌّ لَكُمْ للهِ فِيكُمْ، عَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ، وَبَقِيَّةٌ استَخْلَفَها عَلَيْكُمْ. كِتابُ اللهِ النّاطِقُ، والقُرْآنُ الصّادِقُ، وَالنُّورُ السّاطِعُ، وَالضِّياءُ اللاّمِعُ، بَيِّنَةٌ بَصائِرُهُ، مُنْكَشِفَةٌ سَرائِرُهُ، مُتَجَلِّيَةٌ ظَواهِرُهُ، مُغْتَبِطَةٌ بِهِ أَشْياعُهُ، قائِدٌ إلى الرِّضْوانِ اتّباعُهُ، مُؤَدٍّ إلى النَّجاةِ إسْماعُهُ. بِهِ تُنالُ حُجَجُ اللهِ المُنَوَّرَةُ، وَعَزائِمُهُ المُفَسَّرَةُ، وَمَحارِمُهُ المُحَذَّرَةُ، وَبَيِّناتُهُ الجالِيَةُ، وَبَراهِينُهُ الكافِيَةُ، وَفَضائِلُهُ المَنْدوبَةُ، وَرُخَصُهُ المَوْهُوبَةُ، وَشَرايِعُهُ المَكْتُوبَةُ»([46]).
فالخطاب تضمن تذكيرا لهم بمهمتهم الكبيرة بوصفهم حملة لدين الله ومبلغيه الى الأمم، وهو حجة عليهم؛ لأن من كانت هذه مهمتهم ودورهم فليس لهم أن يخونوا تلك الأمانة أو أن يتنصلوا عن مهمتهم، فالقصد في بيان دورهم ومهمتهم في حمل الرسالة وتبليغها وهم الرعيل الأول من الصحابة وسفراء الدين. غير أن القصد يستبطن قصدا وهو أن من كانت هذه مهمتهم فهم أولى من غيرهم بنصرة دين الله المتمثل بنصرة أهل بيته وإقامة دين الله . فكل ما ذكرته الصديقة (ع) تندرج في مسار المقاصد الأولية لتي تهدي الى المقاصد الكبرى للخطاب. وهي في الوقت ذاته لإقامة للحجة وإلجام للأفواه.
قصدية العقائد والعبادات والأخلاق
يمكن أن نلحظ هذ الأمر في العقائد [47]العبادات والأخلاق ويتجلى في هذه الوحدة النصية:
فَجَعَلَ اللهُ … الإيمانَ تَطْهيراً لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ
وَالصَّلاةَ تَنْزِيهاً لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ،
والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً في الرِّزْق،
والصِّيامَ تَثْبيتاً للإِخْلاصِ،
والحَجَّ تَشْييداً لِلدّينِ،
وَالعَدْلَ تَنْسيقاً لِلْقُلوبِ،
وَطاعَتَنا نِظاماً لِلْمِلَّةِ،
وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ،
وَالْجِهادَ عِزاً لِلإْسْلامِ،
وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجابِ الأْجْرِ،
وَالأْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعامَّةِ،
وَبِرَّ الْوالِدَيْنِ وِقايَةً مِنَ السَّخَطِ،
وَصِلَةَ الأَرْحامِ مَنْماةً لِلْعَدَدِ،
وَالْقِصاصَ حِصْناً لِلدِّماءِ،
وَالْوَفاءَ بِالنَّذْرِ تَعْريضاً لِلْمَغْفِرَةِ،
وَتَوْفِيَةَ الْمَكاييلِ وَالْمَوَازينِ تَغْييراً لِلْبَخْسِ،
وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيهاً عَنِ الرِّجْسِ،
وَاجْتِنابَ الْقَذْفِ حِجاباً عَنِ اللَّعْنَةِ،
وَتَرْكَ السِّرْقَةِ إيجاباً لِلْعِفَّةِ.
