مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
الإِحَاْلَــةُوَأَثَــرهُافِـيْ الْتَّمَاْسُكِ الْنَّصيّ دِاْرَسَةٌ فِيْ الْخـطْبَةِ الْفَــدَكِيْةِ / م.م أحمد موفق مهدي
+ = -

                   الإِحَاْلَــةُ وَأَثَــرهُا فِـيْ الْتَّمَاْسُكِ الْنَّصيّ

دِاْرَسَةٌ فِيْ الْخـطْبَةِ الْفَــدَكِيْةِ

                                                    م.م أحمد موفق مهدي

﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

   الملخص

   هذا بحثُ يتناولُ الإِحَاْلَــةَ وَأَثَــرهَا فِـيْ الْتَّمَاْسُكِ الْنَّصيّ دِاْرَسَةٌ فِيْ الْخـطْبَةِ الْفَــدَكِيْةِ، وقد اقتضت خطة البحث أَن يكون في ثلاثةِ مباحث هي: الإِحَاْلَةُ لُغَةً وَصْطِلَاْحَاً، وأَقْسَاْمُ الإِحَاْلَةِ وَتَجَلِيَّاْتِهَا فِيْ الْخِطْبَةِ الْفَدَكِيّةِ، وَسَاْئِلُ الإِحَاْلَةُ فِيْ الْخِطْبَةِ الْفَدَكِيّةِ، وقد تمخضتْ الدراسةُ عن جملةٍ من النتائجِ منها :الإحالةُ إحدى عناصر التَّماسك اللُّغوي التي لها دور بارز في ربطِ أجزاءِ النَّصِ وجعله متماسكاً، فالإحالة على اختلاف أنواعها، تخلق علاقاتٍ معنويَّةً تكتسبُ دلالتَها ممَّا تُشيرُ إليه، وأنَّ البحث َأسفر عن الأحالة هي عملية معنوية، يُنشؤها المتكلِّمُ في ذهنِ المخاطَب، عن طريق إيراده ألفاظًا مبهمةَ الدِّلالة، يُشيرُ بها إلى أشياء، أو مواقف، أو أشخاص، أو عبارات، أو ألفاظ خارج النَّص، أو داخله، سابقة عليها أو لاحقة، في سياق لغوي، أوغير لغوي، يُقصدُ بذلك الاقتصادَ في اللفظ، وربطِ اللاحق بالسابق والعكس ، بما يحقق الاستمرارية والتماسك في النَّص، وبيَّنت الدَّراسة للخطبةِ الشَّريفةِ جمالية النَّص؛ وذلك في ضوء دقة الألفاظ، وحسن ترتيبها في نسقٍ معينٍ، وتماسكها تماسكاً نصياً قلَّ نظيره.

                                        المقدمــة

    الحمدُ للهِ جلَّت أسماؤُه، وسمتْ أوصافُه، الذي علَّم الإنسانَ، وشرَّف العربيَّةَ بنزولِ القرآن، وأفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليمِ على النَّبيِّ الأمينِ، الذي فتحَ أبوابَ العلمِ والرحمةِ للعالمينَ، وعلى غصنِ دوحتهِ، وأوَّل مَنْ صَدَّقَ برسالتهِ، وعلى الصدِّيقةِ الزهراءِ البتولِ، وعلى الذريّة الطاهرة، مِنْ ولدِهم أجمعينَ.

    أمَّا بعدُ:

  إنَّ المتأمِّلَ لتراثِ العربيةِ، يَجِدُ أنَّ النَّحُاة هم الذِّين حَمَلوا على عاتقهم دارسة الجملة من النَّاحيةِ الوضعيةِ، فصاغوا قواعدها، واستقصوا أنماطها، ولكنَّهم وقفوا عند حدود الجُمَلِ في دارساتهم وتحليلاتهم، ولم يتجاوزوها، في الوقت الذي اشتغل فيه علماء اللغةِ بالبحثِ في الكيفيةِ التي بها يتماسك النَّصّ اللغوي، فيُكَّونُ بذلك نصَّاً مُتّسِقاً، ومِنْ ثَمَّ اهتموا باستخراج الوسائل، والعلائق، والأدوات التي تُسْهِمُ في تحقيق سمة النَّصيَّة للنَّصِ اللغوي، إذ جعلته (النَّص) كأَنَّه واحدٌ مُوحدٌ على الرغمِ مِنْ الاختلافِ الذي يقع فيه، فيكونُ وحدةً واحدةً يتاربطُ بعضها ببعضٍ، وتتعلّقُ أجازئهُ على نحوٍ تكامليّ إذ لا يستقلُ منه جزء عن الآخرِ .

   ومن الأدوات التي تُسْهمُ مع غيرهِا في تحقيق تماسك النَّص اللغوي، واتساقه أداته التي تقوم بدورٍ أساس في ربطِ أجزاء الجملةِ الواحدة من ناحيةٍ، وربط عدَّة جُمَل بعضها مع بعضٍ مِنْ ناحيةٍ أُخرى، إذ يتكوَّن نصاً، أو خطاباً شاملاً.

   ويسعى البحث في مداخلته المتواضعة، تبيين دور الإحالة وأثرها في تلاحمِ النَّصِ اللغوي انطلاقاً من جملةٍ من الشواهد المنتقاة من الخطبة الفدكية للسيدة الزهراء (ع).

  إذْ نطرح جملةً من الإشكالات تَتَمَثَلُ في ما يأتي :

ــــــ ما مفهوم الإحالة النَّصية لغةً واصطلاحاً؟

ــــــ  ما أثر الإحالة في الإسهام في تحقيق التَّماسك النَّصي للخطبةِ الشريفةِ، واتساق نصها، وخلق سمة النَّصيّة فيها ؟.

المبحث الأول / الإِحَاْلَةُ لُغَةً وَصْطِلَاْحَاً

مفهوم الإحالة : تتضمن الإحالةُ مفهوميّن :

  1 ــــ المفهوم اللغويّ

  الإحالةُ مصدرٌ من الفعلِ (أَحال)، وهذا المصدر يدلُّ على التَّحولُ ونقلُ الشيء إلى شيءٍ آخر، فقولنا أَحلتُ الشيء عن مكانه أي: حوَّلته عن مكانه .

  وفي القاموس المحيط أَحال الشيء أو حاله أي: تحوَّل([1])، وفي تاج العروس أحال الشيء:

 تحوَّل من حالٍ إلى حالٍ، أو أحال الرَّجل: أي تحوَّل من شيء إلى شيء([2])، وفي المعجم الوسيط أَحالتُ الدَّار أي: تغيَّرت، وحال الرَّجل أي: تغيَّر من حالٍ إلى حالٍ، وأحاله نقل الشيء إلى غيرهِ([3]).

  وفي ضوء ما تقدَّم تبيَّن أنَّ أغلب المعاجم العربية متفقة على معنى واحد للإحالة هو التغيَّر، أو التَّحول.

  2 ــــ المفهوم الاصطلاحي :

  التَّغير والتَّحول معنيان ليسا بعيدين عن المعنى الدَّلالي للحالة النَّصية؛ لأنَّ الإحالة في

 العُرف اللساني تدلُّ على العلاقة القائمة بيّن معنى وآخر، أو بيّن تركيب وآخر ، فاللفظ

 المُحِيل هو الذي يُحِيلَنَا على المعنى الدَّلالي لذات اللفظ، أو إلى ما أَحال إليه (مُحِيلَهُ) ،

وهذا ما يدلُّ على التَّغير أو التَّحول عن الجهة([4]) .

  وجاء في لسان العرب :” المُحَال من الكلامِ : ما عَدَلَ به عن وجهه ، وحوَّله جعله محالاً، وأحَال أتى بمُحَالٍ، ورجلٌ مِحْوَالٌ : كثير مِحَال الكلام … ويُقَالُ أَحلتُ الكلام أَحِيلَه إحالة إذا أفسدته، و… المُحَال الكلام لغير شيء … والحِوَالُ : كلُّ شيءٍ حال بيّن اثنين …حال الرَّجل يحول تحوَّل من موضعٍ إلى موضعٍ “([5]) .

  وإنَّ كلمةَ ” أحال ” تستعمل لازمة ومتعدِّية ؛ وٕاذا تعدَّت فإنَّها تَعنِي نقل الشَّيء من حالٍ إلى حالٍ أخرى، وتعني توجيه شيءٍ أو شخصٍ على شيءٍ أو شخصٍ آخر لجامعٍ يجمعُ بينهما ، كَمَا تجوزُ الدَّلالة بها على المعنى الاصطلاحي الّذي يُحيلُ فيه العنصر الإحالي على عنصرٍ

 إشاري يفسره ويحدّد دلالته([6]) .

