أثر القرآن الكريم في الخطبة الفدكيّة للصِّدِّيقةِ الزهراء-عليها السلام أ.م.د.نوري كاظم الساعدي أ.م.د. بشرى ياسين محمد
الْـحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ الْـحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِكْرِهِ، وَسَبَباً لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ، وَدَلِيلاً عَلَى آلاَئِهِ وَعَظَمَتِهِ.ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لاشريك له ،وأنّ محمدا عبده ورسوله ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْـمُضِيءِ، وَالْبُرهَانِ الْـجَليِّ، وَالْمِنْهَاجِ الْبَادِي، وَالْكِتَابِ الْـهَادِي. أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ، وَشَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ .
يُعدُّ القرآن الكريم كتاب اللّه المُعجـِز الذي، تحدّى به الخالق- تقدست أسماؤه- جميع المعاندين من الأنس والجن إلى أنْ تقوم السّاعة ،وهو حبله المتين،وربيع قلوب المؤمنين، وينابيع العلم، دليل تصديق الرسول النبيّ الأميّ محمّد – صلّى الله عليه وآله وسلم- ومعجزته الكبرى،وقد صِيغ بصياغاتٍ ،لا تفنى على تقـادم الأزمنة، وتجدد الأمكنة،فإنّه يحمل سرّه بين دفتيه،فتظلُّ البَرية في سعيٍ دائبٍ لمعرفة كـنه أسراره،وتأويـــل آيــاته : ((وَمَا يَعلمُ تأويلهُ إلاّ اللّهُ والرّاسِخونَ فِي العِلم ِيَقولونَ آمَنّا بهِ كلّ مِن عِندِ رَبِّنا و مَا يَذَّكرُ إلاّ ألوْا الأَلبَابِ ))[آل عمران/7].
أما أهل بيت الرسول- عليهم السلام– فإنّهم عِـدلُ القرآن،وأهله،وترجمانه ،ولا ريب أنْ نرى ثمة وشائج تجمع بينهما،فهما باتساقهما مع بعضهما،يؤلفان كــُلا ًواحدا ًلا تـنفصم عراه،من أجل ذلك،كانا (الثقـَـلين)الذين ِتركهما رسول الله-صلّى الله عليه وآله وسلم- من بعده،وهم حُجج النبوة في قول الحقّ- تبارك وتعالى –:((فمَن حَاجّك فيه ِمن بعَدِ مَا جَاءَكَ مِن َ العِلم فُقل تَعالَوا نَدعُ أبنَاءَنا وَأبنَاءَكُم وَنسِاءَنا ونسِاءَكُم وَأنفُسَنا وَأنفُسَكُم ثمَّ ّنبتَهِل فَنجعَلَ لَعنَةَ اللّه علَى الكَاذبِين))[آل عمران/ 61].
ومن أجل هذا وغيره،كان بحثنا الموسوم بـ(( أثر القرآن الكريم في الخطبة الفدكية للصِّدّيقةِ الزهراء -عليها السلام–)). فتم الالتفات فيه إلى توظيف السيدة الزهراء –عليها السلام- للقرآن الكريم ،وبيان كييفية هذا التوظيف في خطبتها المعروفة بالفدكيّة، وهي الخطبة التي ألقتها في المسجد النبوي الشريف على الخليفة الأول بحضور جمع من المسلمين بعد أن منعها من إرثها في أرض فدك .وعرضت فيها للظلامة التي وقعت عليها ،وعلى أهل بيت النبي– صلّى الله عليه وآله وسلم- بعد مدّة وجيزة من انتقال الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى،وكاشفة لعدد من الأسرار والخفايا الخطيرة التي اخفاها تاريخ السياسي للحكام،كل ذلك كان بلغة تعتمد على الفصاحة المؤطرة بالحجاج القرآني ،والعقلي ،والاجتماعي،بيد أن القوم لم يلتفتوا إلى ما عرضته،وقد تناسوا أنها بضعة رسول الله– صلّى الله عليه وآله وسلم- .ولم تكن الصدِّيقة الطاهرة تبتغي في خطبتها هذه عرَضّ الحياة الدنيا الزائل بل أرادت أن تضع النقاط على الحروف للقوم في أنهم عَصَوا الله، ورسوله في حياته ،وبعد وفاته،وكيف أمسى حال الأمة ، وما ستؤول إليه من نكوص عن الحق ، وغدر بأبناء نبيه من بعده.فدعت بالحكمة والموعظة الحسنة ،وجادلت القوم بالتي هي أحسن،مصداقا لقول الحق-تبارك وتعالى: ﱡﭐ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚ ﲛ ﲜﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﲪ ﲫ ﲬ ﲭ ﱠ[النحل/12].
