من بحوث المسابقة الثالثة(الأَنْوَارُ المُضِيئَةُ فِي جَوَاهِرِ الصَّحِيفَةِ الفَاطِمِيَّة ) أ.م.د. سجا جاسم محمد / م.د. أنوار مجيد سرحان
الأَنْوَارُ المُضِيئَةُ فِي جَوَاهِرِ الصَّحِيفَةِ الفَاطِمِيَّة
أ.م.د. سجا جاسم محمد م.د. أنوار مجيد سرحان
كلية الآداب / جامعة بغداد كلية الآداب / جامعة بغداد
قسم اللغة العربية قسم اللغة العربية
الملخص
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيّد المرسلين محمّد الصادق الأمين، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وصحبه الغرّ المنتجبين.
بداية اسمحوا لنا البدء بقول صاحب الصحيفة[1][1]: ” أقول اللهمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَزِدْ وَبارِكْ على السَّيَّدَةِ الجليلةِ الجميلةِ المعصومةِ المظلومةِ الكريمةِ النَّبيلةِ المكروبةِ العليلةِ, ذاتِ الأحزانِ الطويلةِ في المدّةِ القليلةِ, الرَّضيّةِ الحليمةِ العفيفةِ السَّليمَةِ, المَجهُولةِ قدرًا, والمخفيَّةِ قَبْرًا، المدفُونَةِ سِرًّا, والمغصُوبةِ جَهْرًا, سَيِّدِةِ النِّساءِ الإنسيَّةِ الحوراءِ أمِّ الأئِمَّةِ النُّقَبَاءِ النُّجَبَاءِ, بنتِ خيرِ الأنْبياءِ، الطَّاهرةِ المُطَهَّرَةِ، البتولِ العَذراءِ، فاطمةَ التَّقيَّةِ الزَّهراءِ(عَلَيْهَا السَّلَامُ)”.
مثّلت الصحيفة الفاطميّة بما احتوت عليه من حروف وكلمات، وعبارات، وأساليب، وتراكيب، مجموعة من الجواهر المضيئة المشتملة على عدد من الأحجار الكريمة والنفيسة, المنظومة في مجموعة من القلائد (الأدعية)، كلّ قلادة لمناسبة ما أو موضوع ما، حتّى تعدّدت هذه القلائد لتكوِّن لنا ثروة نفيسة من الأنوار المضيئة بما احتوت من معانٍ قيّمة جمعت بين المعارف الدينيّة, وقيم الفضيلة, والقيم التهذيبيّة للنفس, فضلًا عمّا عكسته من علوم معرفيّة للسيّدة الزهراء (عليها السلام)، ولهذا جاء بحثنا الموسوم بـ (الأنوار المضيئة في جواهر الصحيفة الفاطمية) للوقوف عند هذه الأنوار، وإظهار تجلّيات المعرفة الواردة فيها التي أكسبتها هذا الضياء الذي بقي نوره إلى يومنا هذا.
التمهيد
لا بدّ في بداية كل بحث الوقوف عند مفاتيحه من عنوانات ومصطلحات تحتاج للتوضيح؛ لتكون الصورة جليّة أمام القارئ والسامع, ومن هذه المصطلحات التي نعرّف بها:
أوّلًا: الأَنْوَارُ
أَنْوَار اسم وهو جمع لفظة (نَوْرٌ، ونُورٌ), والنَّوْرُ لفظة لها معانٍ عدّة، منها: الزّهْرُ الأبيض, والواحدة منها تسمّى (نَوْرَةٌ), والنُّورُ: الضَوْءُ والسطوعُ, وهو ضدّ الظُّلمة والجمعُ (أنْوَارٌ), ومنها (النُّورُ) ما يُبَيِّنُ الأشْياءَ ويُري الأبصَارَ حقيقتها[2].
والنُّورُ من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته ومعناه الذي يُبصرُ بنورِه ذو العماية ويُرشدُ بهداهُ الغواية, وهو الظاهرُ الذي به كلّ ظهورٍ[3].
ثانيًا: المُضِيئَةُ
من الفعل (أضاءَ), والاسم منه (مُضِيءٌ) بمعنى مُنِيرٌ, ومُشعُّ, يقال: ضاءَتْ وأَضاءَتْ بمعنى واحد، أَي اسْتَنارتْ وصارت مُضيئةً [4].
ثالثًا: جَوَاهِرُ
وهو اسم وجمع (جَوْهَرَةُ), ويأتي مفرده كذلك (جَوهَر) وجوهر الشيء حقيقته, وكلّ شيء نفيس تتّخذ منه الفصوص ونحوها فهو جواهر, فجَواهَرُ هي الأحجار الكريمة[5].