  والإحالةُ ما يُعرفُ في اللغةِ الإنجليزيةِ بـ( Referenc)  ربُّمَا تُرجِمَ هذا المصطلح بـ(الإشارةِ)، ولا ضيرَ في ذلك من النَّاحيةِ اللُّغوية المحضة، بيدَ أنَّه قد يُسبّب مشكلة منهجية، لِالتباسه بما يُعرَفُ في العربية بأسماء الإشارة التي هي أداة من أدوات الإحالة، ومن هنا يمكنُ القولُ بأنَّ العلاقةَ بيّنَ الإحالةِ والإشارةِ علاقةُ عام بخاصٍ، إذ كُلُّ إشارةٍ إحالةٌ وليست كُلُّ إحالةٍ إشارة .

  والإحالة مصطلح لم يُتَّفقْ على تعريفه أكاديمياً سوى ما نجده مبثوثاً في الكتب التي عُنيت باللسانيات النَّصية، وهذا من محددات تقوم عليها هذه الأخيرة.

    وعدم الاتفاق على تعريف للإحالة راجع إلى :

   إنَّ الإحالةَ معنى قديم ترعرع في نحو الجملة ليصير أكثر تعقيداً بمجيء نحو النَّص،

 وذلك ممَّا أضفاه نحو النَّص من عناصر، ومحددات تتمُّ من خلالها الإحالة باعتبارها أهم عنصر من العناصر الأتساقية في النُّصوص.

  وأشار دي بوجراند في تعريفه للإحالة إلى أنّها:” العلاقات بين العبارات، والأشياء والأحداث والمواقف في العالم الخارجي الذي تشير إليه العبارات ذات الطابع البدائلي في نصٍ ما “([7]).

  وجاء في تعريفِ جون لاينز للإحالة :”إنَّ العلاقةَ القائمةَ بين الأسماء والمسميات هي علاقة إحالة ، فالأسماء تُحيلُ إلى المسميات”([8]) .

  ويُلاحظ أنَّ هذا التعريف هو أقرب إلى مصطلح (الإشارة) منه إلى (الإحالة) .
  بيدَ أنَّه استدرك ذلك فيما بعد قائلاً :”إنَّ المتكلّم هو الذي يُحيلُ باستعماله لتعبير مناسب ، أي أنَّه يُحمِّل التعبير وظيفة إحالية عند قيامه بعملية إحالة”([9]).

   فالمتكلم أو الكاتب هو الذي يُحمِّل التعبير دلالة تكشف عن وظيفة إحالية .
  وفي الإحالةِ يشيرُ الكاتبُ أو المتكلمُ إلى أنَّ حَدَثاً ما، أو شيئاً ما ارتبطَ بشيءٍ آخر، تقدّمَ، أو سيأتي ذِكرُه، لكن لم يذكره الكاتبُ، أو المتكلم في هذا الموقف، بل يُكَنِّي عنه بلفظٍ مبهمِ الدِّلالة مثلَ الضميرِ، أو اسمِ الإشارةِ، أو الموصولِ، دون ذكرِهِ صراحةً.

  غير أنَّ كلماير يُقدِّم تصوّراً أكثر وضوحاً، إذ يذهب إلى أنَّ الإحالة هي العلاقة القائمة بين عنصر لغوي يُطلق عليه: (عنصر علاقة)، وضمائر يطلق عليها:(صيغ الإحالة) .

  وتقوم المكوِّنات الاسمية بوظيفة عناصر العلاقة، أو المفسر أو العائد إليه، ويُمكِنُ أن يسمَّى أيضاً(عنصر إشارة (، فكلَّما اتّسع مفهوم الإحالة زادت العناصر القائمة بتلك الوظيفة، مثل: هناك، وتبعاً لذلك، وحيث، وإذ…، التي تعد في النحو التقليدي من الظروف([10]) .
  وفي ضوء ما تقدم يُمكن القول بأنَّ الإحالة: عملية معنوية ، يُنشؤها المتكلِّمُ في ذهنِ المخاطَب، عن طريق إيراده ألفاظًا مبهمةَ الدِّلالة ، يُشيرُ بها إلى أشياء، أو مواقف، أو أشخاص، أو عبارات، أو ألفاظ خارج النصّ، أو داخله، سابقة عليها أو لاحقة ، في سياق لغوي، أو غير لغوي، يُقصد بذلك الاقتصادَ في اللفظ، وربطِ اللاحق بالسابق والعكس ، بما يحقق الاستمرارية والتماسك في النَّص([11]).

  وهذا يعني إنَّ فهم العناصر الإحالية التي يتضمنها نصٍ ما يقتضي أن يبحث المخاطب في مكانٍ آخر داخل النَّص أو خارجه، وتتحقق الإحالة في العربية بالضمائر بأنواعها، وأسماء الإشارة، والموصولات، والمقارنة أو التشبيه .

  وفي ضوء ما تقدم يتبيَّن أنَّ الإحالة في علم اللغة النَّصي هي وسيلة من وسائل ربط أجزاء النَّص وتماسكه، ويتمُّ ذلكَ عن طريقين([12]) :

1 – مباشر: هو القصد الدلالي إلى ما يشير إليه اللفظُ مباشرةً، فالعنصر المُحِيلُ والمُحَالُ إليه لابُدَّ مِنْ أن يكونا بارزَيْنِ من دونِ حاجةٍ إلى التأويل.

2 – تأويل: وذلكَ في حالةِ عدم وجود المُحال إليهِ بشكلٍ مباشرٍ داخل النَّص.

  وتتحقق أهميّة الإحالة في تحقيقِ التَّماسك الدَّلالي للنَّصِ؛ لأنَّها تُمَثِلُ رابطاً دلالياً لا يُطابقهُ رابط بنيوي آخر([13]).

  والإحالةُ عند النحويينَ والبلاغيينَ أكثرُ من تسميةٍ، منها(التعليق) قال سيبويه في تعليله جزم جواب الجزاء: ” وإنَّمَا انجزم هذا الجواب كما انجزم جواب إنْ تأتني، بـ (إنْ تأتني)؛ لأنَّهم جعلوه معلقاً بالأولِ غيرَ مستغنٍ عنه، إذا أرادوا الجزاء “([14]) .

  وقَالَ الشَّيخ عبد القاهر الجرجاني في مدخله الذي يفسر الإعجاز؛ بأَنَّهُ وجودُ النَّظمِ، وأَنَّ

 النَّظم يتضمن تعليق الكَلِمِ بعضها ببعضٍ، وجَعَلَ بعضها بسببٍ من بعض([15]) ، ويتحدد مفهوم الإحالة لسانيَّاً بوظيفةٍ مجموعةٍ من العناصرِ اللغوية التي تتضمَّن خاصية الإحالة في الرَّبطِ بين أجزاء الجملة الواحدة، أو النَّص الواحد نحوياً ودلالياً، مثل الضمائر، وأسماء الإشارة، وظروف الزمان والمكان… وغيرها.

   وميدان الإحالة إِمَّا أن يكونَ: داخلَ الجملة الواحدة، كإحالة الضمير على ما يعود عليه وتُسمَّى بالإحالةِ النَّحوية التي تؤديها الضمائر، أو يكون داخل النَّصِ بين الجُمَلِ؛ وتُسمَّى إحالةً نصّيَّة([16]) .

المبحث الثاني / أَقْسَاْمُ الإِحَاْلَةِ وَتَجَلِيَّاْتِهَا فِيْ الْخِطْبَةِ الْفَدَكِيّةِ

  وتُقسَمُ الإحالةُ على قسمينِ رئيسينِ :([17])

  1. ـــ الإحالةُ النَّصيةُ  )داخل النَّص )  .Endophora

    2ـــ الإحالةُ المقاميةُ  )خارج النَّص .Exophora (

   1ـــ الإحالة الدَّاخلية )داخل النَّص ( ، وتُسَمَى )النَّصيَّة ).Textual

  وهي الإحالة التي تُرَكِّزُ على العلاقاتِ اللغويَّةِ في النَّصِ ذاته، وقد تكون بيّن ضمير وكلمة، أو بيّن كلمة وكلمة، أو بيّن عبارة وكلمة([18])، أو هي إحالةُ العناصرِ الواردة في الملفوظ سابقةً كانت أم لاحقةً، فهي إحالةٌ نصيَّةٌ، وتنقسم بدورها على قسمينِ([19]).

  أ ــ الإحالةُ القبليةُ (إحالةٌ على السابقِ): وهي الأكثرُ استعمالاً، وتقتضي العودة إلى

الوراء؛ لتحديد مرجع الإحالة، إذ إنَّها تعود على مفسَّرٍ سبق التلفظ به([20])، وتُحَقِّقُ اهتمامَ المتلقي، واسترجاعاً مقبولاً للمعنى مع إضفاء صفة الاقتصاد اللغويّ في النَّصِ([21]) .