زهد الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء –عليها السلام-:
سبق أن قلنا أنّ الصدّيقة الطاهرة لم تكن تبتغي في خطبتها هذه عرَضَ الحياة الدنيا الزائل،وقد أقرها الله على هذا الأمر في القرآن الكريم،وسنختار موقفين لها يشترك معها فيهما أهل البيت –عليهم السلام-:
الأول:جاء في سورة الإنسان،فثمة إجماع عند عدد من علماء التفسيرعلى أنّ ثماني عشرة آية من آيات سورةالإنسان،أوالدهر أوالأبرار،أوالمسماة بمفتتحها، بداءةً من قوله تعالى:(( إنّ الأبرَارَ يَشرَبُونَ))[الأنسان/5]إلى قوله:((وَكانَ سَعيَكم مَشكوراً )) [الإنسان/22]. نزلت في أهـل بيت رسول الله-صلّى الله عليه وآله وسلم-:علي وفاطمة والحسن والحسين وجارية لهم،تسمى فضة .فقد جاء في تفسير الكشّاف عن حَبرالأمة عبدالله بن عباس(رض):((إنّ الحســن والحسين مَرِضّا،فعادهما رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-في ناس معه فقالوا:ياأبا الحسن لونذرت على وِلدك، فنذرعلي،وفاطمة، وفضة-جارية لهما- إنْ برآ مما بهما أنْ يصوموا ثلاثة أيام،فشفيا ومامعهم شيء، فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث أصوع من شعير،فطحنت فاطمة صاعاً،واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم،ليفطروا فوقف عليهم سائل،فقال:السلام عليكم أهل بيت محمّد،مسكين من مساكين المسلمين. أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثرواه وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء،وأصبحوا صياماً،فلـمّا أمسوا،ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم، فآثروه، ووقف عليهم أسيرفي الثالثة،ففعلوامثل ذلك.فلمّا أصبحوا،أخذ عليّ-رضي الله عنه– بيد الحسن والحسين،وأقبلوا إلى رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم– فلمّا أبصرهم، وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع،قال:ماأشـدّ مايسوءني ما أرى بكم! وقام فانطلق معهم،فرأى فاطمة في محرابها،قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها،فساءَهُ ذلك،فنزلَ جبريل،وقال:خذها يامحمّد! هنّـاك الله فـي أهـل ِبيتك، فأقـرأهُ السـورة))(1).
إنّ سبب نزول الآيات المباركة في حقِّ أهـل بيت رسول الله:علي وفاطمة والحسن والحسين- عليهم السلام– يشيرإلى مقدار الإيثار الذي،يتصفون به،وهذا سبيل ارتضوه في الحياة الدنيا،وهوسبيل العارفين بالله.
الموقف الآخر:عندما قال الحقّ ُفيهم:(( وَيُؤثِرونَ عَلى أنفـُسِهِم وَلوكانَ بِهِم خَصَاصَة ُ ُ وَمَن يُوقَ شُـــحَّ نَفسِــــه ِفَأولِئــكَ هُمُ المُفلـِحونَ ))[الحشر/ 9]. وقد ورد في سبب نزول آية الإيثارهذه،أنّ السيدة فاطمة الزهراء-عليهاالسلام– قالت لعلي-عليه السلام– إذهب إلى أبي فابغنا منه شيئاً.
فقال:نعم، فأتى رسول الله– صلى الله عليه وآله وسلم-فأعطاه دينارا،وقال:ياعلي اذهب فابتع لأهلك طعاما.
فخرج من عنده، فلقيه المقداد بن الأسود– رضي الله عنه-فأعطاه الدينار، بعد أن ذكرَ له حاجته،وانطلق إلى المسجد،ولقي رسول الله– صلى الله عليه وآله وسلم-فقال له: ياعلي،ماصنعتَ؟ فقال:يا رسول الله ،خرجتُ من عندك فلقيني المقدادبن الأسود، فذكرلي ماشاء الله أن يذكرفأعطيته الدينار.
فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم– أما أنّ جبرائيل-عليه السلام– قد أنبأني بذلك،وقد أنزل الله فيك كتاباً(2)((وَيُؤثِرونَ عَلى أنفـُسِهِم وَلوكانَ بِهِم خَصَاصَة ُ ُ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفسِه فأولئكَ هُمُ المُفلـِحونَ )) [الحشر/ 9].
يزاد على ذلك كله،فإنّ الحقّ-سبحانه وتعالى- يقدم رسالة كونية ، عندما تُستَهلُ سورة الإنسان بقوله تعالى:((هَل أتى عَلى الإنسَان ِ حينُ ُمِنَ الدَهر ِ لم يَكن شَيئاً مَذكُوراً)) [الإنسان/1]. فتشيرإلى مآله،وتقدّم-أيضا-أنموذجاً إنسانياً،لبيوتات الأنبياء- عليهم السلام– تبتغي في مجملها، الإشارة إلى أنّ نهج أهل بيت محمّد – صلى الله عليه وآله وسلم- خاتم الرسل والأنبياء، منارللراغبين إلى ربِّهم،يهتدون به أنّى شاؤا،وبيتهم ليس ككلِّ بيت،فلاعجب أن آثروا المسكين،واليتيم،والأسيرعلى أنفـُسِهم ،وأطعموهم طعامهم وأوفوا بالنذر،وصبروا،وخشيتهم لله -سبحانه وتعالى- وهذا مابدا في آيات سورة الإنسان،التي اتجهت إلى ذكراتجاهين:اتجاه المؤمنين الرسول الكريم وأهل بيته- عليهم السلام– ومن اتبعهم،وذكرعطائهم،وهوالغالب على مجمل الآيات المباركة واتجاه المعاندين الكافرين،فقال الحقّ ُفي الإتجاهين في مستهل السورة:((إنّا هَدَينَاهُ السَبيلَ إمّا شاكِراًوإمّا كَفـُوراً))[الإنسان/3].وكان أهل البيت -عليهم السلام- من الشاكرين،وشكر الحق عملهم في الحياة الدنيا،فقال في شأنهم:(( وَكانَ سَعيُكم مَشكُورً ا ))[الإنسان/3]. وعلى هذا كانوا من الداخلين في فيوضاته الله ورحمة،ويكون ختام السورة المباركة بقوله تعالى:((يُدخِلُ مَن يَشاءُ فِي رَحمَتِهِ والظالِمِين أعَدَّ لَهُم عَذاباً ألِيما))[الإنسان/31].متسقاً مع التفاصيل التي اتجهت السورة إليها،وعلى نحو خاص،عمل أهل البيت-عليهم السلام- والنعيم والملك الكبير الذي أسبغه الخالق العظيم ـسبحانه وتعالى- عليهم .