وممّا تقدّم من ذكر لمعاني الألفاظ الثلاثة يكون المقصود من عنوان بحثنا: كلّ ما هو ساطعٌ بنورِهِ، وثمينٌ بقيمتِهِ العلميّةِ فيما يحمله من معنى أو تركيب أو فكرة جاءت بها جواهر الصحيفة الفاطميّة وكنوزها, ونقصد بكنوزها وجواهرها ما اشتملت عليه من أدعية.
رابعًا: الصحيفة الفاطميّة
ونقصد بها الصحيفة الفاطميّة الجامعة لأدعية سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام) وشبليها الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام), تأليف ونشر سماحة السيّد محمد باقر نجل آية الله السيّد مرتضى الموحّد الأبطحيّ الأصفهانيّ (قُدِّسَ سِرُّهُ), وقد وقفنا عند أدعيه السيّدة الزهراء (عليها السلام) في بحثنا هذا.
وجاءت أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) في خمس وستين صفحة اشتملت على خمس وستين دعاءً في موضوعات وغايات وأوقات وأيام مختلفة.
المبحث الأوّل
الأنوار القرآنيّة
القرآن الكريم مفخرة العرب في لغتهم, لم يتح لأمّة من الأمم كتاب مثله من حيث البلاغة والفصاحة, والتأثير في النفوس والقلوب, فهو معجزة بيانيّة خالدة, ومن الطبيعي ألّا تمرّ هذه المعجزة البيانيّة بحياة العرب من دون أن تؤثّر في أدبهم, وهذا ما وجدناه عند السيّدة الزهراء (عليها السلام), إذ يبدو تأثّرها واضحًا بنصوص القرآن الكريم ومعانيه وعبر ما يأتي:
أوّلًا: الاقتباس
يأتي الاقتباس في اللغة بمعنى النار, والقَبَسُ: الشُّعلةُ من النَّارِ, وفي التهذيب القَبَسُ شُعْلَةٌ مِنَ النَّارِ نَقتَبِسُهَا مِنْ مُعظَم واقتباسُها الأخذُ منها[6], وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى ((إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى))[7].
وفي الاصطلاح ” هو أن تدرج كلمة من القرآن أو آية منه في الكلام تزينًا لنظامه, وتضخيمًا لشأنه “[8], وعرّفه السيوطي بقوله: ” تضمين النظم أو النثر بعض القرآن لا على أنّه منه “[9].
وقد وجدت السيّدة الزهراء (عليها السلام) في القرآن الكريم نبعًا لا ينضب بمعانيه وألفاظه وعِبَرِه التي رسخت في قلبها وفكرها, وقد لجأت السيّدة الزهراء إلى الاقتباس من القرآن الكريم, لذا نجد بنية نصّ الدعاء قد تأثّرت ببنية النصّ القرآني, إذ نجد السيّدة الزهراء (عليها السلام) قد اقتبست جملًا وعبارات قرآنية استلهمتها واستعملتها في دعائها, وغرضها في ذلك التقرّب أكثر من الخالق عن طريق النصّ القرآني, والتأثير في المتلقّي أو السامع؛ كون القرآن أعجز الأذهان والأفكار عن كشف مكنوناته وبلاغته العالية، فضلًا عمّا يضيفه النصّ القرآني من دلالة تضاف إلى دلالات الألفاظ المستعملة في الدعاء, فالنصّ يستمدّ دلالات إضافيّة من استحضار النصّ القرآني, وقد جاء الاقتباس في دعاء السيّدة الزهراء (عليها السلام) على النحو الآتي:
1 _ الاقتباس النصّيّ
وهو الاقتباس الذي تلتزم فيه السيّدة الزهراء (عليها السلام) بلفظ النصّ القرآني وتركيبه ومادّته, فهي تضيف النصّ القرآني في بنية نصّ الدعاء من دون تغيير في النصّ المقتبس أو تحوير له, وهي بهذا الاقتباس تؤكّد ثقافتها الدينيّة التي استمدّتها من هذا الرافد الثرّ الغني بالمعاني والدلالات التي صوَّرت معانيها وألبستها ثوب القداسة والطهارة, ويمكن ملاحظة ذلك في دعائها (عليها السلام) لطلب غفران الذنوب[10], إذ كانت تقرأ قوله تعالى ((قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26 ) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ))[11], وبعد ذلك تبدأ بالدعاء, وهي تشير إلى أنّها أخذت هذا عن الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم), فهي تربّت في حجر النبوّة, فلا شكّ أنّها قد تأثّرت بالرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بيانه ومنطقه وفصاحته، وأشربت أسلوبه وتعاليمه وغاياته ومقاصده.
وفي دعائها (عليها السلام) في ثناء الله لطلب قضاء الحوائج[12]، نجدها تقتبس قوله تعالى (( قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ))[13], فهي تستشهد بقوله تعالى لتقوّي دعاءها وتتقرّب به إلى الله عزّ وجلّ ليستجيب دعاءها.