   ومِنْ الشواهد الإحالة القبلية ما وَرَدَ في خطبة السيدة فاطمة الزهراء (ع) في معرضِ حديثهاعن كمالِ التوحيد للهِ تعالى،والإخلاصِ له متجسداً في قولها(ع):“كَلِمَةٌ جَعَلَ الإخْلاصَ تَأْويلَهَا، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَهَا، وَأَنارَ في الْفِكَرِ مَعْقُولَهَا”([22])، فضمير المتصل )الهاء(  في الكلمات ) تَأْويلَهَا، مَوْصُولَهَا، مَعْقُولَهَا( يُحيلُ إلى لفظةٍ متقدمةٍ عليه، وهي لفظة ) كَلِمَةٌ(، وهذه هي الإحالة نصيِّة )قبلية( .

  والمقصود من لفظةِ ( َكلِمَةٌ ) في هذا المقطع من خطبتها(ع)، هي كلمةُ التوحيد التي يعود معناها على الإخلاصِ للهِ تعالى، وقيل: إنَّ المقصود من الإخلاصِ هو جعل الله تعالى خالصاً من النَّقائصِ كالجسم والعِرْضِ، وما شاكلهما من النقائص، وكمال الإخلاص لله تعالى هو نفي الصفات عنه؛ لأنَّ كلَّ موجود متصف بصفاتٍ([23]) ، ولمَّا كانت كلمةُ التوحيد هي مدار النَّص في هذا المقطع من خطبتها (ع) كان ربط النَّص بهذه اللفظة (كلمة)، والتي تدلُّ على شغفِ السيدة البتول بعبادةِ المعبود على أتمِّ، وأحسنِ، وأكملِ صورة مع كلِّ تلك المصائب التي ألمَّت بها (ع) .

  واذكر إنموذجاً ثانياً للإحالةِ القبليَّة التي تتجسدُ في قولِها (ع) وهي تتحدث عن أبيها النَّبي المرسل محمد (ص) : “فَرَأى الأُمَمَ فِرَقاً في أدْيانِها، عُكَّفاً على نيرانِها، عابِدَةً لأَوثانِها، مُنْكِرَةً لله مَعَ عِرْفانِها، فَأَنارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله ظُلَمَها، وكَشَفَ عَنِ القُلُوبِ بُهَمَها، وَجَلّى عَنِ الأَبْصارِ غُمَمَها، وَقَامَ في النّاسِ بِالهِدايَةِ، وأنقَذَهُمْ مِنَ الغَوايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ العَمايَةِ، وهَداهُمْ إلى الدّينِ القَويمِ، وَدَعاهُمْ إلى الطَّريقِ المُستَقيمِ”([24])، فضمير المتصل(الهاء) في الكلمات )أدْيانِها، نيرانِها، لأَوثانِها، عِرْفانِها، ظُلَمَها (يُحيلُ إلى لفظةٍ متقدمةٍ عليه، وهي لفظة (الأُمَمَ) ، وإنَّ هذه الإحالة وحدَّت النَّصَ، وجعلته نصاً متماسكاً متصلاً بعضه ببعضٍ بصورةٍ واضحةٍ وسهلةٍ بعيدة عن التعقيدِ، بل هذه الإضافة أضفتْ موسيقى جميلة للنَّصِ، وهذه الموسيقى تطرق الإذهان؛ لِتُبيِّنُ أنَّ الرَّسولَ (ص) رأى الأُمَمَ فرقاً وأدياناً مختلفة ومتنوعة، فمنهم اليهود, والنَّصارى, والصابئة, والملاحدة, والوثنيون, والزنادقة, والمحبوس, وغيرهم، وهولاء كلِّهم كانوا مواضبين على عبادتهم للأصنامِ التي يصنعونها من الحجارةِ أو الخشبِ، أوغيرها، فيركعون ويسجدون لها بقصد العبادة، فقد كان داخل مكة ما يُقارب 360 صنماً، فلكلِّ صنمٍ شيء يماثله، فهذا للزرعِ, وهذا للرزقِ, وهذا للماءِ …، وهم يعبدونها دون الله، بل يقدمون لها القرابين وينذرون لها النذور ويقدمون الهداية إلى من لا يملك نفعاً ولا ضراً، فهذه الإحالة بيَّنتْ كيف كان حالهم قبل مجيء أبيها (ص)، وكيف أصبحوا بعد الرَّساله إذ تقول (ع) : (فَأَنارَ اللهُ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله ظُلَمَها، وكَشَفَ عَنِ القُلُوبِ بُهَمَها،وَجَلّى عَنِ الأَبْصارِ غُمَمَها) ، ومن يتتبع هذا النَّص يجدُ أنَّ السيدة الزهراء (ع) استبدلت المُحال عليه (الأمم) بـلفظة (الناس)، فلم تقل (ع) (وقام فيها)، ولا(بصرها، وهداها، ودعاها)؛ ولعل السبب في ذلك أنَّ السيدة الزهراء (ع) كانت تَقْصِدُ أنَّهم كانوا قبل مجيء الرَّسول أُمم متفرقة في عبادتها، وعندما جاء الإسلام، ودخلت هذه الأُمم تحت عباءة الإسلام، فاصبحوا أمة واحد، وهي أمَّة الاسلام؛ لذا أُحيل الضمير (هم) على النَّاس وهي مجموعة واحدة خاضعة لحكم أبيها (ص)([25])، فهذه هي الإحالة نصيَّة )قبليَّة( .

   ب – الإحالة البعدية (إحالة على اللاحق): وهي تعود على عنصر إشاري مذكور بعدها

في النَّصِ لاحقاً عليها([26]) .

   وهي إحالة اللاحق الذي لم يُذْكَرْ بعدُ، فإنَّما هي مثيرة لذهن المتلقي، إذ يوجد لفظ كنائي ولم يسبق وجود مرجعه، والمفترض أن يَبقى المتلقي يقظاً باحثاً عن مرجعِ الضمير([27])، وهذه

الإحالة أقلُّ من سابقتها استعمالاً وشيوعاً([28]) .

    ونجدُ مثل تلكَ الإحالة في قولها(ع): “أَنْتُمْ عِبادَ الله نُصْبُ أمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَحَمَلَةُ دينِهِ وَوَحْيِهِ، وِأُمَناءُ اللهِ عَلى أنْفُسِكُمْ، وَبُلَغاؤُهُ إلى الأُمَمِ”([29])، إحالة الضمير المنفصل (أَنْتُمْ) إحالة بعدية على العنصر الإشاريّ (عِبادَ الله)، أي أنَّ الضمير تقدم على المحيل، وفي ضوء هذه الإحالة تحقق الربطُ الإحاليُّ في النّصِ.

  2ـــ الإحالة المقاميَّة أو السياقة ((Exophora : وهي من أشكال الاعتماد السياقي التي تُسهمُ في ربطِ النَّصِ بالسياقِ الخارجي )سياق الموقف(، إذ يكون العنصر المشار إليه المرجع محدَّداً خارج النَّص )سياق الموقف)([30])،أَيّ بمعنى “إحالة عنصر لغوي إحالي على عنصر إشاري لغوي موجود في المقامِ الخارجي “([31])، والإحالة المقامية، لها دورٌ فعَّالٌ في خلقِ النَّصِ، فهي تربط اللغة بسياقِ المقامِ، إلَّا أنَّها لا تُسْهِمُ في اتّساقِهِ بشكلٍ مباشرٍ([32]).

  كما أنَّها تعني العنصر المشار إليه المحدد في السياق، ويتوقف هذا النَّوع من الإحالة على سياق الحال، أو الأحداث أو الموقف التي تحيط بالنَّصِ([33]) ، وأدوات الإحالة المقامية هي : “نحن، وأنت، وهي، وهم” ([34]) ، وهذه الأدوات هي ليس كلّ أدوات الإحالة المقامية، بل تشمل أي عنصر إحالي يُشِيرُ إلى خارج النَّص ، كـ(أنا، ونا، وهذا، وأنتم…)، وتتميز الإحالة السياقية بوجود الخصائص الدَّلاليه بين المُحِيل والعنصر المُحَيل إليه، وذلك من حيث التذكير والتأنيث، والإفراد والتثنية والجمع([35])، وإذا يممنا أبصارنا نحو الخطبة الشريفة نجدُ أنَّ إلاحالة المقامية تتمثل في قولها (ع): “أيُّها النّاسُ! اعْلَمُوا أنِّي فاطِمَةُ، وَأبي مُحمَّدٌ (ص)، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلا أقُولُ ما أقُولُ غَلَطاً، وَلا أفْعَلُ ما أفْعَلُ شَطَطاً “([36])، في هذا النَّص من الخطبة الشريفة عدَّة إشارات تُحِيْلُ خارج النَّص وهي تعود على ذاتها المقدسة (ع) من خلال ياء المتكلم في (أنِّي)، والضمير المستتر (أنا) المُحالين إلى الزهراء (ع) في الفعلين (أَقُوْلُ، وأَفْعَلُ)، وكلا الضميرين أوجدا نوعاً من الترابط الدَّلالي بيَّن الأَفعالِ التي وردت في خطابها (ع)، وما تريد إعلامه للمخاطب، وهو إثبات علو شأنها ومنزلتها الثابتة في القرآن والسُنّة القطعييتين، فهي (ع) من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً؛ إذ لا يُعقَلُ أن تقول أو تفعل شططاً، وكلا الضميرين يختصانِ بالإحالةِ المقامية؛ لأنَّهما مختصان بالمتكلم، وهو الذي أوجد النَّص وخلقه .

