مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
مراتب خطاب الزهراء عليها السلام دراسة في تحليل النص أ.م.د. ضمير لفتة حسين كلية الآداب / قسم اللغة العربية
+ = -

    ينطلق البحث من دائرة تحليل الخطاب وفهمه بعيدا عن الاسقاطات المسبقة لتلقي النص، أي بعيدا عن المسرح التاريخي وما كتبه علماء التاريخ عن الحدث، إذ يعتمد هذا المنهج (تحليل الخطاب ) على استنطاق النص بذاته ولذاته للوصول الى طبيعة شخصية الباث والحالة النفسية التي كان يعيشها عند تشكيل النص، والغايات التي اراد الوصول اليها وأخيرا تحديد منطلقات ذلك الشخص وتحديد هويته الذاتية والمرجعيات الفكرية التي ينتمي لها وينطلق منها .

    فمن المعلوم أن كل إنسان يعيش في حال من الانتماء الى واحد من المرجعيات الفكرية التي تملي عليه ما يجب عليه فعله أو قوله تجاه المواقف التي يتعرض لها في يومه وساعاته .

    فنجد بعضنا تحكمه دائرة الشرع فيبرمج حياته في أفعاله وردود افعاله على شكل ثنائية الحلال والحرام، وآخر بحسب ثنائية الممنوع وغير الممنوع فيعيش في دائرة القانون، وثالثا يعيش في مناخ العرف وما يتوصل له المجتمع من الاتفاق على بعض الاعراف والسلوكيات التي يتم الاتفاق عليها بالوعي الجمعي للمجتمع ، وأخيرا يسير بعضنا في دائرة الذوق الاخلاقي فيكون بين ثنائية الحسن والقبيح ، فتكون معايير كل واحد من هذه الانماط البشرية بحسب المرجع الذي تعتمده هذه الشرائح السوية في المجتمع .

    أما الشريحة غير السوية والتي تمثل خروجا عن الدائرة الانسانية أو ما يسمى في علم النفس بـ (السايكوباث) فإنها تعيش في دائرة النفع والرغبة من دون النظر الى المرجعيات المتقدمة .

وهذا التصنيف واضح جدا في حياتنا العملية في عصرنا الحالي وفي كثير من الاحداث التي ينقلها لنا التاريخ، ففي يوم عاشوراء مثلا نجد الامام الحسين ع يؤسس الى هذه المرجعيات الحاكمة في سلوك الانسان محاولة منه عليه السلام لإنقاذ خصومه من محاولة سفك دمه الطاهر وتحمل اثم قتل حفيد النبي الخاتم واهل بيته ع فقد خاطب القوم قائلا : «ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم هذه وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون». فقط ارجع الى مرجعية الدين والاعتقاد بالفناء والمعاد ، ثم الى مبدأ الانسانية ، وأخيرا الى مبدأ العرف .

وفي خطبة السيدة فاطمة (عليها السلام) في المسجد نجد هذا التنميط من الخطاب واضحا ، فهي تبدأ بذكر الله سبحانه وتعالى في أول كلامها دون الالتفات الى الناس وتوجه خطابها الى الله بالحمد له والثناء عليه وذكر عظيم خلقه وبديع آياته .

وقد تنوع خطابها في هذا النمط على أنواع عدة تصب كلها في هدف رئيس تمثل في سحب اذهان الحاضرين من سلطة النص التي مارسها الخصوم تجاههم ، وجعلتهم ينفلتون من الفضاء المغلق من الخيال الزائف الذي ارسى دعامته ادعاء المدعين، وكان هذا واضحا في بكاء الحاضرين مرات عدة تفاعلا مع خطابها ع.

وقد انقسم خطابها بالجملة بين قسمين رئيسين من أقسام الخطاب كان في ضمن كل قسم أنواع فرعية, نتكلم عنها مفصلا .

القسم الاول : الخطاب غير المباشر:

 كان الخطاب هذا مشكلا على نوع من التجرد وعدم الالتفات الى المتلقين بأسمائهم او اصنافهم بل لا يلتفت الى وجودهم فالكلام غير موجه اليهم توجيها مباشرا.

وهذا القسم يقع على أنماط هي :

النمط الاول : خطاب العقل :

 فقد تضمن خطابها جملا حوت في مضامينها مادة عقلية تحرك أذهان المتلقين نحو التأمل بدلا من عملية التخييل القسري التي مارسوها بضغط من سلطان النص  الذي يمارس عملية التفكير المسبق بدلا عن الجمهور فيجعل نفسها قائدا لعقولهم وأذهانهم بدلا من ان يكونوا هم قادة لأنفسهم في عملية التفكير والتأمل. 