وفي دعائها (عليها السلام) للأمر العظيم[14], تقتبس قوله تعالى ((يس* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ))[15], فهي تستحلف الخالق بقوله في الآية الكريمة، فتقول: ” بِحَقِّ يس وَالقُرْانِ الكريم “[16], وكأنّها تجعل القرآن وسيلة تتوسّل بها أمام الباري ليستجيب دعاءها. ونقف عند دعائها لدفع الحمّى[17], نجدها تبدأ الدعاء بقوله تعالى (( وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ))[18], فهي تقرّ وتثبت للسامع مرجعيّة كلّ ما في الكون ممّا سكن في الليل والنهار لله سبحانه وتعالى, وتثبت للسامع بأنّه هو السميع العليم الذي يعلم كلّ شيء, لذا هي تدعوه بكلماته العظيمة ليدفع عنها الحمّى. ويمكننا بيان عدد الآيات التي اقتبستها وضمنتها في نصّ الدعاء لديها (عليها السلام) على وفق الجدول الآتي:
ت | نص الآية | اسم السورة ورقم الآية | اسم الدعاء | الصفحة |
1 | ((إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) | سورة هود: الآية 56 | دعاؤها عند المنام | 48 |
2 | ((وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا)) | سورة الإسراء: الآية 111 | دعاؤها عند المنام | 48 |
3 | ((رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ*رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)) | سورة الممتحنة: الآيتان 4_5 | دعاؤها في تعقيب صلاة العشاء | 68 |
4 | ((رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا*إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)) | سورة الفرقان:الآيتان 65 _66 | دعاؤها في تعقيب صلاة العشاء | 68 |
5 | ((رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ)) | سورة الأعراف: الآية 89 | دعاؤها في تعقيب صلاة العشاء | 68 |
6 | رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ*رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)) | سورة آل عمران: الآيتان 193_194 | دعاؤها في تعقيب صلاة العشاء | 68 |
7 | (( رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) | سورة البقرة: الآية 286 | دعاؤها في تعقيب صلاة العشاء | 68 |
8 | ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)) | سورة البقرة: الآية 201 | دعاؤها في تعقيب صلاة العشاء | 68 |
9 | ((وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ)) | سورة فاطر: الآيتان 34_35 | دعاؤها لمحبيها ومحبي عترتها | 75 |
وفي ضوء ما تقدّم من تحليل لبعض الشواهد من دعائها (عليها السلام), وما تم إدراجه في الجدول تبيّن أنّ عدد الآيات التي تم اقتبستها السيّدة الزهراء (عليها السلام) اقتباسًا نصيًّا من القرآن الكريم وضمّنتها نصّ الدعاء كان (ثلاث عشرة آية) وجاءت كلّها متناسبة وموضوع الدعاء, فضلًا عمّا تضمّنته بعضها من صيغ دعائيّة تناسب الدعاء, وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يبيّن تأثّر السيدة الزهراء (عليها السلام) بالقران الكريم تأثّرًا كبيرًا وعظيمًا, ويدلّ على مدى ثقافتها الدينيّة.
2 _ الاقتباس الإشاري
في هذا النوع من الاقتباس نجد السيّدة الزهراء (عليها السلام) في دعائها تعمد إلى اقتباس بعض آيات القرآن الكريم من غير أن تلتزم بلفظها وتركيبها, فنجدها تعمد إلى الاختصار والتكثيف اقتصارًا على ما له علاقة بالدعاء، أي أنّها تعمد الدلالات الإيحائيّة والإشارات الرمزيّة, وليس معنى هذا أنّها لا تعترف بقدسيّة القرآن الكريم, بل إنّها تستمدّ من القرآن الكريم ما يعبّر عن المعنى المقصود بشكل لا ينفي قدسيّة القرآن, ولا ينفي أصل الآية الكريمة, وفي ضوء استقراء أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) في الصحيفة الفاطميّة أحصينا مواضع عديدة ورد فيها اقتباس إشاري، من ذلك قولها في دعائها لطلب قضاء الدَّيْنِ وتيسير الأمور: ” … ورب كُلِّ شيءٍ , فالق الحبِّ والنَّوى “[19] , نلاحظ الاقتباس الإشاري واضحًا, إذ إنه مقتبس من قوله تعالى: ((إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى)) [20], وأمّا قولها (عليها السلام) في دعائها عند العوذة للحمّى ” … وأنزَلَ النورَ عَلَى الطُّورِ فِي كِتَابٍ مَسْطُورٍ, في رِقٍّ مَنشُورٍ, بِقَدرٍ مَقْدُورٍ, عَلَى نَبِيٍّ مَحبُورٍ”[21], فالاقتباس واضح من قوله تعالى ((وَالطُّورِ* وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ))[22], ولننظر قولها في دعائها لطلب قضاء الحوائج ” يا مَن أمَرَ بالصيحة في خلقه, فإذا هم بالساهرة يحشرون. وبذلك الاسم الذي أحييت به العظام وهي رميمٌ … “[23], فالاقتباس ورد في أكثر من آية منها قوله تعالى ((إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ))[24], وقوله تعالى ((وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ))[25], وفي ضوء استقراء أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام), وجدناها وظّفت الاقتباس القرآني الإشاري بأشكال عدّة, ومواضع مختلفة, فلا يكاد يخلو نصّ من نصوص أدعيتها (عليها السلام) من الاقتباس القرآني الإشاري, ولم يقتصر الأمر على الاقتباس من آيات القرآن الكريم, بل نجدها قد اقتبست العديد من الألفاظ القرآنية منها على سبيل المثال (روح القدس, أرحم الراحمين, يوم القيامة, الجن والإنس, همزات الشياطين, العرش العظيم, يا حيّ يا قيّوم …), وهذا إن دلّ على شيء فإنّه يدلّ على التأثّر الواضح في أسلوبها في الدعاء بأسلوب القرآن الكريم, فضلًا عن ذلك، فإنّ هذه الألفاظ القرآنيّة أضافت قدسيّة للدعاء بما ذكر فيه من هذه الألفاظ, وهي في الوقت نفسه أرادت التأثير في السامع عن طريق إنتاج نوع من الخشوع والرهبة عند الدعاء, وقد تحقّق جانب منها عن طريق هذا الاقتباس, فضلًا عن ذلك أنّها اتّخذت من هذه الألفاظ القرآنيّة وسيلة للتقرّب والتوسّل أمام الخالق, وقد نجحت السيَّدة الزهراء (عليها السلام) في كلّ ذلك.
ثانيًا: استلهام القصص القرآنية
يمتاز القرآن الكريم من سائر الكتب السماويّة بقدسية فريدة, وهي إنّه إلهي في لفظه ومعناه, بمعنى أنّ الله سبحانه وتعالى هو المتكلّم به والمنشئ له من دون سواه, ولذا نجد في القصص قداسة الحضور الإلهي، ونجد في هذه القصص مظهرًا آخر وهو ما يرد من خفايا الأسرار التي لا يعلمها سوى الله تعالى الذي يحيط علمًا بما تخفي الصدور, وعند استقراء أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) لحظنا أثر القصص القرآنيّة في أدعيتها, فنجدها استلهمت العديد من القصص القرآنيّة في نصوص أدعيتها, وقد جاءت بعضها رموزًا وإيماءاتٍ وتلميحاتٍ لقضايا معيّنة أوردتها السيدة الزهراء (عليها السلام) لتكون شاهدًا لمعنى تودّ تثبته في دعائها, وبعضها جاء وسيلةً تدرجها في دعائها تتقرّب وتستشهد بها بين يدي الباري في دعائها, قد وردت القصص القرآني في أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) في مواضع مختلفة, كلّ بحسب موضوع الدعاء والرمز الذي تحمله القصّة والذي بالتأكيد يكون موافقًا ومناسبًا لنصّ الدعاء الوارد فيه, وقد جاءت هذه القصص على النحو الآتي:
ت | القصة | موضعها | رقم الصفحة |
1 | قصة إبراهيم الخليل(عليه السلام) | دعاؤها في التوسّل بأسماء الله جل جلاله | 20 , 24 , 27 , 56 |
2 | قصة زكريا(عليه السلام) | دعاؤها لطلب قضاء الحوائج | 27 |
3 | ذكرها( جبرئيل وميكائيل وإسرافيل ) | دعاؤها لطلب قضاء الحوائج | 27 , 35 , 58 |
4 | قصة أيوب(عليه السلام) | دعاؤها لطلب قضاء الحوائج | 27, 31 |
5 | قصة داود(عليه السلام) | دعاؤها لطلب قضاء الحوائج | 27 |
6 | قصة سليمان(عليه السلام) | دعاؤها لطلب قضاء الحوائج | 28 |
7 | قصة فرعون والنبي موسى(عليه السلام) | دعاؤها عند نزول المصيبة والخوف من السلطان | 31 , 56 |
8 | قصة عيسى(عليه السلام) | دعاؤها عند نزول المصيبة والخوف من السلطان | 31 , 56 |
9 | قصة يعقوب(عليه السلام) | دعاؤها عند نزول المصيبة والخوف من السلطان | 31 |