  والمُلاحَظُ في هذا النَّصِ أنَّ السيدة الزهراء (ع) في ضوء هذه الإحالة أشارت إلى أنَّ كلامها من بدايتِهِ إلى نهايتِهِ لا تُجانِبُ فيه الحق والحقيقة، ولا تَنطِقُ بباطلٍ من كذبٍ أو مغالطةٍ أو خديعةٍ، وكذلك أفعالها (ع) لم تحيد فيها عن الصراط السوي ولو قيد شعرة؛ والسبب يعود في ذلك؛ لأنّها تلك المرأة المعصومة، والمسددة من قبل السماء الذي يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها، فأنّى يأتي لها الخطأ في الكلام من كذبٍ وخديعةٍ ومغالطةٍ ؟ وكيف تتكلم بالجور والظلم والتجاوز عن الحدِّ وهي بنت أرحم من خلق الله تعالى ألَّا وهو نبي الرحمة محمَّد (ص)؟؛ لذلك نجد أنَّ السيدة الزهراء (ع) أحالت أكثر من مرة لإثبات فعل

 القول على المتكلم، حتى يجلب انتباه المتلقي، ويُهيئ ذهنه لِمَا سيقوله الخطيب  .

  ومن قولها (ع) أيضاً: ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا الاّ رَيْثَ أنْ تَسْكُنَ نَفْرَتُها، وَيَسْلَسَ قِيادُها ثُمَّ أَخّذْتُمْ تُورُونَ وَقْدَتَها، وَتُهَيِّجُونَ جَمْرَتَها، وَتَسْتَجِيبُونَ لِهِتافِ الشَّيْطانِ الْغَوِيِّ، وَاطْفاءِ أنْوارِ الدِّينِ الْجَلِيِّ ، وَاهْمادِ سُنَنِ النَّبِيِّ الصَّفِيِّ”([37])، أحالتْ السيدة الزهراء (ع) كلمة (نفرتها) على عنصرٍ غير لغويّ موجود في المقامِ الخارجي الذي لم يظهر بصورةٍ خطيَّة في النَّصِ، وهو النَّاقة الصعبة التي لايمكن قيادتها، هذا ما يمكن استنباطه من فحوى النَّصِ، وهذا كناية عن إنَّهم شَرَعُوا باشعالِ الفتن بعد أن كانت هذه الفتن خامدة، فأشعلوها بعد وفاة الرسول الأعظم (ص)، فاشعالهم الفتن كالذي ينفخ في الجمرة حتى تلتهب, أو كالذي يُحَرِكُ الجمرة حتى تشتعل وتظهر نارها, فعندها تحرق الأخضر واليابس, وهذا يؤدي إلى شدَّةِ ما سيقع المسلمونَ به من أذى، فهم عُرضة للسقوطِ في أيِّ وقت، وهذا الخطاب كان للمسلمين عامة، ولكنَّها (ع) عندما وجهت الخطاب للأنصار أحالتْ (ع) بإحالةٍ خارجية على النَّاقة العاجزة التي وصفتها (ع) بـ(دَبِرَةَ الظَّهْرِ، نَقِبَةَ الْخُفِّ)([38])، وهذه أشارة إلى الذُّلِ والهوان القادم عليهم.

المبحث الثالث / وَسَاْئِلُ الإِحَاْلَةُ فِيْ الْخِطْبَةِ الْفَدَكِيّةِ

  وسائل الإحالة : تنوعت وسائل الإحالة، وقد جاء ذلك التنوع في خطبةِ السيدةِ الزهراءِ (ع)، فجاءت بالضمير، واسم الإشارة، واسم الموصول، والمقارنة، إلَّا أنَّ الإحالة بالضمائر كانت أكثر حضوراً.

  1- الإحالة الضميرية:شغلَ الضميرُ حيِّزاً واسعاً في ربطِ الكلامِ، واتساقه في النَّصِ اللغويّ، فهو مِنْ الوسائلِ التي تُحققُ التَّماسكُ الشَّكلي والدَّلالي، وتشكِّيلُ المعنى وإبرازه يعتمد على وضع الضمير داخل النَّص، فالضمائرُ تُكَوِّنُ مع غيرها من الوسائلِ نسيجاً نصيَّاً عالي الدَّقة والمتانة([39])، إذ أنَّ أكثر الحالات التي يتكون فيها الكلام من جملتين أو أكثر تحتاجُ إلى ضميرٍ، ويكون الضمير على ثلاثة أنواع : ضمير المتكلم ، وضمير الغائب ، والمخاطب ، وتنقسم كل هذه الضمائر الى متصلة ومنفصلة .

   وَيَجِدُ القارئُ أنَّ الإحالةَ بالضمائرِ لها حضورٌ واضحٌ في خطبةِ السيدةِ الزهراءِ (ع)،

 فتقول(ع) في أفتتاحها للخطبها: “الْحَمْدُ للهِ عَلى ما أنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ على ما أَلْهَمَ، وَالثَّناءُ بِما قَدَّمَ، مِنْ عُمومِ نِعَمٍ ابْتَدَأها، وَسُبُوغ آلاءٍ أسْداها، وَتَمامِ مِنَنٍ والاها “([40])، إنَّ السيدة الزهراء (ع) أفتتحت خطبتها الشريفة بالحمدِ، إذ قالت: (الْحَمْدُ للهِ عَلى ما أنْعَمَ)، وهذا الحمدُ خصتهُ باللهِ تعالى؛ لأنَّ شكر المنعم واجباً شرعاً، وعقلاً، وعرفاً، فالله سبحانه وتعالى يستحق الحمد على ما أنعمه من نِعَمٍ ظاهرة أو باطنة، فالسيدة الزهراء (ع) سائرةٌ في هذا على نهجِ القرآنِ الكريمِ، وبالتَّحديد سورة الفاتحة التي أُفتتح بها القرآن الكريم، إذ قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾([41]), ثمَّ جاءتْ (ع) بالفعلِ الماضي بعدةِ أفعالٍ وهي : (أنْعَمَ، أَلْهَمَ، قَدَّمَ، ابْتَدَأها، أسْداها، والاها)، وكل فعل من هذه الافعال تتضمَّن ضمير مستتر يعود على لفظ الجلالة مِنْ بابِ الإحالةِ النَّصيَّة، التي تقتضي أن يكون المُحال عليه واضحاً غير مجهولٍ، فالملاحظ أنَّ كلامها (ع) كان موجه الى النَّاس؛ لذلك جاءتْ (ع) بالضميرِ الغائبِ المستترِ (هو) العائد على الذاتِ المقدسةِ (الله) عزَّ وجلَّ الذي يعرفه القاصي والداني ممَّن حَضَرَ وسَمَعَ لخطبتها (ع)، فالذي يَتَلَّقَى كلام السيدة الزهراء (ع) في هذا المقطع الشريف يفهم أنَّ الضمير (هو) عائد الى لفظِ الجلالةِ؛ وذلك في ضوء ذكرها للفظ الجلالة في بدء الكلام فهو الاسم المفسر للضمير والمعين لمرجعه .

  وقولها(ع) في نصٍ آخرٍ : ” اِبْتَدَعَ الأَشَياءَ لا مِنْ شَيْءٍ كانَ قَبْلَها، وَأَنْشَأَها بِلا احْتِذاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَها، كَوَّنَها بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَها بِمَشِيَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ حاجَةٍ مِنْهُ إلى تَكْوينِها، وَلا فائِدَةٍ لَهُ في تَصْويرِها “([42])، إنَّ السيدة الزهراء (ع) أحالتْ على لفظةِ (الأشياء) بأكثرِ من محيلٍ وهي: (قَبْلَها، وَأَنْشَأَها، كَوَّنَها، تَكْوينِها، تَصْويرِها)، فالضمائر المتصلة (الهاء) في الكلمات السابقة التي عادة على لفظةِ (الأشياء) عادت على لفظةٍ واضحةٍ قد ذكرتها السيدة الزهراء (ع) قبل أن تأتي بهذه الضمائر، ولعلَّ السبب في كثرةِ هذه المحيلات هو بيان قدرته تعالى الذي يُكوّن الأشياء بقدرته, ويبتدع الأشياء من العدم لا من شيء كان قبلها، فضلاً عن أنَّ تكرار الاسم يؤدي إلى المللِ لدى السامع، ناهيك عن موقف الخطبة الذي لا يسمحُ بهذا التكرار، إذ أرادتْ (ع) أن تحمل أكبر قدر من المعاني التي أفصحتْ عنها, وإنَّ هذا الايجار لم يكن الغاية الوحيدة للإحالة, فثمة معانٍ أخرى حققتها الإحالة غير الإيجاز, كتسهيل الحفظ, وتقريب الفهم، والإختصار في الكلام التي تميل إليه اللغة العربية، وما شاكل ذلك.