 فقد اعطت السيدة زخات من الحمد والتسبيح والتهليل والتبجيل للحق سبحانه ما يجعل المتلقي يذوب في مضامين الخطاب ويتجرد عن نفسه المتعلقة بزخارف الدنيا ومغالطات وما يدعوهم اليه الاخر من مغالطات، فكان ذلك محاولة منها لفتح اذهانهم لتلقي خطابها بعيدا عن الاسقاطات التي مارسها وسيمارسها الاخر.

فكان المسجد حلبة صراع في قيادة أذهان الناس وقلوبهم وعقولهم. فقد جلبت السيدة المتلقين الى نقطة لا تتعذر نفس في التوجه لها وهي ذكر نعم الله ذلك بقولها : (الْحَمْدُ للهِ عَلى ما أنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ على ما أَلْهَمَ، وَالثَّناءُ بِما قَدَّمَ، مِنْ عُمومِ نِعَمٍ ابْتَدَأها، وَسُبُوغ آلاءٍ أسْداها، وَتَمامِ مِنَنٍ والاها، جَمَّ عَنِ الإحْصاءِ عدَدُها، وَنأى عَنِ الْجَزاءِ أَمَدُها، وَتَفاوَتَ عَنِ الإِدراكِ أَبَدُها، وَنَدَبَهُمْ لاِسْتِزادَتِها بالشُّكْرِ لاِتِّصالِها، وَاسْتَحْمَدَ إلَى الْخَلائق بِإجْزالِها، وَثَنّى بِالنَّدْبِ إلى أمْثالِها )

النمط الثاني : خطاب القلب :

     ثم تحولت بعد ذكر النعم الى ذكر توحيد الذات وهو بمثابة تدرج الى مرتبة اعلى في التفكير فقد تضمن قولها:  (وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإِخْلاصَ تَأْويلَها، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَها، وَأَنارَ في الْفِكَرِ مَعْقُولَها. الْمُمْتَنِعُ مِنَ الإِبصارِ رُؤْيِتُهُ، وَمِنَ اْلأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَوْهامِ كَيْفِيَّتُهُ) تأملا مجردا في ذات الحق سبحانه ، ومن المؤكد أن درجة التفكير بالذات هي اعظم من درجة التفكير في النعم والآيات الخلقية والانفسية  فتبين ان خطاب السيدة اخذ بالابتعاد كثيرا بالمتلقين عن المناخ الذي هم فيه لتخليصهم تماما من حالة الاستعباد الذهني الذي أغلق عليهم الفضاء المعرفي وجمَّد آلة المعرفة .

ثم عادت الى بيان بديع صنع الله وتدبيره لترجع القوم الى مرجعية الذات المقدسة في تدبير الخلق بدلا عن الذوات البديلة المتخذة التي تمارس السلطة المستقلة في تقرير مصائر الناس باسم ذات الرب ظاهرا بعيدا عنها واقعا؛ لتسير السيدة بهذه الاذهان الاسيرة تحت سلطة الانفراد ولتضعها تحت سلطة الله الحقة.

القسم الثاني : الخطاب المباشر:

    في هذا القسم نجد الخطاب يتشكل بصورة اقرب الى المباشرة مع الواقع وان المتلقين لهم حضور في تقرير هذا الخطاب والدخول في دائرة عمله وتشكله وان كان هذا يكون متدرجا ايضا في درجات في شدة المباشرة وضعفها وهو ينقسم على انماط ايضا :

النمط الاول: الخطاب الرسمي (الاعلى):

    في هذا الخطاب عمدت السيدة الى ارجاع المجتمع الى الجهة العليا البشرية الحاكمة التي كان لها صلاحية الامر والنهي عن الله وبعد امر الله سبحانه وتعالى .