وَحَرَّمَ الله الشِّرْكَ إخلاصاً لَهُ بالرُّبُوبِيَّةِ،
{فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ}([48]) وَأطيعُوا اللهَ فيما أمَرَكُمْ بِهِ وَنَهاكُمْ عَنْهُ، فَإنَّه {إنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلِماءُ}(.([49]
هذا دستور تشريعي إلهي متكامل يغطي كل جوانب الحياة، وهو جعل إلهي وعلل حقيقية لما ذكر، وما يستوقف القارئ هنا هو قولها (عليها السلام): «فَجَعَلَ اللهُ … وَطاعَتَنا نِظاماً لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أماناً مِنَ الْفُرْقَةِ، …وَحَرَّمَ الله الشِّرْكَ إخلاصاً لَهُ بالرُّبُوبِيَّةِ، {فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَأطيعُوا اللهَ فيما أمَرَكُمْ بِهِ وَنَهاكُمْ عَنْهُ، فَإنَّه {إنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلِماءُ}»([50]).
فطاعتهم (عليهم السلام) نظام للملة وامامتهم رمز الوحدة وأمان من الفرقة، ثم ربط ذلك كله بطاعة الله تعالى وهذه صفة العلماء الذين يخشون الله تعالى.
فالمقاصد تترتب على النحو الآتي وبتسلسل :
قصدية بيان منزلتها (عليها السلام) ومنزلة أبيها (صلى الله عليه وآله)
لايخفى على كل مسلم المنزلة العظيمة التي خص الله ونبيه بها الصديقة الزهراء (علها السلام)، وكانت تبين للناس الذين اجتمعوا في المسجد ذلك بأكثر من وسيلة قاصدة الى ذلك الأمر فتقول: «أيُّها النّاسُ! اعْلَمُوا أنِّي فاطِمَةُ، وَأبي مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلا أقُولُ ما أقُولُ غَلَطاً، وَلا أفْعَلُ ما أفْعَلُ شَطَطاً: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيم}([51]) فَإنْ تَعْزُوه وَتَعْرِفُوهُ تَجِدُوهُ أبي دُونَ نِسائِكُمْ، وَأخا ابْنِ عَمَّي دُونَ رِجالِكُمْ، وَ لَنِعْمَ الْمَعْزِيُّ إلَيْهِ صَلى الله عليه وآله»([52]).
وهذا مما لا مجال لإنكاره وردِّه، هي ترسخ هذه الفكرة وتؤكدها؛ لتبين عظيم الخطب وفداحة ما وقع بحقها، مع أن كل الحاضرين يعلمون بذلك، ولكنها قصدت البدء بالمقدمات وبيان فضلها وعظيم منزلتها ومنزلة أبيها من قبلها ، ليُقرَّ المخاطبون بما جرى عليها ، ولتنتزع منهم اعترافا ضمينا وصريحا بحقها.
قصدية بيان منزلة أمير المؤمنين (عليه السلام)
تقول (عليها السلام): «فَأنْقَذَكُمُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ صَلى الله عليه وآله بَعْدَ اللّتَيّا وَالَّتِي، وَبَعْدَ أنْ مُنِيَ بِبُهَمِ الرِّجالِ وَذُؤْبانِ الْعَرَبِ وَمَرَدَةِ أهْلِ الْكِتابِ، {كُلَّما أوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أطْفَأها اللهُ}، أوْنَجَمَ قَرْنٌ لِلْشَّيْطانِ، وَفَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَذَفَ أخاهُ في لَهَواتِها، فَلا يَنْكَفِئُ حَتَّى يَطَأَ صِماخَها بِأَخْمَصِهِ، وِيُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَيْفِهِ، مَكْدُوداً في ذاتِ اللّهِ، مُجْتَهِداً في أمْرِ اللهِ، قَرِيباً مِنْ رِسُولِ اللّهِ سِيِّدَ أوْلياءِ اللّهِ، مُشْمِّراً ناصِحاً ، مُجِدّاً كادِحاً ـ وأَنْتُمْ فِي رَفاهِيَةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنا الدَّوائِرَ، وتَتَوَكَّفُونَ الأَخْبارَ، وَتَنْكُصُونَ عِنْدَ النِّزالِ، وَتَفِرُّونَ عِنْدَ القِتالِ»([53]).
فهي تشير الى مواقف أخي رسول الله وابن عمه وزوجها وسيد اولياء الله، وهذه المناقب مما لا ينكرها منكر. ولا تغيب عن أذهانهم ولا سيما أن العهد لا يزال قريبا ، فالقصد من بيان فضلهم ظاهر، ولكن ما يستبطنه القصد، هو أهلية الامام علي (عليه السلام) وأحقيته في الخلافة وإدارة شؤون البلاد والعباد، والا فان الامامة ثابتة له بالتنصيب الالهي لا ينزع عنه بخلافة أو إمرة.