  وقد تكون الإحالة بالضمير المستتر كما في قولها (ع):أيُّها النّاسُ اعْلَمُوا أنِّي فاطِمَةُ، وَأبي مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلا أقُولُ ما أقُولُ غَلَطاً، وَلا أفْعَلُ ما أفْعَلُ شَطَطاً… وَلَنِعْمَ الْمَعْزِيُّ إلَيْهِ صَلى الله عليه وآله، فَبَلَّغَ الرِّسالَةَ صادِعاً بِالنِّذارَةِ، مائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأكْظامِهِمْ، داعِياً إلى سَبيلِ رَبِّهِ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنةِ، يَكْسِرُ الأَصْنامَ، وَيَنْكُثُ الْهامَ”([43])، يجدُ القارئُ في هذا النَّصِ إحالات عدَّة مِنْ خلالِ الضمير المستتر (هو) في الفعل الماضي (بَلَّغَ)، والفعل المضارع (يَكْسِرُ، وَيَنْكُثُ)، واسم الفاعل (صادِعاً، مائِلاً، ضارِباً، آخِذاً، داعِياً)، وكُلُّ هذه الضمائر مُحالة على الرَّسولِ محمد (ص)، وهذه الإحالات التي حصلتْ ادَّت إلى عدم التكلف من قبل منشئ النَّصِ ؛ وذلك في ضوء عدم تكرار الاسم المُحال عليه وهو المصطفى محمد (ص)، وهو الفاعل في المعنى، ولايُستَتَرُ في المضمراتِ إلَّا الفاعل([44])؛ لأنَّ الاسم الدال عليه والمفسر له متقدم  في الأصل.

  وتكون الإحالة بالضمير الظاهر المتصل كقولها (ع):”مَعاشِرَ النّاسِ المُسْرِعَةِ إِلى قِيلِ الباطِلِ، المُغْضِيَةِ عَلى الفِعْلِ القَبيحِ الخاسِرِ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلوبٍ أَقْفالُها﴾ ([45])كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلوبِكُمْ ما أَسَأتُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ، فَأَخَذَ بِسَمْعِكُمْ وَأَبْصارِكُمْ، وَلَبِئْسَ ما تَأَوَّلْتُمْ، وَساءَ ما أَشَرْتُمْ، وشَرَّ ما مِنْهُ اعتَضْتُمْ، لَتَجِدَنَّ وَاللهِ مَحْمِلَهُ ثَقيلاً، وَغِبَّهُ وَبيلاً إِذا كُشِفَ لَكُمُ الغِطاءُ، وَبانَ ما وَراءَهُ الضَراءُ، وَبَدا لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ما لَمْ تَكونوا تَحْتَسِبونَ، ﴿وَخَسِرَ هُنالِكَ المُبْطِلونَ﴾([46])([47])، فالضميران (الكاف)، و(التاء) الظاهران المتصلان في الكلمات )قُلوبِكُمْ)، (وأَسَأتُمْ)، و(أَعْمالِكُمْ)، و(بِسَمْعِكُمْ)، وَ(أَبْصارِكُمْ)، و(تَأَوَّلْتُمْ)، و(أَشَرْتُمْ)، و(اعتَضْتُمْ)، و(لَكُمُ)، و(رَبِّكُمْ (أحالا على مرجعٍ واحدٍ، وهو(مَعاشِرَ النّاسِ)، وهي إحالة قبلية عائدة على لفظٍ سابقٍ، وهو ما أدَّى إلى ربطِ أول الكلام بآخره من غيرِ حاجةٍ إلى إعادة الاسم نفسه مرة اخرى، فكلُّ هذه الإحالات أدَّت إلى اتساق النَّص وانسجامه، وهذه الإحالات تُشيرُ إلى أنَّ السيدة الزهراء (ع) كان كلامها موجه الى كل المسلمين ايَّنما وجِدُوا؛ لأنَّها في مقام استنصار والإستعانة للذب عنها فكان الضميران الغائب(الكاف والتاء) يناسبان مع المجموعة الحاضرة، فالضمائر”تكتسب أهميتها بصفتها نائبةً عن الأسماء، والأفعال، والعبارات، والجمل المتتالية؛ فقد يحلُّ ضمير مَحلَّ كلمة أوعبارة، أوجملة، أوعدّة جمل، ولا تقف أهميتها عند هذا الحد، بل تتعداه إلى كونها تربط بين أجزاء النص شكلاً ودلالةً، داخلياً وخارجياً، وسابقةً، ولاحقةً “([48]).

    وَمِنْ الإحالة بالضمير المتصل الغائب، ما وَرَدَ في خطبة السيدة الزهراء (ع):“أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإخْلاصَ تَأْويلَها، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَها، وَأَنارَ في الْفِكَرِ مَعْقُولَها. الْمُمْتَنِعُ مِنَ الإبْصارِ رُؤْيِتُهُ، وَمِنَ اْلأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَوْهامِ كَيْفِيَّتُهُ. اِبْتَدَعَ الأَشَياءَ لا مِنْ شَيْءٍ كانَ قَبْلَها، وَأَنْشَأَها بِلا احْتِذاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَها، كَوَّنَها بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَها بِمَشِيَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ حاجَةٍ مِنْهُ إلى تَكْوينِها، وَلا فائِدَةٍ لَهُ في تَصْويرِها إلاّ تَثْبيتاً لِحِكْمَتِهِ، وَتَنْبيهاً عَلى طاعَتِهِ، وَإظْهاراً لِقُدْرَتِهِ، وَتَعَبُّداً لِبَرِيَّتِهِ، وإِعزازاً لِدَعْوَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ الثَّوابَ على طاعَتِهِ، وَوَضَعَ العِقابَ عَلى مَعْصِيِتَهِ، ذِيادَةً لِعِبادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ، وَحِياشَةً مِنْهُ إلى جَنَّتِهِ”([49])، فالمُلاحظ في هذا النَّص الشريف أنَّ الضمير الغائب (الهاء) العائد على لفظ الجلالة (الله) تكرر داخل هذا النص تكراراً كبيراً، فنجده في الكلمات(تَأْويلَها، مَوْصُولَها، مَعْقُولَها، رُؤْيِتُهُ، صِفَتُهُ، كَيْفِيَّتُهُ، بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَها بِمَشِيَّتِهِ، لِحِكْمَتِهِ، طاعَتِهِ، لِقُدْرَتِهِ، لِبَرِيَّتِهِ، لِدَعْوَتِهِ، طاعَتِهِ، مَعْصِيِتَهِ، نِقْمَتِهِ، جَنَّتِهِ)، فهذا الضمير لايُمكن الفصل بينه وبين عامله، إذ إنَّه يكون بوجه من الوجوه يكون عوضاً عن لفظ الجلالة (الله) جلَّ ذكرهُ، وقد التصق بالعامل تماماً لايمكن الفصل بينهما، ولاسيما أنَّ هذا العامل يُمثل أعظم صفات الله الدالة على وحدانيته وحكمته، هذا من حيث الدلالة، أمَّا من حيث الشكل فقد حققتْ الإحالة النَّصية إنسجاماً لدلالة النَّص وتماسكه، ومن دون هذا الضمير لايستقيم الكلام، بل يبقى مشتتاً غير مترابط.

   والملاحظ ــــ أيضاً ـــــ  من هذا المقطع الشريف أنَّ الإنسان لا يندفع نحو العمل إلّا بدافعين هما: دافع الخوف من المكروه، فالصانع يصنع صنعة معينة لبيعها حتى يكسب بعض الأموال خوفاً من الفقر، والطالب يدرس طلباً للتعلم والثقافة أو التوظيف ، وهروباً من الجهل الذي يحول بينة وبين الوصول الى درجة الكمال، ودافع الطمع لجلب الخير.

  والإنسان لا ينقاد ولا يطمع إلّا طمعاً في الأجر والثواب، وخوفاً من العذاب و العقاب، وانطلاقاً من هذه الحكمة جعل الله الثَّواب وهو الأجر مع التقدير والأحترام جزاء للطاعة والإنقياد، فالله سبحانه وتعالى مثلما جعل الثواب للمطيعين وضع العقوبة للمخالفين العاصين لأوامره المتجاوزين لأحكامه؛ وذلك من أجل ردع العباد ومنعهم عن ارتكاب الأعمال التي

توجب عقوبة الله تعالى([50]).