    فكان خطاب استعلائيا لا بمعنى التكبر والغطرسة حاشاها وانما بقدر ما اتيح من الله سبحانه من الصلاحيات لهذه الشخصية العظيمة في المجتمع قال تعالى ({وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} الحشر اية 7

 فقد خطت السيدة بالقوم خطوة جديدة لتعود بهم على أرض الواقع الذي هم فيه ولتضع الاشياء في نِصابها الاصيل بدلا عن الترتيب الذي رتبته يد الاخرين للرموز الدينية والادارية. فبدأت بذكر النبي المرسل عن ذات الحق سبحانه والذي لم يختلف القوم فيه ولم يشكّوا بفضله عليهم وجهوده التي بذلها من اجلهم . فقالت : (  وَأَشْهَدُ أنّ أبي مُحَمَّداً صلّى الله عليه وآله عبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اخْتارَهُ وَانْتَجَبَهُ قَبْلَ أَنْ أَرْسَلَهُ، وَسَمّاهُ قَبْلَ أنِ اجْتَبَلَهُ، وَاصْطِفاهُ قَبْلَ أنِ ابْتَعَثَهُ، إذِ الْخَلائِقُ بالغَيْبِ مَكْنُونَةٌ، وَبِسِتْرِ الأَْهاويل مَصُونَةٌ، وَبِنِهايَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَةٌ، عِلْماً مِنَ اللهِ تَعالى بِمآيِلِ الأُمُور، وَإحاطَةً بِحَوادِثِ الدُّهُورِ، وَمَعْرِفَةً بِمَواقِعِ الْمَقْدُورِ. ابْتَعَثَهُ اللهُ تعالى إتْماماً لأمْرِهِ، وَعَزيمَةً على إمْضاءِ حُكْمِهِ، وَإنْفاذاً لِمَقادِير حَتْمِهِ ) .

النمط الثاني : الخطاب الرسمي الاستعلائي

    وقد أثبت نفسها عليها السلام بانتسابها الى النبي (ص) كونها ابنته الوحيدة التي لا يشك احد في معرفتها ومعرفة مقامها الا انها ارادت نصب المرجعيات الحقة في  عقول هؤلاء الجمهور لتتمكن من تخليصهم من الاغيار التي سيطرت عليهم .

    ثم باشرت في نصب نفسها ملهما للجمهور بعد مسك زمام العقول وتملك عواطف القوم واذهانهم للفيض عليها بما ارادت ان توصله اليهم فقد اصبحت العقول جاهزة لاستلام الجديد من المعرفة والموازين التي جاءت بها عن الله سبحانه بعيدا عن الهوى ورغبات النفس الحاكم والتي هي بطبيعة الحالة امارة بالسوء ، لك في قولها : (ثُمَّ قالت: أيُّها النّاسُ! اعْلَمُوا أنِّي فاطِمَةُ، وَأبي مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ )

    فكان هذا محاولة منها لسحب بساطة السلطة الخطابية من تحت الخصوم ومسك زمام قيادة المجلس وتوجيه الحاضرين. ثم انها عليها السلام شرعت في تصوير إقامة القوم مقام العبودية لله الذي يفترض ان يكونوا فيه من السمع والطاعة لله سبحانه ، فقد قالت : (أَنْتُمْ عِبادَ الله نُصْبُ أمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَحَمَلَةُ دينِهِ وَوَحْيِهِ، وِأُمَناءُ اللهِ عَلى أنْفُسِكُمْ، وَبُلَغاؤُهُ إلى الأُمَمِ، وَزَعَمْتُمْ حَقٌّ لَكُمْ للهِ فِيكُمْ، عَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ، وَبَقِيَّةٌ استَخْلَفَها عَلَيْكُمْ. كِتابُ اللهِ النّاطِقُ، والقُرْآنُ الصّادِقُ، وَالنُّورُ السّاطِعُ، وَالضِّياءُ اللاّمِعُ، بَيِّنَةٌ بَصائِرُهُ، مُنْكَشِفَةٌ سَرائِرُهُ، مُتَجَلِّيَةٌ ظَواهِرُهُ، مُغْتَبِطَةٌ بِهِ أَشْياعُهُ، قائِدٌ إلى الرِّضْوانِ اتّباعُهُ، مُؤَدٍّ إلى النَّجاةِ إسْماعُهُ. بِهِ تُنالُ حُجَجُ اللهِ المُنَوَّرَةُ، وَعَزائِمُهُ المُفَسَّرَةُ، وَمَحارِمُهُ المُحَذَّرَةُ، وَبَيِّناتُهُ الجالِيَةُ، وَبَراهِينُهُ الكافِيَةُ، وَفَضائِلُهُ المَنْدوبَةُ، وَرُخَصُهُ المَوْهُوبَةُ، وَشَرايِعُهُ المَكْتُوبَةُ ) ففي هذا النص ربط لهذه العقول الضائع بين رغبا النفس الحالمة والخنوع تحت سلطة الاخر والضعف امام ممارسة السلطة .