وقد أشارالإمام فخرالدين محمّد بن عمرالرازي (ت606هـ )في كتابه :عجائب القرآن إلى مكانة أهل البيت- عليهم السلام– عند الله-سبحانه وتعالى- عندما جعلهم الحقّ مساوين للنبي –صلى الله عليه وآله وسلم- في عددمن الأمور،منها:
الأول:في المحبّة في قوله تعالى:((فاتَبِعوني يُحبِبكم اللهُ))[آل عمران/31].وقال تعالى في حقّ أهل بيت النبيّ:((قـُل لاأسألكم عَليهِ أجراً إلاّ المَوَ دَة فِي القــُربى ))[الشورى/ 23].
فعن ابن عباس- رضي الله عنه– أنّه لمّا نزلت هذه الآية ((قالوا:يارسول الله مَن هؤلاء الذين أمرنا الله بمودّتهم ؟ قال علي وفاطمة ووِلدهما.))( 3)
والثاني:في تحريم الصدقة عندما قال الرسول الكريم–صلى الله عليه وآله وسلم-:(( حُرِمت الصدقة ُعَليَّ وعلى آل بيتي )).
والثالث:في الطُهرفي قوله تعالى:(( إنما يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكمُ الرِجسَ أهلَ البيتِ ويُطهِرُكم تَطهِيراً))[الأحزاب/ 33].
والرابع:في السلام في الصلاة،يقال:((السلام عليك أيُّها النبيُّ))وقال في أهل بيته:((سلامُ ُعلى إل ياسين))[الصافات/ 130].وقد((قال ابن عباس:آل ياسين آل مُحمّد –صلى الله عليه وآله وسلم–، وياسين من أسمائهِ))(4).
والخامس:في الصلاةعلى الرسول وآله، كما في التشهد(5)،وهذا الأمرلم يشارك الرسول الكريم فيه أحد إلاّ أهل بيته.
يُزاد على ذلك كله،فإنّ القرآن الكريم المعجزة الكبرى للرسول– صلى الله عليه وآله وسلم- والمعجزة دليل تصديقه في مايدعوإليه،وكان هذا السبيل شأن أهل البيت-عليهم السلام-في آية المباهلة في قول الحقّ -تبارك وتعالى -:((فمَن حَاجّك فيه ِمن بعَدِ مَا جَاءَكَ مِن َ العِلم فُقل تَعالَوا نَدعُ أبنَاءَنا وَأبنَاءَكُم وَنسِاءَنا ونسِاءَكُم وَأنفُسَنا وَأنفُسَكُم ثمَّ ّنبتَهِل فَنجعَل لَعنةَ اللّه علَى الكَاذبِين))[آل عمران/ 61 ] .
فاشتركوا مع كتاب الله في هذا الأمر من دون الناس،عندما جعلهم الله-عزّوجلّ- دليل تصديق الرسول في مايدعو إليه،من أجل ذلك،لاريب في تجلي عطاءُ الخالق عليهم في سورة الإنسان في أكثرمن سبيل.
هؤلاء هم أهل البيت –عليهم السلام- الذين يقول فيهم أميرالمؤمنين-عليه السلام-: ((لايقاسُ بآل محمّد– صلى الله عليه وآله –أحد من هذه الأمة،ولايُسوّى بهم مَن جَرت نعمتهم عليه أبدا:هم أساس الدين،وعماد اليقين.))(6)ولاريب أنْ نرى تلك الآيات المباركة،وغيرها تنزل فيهم،ويُسبغ الحقّ عليهم آلآءهُ ظاهره،وباطنه، فإنّهم عِـدلُ القرآن، وأهله، وترجمانه.
في رحاب النص القرآني ،والخطبة:
وظفت الصدّيقة الطاهرة-عليها السلام-القرآن الكريم في مساحة واسعة من خطبتها،فهو نزل في بيوتهم على أبيهم رسول الله –صلّى الله عليه وآله وسلّم-،ولاريب أن يجري عذبا فراتا على ألسنتهم،قارا في أفئدتهم،فهم عِدله،وترجمانه،وتُدرك-عليهاالسلام- أثره،فوظفته في مستهل خطبتها قوله تعالى:ﱡﭐﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣ ﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﲨ ﲩ ﱠ [التوبة/128 ]. 18
فهي بداءة تذَكر الناس -عن طريق القرآن الكريم- برسول الله مُحمّد -صلى الله عليه وآله وسلم- فهو أبوها ،وابن عمّ زوجها،لكنها تصفهما بقولها:((فإن تعرفوه تجدوه أبي دون آباءكم وأخا ابن عمي دون رجالكم))( 7).وهذا التأكيد منها على أمر،وهو حقوق الرسول الكريم – صلى الله عليه وآله وسلم- عليهم،التي تناساها القوم مع أنّ العهد به، لم يكن بعيدا،فثمة قصديّة واضحة من الصدّيقة الطاهرة في استهلالها لخطبتها بهذا النص القرآني.عندما تذِّكرهم بالرسول الكريم– صلى الله عليه وآله وسلم-الذي كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين،فما بال القوم قد تناسوا هذا،و((لم يجمع الله سبحانه لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلا للنبي(صلى الله عليه وآله وسلّم) فإنه قال: « بالمؤمنين رؤوف رحيم » ،و قال: « إن الله بالناس لرءوف رحيم».« فإن تولوا » أي ذهبوا عن الحق و إتباع الرسول ،و ما يأمرهم به و أعرضوا عن قبوله. وقيل:معناه فإن تولوا عنك و عن الإقرار بنبوتك« فقل حسبي الله »أي كافي الله فإنه القادر على كل شيء«لا إله إلا هو عليه توكلت»و به وثقت ،و عليه اعتمدت ،وأموري إليه فوضت«و هو رب العرش العظيم »))( 8).فجاء توظيف النص القرآني على نحو مباشر من دون تغيير في ألفاظه.مراعاة منها –عليها السلام – أنّ لكلِّ مقام مقالٍ.
وتستمر في خطبتها فتوظف النص القرآني ،بيد أنها تغيّر من الدلالة الزمنية في لفظتين من ألفاظه،وهما:(هُزِم،وولوا) من المضارع إلى الماضي عندما تقول:((حتى هُزِم الجمعُ وولوا الدبر)).( 9) وقد جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى:ﱡﭐﲿ ﳀ ﳁ ﳂﱠ[القمر/45].وهذا التغيير يتسق مع سياق الخطاب بحسب مقتضى الحال. فقد((قال سبحانه «سيهزم الجمع»أي جمع كفار مكة«و يولون الدبر» أي ينهزمون فيولونكم أدبارهم في الهزيمة .ثم أخبر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه سيظهره عليهم و يهزمهم ،فكانت هذه الهزيمة يوم بدر ،فكان موافقة الخبر للخبر من معجزاته))(10).
ثمّ تبيِّن الصديقة الزهراء-عليها السلام- حال العرب، وحال أصحاب الرسول قبل مبعث أبيها رسول الله– صلى الله عليه وآله وسلّم- فهو الهادي البشير،قائلة:((وكنتم على شفا حفرة من النار))(11)،وقد اقتبسته من قوله تعالى:ﭐﱡﭐﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫ ﱬ ﱭ ﱮ ﱯ ﱰ ﱱ ﱲ ﱳ ﱴ ﱵ ﱶ ﱷ ﱸ ﱹ ﱺ ﱻ ﱼﱽ ﱾ ﱿ ﲀ ﲁ ﲂ ﲃ ﲄﱠ[آل عمران/103].
فهم كانوا قاب قوسين أو أدنى من الهلاك وورود جهنم،ولم يكن بينهم وبينها إلاّ الموت،لكن الله -سبحانه وتعالى- أنقذهم بإرسال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلّم- لهم بالإسلام الذي جاءهم به،لعلهم يهتدون إلى طريق الحق والنجاة.(12) يزاد على هذا، فإنّكم كنتم((تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله برسوله))(13)،وهنا الصدِّيقة الزهراء-عليها السلام- تشير إلى قوله تعالى:ﱡﭐﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊ ﱋ ﱌ ﱍ ﱎ ﱏ ﱐ ﱑ ﱒ ﱓ ﱠ[الأنفال/26 ].وتؤكد مضمون النص القرآني المتقدِّم عندما تفسره بقولها:((فأنقذكم الله برسوله)).وقيل معنى((«تخافون أن يتخطفكم الناس»أي يستلبكم المشركون من العرب إن خرجتم منها و قيل أنه يعني بالناس كفار قريش…وقيل: فارس والروم…«فآواكم»أي جعل لكم مأوى ترجعون إليه يعني المدينة دار الهجرة «وأيدكم بنصره» أي قواكم«و رزقكم من الطيبات » يعني الغنائم أحلها لكم و لم يحلها لأحد قبلكم.وقيل: هي عامة في جميع ما أعطاهم من الأطعمة اللذيذة«لعلكم تشكرون»أي لكي تشكروا و المعنى قابلوا حالكم التي أنتم عليها الآن بتلك الحال المتقدمة ليتبين لكم موضع النعمة فتشكروا عليها .))(14)
من أجل هذا ،يمكن القول:أنّ ثمة قصدية بيِّنة للصدِّيقة الزهراء-عليها السلام- في اختيارها للنصوص القرآنية المتقدمة،على نحو يتفق مع قضيتها التي سعت إليها في خطبتها،فذّكرّت أولا :برسول الرحمة الذي كان رؤوفا رحيما، وثانيا:نصره الله عندما هزم الجمع الكافر، والثالث:أنه أنقذكم من النار، والرابع:أنقذكم من أعدائكم ، فحقق لكم الأمن بعد الخوف.فاجتمعت في هذه الأربعة: الهداية ،والنصر ،والأمن في الحياتين: الدنيا، والآخرة.