 2الإحالة الإشارية :وهي من أدوات الربط اللغويَّة وسُمِيَّتْ بـهذا الاسم؛ لاقترانها في الواقع بإشارة حسيَّة، فهي تتضمن معنى الاشارة، وقد سمَّى علماء العربيَّة اسمَ الإشارة والاسمَ الموصول بـ(المبهمات)؛ لوقوعها على كلِّ شيءِ (جماد، أو حيوان، أو نبات)، وعدم دلالتها على شيءٍ مُعَيَّنٍ مُفَصَّلٍ مستقلٍّ؛ إلَّا بأمرٍ خارج عن لفظهما([51])، ولاسماء الإشارة دور مميز في ربطِ أطرافِ النَّص بعضها ببعض، إذ إنَّ وظيفتها اللغويَّة هي التحديد؛ ولكنَّ وظيفتها النَّصية هي الربط بين الوحدات المعجمية؛ ممَّا يجعلها من العناصر المهمة في والإحالة، وتعد اسماء الإشارة من وسائل الإتساق النَّصي المهمَّة ؛ إذ إنَّها تقوم بدور مهم في تماسك النَّص من خلال استحضار المتكلم المشار إليه للمتلقي سواء كان المتكلم سابقاً على أداة الإشارة كقولنا: ( زيد هذا جالسٌ)، أم لاحقاً لأداة الإشارة كقولنا: (هذا زيدٌ جالس)” ([52]).

  هذا الاستعمال من الإحالة يجعل مدى الإحالة باعتماد المدى الفاصل بين العنصر الإحالي ومفسره  منقسماً على نوعينِ([53]):

  أإحالة ذات مدى قريب: وتجري على مستوى الجملة الواحدة، إذ لا توجد فواصل تركيبية جُمَلِيْة؛ ومنه ما ورد في خطبة السيدة الزهراء (ع) قولها: ” ألا وَقَدْ قُلْتُ ما قُلْتُ عَلى مَعْرِفَةٍ مِنّي بِالْخَذْلَةِ الَّتِي خامَرَتْكُمْ، وَالغَدْرَةِ التِي اسْتَشْعَرَتْها قُلُوبُكُمْ”([54])، ففي هذا المقطع الشريف مِنْ الخطبةِ المباركةِ عاد اسمُ الإشارةِ (هذا) ــــــ الذي يُستَعمَلُ للمفرد المذكر القريب([55])ـــــ على كلام كثير قد سبقه، وهو مجموعة العتاب التي وجهتها (ع) إلى الأنصار، واسم الأشارة هذا امتاز بالإحالة الكبيرة داخل هذا النَّص، إذ عبرت السيدة الزهراء (ع) عن الجمل السابقة بكلمةٍ واحدةٍ، وحالتْ إليها بكلمةٍ واحدةٍ، وهو اسم الأشارة (هذا).

    ووردت في خطبتها قولها(ع):” هذا كِتابُ اللهِ حَكَماً عَدْلاً، وَناطِقاً فَصْلاً ([56])، أنّ السيدة الزهراء (ع) عندما ذكرت اسم الإشارة (هذا) لا يعني أنّهم كانوا على صلة قرابة بالقرآن الكريم، وخير دليل على هذا أنَّها (ع) وجهت لهم أشد التوبيخ يوم أنتبذوه عندما قالت (ع) : “قَدْ خَلَّفْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، أرَغَبَةً عَنْهُ تُرِيدُونَ، أمْ بِغَيْرِهِ تَحْكُمُونَ،بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً”([57])، فالملاحظ في هذا الإسلوب أسلوب استنكار، فالسيدة الزهراء (ع) على قناعة بأنَّهم تركوا وأعرضوا عن القرآن الكريم وأخذوا لا يقتدون بسننه، ولو لم يكن كذلك لَمَا كررت ذلك، فقالت (ع) :” يَا ابْنَ أبي قُحافَةَ! أفي كِتابِ اللّهِ أنْ تَرِثَ أباكَ، وِلا أرِثَ أبي؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيًّا، أَفَعَلى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتابَ اللّهِ، وَنَبَذْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ إذْ يَقُولُ: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ﴾([58])…”([59])، وبعد أن ثُبِتَ أنَّ السيدة الزهراء (ع) ترى القوم في أشد البعد عن سنن القرآن والإلتزام بأوامره، أشارت (ع) إلى القرآن الكريم بالقريب لتغريهم بقربه، وتحثهم على أن يراجعوه فهو ليس بعيداً عنهم، وفي ضوء ما تقدم يتبيَّن أنَّ اسم الإشارة أفاد: “ربط الكلام : إذ ارتبط الكلام الأول بالثاني ارتباطاً وثيقاً، والإختصار إذ يمثل إعادة للكلام السابق من دون خلل أو ملل”([60])، فاسم الأشارة قد ناسب الظَّرف داخل النَّص فهو صورة أختزاليه للواقع، فلمَّا كانت الحجة واضحة للأنصار أُشير بالقرب، وكذا هو الحال أُشير بالقريب للقرآن الكريم لحث الآخر بمراجعته، فهو ليس ببعيد عنهم ففيه الحقيقة، وهذه الحقيقة ليس ببعيدة عنهم([61]).

  بإحالة ذات مدى بعيد: قولها (ع) عن إلتحاق أبيها الرَّسول الأعظم محمد (ص) إلى الرفيقِ الأعلى: أَتَقُولُونَ ماتَ مُحَمَّدٌ؟! فَخَطْبٌ جَليلٌ اسْتَوْسَعَ وَهْيُهُ، وَاسْتَنْهَرَ فَتْقُهُ، وَانْفَتَقَ رَتْقُهُ، وَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ لِغَيْبَتِهِ، وَكُسِفَتِ النُّجُومُ لِمُصِيبَتِهِ، وَأَكْدَتِ الْآمالُ، وَخَشَعَتِ الْجِبالُ، وَاُضيعَ الْحَرِيمُ، وَاُزيلَتِ الْحُرْمَةُ عِنْدَ مَماتِهِ،فَتِلْكِ وَاللهِ النّازلَةُ الْكُبْرى، وَالْمُصيبَةُ الْعُظْمى”([62])، نُلاحِظُ أنَّ اسمَ الإشارةِ (تلك) إختزلَ نصاً واسعاً وقع قبله، وهو (فَخَطْبٌ جَليلٌ اسْتَوْسَعَ وَهْيُهُ….عِنْدَ مَماتِهِ)، فختزلتْ السيدة الزهراء (ع) بهذا الاسم (تلك) كل هذا الكلام، وأحالتْ عليه بكلمةٍ واحدةٍ (تلك)، فكان تعبيرها (ع) عن مصيبة فقدان أبيها (ص) باسم الإشارة (تلك) الذي يُستخدم للمشار إليه البعيد([63])، وهذا يدلُّ على أمر عظيم، فأيُّ أمر أعظم مِنْ المصيبة التي حلت بهم، وهي مصيبة وفاة العظماء فوفاتهم تكون عظيمة, فكلما كانت عظمة المتوفي أعظم وأكثر كانت مصيبة وفاته أفجع وأعظم, إذ كان رسول الله (ص) أعظم, وأشرف, وأكمل, وأحسن مخلوق, وأطهر كائن عرفته الإنسانية فمن الطبيعي تكون وفاته (ص) نازلة كبرى ومصيبة عظمى فلا توجد في العالمِ مصيبة أكبر وأعظم وأفجع مصيبة من مصيبة وفاة رسول الله (ص)؛ لإنَّه لا يُوجد في الكون مخلوق كرسولِ اللهِ (ص)، فحتماً تكون من أشد المآسي على السيدة الزهراء (ع)، وأهل بيت الرسول الله (ص)، ثمَّ إنّها (ع) تفصل بين المبتدأ والخبر بأسلوب توكيدي , وهو القسم بلفظ الجلالة (الله) فتقول (ع): (فَتِلْكِ وَاللهِ النّازلَةُ الْكُبْرى) تَأكيد وإثبات لنزول الرزية والمصيبة.

3- الإحالة الموصولية: من الظواهر التي تكررت بشكلٍ ملحوظٍ في خطبةِ السيدة الزهراء(ع)، هي ظاهرة الأسماء الموصولة، التي تُؤَدّي إلى تماسك النَّصِ في ضوءِ اشتباك تركيب في تركيب قبله، وعملية الاشتباك هذه لا تتمُّ إلَّا بالجمعِ بيّن تركيبين أو أكثر، وهو ما يُعْرَفُ بصلةِ الموصولِ؛ التي لا تنفَكُّ عن تركيب المتشابك المكوِّن لها أصلاً؛ فتخلق بينهما علاقة تماسك مستمرة ناتجة عن وجود الاسم الموصول، وقد عدَّ الدكتور تمام حسَّان الاسم الموصول من عناصر الإحالة([64])، فالاسم الموصول يُعَدُّ وسيلةً من وسائل التماسك النَّصي؛ لأنَّه يستلزم وجود جملة بعده، وعادةً ما تكون هذه الجملة فعلية، وقد يُعطَفُ على هذه الجملة بجملٍ عدَّة، فيطول الكلام، ويكون نصاً كاملاً، ويظلُ مرتبطاً كلّه بالاسم الموصول الأول، ومن جهة أخرى يعدُّ الموصول أداة من أدوات الإحالة، فيرتبط بمذكورٍ سابق، وقد يتكرر بصورة واحدة، ويبقى مرتبطاً بهذا المذكور السابق مُحِدثاً نسقاً واحداً للنَّص كلَّه([65]).