10 | قصة ذي النون(عليه السلام) | دعاؤها عند نزول المصيبة والخوف من السلطان | 31 |
11 | قصة بني إسرائيل | في دعائها لطلب نزول مائدة من السماء لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) | 69 |
12 | قصة يوسف(عليه السلام) | في دعاؤها عقب صلاة المغرب | 62 |
13 | قصة النبي محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) | أدعيتها في التوسل بأسماء الله | 21 , 30 , 31 , 63 |
نلحظ ممّا تقدّم أنّ السيّدة الزهراء (عليها السلام) قد استلهمت عددًا من القصص القرآني, وضمّنتها نصوص أدعيتها, وهي بهذا لا بدّ أن تكون قد قصدت من ذلك الإشارة إلى المعاني الرمزيّة في تلك القصص, والتمسّك بها في سؤالها للباري, ولهذا نجدها (عليها السلام) تصرّح بذلك في قولها: “اللهم إنّي أتوجّهُ إليكَ بهم, وأتوسّلُ إليكَ بحقّهم العظيمِ, الذي لا يَعلَمُ كُنهَهُ سِواكَ, وَبِحَقّ مَنْ حَقّهُ عِندَكَ عَظِيمٌ ” [26], فدلالة الأفعال التي أوردتها في الدعاء تؤكّد المعنى, وفي نصّ آخر تستعمل أفعال أخرى لها الدلالة نفسها من ذلك قولها في دعائها (عليها السلام) لطلب قضاء الحوائج: ” أسالك بالاسم الذي دعاك به إبراهيم خليلك (عليه السلام) حين ألقي في النار فدعاك به, فاستجبت لهُ وقلت: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)[27] وبالاسم الذي دعاك به موسى (عليه السلام) من جانب الطور الأيمن, فاستجبت له, وبالاسم الذي خلقت به عيسى (عليه السلام) من روح القدس, وبالاسم الذي تبت به على داود (عليه السلام), وبالاسم الذي وهبت به لزكريا يحيى (عليه السلام) وبالاسم الذي كشفت به عن أيوب (عليه السلام) الضرّ, وتبت به على داود (عليه السلام). وسخّرت به لسليمان (عليه السلام) الريح تجرى بأمره, والشياطين, وعلّمته منطق الطير… إلّا ما أعطيتني سؤلي وقضيت حوائجي “[28], فانظر إلى دلالة الأفعال (أسالك, فاستجبت, أعطيتني, قضيت) يتبيّن أنّها ربطت سؤالها بسؤال الأنبياء، فهي تتقرّب عن طريق سؤالهم إلى الخالق وجعلته وسيلة من الوسائل التي تستحلف بها الخالق لإعطائها سؤالها وقضاء حوائجها, والسيّدة الزهراء (عليها السلام) قصدت ذلك كونها على يقين بالمكانة والرمزيّة التي يحملها كل نبي من الأنبياء (عليهم السلام) عند الله عزّ وجلّ، فكلّ شخصيّة من هذه الشخصيّات لو رجعنا إلى القرآن الكريم نجدها تكشف لنا عن بعض جوانب الأسلوب الإلهي في تربية رسله وإعدادهم للمهمّات العظيمة, فضلًا عمّا تتميّز به كلّ شخصيّة من هذه الشخصيّات من مكانة عند الباري عزّ وجلّ, فالنبي موسى (عليه السلام) هو كليم الله، وهذا أمر ليس بالسهل أو البسيط، فلا يمكن لأحد أن يتصوّر إنّ إنسانًا, مهما كان هذا الإنسان, يكلّمه الجبّار جلّ جلاله، فيقول له (إنّي أنا الله)[29], فيسمع كلامًا إلهيًّا من ربّه أنست به نفسه، وسكنت روحه إليه, ثم أراه الله عزّ وجلّ بعض معجزاته, فهذه عصاه يلقيها على الأرض فتنقلب حيّة حقيقيّة تتلوى, وتهتزّ, وتتحرّك, وتلقي الرعب في قلوب الناظرين, وهذه يده يضمّها إلى جيبه ثمّ يخرجها فتظهر بيضاء متلألئة لها بياض حسن، وبهاء جميل, فضلًا عمّا أوحى به إليه ربّه بأن يضرب البحر بعصاه فانفلق وصار فيه اثنا عشر طريقًا، فسار فيه موسى (عليه السلام) وقومه, وأغرق فرعون وجنوده وغيرها من المعجزات الحافلة بالعظات التي تعلّم الإنسان الصبر والصمود أمام الصعاب. وإذا رجعنا إلى المكانة والرمزيّة التي تتميّز بها شخصيّة النبي سليمان (عليه السلام) نجدها قد ارتبطت بالمعاني الرامزة إلى السلطة التي جعلت منه ملكًا على الإنس, والجنّ, والطير, والوحش… يأمرها فتطيع وتعمل له كلّ ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجوابي وقدور راسيات, فقد أوتي من كلّ ما يحتاج الملك إليه [30]. وإذا رجعنا إلى مكانة النبي إبراهيم (عليه السلام) نجد له منزلة عظيمة في الأديان كافّة, إذ يذكر اسمه مقرونًا بالإكرام والدعاء والإجلال, فهو أبو الأنبياء ” فكلّ كتابٍ أنزلَ منَ السماءِ على نَبيٍّ مِنَ الأنبياءِ بعدَ إبراهيمَ فمنْ ذُرّيتِهِ وشِيعَتِهِ “[31], فدعاء سيّدنا إبراهيم (عليه السلام) للبيت الحرام بالخير والبركة عندما ترك ابنه إسماعيل وأمه هاجر في مكّة كان فاتحة الخير في تلك البقة المباركة التي بقيت إلى يومنا هذا معمورة بالحجيج والزوّار, فضلًا عن معجزته عندما تعرّض للإحراق فكانت النار بردًا وسلامًا عليه. وغير ذلك من قصص الأنبياء ومعجزاتهم التي عرفتها السيّدة الزهراء (عليها السلام) واستعملتها في تضمين نصوص أدعيتها, وهي في الوقت نفسه تعكس للمتلقّي والسامع الثقافة الدينيّة التي تميّزت بها السيّدة الزهراء (عليها السلام), والبلاغة في استثمار الوسائل الفنيّة المختلفة في نصوص دعائها.
ثانيًا: استلهام المعاني والألفاظ القرآنيّة
من الأنوار القرآنية التي كان لها حضور واضح في أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) استلهام الكثير من المعاني القرآنيّة التي جاءت في مواضع مختلفة من أدعيتها, ومن هذه المعاني والألفاظ ما يأتي:
1_ استلهام بعض الأسماء الواردة في القرآن الكريم
من بين الأسماء التي أوردتها السيّدة الزهراء(عليها السلام) في نصوص أدعيتها أسماء الله الحسنى كقولها: ” سّبُّوحٌ قدوسُ ربّ الملائكة … ذي الجلال … العظيم … ذى الملك … يا ذا الجلال والإكرام … ذي العزِّ …سُبحان الحيَّ العليم, سبحان الحليم الكريم, سُبحان الملك القدوس, سبحان العلي العظيم, سبحان الله وبحمده “[32], فلو نظرنا إلى نصّ الدعاء نجد السيّدة الزهراء (عليه السلام) قد ضمّنت نصَ دعائها أسماء الله سبحانه وتعالى وسيلة في مناداة الخالق والدعاء إليه بها، ومن هذه الأسماء الواردة في دعائها (الملك, القدّوس, العظيم, العليم, الحليم, الكريم, الحي, العلي). وفي قولها ” هو الأول والأخر والظاهر والباطن, له الملك وله الحمد … الحليم الكريم العلي العظيم, الرحمان الرحيم, الملك القدّوس, الحقّ المبين… “[33], تستعمل أسماء الله عزّ وجلّ وسيلة للدعاء، عارفة بأهميّة هذه الأسماء ومكانتها عند الخالق، لذا نجدها تؤكّد ذلك في قولها: ” أسالك بالأسماء التي يدعوك بها حملة عرشك, ومن حول عرشك بنورك يُسبّحون شفقة من خوف عقابك, وبالأسماء التي يدعوك بها جبرئيل, وميكائيل, وإسرافيل إلّا أجبتني, وكشفت يا إلهي كربتي, وسترت ذنوبي وغفرتها “[34], فالسيّدة الزهراء (عليها السلام) أدركت أهمّيّة هذه الأسماء المباركة وسيلةً للدعاء والتقرّب من الباري عزّ وجلّ, ولهذا نجدها تصرّح في أكثر من موضع بذلك، منها قولها: ” اللهمّ إنّي أتوجّه إليك … وبأسْمائك الحُسْنى وكلماتك التامات التي أمرتني أنْ أدعوك بها, وأسالك باسمك العظيم …”[35], وقولها: ” وبالاسم الذي خلقت به العرش, وبالاسم الذي خلقت به الكرسي, وبالاسم الذي خلقت به الروحانيين… أسألك بحقّ هذه الأسماء إلّا ما أعطيتني سؤلي, وقضيت حوائجي يا كريم “[36]، وقولها: ” اللهمّ إنّي أسألك باسمك المخزون الطيّب الطاهر الذي قامت به السَّماوات والأرض… أن تغفر لى كل ذنب أذنبتهُ …”[37], وكقولها: ” يا من سمى نفسه بالاسم الذي به تقضى حاجة كلّ طالب يدعوهُ به, وأسألك بذلك الاسم, فلا شفيع أقوى لي منْهُ “[38], فهي تدرك عظمة هذه الأسماء والكلمات القرآنيّة التي ضمّنتها أدعيتها, وتعرّف المعاني التي تحملها تلك الأسماء والكلمات, فهي(عليها السلام) لم تكن امرأة جاهلة وإنّما هي امرأة عُرفت بالفطنة والحكمة والبلاغة والثقافة في مختلف فنونها, فهي تربّت في بيت النبوّة وهو ليس ببيت كبقية البيوت, وهي تربية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلّم), وعلي بن أبي طالب (عليه السلام), وهي أمّ الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام), فكيف لا تكون ذات ثقافة وعلم في كل كلمة تصدر عنها وهي بين تلك النجوم الزاهرات، والكواكب النيّرات، وأعمدة العلم الشامخات، فالسيّدة الزهراء (عليها السلام) وظّفت أسماء الله تعالى وصفاته في طلب رضا الله عزّ وجلّ ومغفرته وتقبّل دعائها.