النمط الثالث : الخطاب التضامني :

    ثم شرعت بعد ذلك في قول ما ارادت قوله من القضايا الدقيقة التي ارادت التكلم بها والموضوعات الخلافية التي حصل التنازع عليها. فقد اتمت بذلك صناعة شخصية الباث في نظر المتلقين وتوجيههم الى معرفة مقامه الصحيح ، ليتعرفوا الى اهمية كلامها ودقة نقله وعظيم مضمونه وخطورة عصيانه بتقريبهم من العقل الذي تفكر به واقترابها من دائرة تفكيرهم  بقولها : (  فَلَمَّا اخْتارَ اللّهُ لِنَبِيِّهِ دارَ أنْبِيائِهِ وَمَأْوى أصْفِيائِهِ، ظَهَرَ فيكُمْ حَسيكَةُ النِّفاقِ وَسَمَلَ جِلبْابُ الدّينِ، وَنَطَقَ كاظِمُ الْغاوِينِ، وَنَبَغَ خامِلُ الأَقَلِّينَ، وَهَدَرَ فَنيقُ الْمُبْطِلِين. فَخَطَرَ فِي عَرَصاتِكُمْ، وَأَطْلَعَ الشيْطانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرِزِهِ، هاتفاً بِكُمْ، فَأَلْفاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجيبينَ، وَلِلْغِرَّةِ فِيهِ مُلاحِظِينَ. ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفافاً، وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفاكَمْ غِضاباً، فَوَسَمْـتُمْ غَيْرَ اِبِلِكُمْ، وَأَوْرَدْتُمْ غَيْرَ شِرْبِكُمْ، هذا وَالْعَهْدُ قَريبٌ، وَالْكَلْمُ رَحِيبٌ، وَالْجُرْحُ لَمّا يَنْدَمِلْ، وَالرِّسُولُ لَمّا يُقْبَرْ، ابْتِداراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ، {ألا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَانَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطةٌ بِالْكافِرِينَ{ فَهَيْهاتَ مِنْكُمْ، وَكَيْفَ بِكُمْ، وَأَنَى تُؤْفَكُونَ؟ وَكِتابُ اللّه بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، أُمُورُهُ ظاهِرَةٌ، وَأَحْكامُهُ زاهِرَةٌ، وَأَعْلامُهُ باهِرَةٌ، وَزَواجِرُهُ لائِحَةٌ، وَأوامِرُهُ واضِحَةٌ، قَدْ خَلَّفْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، أرَغَبَةً عَنْهُ تُرِيدُونَ، أمْ بِغَيْرِهِ تَحْكُمُونَ، {بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً} {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ ديناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ}. ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا الاّ رَيْثَ أنْ تَسْكُنَ نَفْرَتُها، وَيَسْلَسَ قِيادُها ثُمَّ أَخّذْتُمْ تُورُونَ وَقْدَتَها، وَتُهَيِّجُونَ جَمْرَتَها، وَتَسْتَجِيبُونَ لِهِتافِ الشَّيْطانِ الْغَوِيِّ، وَاطْفاءِ أنْوارِالدِّينِ الْجَلِيِّ، وَاهْمادِ سُنَنِ النَّبِيِّ الصَّفِيِّ، تُسِرُّونَ حَسْواً فِي ارْتِغاءٍ، وَتَمْشُونَ لأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فِي الْخَمَرِ وَالْضَّراءِ، وَنَصْبِرُ مِنْكُمْ عَلى مِثْلِ حَزِّ الْمُدى، وَوَخْزِ السِّنانِ فِي الحَشا، وَأَنْـتُمْ تزْعُمُونَ ألاّ ارْثَ لَنا، {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ تَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أفَلا تَعْلَمُونَ؟ بَلى تَجَلّى لَكُمْ كَالشَّمْسِ الضّاحِيَةِ أنّيِ ابْنَتُهُ).

    ومن الواضح انها اتخذت موقف المرشد الناصح الامين لهؤلاء القوم عبر توبيخهم تارة ونصحهم تارة اخرى وتعليمهم ورفع الجهالة عنهم والجهل تارة ثالثة.

النمط الرابع : خطاب الاستعطاف والتظلم :

    في هذا النمط نجد السيدة ع تظهر ظلامتها امام المسلمين وجعلهم حكما امام من خاصمها وظلمها وسلبها حقها .

وقد تمثل ذلك في مرحلتين :

المرحلة الاولى : التظلم امام المسلمين ممن تابعها ومن خالفها .