قصدية الاحتجاج
يظهر الحجاج في كل مفصل من مفاصل الخطاب ولسنا هنا بصدد دراسة الحجاج وقد خصصت له الرسائل والبحوث الكثيرة، ولكننا نشير اشارة عابرة الى بعض صور الحجاج ومنها السياق الحجاجي والهيأة وحجة المقدس والاستدلال العقلي والنقلي، فضلا عن وسائله اللغوية كالاستفهام الانكاري والمؤكدات والروابط والعوامل الحجاجية فهو في الأصل خطاب حجاجي بامتياز وظّف كل امكانات اللغة وحشدها لبيان مظلوميتها وحقها المغصوب. يقول القاضي النعمان: «وأرادت بذلك صلوات الله عليها ما قد ذكرته في كلامها من اقامة الحجة على الأمة ، وابلاغ المعذرة اليهم ، وايضاح الحق والبيان فيما فيها اهتضموه، وتغلب عليهم واستأثر من حقهم به لئلا يقولوا كما قالوا: أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) سلموا ذلك طائعين…»([54])
قصدية الوعيد
ومن قصدية الخطاب الفاطمي أيضا الوعيد او الوعديات كما تسمى في نظرية الفعل الكلامي، ما نطقت به الصديقة (عليها السلام) أفعال متحققة ووعود أثبتها التاريخ والروايات تقول : «فَدُونَكَها مَخْطُومَةً مَرْحُولَةً، تَلْقاكَ يَوْمَ حَشْرِكَ، فَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ، وَالزَّعِيمُ مُحَمَّدٌ، وَالْمَوْعِدُ الْقِيامَةُ، وَعِنْدَ السّاعَةِ يخسَرُ المبطلون، وَلا يَنْفَعُكُمْ إذْ تَنْدَمُونَ، ﴿وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ .مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ﴾([55])»([56]) ثم تلتفت الى الانصار وتقول بعد حديث:
«فَدُونَكُمُوها فَاحْتَقِبُوها دَبِرَةَ الظَّهْرِ، نَقِبَةَ الْخُفِّ، باقِيَةَ الْعارِ، مَوْسُومَةً بِغَضَبِ اللهِ وَشَنارِ الْأَبَدِ، مَوْصُولَةً بِنارِ اللهِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. فَبعَيْنِ اللهِ ما تَفْعَلُونَ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}([57])، وَأَنَا ابْنَةُ نَذِيرٍ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَديدٍ، {فَاعْمَلُوا إنّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إنّا مُنْتَظِرُونَ})[58])»([59]).
فالفعل يرتبط بالقصد ويكتسب منه شرعيته، ويرى أوستين أن المقاصد تتعلق بالفعل وخاصة بالفعل الإنجازي وما يحمله من إشباع يمثل مقصد المتكلم، ويقول محمود نحلة: « أن الفعل الإنجازي يرتبط عند أوستين ارتباطا وثيقا بمقصد المتكلم وعلى السامع أن يبذل الجهد الكافي للوصول إليه»([60]). فعند ما نحلل خطاب معين أو كلام موجه يجب أن نعرف مقاصد هذا الكلام حتى يتسنى لنا فهمه. فتعد القصدية إحدى المقومات الأساسية للنص، باعتبار أن لكل منتج خطاب غاية يسعى إلى بلوغها، أو نية يريد تجسيدها([61]).
ركَّز جون سيرل على مفهوم القصدية فرأى «أنَّ فعل الكلام يعد مظهرًا من مظاهر القصدية، وذلك لأنَّ معرفة الرسالة أو القول لا تنحصر في فهم نظام اللغة وحده، بل يتطلب الأمر معرفة مسبقة بالسياقات التي تتجاوز حدود الدلالة اللسانية التقليدية إلى خلق دلالات تنسجم وتتلاءم وفعل الكلام باعتباره مظهرًا للقصدية…»([62]). ومن هذا نرى أنَّ كل عملية قول معينة هي تقصد شيئا بعينه.
وما جرى بعد شهادتها على هؤلاء المانعين لحقّها وثَّقته كتب التاريخ، وهو تصديق لنبوءة السيدة الزهراء (عليها السلام)، فهي ابنة أبيها الذي لا ينطق عن الهوى، وقولها (عليها السلام) منجَز ومتحقق في الدنيا قبل الآخرة.