  ومن الإحالات الموصولية في خطبة السيدة الزهراء(ع) قولها: ” وَدَسَعْتُمُ الَّذِي تَسَوَّغْتُمْ”([66])، فالاسم الموصول ربطَ الكلامُ بعضه ببعضٍ، فالملاحظُ في هذا المقطع أصبح متسقاً ومتلائماً؛ وذلك لأنَّ الضمير (الذي) ربط بين (دَسَعْتُمُ)([67])، و(تَسَوَّغْتُمْ)([68]) بصيغةِ الجمع كون هاتين الكلمتين مدراراً للنَّص، وبهما تتحقق الغاية المرجوة،وكأنَّ ربط النَّص بالاسم الموصول يدلُّ على أنسحابهم عن الدين، ورفضهم للإيمان، بعد رحيل المصطفى (ص)، ولهذا أردفت (ع) كلامها بهذه الآية: ﴿ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾([69])، أي لا تخسرون إلَّا دينكم ولا تضرون إلَّا أنفسكم .

  وقولها (ع) في موضع آخر من خطبتها: ” مَوْصُولَةً بِنارِ اللهِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ”([70])، وردت )التي( الموصولة في الخطبةِ الشريفةِ، فأحالتْ على كلمة (النَّار)؛ لكي يقوم الاسم الموصول بتحقيق هدفِهِ المنشود في تماسك النَّصي،إذ قدم الاسم الموصول ترابطاً واضحاً بين أجزاء النَّص.

4ــــ الإحالةُ المقارنة: وهي أدوات المقارنة التي من خلالِها يُصنعُ رابطٌ واضحٌ بيَّن السابقِ واللاحقِ، وتضُمُّ كُلَّ الألفاظ التي تؤدِّي إلى التطابقِ أو التشابهِ، أو الاختلافِ، أو الإضافةِ إلى السابقِ كمَّاً، وكيفاً، أو مقارنةً، ويظهر في مثل “مشابه، أكبر من، ومقارنةً بما، أسوةً بـ، فضلاً عن… إلخ “([71])، أمَّا من منظور التَّماسك النَّصي، فهي لا تختلف عن الضمائر وأسماء الإشارة في كونِها نصيَّة، وفي ضوء ما تقدم فالإحالة المقارنة تعملُ كالعناصرِ السابقة في وظيفة التَّماسك النَّصي([72])، ومن نماذجها ما قالَتْهُ السيدة الزهراء (ع) في خطبتها: ” بَلى تَجَلّى لَكُمْ كَالشَّمْسِ الضّاحِيَةِ أنّيِ ابْنَتُهُ “([73])، إنَّ كلَّ مَنْ حَضَرَ في المسجد لا يَشِكُ ولو قيد أُنمُلَة أنَّ السيدة الزهراء هي بنت رسول الله (ص)، ولكنَّ جفائهم الكبير لها جعلها (ع) تتحدث عنهم بكلامٍ، وكأنَّهم قد خرجوا من الملة، أو أنَّهم جاهلون لا يفقهون شيءً، وكلَّ هذا توبيخاً لهم، وتذكيراً بعهدهم للرَّسول (ص) عنَّدمَا كان بينهم، فجأت (ع) بتشبيه لا يُمكِنُ لأي أحد أن يتناساه، أو يتغافل عنه، وهو الشمس التي تظهر في صحوة النَّهار، وفي السماء الصافية لا سحاب فيها ولا ضباب، أي أنَّ الأمر هكذا كان واضحاً عندهم أنَّ السيدة الزهراء (ع) هي أبنته (ص)، بلا شك ولا ريب، ولعلَّ السيدة الزهراء (ع) أحالت التشبيه بالشمس؛ لأنَّ الشمس هي مصدر النور التي تُغَذي النُّجوم والقمر، والتي بها يتمكن النَّاس من العيش والبقاء، ولولاها لَمَا صَلُحت أجسامهم، ومن يتركها ويترك فوائدها، كمن أودى بحياته وبأهله، وهكذا هو الحال من يترك أهل البيت (ع)، فأولئك الذي كانوا حاضرين في المسجد لم يُقَدِّرُوا حق السيدة الزهراء (ع)، فإنَّ هذا الرَّبط بأداة التشبيه (الكاف) في (كالشمس) ربط البعيد بالقريب، للتأكيدِ على صورةٍ واحدةٍ، وهي مِنْ الضرورة إدراك منزلة السيدة الزهراء (ع) فهي بنت أعظم مخلوق على وجه الطبيعة وهو محمَّد (ص)، فعلى الجمع إكرام الرسول (ص) بها (ع) .

  الخاتــمة: الحمدُ اللهِ، والثناءُ عليهِ، فإنَّهُ يُخْلَصُ من هذا البحث، بعض النتائج، التي يجدرُ بالباحثِ أن يوليها الالتفات، والانتباه، وهي كالآتي:

1ـــ الإحالةُ إحدى عناصر التَّماسك اللُّغوي التي لها دور بارز في ربطِ أجزاءِ النَّصِ وجعله متماسكاً، فالإحالة على اختلاف أنواعها، تخلق علاقاتٍ معنويَّةً تكتسبُ دلالتَها ممَّا تُشيرُ إليه.

2ـــ أسفر البحثُ أنَّ الأحالة هي عملية معنوية، يُنشؤها المتكلِّمُ في ذهنِ المخاطَب، عن طريق إيراده ألفاظًا مبهمةَ الدِّلالة، يُشيرُ بها إلى أشياء، أو مواقف، أو أشخاص، أو عبارات، أو ألفاظ خارج النَّص، أو داخله، سابقة عليها أو لاحقة، في سياق لغوي، أوغير لغوي، يُقصدُ بذلك الاقتصادَ في اللفظ، وربطِ اللاحق بالسابق والعكس ، بما يحقق الاستمرارية والتماسك في النَّص .

3ــ بيَّن البحث أنَّ الضمائر، واسماء الأشارة، والاسماء الموصولة هي مِنْ أهم الوسائل في التماسك النَّصي، لِمَا لها مِنْ الأهمية في ربط أجزاء النَّص بعضها ببعض.

4ــ بيَّنت الدَّراسة للخطبة الشَّريفة جمالية النَّص؛ وذلك في ضوء دقة الألفاظ، وحسن ترتيبها في نسقٍ معينٍ، وتماسكها تماسكاً نصياً قلَّ نظيره.

  وأملي كُلُّه أن يكون هذا الجهد مؤهلاً للالتحاق في مسيرة البحث الأكاديمي ليُضيء إضاءة بسيطة في ميدانه، ويفيد باحثاً أو طالبِ علمٍ، والله العالم من وراءِ القصدِ.

    وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرفِ الخلقِ والأنبياءِ و المرسلين، حبيب إله العالمين أبي القاسم المصطفى محمد (ص)، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، وصحبه المنتجبين المخلصين، ومن تبعهم بإحسان إلى قيام يوم الدين.

المصادر والمراجع

القـــرآن الكـــــريم

1ـــ الإحالة في شعر أدونيس، د. داليا أحمد موسى، ط 1، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق- سوريا، 2010 م.

2ـــ الأحتجاج، الشيخ أبو منصور الطبرسي، دار المرتضى، بيروت، ط1، 1429ه ـــ 2008م.

3ــــ تاج العروس من جواهر القاموس، محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني الملقب بــ(مرتضى الزبيدي ت1205ه)، تحقيق مجموعة من الأساتذة، طبعة الكويت، تاريخ الطبع(2002م).

4ـــ دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدَّلالة، حسن سعيد بحيري، مكتبة زهراء

الشرق، القاهرة ــــ مصر، ط1.د.ت.

5ـــ شرح ابن عقيل، قاضي القضاة بهاء الدين عبدالله بن عقيل العقيلي، المصري، الهمداني، صححه وحققه وعلق عليه السيد علي الحسيني، انتشارات دار العلم، قم ـــ إيران، ط3، 1434هــ

6ــ شرح الرضي لكافية بن الحاجب، محمد بن الحسن الرضي الاسترابادي (ت688ه)، تحقيق، د. حسين بن محمد بن إبراهيم الحفظي، ط 1، 1417 ه.

7ــ علم لغة النَّص، النظرية والتطبيق، عزة شبل محمد، ط 1، مكتبة الآداب، القاهرة، 1428ه – 2007م.

8ــ علم اللغة النَّصي بين النَّظرية والتطبيق، دراسة تطبيقية على السور المكيَّة، د. صبحي إبراهيم الفقي، ط 1، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1431 ه – 2000 م.

9ــ فاطمة من المهد إلى اللحد، السيد محمد كاظم القزويني، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت ــــ لبنان، ط1، 1430ه ـــــ 2009م .

