الندوة الخامسة ..العنوان ((سيرة الزهراء (ع) بين ثنائية التاريخ ووسائل التطبيق العملي في الواقع الإسلامي قراءات تحليليةالباحث الاول : الشيخ فائــــز المياحي . العنوان : ((الحاجة إلى الأسوة الحسنة….السيدة فاطمة الزهراء -عليها السلام- أسوة وقدوة )). عقدت هذه الندوة برعاية مكتب المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي ( دام ظله) في البصرة .في حسينة الإمامين العسكريين ( ع ).
الباحث الاول : الشيخ فائــــز المياحي .
العنوان : ((الحاجة إلى الأسوة الحسنة….السيدة فاطمة الزهراء -عليها السلام- أسوة وقدوة )).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله كما هو اهله وكما يستحقه وصلى الله على خير خلقه محمد واله الطاهرين
في البدء اعتقد انه لابد من الالماع الى قضية جوهرية، بل هي المقصودة في علاقة المسلم بربه ودينه وأولياءه -عليهم السلام-ألا وهي البعد العملي وترجمة النظرية إلى تطبيقٍ واقعيٍ يعيشه المؤمن على ارض الواقع، والممارسة الفعلية في كل جوانبها الفردية والجماعية، من الكتب المسطورة الفعل الحي. إن الحد الفاصل من الناحية الظاهرية بين عنوان المسلم والكافر هو نطق الشهادتين، بينما الحدُ الفاصلُ بين الأيمان والنفاقِ هو الممارسة العملية للعقيدة، كما يقول سبحانه وتعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) سورة السجدة.
فنجد التقسيم القرآني يضع حدا فاصلا (ويحاكي المنطق والعقل) في توزيع بني ادم توزيعا على أساس حقيقيٍ؛ ليس اعتباريا كتقسيماتنا نحن، هذا التقسيم قائم على أساس الأيمان والعمل الصالح، وهذه الحقيقة رغم تسالمنا عليها ولكن هناك مفارقة بين النظرية -التي يُدعى الأيمان بها- وبين تمثيلها على أرضِ الواقعِ، وهذه المفارقة -بل المباينة- هي جذر كل ما نعانيه من انتكاسات وتراجعات سياسية واقتصادية واجتماعية وعلمية وفكرية…الخ، ولو اقترنت النظرية بالتطبيق لرأينا تبدل حالنا إلى ما وعد الله به المؤمنين بقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) من سورة الاعراف.
إن رفعَ النظريةِ إمام الآخرين والمناداة بها شعارا، وحتى حبها والاقتناع بها لا يكفي ما لم تتجسد على ارض الواقع، في المقابل فإنّ تطبيقها او تطبيق بعض مضامينها يعطي النتيجة بلحاظ تلك التطبيقات، يعطي النتائج حتى مع عدم الإقرار بها، وهذا ما نلاحظه، فالدول التي تهتم بالعلم والعمل والأمانة والصدق (وهي من أركان البعد الديني الأصيل) ترتقي وان كانت كافرة، والدول، والأممُ التي تدعي الأيمان تتراجع عندما تتخلف عن هذه الشروط، ولن يشفع لها قرءانٌ يتلى أناء الليلِ وأطرافَ النهار مادامت مقتصرا على زاوية القراءة بلا تفعيل. من هنا نفهم أهمية مراجعة الذات الفردية والجماعية في كل مساراتها، لتصحيح هذا التباين بين الادعاء والتطبيق “والله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”
موقعيه الزهراء -عليها السلام- في نقل النظرية الى التطبيق .