ثم تنتقل -عليها السلام- في خطبتها إلى توظيف نص قرآني تغيِّر فيه لفظة واحدة هي:(حشوا)،مكان(أوقدوا) ولعلها تعرِّض بوساطته بالقوم الذين أنكروا الحق الإلهي في خلافة رسول الله– صلى الله عليه وآله وسلّم- فهم((كلما حشوا ناراً للحرب أطفأها))(15) ويجب الالتفات إلى السياق القرآني الذي ورد فيه قول الصديقة الطاهرة-عليها السلام- وهو قوله تعالى:ﭐﱡﭐ ﲲ ﲳ ﲴ ﲵ ﲶﲷ ﲸ ﲹ ﲺ ﲻ ﲼﲽ ﲾ ﲿ ﳀ ﳁ ﳂ ﳃﳄ ﳅ ﳆ ﳇ ﳈ ﳉ ﳊ ﳋ ﳌ ﳍ ﳎﳏ ﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖﳗ ﳘ ﳙ ﳚ ﳛ ﳜ ﳝﳞ ﳟ ﳠ ﳡ ﳢﳣ ﳤ ﳥ ﳦ ﳧﱠ[المائدة/64].وجاء في تفسير هذه الآية في مجمع البيان:((فقد كانت اليهود أشد أهل الحجاز بأسا،وأمنعهم دارا ،حتى أن قريشا كانت تعتضد بهم،والأوس، والخزرج تستبق إلى محالفتهم ،و تتكثر بنصرتهم فأباد الله خضراءهم ،و استأصل شأفتهم،واجتث أصلهم،فأجلى النبي بني النضير،وبني قينقاع ،وقتل بني قريظة، وشرد أهل خيبر ،و غلب على فدك، و دان له أهل وادي القرى ،فمحا الله تعالى آثارهم صاغرين وقال قتادة :معناه أن الله أذلهم ذلا لا يعزون بعده أبدا ،و إنما يطفئ نار حربهم بلطفه وبما يطلع نبيه عليه من أسرارهم و بما يمنُّ به عليه من التأييد والنصر«و يسعون في الأرض فسادا» بمعصية الله و تكذيب رسله ،و مخالفة أمره، ونهيه،واجتهادهم في محو ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) من كتبهم«والله لا يحب المفسدين» العاملين بالفساد و المعاصي في أرضه.))(16) فاليهود افتروا على الله، وأججوا نار الفتنة،وسعوا في الأرض فسادا،ومن يُنكر حق أهل البيت-عليهم السلام-إنما شأنه في هذا شأن اليهود الذين عرفوا بحسدهم ،وميلهم عن الحق.وفي الجانب الآخر يظهر الحق في البيت-عليهم السلام-: أولياء الله ،وتشير إلى أمير المؤمنين –عليه السلام- في قولها:((قذف بأخيه في لهواتها فلا ينكفئ حتى يطأ صمتها باخصة ويخمد لهبها بحده مكدوداً في ذات الله قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم يداً في أولياء الله وأنتم في بلهنية وادعون آمنون))(17).وقد وظفت –عليها السلام- لفظتي: (أولياء الله)وهما لفظتان قرآنيتان وردتا في قوله تعالى:ﭐﱡﭐ ﱁ ﱂ ﱃ ﱄ ﱅ ﱆ ﱇ ﱈ ﱉ ﱊﱠ[يونس/62]. فاختيارها :(أولياء الله) له دلالة لايمكن أن تبتعد عن سياق النص القرآني الذي وردتا فيه،فقد((بين سبحانه أن المطيعين لله،الذين تولوا القيام بأمره و تولاهم سبحانه بحفظه و حياطته، لا خوف عليهم يوم القيامة من العقاب«ولا هم يحزنون» أي لا يخافون و اختلف في أولياء الله ، فقيل: هم قوم ذكرهم الله بما هم عليه من سيماء الخير،والإخبات…وقيل:هم المتحابون في الله ذكر ذلك في خبر مرفوع،وقيل:هم الذين آمنوا و كانوا يتقون،و قد بينهم في الآية التي بعدها…وقيل: أنهم الذين أدوا فرائض الله وأخذوا بسنن رسول الله و تورعوا عن محارم الله،وزهدوا في عاجل هذه الدنيا ،و رغبوا فيما عند الله و اكتسبوا الطيب من رزق الله لمعايشهم ،لا يريدون به التفاخر و التكاثر،ثم أنفقوه فيما يلزمهم من حقوق واجبة،فأولئك الذين يبارك الله لهم فيما اكتسبوا،و يثابون على ما قدموا منه لآخرتهم)) (18).وأيا كانت الأقوال في بيان معنى:(أولياء الله) فإنها تتحقق في أمير المؤمنين–عليه السلام-.
وتوجه خطابها إليهم على نحو مباشر،عندما أنكروا حقوق أهل البيت –عليهم السلام- فتقول لهم:((زعمتم خوف الفتنة إلا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ،فهيهات منكم ،وأنى بكم ،وأنى تؤفكون))(19). فتجمع بين نصين قرآنين الأول اقتبسته من قوله تعالى:ﭐﱡﭐ ﱒ ﱓ ﱔ ﱕ ﱖ ﱗ ﱘﱙ ﱚ ﱛ ﱜ ﱝﱞ ﱟ ﱠ ﱡ ﱢﱠ [التوبة/49 ].