قصدية الانتصار واستنهاض همم الانصار (الثورة على الظالمين)
ثمة استراتيجية خطابية تضمنها الخطاب الفاطمي، تتعلق باستنهاض المسلمين من المهاجرين والانصار وتذكيرهم بمنزلتهم ونصرتهم للدين، وهي دعوة صريحة للثورة والانتفاض بوجه الظلم الذي سيعم البلاد لو صارت الخلافة لير أمير المؤمنين (عليه السلام) وما الذي ستخسره الأمة من اضاعة القيادة الحقة، تقول (عليها السلام): « يا مَعاشِرَ الْفِتْيَةِ، وَأَعْضادَ الْمِلَّةِ، وَأنْصارَ الْإِسْلامِ! ما هذِهِ الْغَمِيزَةُ فِي حَقِّي؟ وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلامَتِي؟ أما كانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله علبه وآله أبِي يَقُولُ: “اَلْمَرْءُ يُحْفَظُ فِي وُلْدِهِ”؟ سَرْعانَ ما أَحْدَثْتُمْ، وَعَجْلانَ ذا إهالَةً، وَلَكُمْ طاقَةٌ بِما اُحاوِلُ، وَقُوَّةٌ عَلى ما أَطْلُبُ وَاُزاوِلُ!…
أيْهاً بَنِي قَيْلَةَ! أاُهْضَمُ تُراثَ أبِيَهْ وَأنْتُمْ بِمَرْأى مِنّي وَمَسْمَعٍ، ومُبْتَدأٍ وَمَجْمَعٍ؟! تَلْبَسُكُمُ الدَّعْوَةُ، وتَشْمُلُكُمُ الْخَبْرَةُ، وَأنْتُمْ ذَوُو الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَالأَداةِ وَالْقُوَّةِ، وَعِنْدَكُمُ السِّلاحُ وَالْجُنَّةُ؛ تُوافيكُمُ الدَّعْوَةُ فَلا تُجِيبُونَ، وَتَأْتيكُمُ الصَّرْخَةُ فَلا تُغيثُونَ، وَأنْتُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْكِفاحِ، مَعْرُفُونَ بِالْخَيْرِ وَالصَّلاحِ، وَالنُّجَبَةُ الَّتي انْتُجِبَتْ، وَالْخِيَرَةُ الَّتِي اخْتيرَتْ! قاتَلْتُمُ الْعَرَبَ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ، وَناطَحْتُمُ الاُْمَمَ، وَكافَحْتُمً الْبُهَمَ، فَلا نَبْرَحُ أو تَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُمْ فَتَأْتَمِرُونَ حَتَّى دَارَتْ بِنا رَحَى الإْسْلامِ، وَدَرَّ حَلَبُ الأَيّامِ، وَخَضَعَتْ نُعَرَةُ الشِّرْكِ، وَسَكَنَتْ فَوْرَةُ الإْفْكِ، وَخَمَدَتْ نيرانُ الْكُفْرِ، وهَدَأتْ دَعْوَةُ الْهَرْجِ، وَاسْتَوْسَقَ نِظامُ الدِّينِ؛ فَأَنّى جُرْتُمْ بَعْدَ الْبَيانِ، وَأَسْرَرْتُمْ بَعْدَ الإْعْلانِ، وَنَكَصْتُمْ بَعْدَ الإْقْدامِ، وَأشْرَكْتُم ْبَعْدَ الإْيمانِ؟ {ألا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَداؤُكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ أتَخْشَوْهُمْ فَاللهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}([63])، أَلا قَدْ أرى أنْ قَدْ أَخْلَدْتُمْ إلَى الْخَفْضِ، وَأبْعَدْتُمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ، وَخَلَوْتُمْ بِالدَّعَةِ، وَنَجَوْتُمْ مِنَ الضِّيقِ بِالسَّعَةِ، فَمَجَجْتُمْ ما وَعَيْتُمْ، وَدَسَعْتُمُ الَّذِي تَسَوَّغْتُمْ، {فَإنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأْرْضِ جَمِيعاً فَإنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}([64]). ألا وَقَدْ قُلْتُ ما قُلْتُ عَلى مَعْرِفَةٍ مِنّي بِالْخَذْلَةِ الَّتِي خامَرَتْكُمْ، وَالغَدْرَةِ التِي اسْتَشْعَرَتْها قُلُوبُكُمْ، وَلكِنَّها فَيْضَةُ النَّفْسِ، وَنَفْثَةُ الْغَيْظِ، وَخَوَرُ الْقَنا، وَبَثَّةُ الصُّدُورِ، وَتَقْدِمَةُ الْحُجَّةِ.»([65]).