    وقد تمثل لذلك في قولها : (أَيُهَا الْمُسْلِمونَ أاُغْلَبُ عَلى ارْثِيَهْ يَا ابْنَ أبي قُحافَةَ! أفي كِتابِ اللّهِ أنْ تَرِثَ أباكَ، وِلا أرِثَ أبي؟ {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيًّا}، أَفَعَلى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتابَ اللّهِ، وَنَبَذْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ اذْ يَقُولُ: {وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ}، وَقالَ فيمَا اخْتَصَّ مِنْ خَبَرِ يَحْيَي بْنِ زَكَرِيّا عليهما السلام اذْ قالَ رَبِّ {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِياًّ يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} وَقَالَ: {وَاُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّه} وَقالَ: {يُوصِكُمُ اللّهُ في أوْلادِكُمْ لِلذكَرِ مِثْلُ حَظِّ الاُنْثَيَيْنِ} وقال: {انْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والْأَقْرَبِبنَ بِالْمعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ}. وزَعَمْتُمْ أَلَا حِظوَةَ لِي، وَلا إرْثَ مِنْ أبي ولارَحِمَ بَيْنَنَا!

أَفَخَصَّكُمُ اللهُ بِآيَةٍ أخْرَجَ مِنْها أبِي؟ أمْ هَلْ تَقُولونَ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ لا يَتَوارَثَانِ، أوَ لَسْتُ أَنَا وَأَبِي مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ واحِدَةٍ؟! أَمْ أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِي وَابْنِ عَمّي؟ فَدُونَكَها مَخْطُومَةً مَرْحُولَةً، تَلْقاكَ يَوْمَ حَشْرِكَ، فَنِعْمَ الْحَكَمُ اللهُ، وَالزَّعِيمُ مُحَمَّدٌ، وَالْمَوْعِدُ الْقِيامَةُ، وَعِنْدَ السّاعَةِ يخسَرُ المبطلون، وَلا يَنْفَعُكُمْ إذْ تَنْدَمُونَ، {وَلِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ{) .

المرحلة الثانية : التظلم الى فئة محددة من أنصارها.

    في هذه المرحلة حاولت السيدة استنهاض شريحة مخصوصة من المجتمع الذي امامها كانت تظن أنهم الاصلح بين الفاسدين لتقريبهم من الحقيقة بدرجة اضافية وكسبهم الى ساحة المؤيدين لها عبر كشف الستر عن وجه الحقيقة امامهم ومعاتبتهم في قولها : (ثُمَّ رَمَتْ بِطَرْفِها نَحْوَ الْأَنْصارِ فَقالَتْ:

    يا مَعاشِرَ الْفِتْيَةِ، وَأَعْضادَ الْمِلَّةِ، وَأنْصارَ الْإِسْلامِ! ما هذِهِ الْغَمِيزَةُ فِي حَقِّي؟ وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلامَتِي؟ أما كانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله علبه وآله أبِي يَقُولُ: “اَلْمَرْءُ يُحْفَظُ فِي وُلْدِهِ”؟ سَرْعانَ ما أَحْدَثْتُمْ، وَعَجْلانَ ذا إهالَةً، وَلَكُمْ طاقَةٌ بِما اُحاوِلُ، وَقُوَّةٌ عَلى ما أَطْلُبُ وَاُزاوِلُ!

أَتَقُولُونَ ماتَ مُحَمَّدٌ صلّى الله عليه وآله؟! فَخَطْبٌ جَليلٌ اسْتَوْسَعَ وَهْيُهُ، وَاسْتَنْهَرَ فَتْقُهُ، وَانْفَتَقَ رَتْقُهُ، وَأَظْلَمَتِ الْأَرْضُ لِغَيْبَتِهِ، وَكُسِفَتِ النُّجُومُ لِمُصِيبَتِهِ، وَأَكْدَتِ الْآمالُ، وَخَشَعَتِ الْجِبالُ، وَاُضيعَ الْحَرِيمُ، وَاُزيلَتِ الْحُرْمَةُ عِنْدَ مَماتِهِ. فَتِلْكِ وَاللهِ النّازلَةُ الْكُبْرى، وَالْمُصيبَةُ الْعُظْمى، لا مِثْلُها نازِلَةٌ وَلا بائِقَةٌ عاجِلَةٌ أعْلَنَ بِها كِتابُ اللهِ -جَلَّ ثَناؤُهُ- فِي أَفْنِيَتِكُمْ فِي مُمْساكُمْ وَمُصْبَحِكَمْ هِتافاً وَصُراخاً وَتِلاوَةً وَإلحاناً، وَلَقَبْلَهُ ما حَلَّ بِأنْبِياءِ اللهِ وَرُسُلِهِ، حُكْمٌ فَصْلٌ وَقَضاءٌ حَتْمٌ: {وَما مُحَمَّدٌ إلاّ رَسولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإنْ ماتَ أَو قُتِلَ انقلَبْتُمْ على أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشّاكِرينَ{.