وجاء في تفسير الآية في مجمع البيان:((« ألا في الفتنة سقطوا » معناه ألا في العصيان و الكفر وقعوا،بمخالفتهم أمرك في الخروج و الجهاد .و قيل: معناه لا تعذبني بتكليف الخروج في شدة الحر ، ألا قد سقطوا في حر أعظم من ذلك ،و هو حر نار جهنم…ويدل عليه قوله:«و قالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا» «وإن جهنم لمحيطة بالكافرين»أي ستحيط بهم فلا مخلص لهم منها.))(20).
فالفتنة قد حطت برحالها بعد وفاة رَسُول اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ- وتم كشف الأقنعة،وكان أمير المؤمنين،والسيدة الصدِّيقة الزهراء-عليهما السلام – على بيِّنة من الناس،ففي أحد المواقف سأل رجل الإمام علي-عليه السلام- عن الفتنة قائلا:(( أخبرنا عن الفتنة، وهل سألت عنها رسول الله؟ فقال:لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ، قَوْلَهُ: ((الم * أحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتركُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ))[العنكبوت/1-2]عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لا تَنْزِلُ بِنَا وَرَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) بَيْنَ أَظْهُرِنَا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتي أَخْبَرَكَ اللهُ بِهَا؟ فَقَالَ: «يَا عَلِيُّ، إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ مِنْ بَعْدِي». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَلَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُد حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ، وَحِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ، فَشَقَّ ذلِكَ عَلَيَّ، فَقُلْتَ لِي: «أَبْشِرْ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ»؟ فَقَالَ لي: «إِنَّ ذلِكَ لَكَذلِكَ، فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذَنْ»!. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَيسَ هذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ، وَلكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ البُشْرَى وَالشُّكرِ.
وَقَالَ: «يَا عَلِيُّ، إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهمْ، وَيَمُنُّونَ بِدِينِهِم عَلَى رَبِّهِمْ، وَيَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ، وَيَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ، وَيَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ، وَالأَهْوَاءِ السَّاهِيَةِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الْـخَمْرَ بِالنَّبِيذِ، وَالسُّحْتَ بِالْـهَدِيَّةِ، وَالرِّبَا بِالْبَيْعِ»))(21).
أمّا النص الآخر فأخذت منه بتحوير لفظة:(تؤفكون) مكان:(يؤفكون) الواردة في قوله تعالى -لتتسق مع صيغة الخطاب-:ﱡﭐ ﲋ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔﲕ ﲖ ﲗ ﲘﲙ ﲚ ﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟﲠ ﲡ ﲢﲣ ﲤ ﲥﱠ [التوبة/30]. ولفظة:(تؤفكون) التي وظفتها –عليها السلام- دعاء يُراد به الذّم، فهم انصرفوا عن الحق إلى الإفك أي الكذب(22).وبعد عرضها للآيات الكريمة تذكّرهم فتقول:(( وهذا كتاب الله بين أظهركم وزواجره بيّنة وشواهده لائحة وأوامره واضحة ارغبة عنه تدبرون أم بغيره تحكمون))(23).وتلحق به مباشرة قوله تعالى:((بئس للظالمين بدلاً)) وقوله تعالى:((ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)).
فهي –عليها السلام- توظف حشدا من آيات كتاب الله القرآن الكريم مرّ ذكرها، تعززها بحشد آخر من الآيات الكريمة(( ذلك أن كتاباً هذا حظّه من الذيوع والانتشار لا يلبث أن يستولي على كلِّ عقلٍ وينفذ إلى قرارة كلِّ نفسٍ ويؤثّر في كلِّ خيالٍ…كان القرآن عظيمَ التأثير في أذهانِ العرب وقرائحِهم ، شديدَ الاستيلاءِ على عقولهم،ومداركهم))(24)،حُجة عليهم.وقد اقتبست قوله تعالى:((بئس للظالمين بدلاً)) من الآية المباركة:ﭐﱡﭐ ﲌ ﲍ ﲎ ﲏ ﲐ ﲑ ﲒ ﲓ ﲔ ﲕ ﲖ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡ ﲢ ﲣﲤ ﲥ ﲦ ﲧ ﱠ[الكهف/ 50].وهذا الاقتباس مشيرة به إلى ثمة قصدية واضحة ،عندما اختارت من هذه الآية الكريمة التي تبين عمل الشيطان وحزبه وذريته وأنصاره في ضلالة الناس عن الحق والخير،فذمتهم بقول الحق:((بئس للظالمين بدلاً))،((وبئس للذم والتوبيخ، والظالمون كل مَن استبدل طاعة الشيطان وأوليائه بطاعة الرحمن وكتبه وأنبيائه))(25). ومعززة النص القرآني بقوله تعالى:ﱡﭐﱟ ﱠ ﱡ ﱢ ﱣ ﱤ ﱥ ﱦ ﱧ ﱨ ﱩ ﱪ ﱫﱠ[آل عمران/85].
وتواصل الصدِّيقة الزهراء خطبتها في حقها في أرض فدك موظفة النص القرآني، قائلة:((وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ،وبها معشر المهاجرين أأبتز إرث أبي أفي الكتاب أن ترث اباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئاً فرياً فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة ،وعند الساعة يخسر المبطلون ،ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون))(26).
