«… فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشّرك، والصّلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنّفس ونماء في الرّزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدّين، والعدلَ تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزّاً للإسلام وذلاً لأهل الكفر والنّفاق، والصّبر معونةً على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مصلحةً للعامة، وبرّ الوالدين وقايةً من السُّخط، وصِلَة الأرحام منسأةً في العمر ومنماةً في العدد، والقصاص، حقناً للدّماء، والوفاء بالنّذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخسة، والنّهي عن الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السّرقة إيجاباً للعفّة، وحرّم الله الشّرك إخلاصاً له بالربوبيّة: «فاتّقُوا الله حقّ تقاته، ولا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عَنهُ، فإنّما يخشى الله من عباده العلماءُ …»
والصّلاة تنزيهاً لكم عن الكبر..
الصّلاة في منطق الزّهراء(ع) رفع للإنسان من حضيض التكبُّر إلى مستوى التّواضع ، وهي -حين تعلن هذه الميزة التي اتّسمت بها الصّلاة- فإنّما تجسّد لنا واقع الصّلاة وقيمتها على الصّعيد العبادي والإجتماعي، فالصّلاة ابتداءً صلة روحية بين الإنسان وخالقه، تتّخذ طابعاً خاصّاً من الدُّعاء والتجرُّد، ولوناً متميزاً من السُّلوك، فحين يقف المرء أمام خالقه الكبير يعلن اعترافه بربوبيّته وحاكميّته المطلقة. وبعد هذا الإعتراف يعلن مطالبه من ربه، ممثلة بطلب عونه: «إيّاك نعبد وإيّاك نستعين».
والإعتراف بالعبودية لله سبحانه وتعالى ـ يرسم للمسلم الواقعي صورةَ حياة مثاليّة متعددة الجوانب، مطبوعة بطابع الخضوع المطلق للعزيز الحكيم، فهي ليست اعترافاً بالله كخالق للكون والحياة -فحسب- وإنّما هي عمليّة يعلن الإنسان فيها أنّ الوجود كلّه لله سبحانه. وأنّ الحاكميّة المطلقة في خلقه له وحده، فلا مشرّع لهذا الإنسان غير الله سبحانه، فهو وحده الذي يعلم ما يصلحه وما يفسده وما يرفعه وما يضعه.
وبعد هذا الإعتراف بالله سبحانه وصفاته المقدّسة، يقف المرء أمام ربِّه، وبهذا اليقين المطلق ليسأله العونَ والهداية، وهذه العملية تتكرر خمس مرات في كلّ يوم لتكون مصدراً لتربية النّفس والوجدان على الخضوع لله سبحانه، الخضوع المستمر، ولتطبع حياة الإنسان كلّها بطابع هذا الخضوع. ومن ثم فإنّ تكرار هذه العملية يشكّل مناخاً صالحاً لصقل نفسيّة المسلم ومشاعره صقلاً ينسجم وأوامر الله ونواهيه لينطلق المسلم بعدها، وهو أكثر قدرة على تطبيق منهج السّماء وحمله والتبشير به.
وقد رسم القرآن الكريم هذه الحقيقة حين أعلن: «إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر».
وهنا تتجلّى الحقيقة التي تجعل من الصّلاة مفتاحاً لخلق لون خاص من السُّلوك بعيد عن المتاهات والإنحرافات والطّيش والضياع كما تخلق مناعةً طبيعية لمواجهة جراثيم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وبعد اتّضاح قيمة الصّلاة الكبرى في خلق الشخصيّة الإسلامية، نقف على الحقيقة الكبرى التي رسمتها الزهراء(ع) أمام الأجيال الإسلامية المتعاقبة حيث جعلت الصّلاة الفريضة الأُولى التي تعقب الإيمان بالله سبحانه في برمجتها لمعالم الرّسالة الإسلامية العظيمة.
وينكش لنا السُّر -بعد ذلك- الذي جعل الزهراء(ع) تعتبر الصّلاة عمليّة تهذيب من الكبر والخيلاء، ولأنّ المرء يشعر في قرارة نفسه أنّه وكلّ موجود في هذا الكون البديع يقفون على صعيد العبوديّة المطلقة لله -وحده-.
والإنسان -في الوقت الذي يستشعر العبودية لله وحده في نفسه- يحسُّ بالتّحرُّر المطلق من كلّ عبوديّة لغير الله تعالى، فالإنسان وسائر أبناء جنسه يعيشون في إطار يحمل منتهى العبوديّة لله الكبير المتعال، وفي الوقت ذاته يعيشون على صعيد واحد من الكرامة والسؤدد، فلا بدّ -إذن- أن تلغى كلُّ معالم الخيلاء والتكبُّر من المجتمع الذي يعيش في إطار الرسالة الإسلامية الكريمة، وعمليّة الإلغاء لصفة التكبُّر في نفسيات الأفراد بعضهم على البعض الآخر، لا تتمّ إلا عن طريق الشعور بالخضوع لله وحده، وهذا الخضوع يتجسّد سلوكاً ثابتاً في نطاق الصّلاة التي رسم الإسلام حدودها، وبيّن معالمها وإطارها، ولهذا السّر -عينه- تنطلق الزّهراء(ع) لتؤكّد للأُمّة بامتدادها التأريخي: أنّ الصّلاة تنزّه الفرد والمجتمع من أدواء الخيلاء والغرور والاحتيال، انطلاقاً مما تبثُّه الصّلاة من إشعاعات روحيّة واجتماعية في نفسيّة الإنسان المسلم ومجتمعه.
المصدر: الزّهَراء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله: الشهيد عبد الزهراء عثمان محمد (الكتابُ الذي أحرز الجائزة الثانية في مُباراة التأليف عن حياة الصديقة الزهراء عليها السلام).