أيْهاً بَنِي قَيْلَةَ! أاُهْضَمُ تُراثَ أبِيَهْ وَأنْتُمْ بِمَرْأى مِنّي وَمَسْمَعٍ، ومُبْتَدأٍ وَمَجْمَعٍ؟! تَلْبَسُكُمُ الدَّعْوَةُ، وتَشْمُلُكُمُ الْخَبْرَةُ، وَأنْتُمْ ذَوُو الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَالأَداةِ وَالْقُوَّةِ، وَعِنْدَكُمُ السِّلاحُ وَالْجُنَّةُ؛ تُوافيكُمُ الدَّعْوَةُ فَلا تُجِيبُونَ، وَتَأْتيكُمُ الصَّرْخَةُ فَلا تُغيثُونَ، وَأنْتُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْكِفاحِ، مَعْرُفُونَ بِالْخَيْرِ وَالصَّلاحِ، وَالنُّجَبَةُ الَّتي انْتُجِبَتْ، وَالْخِيَرَةُ الَّتِي اخْتيرَتْ! قاتَلْتُمُ الْعَرَبَ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ، وَناطَحْتُمُ الاُْمَمَ، وَكافَحْتُمً الْبُهَمَ، فَلا نَبْرَحُ أو تَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُمْ فَتَأْتَمِرُونَ حَتَّى دَارَتْ بِنا رَحَى الإْسْلامِ، وَدَرَّ حَلَبُ الأَيّامِ، وَخَضَعَتْ نُعَرَةُ الشِّرْكِ، وَسَكَنَتْ فَوْرَةُ الإْفْكِ، وَخَمَدَتْ نيرانُ الْكُفْرِ، وهَدَأتْ دَعْوَةُ الْهَرْجِ، وَاسْتَوْسَقَ نِظامُ الدِّينِ؛ فَأَنّى جُرْتُمْ بَعْدَ الْبَيانِ، وَأَسْرَرْتُمْ بَعْدَ الإْعْلانِ، وَنَكَصْتُمْ بَعْدَ الإْقْدامِ، وَأشْرَكْتُم ْبَعْدَ الإْيمانِ؟ {ألا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَداؤُكُمْ أوَّلَ مَرَّةٍ أتَخْشَوْهُمْ فَاللهُ أحَقُّ أنْ تَخْشَوْهُ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ{) .

الخاتمة:

    مع ما نجد من اقسام الخطاب الذي استعملته السيدة في خطابها الا انها لم تحصل في الموقف على ما ارادت فلم يحرك خطابها عليها السلام الجمهور ولم يحصل الانقلاب التحول الذي ارادت الا بنسبة قليلة جدا . وقد اعلنت هي سلام الله عليها عن نتائج تشكيل خطابها بوصفها المتلقي الراقي والاول بين المتلقين فقد وصفت تقييمها لدرجة التاثير في خطابها بقولها: (مَعاشِرَ النّاسِ المُسْرِعَةِ إِلى قِيلِ الباطِلِ، المُغْضِيَةِ عَلى الفِعْلِ القَبيحِ الخاسِرِ {أَفَلا يَتَدَبَّرونَ القُرآنَ أَمْ عَلى قُلوبِهِم أَقْفالُها} كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلوبِكُمْ ما أَسَأتُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ، فَأَخَذَ بِسَمْعِكُمْ وَأَبْصارِكُمْ، وَلَبِئْسَ ما تَأَوَّلْتُمْ، وَساءَ ما أَشَرْتُمْ، وشَرَّ ما مِنْهُ اعتَضْتُمْ، لَتَجِدَنَّ وَاللهِ مَحْمِلَهُ ثَقيلاً، وَغِبَّهُ وَبيلاً إِذا كُشِفَ لَكُمُ الغِطاءُ، وَبانَ ما وَراءَهُ الضَراءُ، {وَبَدا لَكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ما لَمْ تَكونوا تَحْتَسِبونَ} وَ {خَسِرَ هُنالِكَ المُبْطِلونَ{ )