(طبعا لا حاجة للإسهاب في إن نبين بان انطلاقنا للفظ النظرية على العقيدة والإسلام لا نريد به ما يمكن ان يصيب او يخطأ، بل نحن على يقين ان أحكام الله تعالى تمثل حقائق وقوانين ضرورية، فكما أنْ القوانين التكوينية حاكمة على الواقع فان القوانين التشريعية تحكم على واقع ومصير الإنسان في الدنيا والآخرة ولامجال للخطأ فيها وإنما قد يكون الخطأ في فهمنا لها او تطبيقنا إياها حصرا) وفي هذا البعد -التطبيقي- نجد ان العلاقة بالسيدة فاطمة الزهراء -عليها السلام- يمثل محورا جوهريا ومفصليا لأنها تمثل البعد التطبيقي لنا جميعا، لاسيما بالنسبة للنساء لذلك عبر سماحة المرجع –مدّ الله ظله الشريف- بأن “يوم الزهراء(عليها السلام) يوم الفرقان”في خطاب 160 من خطابات المرحلة. وهذه السيدةُ في ابتعادها العقائدية والسلوكية تمثلُ جوهرَ الحركةِ الرساليةِ الإسلاميةِ الأصيلة التي تفرِّق بين الحق المحض والصراط المستقيم من جانب وبين الباطل بكل صوره وإشكاله وعناوينه -الصريحة والمزيفة- من جانب أخر، فهي -عليها السلام- توضح الطريق نظريا وعمليا، فتقرن النظرية بالتطبيق وبشكل لا يقبل الخطأ لأنها بضعة رسول الله -صلى الله عليه واله وسلم- وأم أبيها، فهي من الناحية العملية تجسيد للنظرية على ارض الواقع وكانت في كل مراحل حياتها النموذج الكامل للإنسان الصالح لذلك عبر النبي عنه بـ(أم أبيها) واعتبرها امتداد نوعي له (صلى الله عليه واله وسلم) حينما يقول(فاطمة بضعة مني…) فهولا يريد ان يخبرنا بأنها ابنته لوضوح ذلك ولكن يريد ان يبين موقعيتها في ديمومة الرسالة وحفظها، وصحة ودقة تطبيقها على ارض الواقع.
لذلك عند مطالعة سيرتها ومواقفها وكلامها سلام الله عليها علينا ان نتدبرها جيدا ونمعن النظر لأنها قران يمشي على الأرض؛ ربَّ موقفٍ يمرُ عليه قارئٌ ما مرور الِئامِ الغافلينَ مع أنه يمثل بعدا حياتيا جوهريا، لا يظهر الا لذوي الْأَلْبَابِ الذين يتفكرون في سيرة أولياء الله وحججه آناءَ الليلِ وأطراف النهارِ، الذين نادَوهم للأيمان فأمنوا، ويعلمون ان الله لم يُنصِّبهم باطلا، سبحانه هو العزيز الحكيم هم أدلاء على ديننه وحججه على عباده ولننظر الآن إلى واقعنا وما يتحكم فيه من عناصر، ثم لنلتفت الى سيرةٍ حيةٍ ماثلةٍ لا تموت تمثلتها الزهراء ع، فندرك كيف السبيل، حتى ننتقل من الجانب النظري، إلى مرحلة الواقع العملي الفعلي فنجعل الماضي الواقع فعلا واقعا معاشا (قل من المكتبات الى الشارع).
الأسوة توجه الناس أتطرق إلى عنصر واحد مهم بهذا الصدد وهو الأسوة، فعالم اليوم يعلب فيه دور القدوة والنموذج دور الصانع للذوق والسلوك والتصرفات حتى في المأكل والملبس. ولذلك صنع أتباع الشيطان نماذج وجعلوها قدوات تستهوي الناس، وبدأوا بتقديم هذه النماذج في شتى مجالات الحياة وعلى رأسها المجال الإعلامي الذي يمثل الحسَّ المستقطِب في المسموع الخلاب والصورة المرئية الجاذبة، ولم يستثنوا من ذلك حتى الأطفال حينما يزقون لهم مشاهد ضارة بفطرتهم وملوثةَ لسلامةِ قلوبِهم، سواءً بالكَمِّ الهائلِ من مشاهد العنف والقتال او مشاهد الإثارة والغريزة، (حتى سجلت الدراسات معدلات بلوغ جنسي غير مسبوق للفتيات والفتيان وذكرت تلك الدراسات ان بعض الفتيات يصلن الى البلوغ في سن السابعة وان معدل البلوغ العام لهن في حدود التاسعة بحيث تنمو اثدائهن وتبرز وتحصل لديهن الدورة الشهرية).