فثمة نصوص قرآنية ثلاثة،وردت في خطبتها،الأول: قوله تعالى:ﱡﭐﳍ ﳎ ﳏﳐ ﳑ ﳒ ﳓ ﳔ ﳕ ﳖ ﳗ ﱠ [المائدة/50] . إذ وظفت النص تاما. ومعنى:
((«أفحكم الجاهلية يبغون»والمراد به اليهود…لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه و إذا وجب على أقويائهم ،وأشرافهم لم يؤاخذوهم به فقيل لهم أ فحكم الجاهلية أي عبدة الأوثان تطلبون،وأنتم أهل الكتاب و قيل المراد به كل من طلب غير حكم الله فإنه يخرج منه إلى حكم الجاهلية ،و كفى بذلك أن يحكم بما يوجبه الجهل دون ما يوجبه العلم«ومن أحسن من الله حكما»أي لا أحد حكمه أحسن من حكم الله « لقوم يوقنون » أي عند قوم)) (27).
والثاني:قوله تعالى: ﭐﱡﭐ ﲗ ﲘ ﲙ ﲚﲛ ﲜ ﲝ ﲞ ﲟ ﲠ ﲡﱠ[الجاثية/27 ]. بيد أنّها وظفت جزءا حورا من النص في قولها:((وعند الساعة يخسر المبطلون)).
ومعنى:((«و يوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون»العادلون عن الحق،الفاعلون للباطل ،أنفسهم و حياتهم في الدنيا ،لا يحصلون من ذلك إلا على عذاب دائم)) (28).
والثالث: قوله تعالى: ﭐﱡﭐﲿ ﳀ ﳁﳂ ﳃ ﳄﱠ [الأنعام/67].وقد وظفت–عليها السلام – الآية تامة.ومعنى الآية المباركة:((«لكل نبأ مستقر»أي لكل خبر من أخبار الله ورسوله حقيقة كائنة إما في الدنيا،وإما في الآخرة…وقيل: معناه لكل خبر قرار على غاية ينتهي إليها،ويظهر عندها…استقر يوم بدر ما كان يعدهم من العقاب وسمي الوقت مستقرا لأنه ظرف للفعل الواقع فيه،وقيل:معناه لكل عمل مستقر عند الله حتى يجازي به يوم القيامة…«وسوف تعلمون» فيه وعيد و تهديد لهم،إما بعذاب الآخرة،وإما بالحرب و أخذهم بالإيمان شاءوا أو أبوا و تقديره و سوف تعلمون ما يحل بكم من العذاب و حذف لدلالة الكلام عليه.))(29)
من الجدير بالملاحظة أنّ تلك النصوص الثلاثة،تعبر عن الألم الكبير الذي أصاب الصدِّيقة الزهراء –عليها السلام- نتيجة ما فعله القوم بمخالفتهم لله ولرسوله،فثمة نفي قسري من مؤسسة الحكم يختص بأهل بيت الرسول-عليهم السلام- ومحيطه الأسري، أمسى نهجا متبعا لكل الحكّام –فيما بعد- سوّغ لهم هضم حقوقهم،ومساواتهم بغيرهم. وهذا النفي القسري،هيمن على الوعي الجمعي عند العامة من المسلمين،فغُيِّب والدا الرسول الكريم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ-،وجده عبد المطلب،والإساءة إلى عمه أبي طالب، وإنكار إسلامه،وتناسي مكانة أم المؤمنين السيدة خديجة الكبرى عند رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- وسابقتها في الإسلام،وما قدمته من تضحيات في سبيل الرسالة، وإغفال وصيته لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ،ومن ثم شتمه على المنابر زمن الأمويين،والتجاوز على السيدة الصدِّيقة فاطمة الزهراء،وإغفال مكانتها التي قال تعالى عنها في الحديث القدسي لرسوله الكريم-صلّى الله عليه وآله وسلّم-:((يا أحمدُ لولاكَ لما خَلقتُ الأفلاكَ ولولا فاطِمةُ لما خَلقتُكما.))(30)ومن ثمّ قتل الحسن والحسين، والمعصومين من وِلدِ الحسين عليهم السلام أجمعين على نحو خاص، وقتل آل أبي طالب.على نحو عام.
وثمة مفارقة،وهي أنّ السيدة الصدِّيقة فاطمة الزهراء-عليها السلام-عندما كانت تلقي خطبتها،كان القوم يجهشون بالبكاء ،تصديقا لها،وتأكيدا منهم على ما جاء في قولها من حق،بيد أن ما فائدة البكاء،إن لم يُسفر عن موقف يُصححون به مسيرتهم، وإرجاع الحق لأهله.وقد عجّت كتب السير والتاريخ والأدب بهكذا نمط من الوعظ المقترن ببكاء الحكّام ،والقوم الذين يستمعون للموعظة،بل أنّ المصادر تعدّ سماع الموعظة فضيلة،تُحسب لمن يستمع لها، في حين أنها لم يُعمل بها،وهنا تكمن المفارقة.
الخاتمة:
مما تقدم يمكن القول أنّ السيدة الصدِّيقة فاطمة الزهراء-عليها السلام- وظفت في خطبتها الفدكية النصوص القرآنية على نحو متداخل مع كلامها الآخر،ولا يمكن فصل بعض كلامها عن بعضه الآخر،يزاد على هذا،فهي على بيِّنة من مناسبة نزول تلك النصوص عندما وظفتها للتعبير عن ما آلت إليه الأمور،و داعية إلى إعادة الحق إلى نصابه، فتذّكر-عليها السلام- بداءة بأبيها رسول الله مُحمّد -صلى الله عليه وآله وسلم- فقد وظفت الصدّيقة الطاهرة-عليها السلام-القرآن الكريم في مساحة واسعة من خطبتها،فهو نزل في بيوتهم على أبيهم رسول الله –صلّى الله عليه وآله وسلّم-،ولاريب أن يجري عذبا فراتا على ألسنتهم،قارا في أفئدتهم،فهم عِدله،وترجمانه،وتُدرك-عليها السلام- أثره،من أجل هذا وظفته في مجمل خطبتها.