هل هناك خطاب استنهاض وثورة أشد وقعا من هذا الخطاب، وهل ثمة حجة أو عذر بقي للقوم حتى يتقاعسوا عن نصرة دينهم وبنت نبيهم (صلوات الله عليهما وآلهما).
ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
الخاتمة
أسفرت هذا القراءة لقصدية الخطاب الفاطمي عن مجموعة من النتائج على قدر فهمِ الباحث للخطاب لا على قدر الخطاب، ويمكن ايجازها بما يلي:
المصادر
القرآن الكريم
([1]) العقل واللغة والمجتمع الفلسفة في العالم الواقعي، جون سيرل، ترجمة: سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، لبنان-بيروت، ط1، 1427ه- 2006م: 134
([2]) العقل واللغة والمجتمع: 140
([4]) ينظر: لسان العرب، جمال الدين محمد بن منظور الافريقي (711ه) دار صادر بيروت، ط2، 1997 :3/٣٥٣ .
([5]) العقل واللغة والمجتمع- الفلسفة في العلم الواقعي: 34- 35
([6]) برنتانو فرانز (١٨٣٨-١٩١٧)، وهو فيلسوف ألماني، درس الفلسفة في برلين وميونخ، ومن مؤلفاته: (في مختلف دلالات الوجود حسب أرسطو عام ١٨٦٢، و مذهب ارسطو في أصل الذهن البشري عام ١٩١١، علم النفس المنظور الاختباري عام ١٨٧٤). ينظر: معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي، دار الطليعة بيروت، ط٢، ١٩٩٧م: ١٦٩
([7]) الفينومينولوجيا المنطق عند أدموند هوسرل، يوسف سلامة، دار حوران، ط١، ٢٠٠٢م: ١٢٤.
([8]) مفهوم القصدية في اللسانيات التداولية، بن زحاف يوسف: ٢٣.
([9]) بول ريكور (١٩١٣-٢٠٠٥)، هو فيلسوف فرنسي، يمثل في الفلسفة الفرنسية المعاصرة محاولة أصيلة تستلهم الوجودية و الفينومينولوجيا، من اهم مؤلفاته (الارادي و اللاإرادي ١٩٥٠، في التناهي والاثم ١٩٦٠)، كما ينزع إلى إنشاء فلسفة في اللغة تقدم المعنى إلى المبنى في مؤلفاته:(في التأويل، ومحاولة فيفكر فرويد ١٩٦٥، وتنازع التأويلات ١٩٦٩، والاستعارة الحية ١٩٧٥، والزمان والسرد ١٩٨٣). ينظر معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي : ٣٣٨.
([10]) ينظر: نظرية جون سيرل في القصدية دارسة في فلسفة العقل، صلاح إسماعيل، قسم الفلسفة، كلية الآداب، جامعة القاهرة –مصر، حوليات الآداب والعلوم الاجتماعية، الحولية 27، الرسالة262، 1428ه-2007م: 25.
([11]) رؤية الاشياء كما هي نظرية الادراك، جون سيرل، ترجمة: إيهاب عبد الرحيم علي، علم المعرفة، 2018م: 43.
([12]) ينظر: رؤية الاشياء كما هي نظرية الادراك: 43.
( ([13]العقل واللغة والمجتمع: 134
(([14] العقل واللغة والمجتمع: 140
(([15] العقل واللغة والمجتمع: 121
(([16] العقل واللغة والمجتمع: 129
(([17] العقل واللغة والمجتمع: 121
( ([18]العقل واللغة والمجتمع: 126
(([19] العقل واللغة والمجتمع: 130
(([20] العقل واللغة والمجتمع: 122
([21]) نظرية جون سيرل في القصدية: ٧٤.
([22]) ينظر: الفينومينولوجيا المنطق عند ادموند هوسرل: ١٢٤.