10ــ القاموس المحيط،الفيروز آبادي(ت817 مػ)،مؤسسة الرسالة، لبنات ـــــ لبنان، 1986م، ط1.

11ـــ الكتاب ( كتاب سيبويه )، أبو بشير عمرو بن عثمان قنبر ( ت 180 ه )، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط4، 1425ه ـــ 2004م .

12ــ لسان العرب، جمال الدين أبو عبد الله محمد بن مكرَّم بن منظور (ت711ه) ، تحقيق ياسر سلمان أبو شادي، ومجدي فتحي السيد، المكتبة التوقيفية، مصر، د.ط.

13ــ لسانيات النَّص، مدخل الى انسجام الخطاب، د. محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت – لبنان، ط 2، 2006 م.

14ــ اللغة العربيَّة معناها ومبناها، د. تمَّام حسان، عالم الكتب للنشر والتوزيع والطباعة، القاهرة، ط6، 1430 ه – 2009 م.

15ــ المعجم الوسيط، قام بإخراجه (إبراهيم مصطفى، أحمد حسن الزيات، حامد عبدالقادر، محمد علي النجار)، دار الدعوة، مجمع اللغة العربية، الإدارة العامة للمجمعات وإحياء التراث، ط2، مطبعة باقري، مكتبة المرتضوي، 1427 ايران، ه.ق – 1385 ه.ش.

16ــ نحو النَّص، اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيفي، ط 1، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 2008 م.

17ــ نسيج النَّص، بحث فيما يكون به الملفوظ نصاً، الأزهر الزناد، ط 1، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1993 م.

18ــ النَّص والخطاب والإجراء، روبرت دي بوكراند، ترجمة: د. تمام حسان، ط 1، عالم الكتب، 1418 ه – 1998 م.

19ــ نظرية علم النَّص، رؤية منهجية في بناء النَّص النَّثري، د. حسام أحمد فرج، تقديم: أ. د. سليمان العطار، وأ. د. محمود فهمي حجازي، ط 1، مكتبة الآداب، القاهرة، 1428 ه – 2007 م.

الرَّسائل

1ــ مقاصد الإحالة في النَّص القرآني دراسة تحليليَّة في بعض الآيات القرآنية، لغويني بوقواف، كلية الآداب، قسم اللغة والآدب العربي ، جمهورية الجزائر، 2015م

البحوث

1ـــ الإحالة في نحو النّص، أحمد عفيفي، كلية دار العلوم، القاهرة، .www. kotobarabi com

2ـــ علم اللغة النَّصي بين النَّظرية والتطبيق (الخطابة النبويَّة نموذجاً)، نادية رمضان / مجلة علوم اللغة ، العدد التاسع، 2006م.

3ـــ نظرية النُّظم عند الجرجاني، عبد النبي اصطيف، مجلة الأقلام العدد 110 ، 1980م.


([1]) ينظر : القاموس المحيط ، مجد الدِّين الفيروز آبادي ، مادة ( حوَّل ): 2/373.

([2]) ينظر: تاج العروس ، محمد مرتضى الحسيني الزبيدي ، مادة ( حوَّل ) : 1/703.

([3]) ينظر : المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية : 648 .

([4]) ينظر : مقاصد الإحالة في النَّص القرآني دراسة تحليليَّة في بعض الآيات القرآنية، لغويني بوقواف، كلية الآداب، قسم اللغة والآدب العربي ، جمهورية الجزائر، 2015م : 11.

([5]) لسان العرب، جمال الدين أبو عبد الله محمد بن مكرَّم بن منظور (ت711ه) ، تحقيق ياسر سلمان أبو شادي:9/ 1055 .

([6])ينظر: لسانيات النص ،د. محمد خطابي : 17 .

([7]) النَّص والخطاب والإجراء ، روبرت دي بوكراند:122 .

([8]) نحو النص) اتجاه جديد في الدرس النحوي)، أحمد عفيفي : 116 .

([9]) المصدر نفسه : 117 .

([10]) ينظر : دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدَّلالة، سعيد حسن بحيري : 82 .

([11])ينظر: لسانيات النص: 19.

([12])ينظر: علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق، د. صبحي الفقي: 1 /71.

([13]) ينظر: لسانيات النّص: 17 .

([14])الكتاب (سيبويه): 3/ 93 – 94 .

([15]) ينظر: نظرية النظم عند الجرجاني؛ عبد النبي اصطيف، مجلة الأقلام العدد 110 ، 1980 م:235 .

 ([16])ينظر: الإحالة في شعر أدونيس، د. داليا أحمد موسى: 26 .

([17]) ينظر : نسيج النّص، بحث فيما يكون به الملفوظ نصاً، الأزهر الزناد : 118 .

[18])) ينظر : علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق:1/120.

 ([19])ينظر: المصدر نفسه:1/ 119 .

([20]) ينظر : علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق:1/118 .

([21]) ينظر : نظرية علم النّص، رؤية منهجية في بناء النّص النثري، د. حسام أحمد فرج، تقديم: أ. د. سليمان العطار، وأ. د. محمود فهمي حجازي : 84 ـــ 85

([22])الاحتجاج ، الشيخ أبو منصور الطبرسي : 1/98.

([23]) ينظر : فاطمة من المهد إلى اللحد ، السيد محمد كاظم القزويني :208 .

([24]) الأحتجاج : 1/103 .

  ([25])ينظر : فاطمة من المهد الى الحد : 214 ــ 215.

([26]) ينظر : نحو النّص اتجاه جديد في الدرس النحوي،: 117.

([27]) ينظر : الإحالة في نحو النّص، أحمد عفيفي: 42 .

([28]) ينظر : المصدر نفسه : 42 .

([29])الاحتجاج : 1/99 .

[30] ) ينظر: علم لغة النص، النظرية والتطبيق، عزة شبل محمد: 177 .

[31] ) نسيج النص (بحث فيما يكون به الملفوظ نصاً): 119 .

[32] ) ينظر: لسانيات النص: 17 ، وينظر: الإحالة في شعر أدونيس: 84.

[33])) ينظر : علم لغة النص: 12.

[34]))المصدر نفسه :124.

[35])) لسانيات النص:17.

[36])) الأحتجاج : 1/92.

[37] ) الأحتجاج : 1/102 .

[38] ) المصدر نفسه : 1/104.

([39])ينظر: علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق: 1/ 162 .

[40])) الأحتجاج : 1/97.

[41] ) سورة الفاتحة :2.

[42])) الأحتجاج : 1/101.

[43] ) الاحتجاج: 1/116ـــــ 117.

[44] ) ينظر:شرح الرَّضي على الكافية ، الأستربادي : 2/426.

[45] ) سورة محمد : 24 .

[46] ) سورة غافر : 78 .

[47] ) الأحتجاج :1/116 .

[48] ) علم اللغة النصي بين النظرية والتطبيق: 1/ 137 .

[49] ) الأحتجاج : 1/96.

([50]) ينظر : فاطمة من المهد الى اللحد : 212 .

[51] ) ينظر: الإحالة في شعر أدونيس ، د. داليا أحمد موسى: 10 .

[52])) ينظر: علم اللغة النصّي بين النظرية والتطبيق (الخطابة النبويَّة نموذجاً)، نادية رمضان / مجلة علوم اللغة ، 2006م:  16.

[53] ) ينظر : نسيج النص (بحث فيما يكون به الملفوظ نصَّاً): 123 – 12 .

[54] ) الأحتجاج : 1/117.

[55] ) ينظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك، محمد محي الدين عبد الحميد : 1/131 .

[56])) الأحتجاج : 1/116

[57])) المصدر نفسه: 1/99.

[58])) سورة النمل :16.

[59])) الأحتجاج: 1/100.

[60])) دراسات لغوية تطبيقية : 149.

[61])) ينظر : فاطمة من المهد إلى اللحد : 293

[62] ) الأحتجاج : 1/96.

[63] ) ينظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك: 1/134 .

[64] ) ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها، د 0تمام حسان:1/ 113 .

[65] ) ينظر: علم اللغة النصّي بين النظرية والتطبيق (الخطابة النبوية نموذجاً)، نادية رمضان / مجلة علوم اللغة، 2006م: 17.

[66])) الأحتجاج :1/116.

[67] ) الدَّسَعُ:  المنع أو الدفع . لسان العرب : مادة ( دسع ) 8/329 .

[68] ) ساغ الشراب يسوغ سوغاً، إذا سهل مدخله في الحلق، وتسوغه: شربه بسهولةٍ، لسان العرب : مادة ( سوغ ) 8/435 .

[69] ) سورة أبراهيم : 8.

[70] ) الأحتجاج: 1/116 .

[71] ) الإحالة في نحو النص، أحمد عفيفي: 22 .

[72] ) ينظر: لسانيات النّص، مدخل إلى انسجام الخطاب: 19 .

[73] ) الأحتجاج: 1/98.