ومن بين الأسماء التي استعملتها السيّدة الزهراء (عليها السلام) في أدعيتها أسماء الكتب السماويّة التي أنزلها الله عزّ وجلّ على أنبيائه, فكانت وسيلة تتقرّب بها للباري ولهذا هي تدعوه بها، فتقول: ” وأسألك بكتبك التي أنزلتها على أنبيائك ورسلك, صلواتك عليهم أجمعين, من التوراة والإنجيل والقرآن العظيم, من أوّلها إلى آخرها, فإنَّ فيها اسمك الأعظم, وبما فيها من أسمائك العظمى أتقرّب إليك وأسألك “[39], إذن فالسيّدة الزهراء (عليها السلام) أدركت أهميّة هذه الأسماء كونها تضمّن أسماء الخالق العظمى، لذا هي تتّخذها وسيلة تتقرب بها إلى الباري وتسأل بها, ولهذا نجدها في دعائها تربط بين أسماء الله عزّ وجلّ وأسماء الكتب السماويّة لتتقرّب بها في دعائها في قولها: ” بالله وبأسمائه التامّة العامّة, الشاملة الكاملة, الطاهرة الفاضلة، المباركة المتعالية،… وبالتَّوراة والإنجيل, والزبور والفرقان، وصحف إبراهيم وموسى, وبكلّ كتاب أنزله الله… “[40].
2_ استلهام معنى الإيمان بالله وتوحيده
من بين الأنوار القرآنيّة التي كان لها حضور واضح في نصوص أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) قضيّة الإيمان بالله وتوحيده, ونقصد بها الإيمان به والتصديق بالقلب واللسان بربوبيته وكمال صفاته؛ لأنّ الإيمان يعني الوثوق والاطمئنان إلى كلّ ما يقرّر ويحكم ” وهو الإذعان والتصديق المطلق بالقلب والإقرار باللسان “[41], فنجد الزهراء (عليها السلام) في أكثر من نصّ من أدعيتها تقرّ وتعترف لله عزّ وجلّ بالوحدانيّة في الذات والصفات, وفي كلّ شيء، من ذلك قولها: ” إنِّي أشهدُ أنّكَ أنتَ اللهُ لا إلهَ إلّا أنتَ المعبودُ وحدَك لا شريكَ لكَ, وأنّ محمّدًا (صلى الله عليه وآله وسلم)عبدُك ورسولُك… لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ, سُبحانَ الله وبحمدِهِ …”[42], وتقول: ” لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ, لهُ المُلكُ ولهُ الحمدُ, يُحيي ويُميتُ, بيدِهِ الخَيْرُ, وهوَ على كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ “[43], ونجدها في نصوص أخرى تقرّ بعظمة الباري الذي أحكم صنعه في كلّ ما خلق, وبسط قدرته وحكمه على جميع الخلق, ولهذا نجدها في أكثر نصوص أدعيتها تستلهم صفات قدرته وعظمته، جاعلة منها وسيلة تلتمسها بالتقرّب إلى الخالق والدعاء بها لقبول الإجابة، من ذلك قولها: “اللهم بعلمك الغيب, وقدرتك على الخلق, أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي, وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي “[44], وفي نصوص أخرى تربط بين الإيمان بالله وتوحيده والشكر والثناء له وبين بيان عظمته وقدرته؛ للتقرّب إليه وحده, من ذلك قولها: “اللهم إنّي أشهدُك, وأشهدُ ملائكتك وحملة عرشك, وأشهدُ من في السماوات ومن في الأرض: إنَّك أنت الله لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك, وأنّ مُحمَّدًا عبدك ورسولك (صلى الله عليه وآله وسلم), وأسألك بأنَّ لك الحمد لا إله إلّا أنت, بديع السَّماوات والأرض, يا كائن قبل أن يكون شيء, والمكوّن لكل شيء, والكائن بعد ما لا يكون شيء, اللهمّ إلى رحمتك رفعتُ بصري, وإلى جُودك بَسطتُ كفّي فلا تحرمني وأنا أسألك, ولا تعذِّبني وأنا أستغفرُكَ “[45] .