([23]) ينظر: الخبرة الجمالية دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية، هيدجر سارتر- ميرلو بونتي- دوفرين انجاردن، سعيد توفيق، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط١، ١٩٩٢م:٣٠.
([24]) تأملات ديكارتية أو المدخل إلى الفينومينولوجيا، ادموند هوسرل، ترجمة تيسير شيخ الأرض، دار بيروت للطباعة والنشر،١٩٥٨م: ١٣٢.
([25]) نظرات حول الإنسان، روجيه جارودي، ترجمة د. يحيى هويدي، القاهرة، ١٩٨٣م: ٣٦.
([26]) ينظر: الفينومينولوجيا عند هوسرل دراسة نقدية في التجديد الفلسفي المعاصر، سماح رافع محمد، دار الشؤون الثقافية العامة (آفاق عربية)، العراق- بغداد، ط١، ١٩٩١م: ١٨٩.
([27]) ينظر: الفينومينولوجيا المنطق عند ادموند هوسرل: ١٣٨.
([28]) ينظر: الفينومينولوجيا المنطق عند ادموند هوسرل: ٨٨.
([29]) ينظر: الفينومينولوجيا المنطق عند ادموند هوسرل:119 .
([30]) ينظر: الفينومينولوجيا عند هوسرل دراسة نقدية في التجديد الفلسفي المعاصر: 186.
([31]) ينظر: القصدية بحث في فلسفة العقل، جون سيرل، ترجمة: أحمد الأنصاري، دار الكتاب العربي، بيروت– لبنان، 2009م: ٧- ٨.
([32]) ينظر: العقل مدخل موجز، جون سيرل، ترجمة: أ.د. ميشيل حنا متياس، عالم المعرفة، الكويت، ٢٠٠٧م: ١٤٠.
([35]) ينظر: القصدية بحث في فلسفة العقل: 21- 22.
([36]) ينظر: القصدية بحث في فلسفة العقل: ٢٢.
([37]) ينظر: القصدية بحث في فلسفة العقل: ٢٣.
([38]) ينظر: استراتيجية الخطاب، مقاربة لغوية تداولية، عبد الهادي بن ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد، بيروت – لبنان، ط١، ٢٠٠٤م: ١٨٢.
([39]) ينظر: معايير النص عند روبرت دي بوجراند وأثرها في فهم الخطاب النبوي: 213.
([40]) ينظر: القصدية بحث في فلسفة العقل: 28.
([41])القصدية بحث في فلسفة العقل: 30.
([42]) ينظر: القصدية بحث في فلسفة العقل:30.
([43]) ينظر: القصدية بحث في فلسفة العقل:32-33.
([45]) شرح خطبة الزهراء (عليها السلام): تأليف: العلامة المجلسي، القاضي النعمان المغربي، الأنصاري التبريزي، تحقيق واعداد: السيد باقر الكيشوان الموسوي، مؤسسة البلاغ، بيروت- لبنان ، ط2، 2012م:44
([46]) شرح خطبة الزهراء (عليها السلام): 193
[47] ينظر: القصدية في خطبة السيدة الزهراء (عليها السلام)، د. كريم حسين ناصح الخالدي، مجلة العميد، السنة الرابعة المجلد الرابع، العدد الرابع ، 2015م: 21- 24
([50]) شرح خطبة الزهراء (عليها السلام): 220
[51])) التوبة : 128
([52]) شرح خطبة الزهراء (عليها السلام): 280
([53]) شرح خطبة الزهراء (عليها السلام) : 304
( ([54]شرح خطبة الزهراء (عليها السلام): 17
([56]) شرح خطبة الزهراء (عليها السلام): 355- 356
([59]) شرح خطبة الزهراء (عليها السلام) : 386- 387
([60]) آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، د.محمود أحمد نحلة، دار المعرفة الجامعية، كلية الآداب جامعة الاسكندرية،2002م: 69.
([61]) ينظر: مدخل إلى علم النص ومجالات تطبيقه،: ٩٦.
([62]) عندما نتواصل نغير مقاربة تداولية معرفية لآليات التواصل والحجاج، عبد السلام عشير، افريقيا الشرق- المغرب، 2006م:71.
[64] ابراهيم : 8
[65] شرح خطبة الزهراء (عليها السلام): 386