لقد وظفت-عليها السلام- النصوص القرآنية -على نحو مباشر،ونحو معدّل أي فيه بعض التغيير- من سور القرآن الكريم:التوبة،والقمر،والأنفال،والمائدة،وآل عمران، ويونس،والكهف،والأنعام.بيد أنّ نصوص سورة التوبة من أكثر النصوص توظيفا، ولعلها تشير إلى أنّ القوم بحاجة إلى توبة، فكان في ثلاثة مواضع،وكانت-عليها السلام- تُدرك أن لكلّ مقام مقال.كذلك الأمر مع نصوص السور القرآنية الأخرى.خدمة للقضية التي سعت جاهدة إلى بيانها،عادة من النص القرآني وسيلة من وسائل الإقناع،بيد أنها تغيّر من الدلالة الزمنية لبعض مفرداته ،ليتسق مع مقتضى الحال الذي تتحدث فيه.
***********************************************************
– الهوامش:
1)الكشاف : 4/515- 516،وينظر: مجمع البيان:10 /114، والتفسير المبين: 782، وأسباب النزول : 225- 226 .
2) ينظر:أسباب النزول: 206 -207.ويذكر الطبرسي رواية أخرى يسندها إلى أبي هريرة، مفادها أنّ الآية نزلت في أهل البيت -عليهم السلام–،ينظر: مجمع البيان: 9/231-232.
3) شواهدالتنزيل: 2/130-131.
4) مجمع البيان : 8/ 177 ،وينظر:شواهدالتنزيل: 2/110،والتفسير المبين :594.
5)ينظر:عجائب القرآن:105-106 .
6) نهج البلاغة:47.
7) بلاغات النساء:17.
8) مجمع البيان:5/82 .
9) بلاغات النساء:17.
10) مجمع البيان:9/174.
11) بلاغات النساء:17.
12) ينظر:مجمع البيان:2/199،والتفسير المبين:79.
13) بلاغات النساء: 17.
14) مجمع البيان:4/237.
15) بلاغات النساء: 17.
16) مجمع البيان:3/220.
17) بلاغات النساء: 17.
18) مجمع البيان:5/112.
19) بلاغات النساء: 18.
20) مجمع البيان:5/38.
21) نهج البلاغة : 220 .
22) تأويل مُشكل القرآن:170.
23) بلاغات النساء: 18.
24) عصر القرآن :25.
25) التفسير المبين:388.
26) بلاغات النساء: 18.
27) مجمع البيان:3/206.
28) المصدر نفسه:9/72.
29) المصدر نفسه:4/44-45.
30)مستدرك سفينة البحار :5/243 .
المصادر والمراجع:
-القرآن الكريم.
–أسباب النزول في ضوء روايات أهل البيت-عليهم السلام–:مجيب جواد الرفيعي،ط1،قم-إيران،1421هـ.
– بلاغات النساء(وطرائف كلامهن وملح نوادرهن وأخبار ذوات الرأي منهن):لأبي الفضل أحمد بن أبي طاهر(ت 280هـ)،شرح:أحمد الألفي،مطبعة مدرسة والدة عباس الأول،القاهرة-مصر،1326هـ- 1908م.
– تأويل مُشكل القرآن:الدينوري(عبدالله بن مسلم بن قتيبة ،ت 276هـ)،علق عليه ووضع حواشيه وفهارسه:إبراهيم شمس الدين،ط2،دار الكتب العلمية ،بيروت-لبنان،2007م.
–التفسيرالمبين:محمّد جواد مغنية ،ط2،مؤسسة دار الكتاب الإسلامي .
– شواهد التنزيل لقواعد التفضيل في الآيات النازلة في أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم: الحاكم الحسكاني،عبيدالله بن عبدالله الحنفي النيسابوري،من أعلام القرن الخامس الهجري، تحقيق: محمد باقر المحمودي ،ط1،مؤسسة الأعلمي،بيروت-لبنان،1974م.
–عجائب القرآن:الرازي،فخرالدين محمّدبن عمربن الحسين(ت606هـ)،ط 1، دار الكتب العلمية،بيروت – لبنان، 1984م.
–عصر القرآن : محمد مهدي البصير ،ط3، دار الشؤون الثقافية ، العراق- بغداد ،1987م.
–الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل:الزمخشري،محمود بن عمر (ت538هـ)،شرح وضبط :يوسف الحمّادي،مكتبة مصر،الفجالة ،مصر.
–مجمع البيان في تفسير القرآن:الطبرسي ،أمين الإسلام الفضل بن الحسن(ت584 هـ )،ط 1، مؤسسة التاريخ العربي،بيروت- لبنان ، 2008م.
-مستدرك سفينة البحار:الشيخ علي النمازي الشاهرودي،تحقيق:الشيخ حسن بن علي النمازي، ط1،مؤسسة النشر الإسلامي ،قم المقدسة-إيران.
– نهج البلاغة:تحقيق:د.صبحي الصالح،ط2،انتشارات أنوارالهدى،إيران،1424هـ.