أضف إليها مشاهد العشوائية والفوضى واللامبالاة، وسرعة حركة الصورة التي تصنع عقلا صوريا حسيا يخبو فيه البعد الفكري التأملي وتغلب فيه نزعة العنف والانفعال والغريزة المنفلتة. لذلك تلاحظ تراجع مستويات الدراسة لدى الطلبة وتراجع مستوى التفكير المنطقي بشكل عام، وأمست حياةُ الإنسان مجموعةً من مشاهد الأكشن والإثارة والصُورِ السريعةِ فبات ساهرا على توافه وسموم، ليصبح نائما عن أهدافه وحياته، بل فاقدا لها غير مكترث بها، وهذا موت الأحياء وضياع الإنسان ومرض هذا الزمان.
وهنا تمس الحاجة أكثر من أي وقت إلى الأسوة الحسنة والنموذج الصحيح، وهنا تكون السيدة فاطمة الزهراء -عليها السلام- قمة الهرم الإنساني في كماله وخلقه، وحركته الطاهرة النقية الهادفة لإعمار الحياة، ومحاربة الظلم ومواجهة الفساد، والدفاع عن الحق، مع الحفاظ على السلوك العفيف. ولعل توجه المؤمنين الى أحياء ذكرِها العطر يكون سببا لصمود المجتمع في وجه الاكتساح اللاثقافي واللاأخلاقي، ونحن محتاجون الى تقديم النموذج الفاطمي ليكون نموذجا إنسانيا كونيا بلغة العصر المناسبة كجعل عيد للمرأة المقدسة يتم فيه احياء ذكرى النساء العظيمات مثل السيدة مريم العذراء وفاطمة الزهراء -ع- وغيرهن من النساء اللواتي يمثلن عنصر التقابل مع النموذج المنحط الهابط المطروح اليوم للبشرية على مختلف أسماءه وعناوينه من الفن والسياسة والمجتمع النموذج القائم على الشكل دون المضمون كالعسل المغشوش المسموم.
ونحن محتاجون بشدة إلى أحياء المفاهيم النبيلة والسامية، مثل العفاف والحياء والحشمة والجهاد النسائي في حسن التبعل وبناء الأسرة الصالحة والتربية النظيفة، وبما يناسب طبيعة ودور المرأة الذي أرادها الله ان تكون له شريكةً الأنبياءِ والرسل في أحياء الأرض وبناء المجتمع وصلاحه. لذلك نحن بحاجة الى التركيز أكثر وأكثر للالتصاق بهذه الأسوة الحسنة المقدسة سلام الله عليها ولا يمكن استعراض الكثير من الشواهد في سيرتها ولكن أُذكِّر بجزئيةٍ بسيطةٍ جداً من حياتها العامرة بالعطاء لتكون سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين -رغم انها لم تكمل ربيع الثامنة عشر-:
قالوا: لَمَّا بَلَغَ فَاطِمَةَ عَلَیْهَا السَّلَامُ إِجْمَاعُ أَبِی بَکْرٍ عَلَی مَنْعِهَا فَدَكَ، لَاثَتْ خِمَارَهَا وَ أَقْبَلَتْ فِی لُمَةٍ مِنْ حَفَدَتِهَا وَ نِسَاءِ قَوْمِهَا تَطَأُ ذُیُولَهَا ، مَا تَخْرِمُ مِشْیَتُهَا مِشْیَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ حَتَّی دَخَلَتْ عَلَى القوم- وَ قَدْ حَشَدَ النَّاسَ مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَ الْأَنْصَارِ- فَضُرِبَتْ بَیْنَهُمْ وَ بَیْنَهَا رَیْطَةٌ بَیْضَاءُ، ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّةً أَجْهَشَ لَهَا الْقَوْمُ بِالْبُکَاءِ، ثُمَّ أَمْهَلَتْ طَوِیلًا حَتَّی سَکَنُوا مِنْ فَوْرَتِهِمْ، ثُمَّ قَالَتْ: (خطبتها)
فالمشهد رغم قصر العبارة لكنه مزدحم بالصور المعبرة والحركة الناطقة، مع رمزيات المؤثرة تختصر الصراع الإنساني بين الحق والباطل حركة ثورية وتحريك لعنصر المرأة في المواجهة حينما تخرج مع النساء وتحركهن وتحاول تحريك المجتمع وهزّ وجدانه للتحرك ورفض الظلم والفساد، مشهد مؤثر يختزل فيه الكثير من الإيقاع والعواطف والمبادئ والمواجهة مع رموز الظلم وقمة هرم السلطة والمؤسسة العليا والتي فرضت نفسها بالحيلة والبطش والتزوير والإغراءات التخويف،
لاثَتْ خِمَارَهَا : وهذا هو الاستعداد الأول للمرأة حينما تريد النزول للمواجهة ان تحفظ سترها وعفتها ولا تكون مبتذلك ولا محطة رخيصة للنظرات الهابطة والنفوس المريضة الطامعة. هذا الحجاب يمثل القيمة الشكلية للمرأة المسلمة فكما ان الثياب هي ستر فهي رمزية ومحاكاة كالثياب التي يرتديها الملوك والشخصيات العالية في المجتمع لا تلبس أي شيء كما انها تحاول ان يكون من ثوبها ايحاء مناسبا لموقعهم ورسالتهم، وهكذا يجمع ثوب المرأة المسلمة بين الستر والعفاف وبين المهابة والهيبة والوقار…
وَ أَقْبَلَتْ فِی لُمَةٍ مِنْ حَفَدَتِهَا وَ نِسَاءِ قَوْمِهَا تَطَأُ ذُیُولَهَا: انها حركة استقطاب وتحريك للشارع وتثوير للمظلومين ضد الظالم
مَا تَخْرِمُ مِشْیَتُهَا مِشْیَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّی اللَّهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ : ايحاء واضح بالثبات مقابل المنقلبين على الاعقاب فهي تسير على خطى القران وخطى ابيها ولم تنجرف او تنحرف قيد انملة
حَتَّی دَخَلَتْ عَلَى فلان وَ قَدْ حَشَدَ النَّاسَ مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَ الْأَنْصَارِ: معسكر الباطل الذي يحاول أيضا استقطاب وتعبئة جمهوره
فَضُرِبَتْ بَیْنَهُمْ وَ بَیْنَهَا رَیْطَةٌ بَیْضَاءُ: تأكيد مجدد على الستر وحفظ الهيبة ووضع الحدود اللازمة للتفاعل بين الجنسين وعدم انحلال المرأة في مرحلة العمل والمواجهة او الانفعال ونحوه..
ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّةً أَجْهَشَ لَهَا الْقَوْمُ بِالْبُکَاءِ، ثُمَّ أَمْهَلَتْ طَوِیلًا حَتَّی سَکَنُوا مِنْ فَوْرَتِهِمْ،
توظيف العاطفة لأحياء الوجدان وتحريك المخاطب وهذا هو العمود الفقري لنشر الثقافة المعاصرة من خلال العوامل العاطفية والنفسية اكثر من الجوانب المنطقية التي يُغطّونها بالمغالطات والأكاذيب والتزوير والتزويق ويضعون قبالها الإغراء والإثارة… هذا بصيص من نور الزهراء( عليها السلام ) للتأسي بها ورفعها عنوانا للمرأة وللإنسان الثائر الحر الكريم النظيف العفيف في غاياته ووسائله، نحتاج إلى ان نتمثلها ونوصلها للعالم اجمع ليكون النموذج المقابل للهبوط والانحدار الذي تتجه اليه غالبية البشرية .والحمد لله رب العالمين وصلى الله على الصديقة الزهراء وآبيها وبعلها وبينها الأطهار .