المبحث الثاني
الأنوار الصوتية
من بين الأنوار التي نقف عندها في أدعية السيّدة الزهراء(عليها السلام) الأنوار الصوتية، التي نقصد بها تلك العبقريّة والجمال الذي ينشأ حين تتجاوز الكلمات على نحو مخصوص, وهي طريقة الاستهواء الصوتي في اللغة, أو هي طريقة الإيقاع الذي يتّبع المعنى أو الشعور، فيلقي بظلاله عليه, وهي عنصر التنغيم, أو الموسيقى التصويريّة التي تصاحب المشهد التعبيري[46], التي تؤثّر في بلورة التشكيل الجمالي والمعنوي لنصوص الأدعية, وتعدُّ العالم الداخلي لهذه النصوص, والمرتبطة بذات المنشئ (السيّدة الزهراء عليها السلام), فهي تترجم أحاسيسها وانفعالاتها العميقة, مؤثّرة عن طريقها بالمتلقّي، فهي ” الصورة السمعيّة للكلمات, وهي من أكثر الأحداث الذهنيّة وضوحًا عند الناس “[47], وتتجلّى تلك الأنوار الصوتيّة المضيئة في أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) بظواهر مختلفة منها:
أوّلًا: التكرار
يُعَدُّ التكرار أحد أبرز الفنون البديعيّة لتكثيف النغم في النصوص, وهو يمثل أحد المنبّهات الأسلوبيّة في النصّ, والتي تمنحه القابليّة على إنتاج الإيقاع الصوتي الذي يجذب المتلقّي, فضلًا عن أثره في تأكيد الدلالة وبيان أهمّيتها, ويمكن تقسيم التكرار الذي ورد في أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) على النحو الآتي:
1ـ تكرار الحرف
إنَّ العناية بتكرار الحرف لون واضح في أغلب نصوص أدعية السيّدة الزهراء(عليها السلام), وهذا التكرار الذي ورد في نصوص الأدعية قد حقّق تناغمًا في الإيقاع الصوتي مما زاد في فاعليّة هذه النصوص, من ذلك دعاؤها في ثناء الله عزّ وجلّ قولها (عليها السلام): ” يا أعزَّ مذكورٍ, وأقدمهُ قدماً في العزَ والجبرُوت , يا منْ خصَّ نفسهُ بالبقاءِ…, وخلقَ لبريَّنهِ الموت… , يا أوَّل الاَّوَّلين… , ويا آخر الآخرين, ويا ذا القوة المتين…”[48], لو رجعنا إلى الدعاء نجد السيّدة الزهراء (عليها السلام) قد كرّرت حرف النداء (يا) عشرين مرّة, ويتميّز هذا الحرف بما فيه من صفة المدّ التي تنسجم مع ما يكمن في قلب السيّدة الزهراء (عليها السلام) وعظمة الباري سبحانه وتعالى, وقد تكرّر هذا الحرف بصيغ مختلفة في نصّ الدعاء, فضلًا عن أنّ مجيئ هذا التكرار كان في بداية العبارات, وهذا بدوره يسهّل عمليّة التوسّع والامتداد، وزيادة عدد العبارات عن طريق تأكيد المعنى بإضافة الصوت وتكراره بشكل متتابع[49], فتكرار حرف النداء (يا) أعطى للنصّ تنوعًا وتكثيفًا لغويًّا محمّلًا بالمعاني والصور التي ذكرت فيها السيّدة الزهراء (عليها السلام) صفات تُبيّن قدرة الباري وعلمه وحلمه ورحمته.
ومن بين الحروف التي تكرّرت بكثرة في نصوص أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) حرف (الواو), فلا يكاد يخلو دعاء من أدعيتها منه, ومثال ذلك قولها في دعائها لطلب الدنيا والآخرة في قولها: ” اللهم قنِّعني بما رزقتني واسترني وعافني أبدًا ما أبقيتني, واغفر لي وارحمني…”[50], فلو رجعنا إلى نصّ الدعاء في الصحيفة نجد السيّدة الزهراء (عليها السلام) قد كرّرت الحرف ثماني عشرة مرّة، وهي تجمع بين طلب الدنيا من الرزق، والستر، والعافية، والغفران، والرحمة، وطلب الآخرة من الخلاص من العذاب, والرحمة، والاستغفار، والطاعة، وتجنّب سخط الباري, فهي جمعت بين الدنيا والآخرة في دعائها وحرف الواو أفاد هذا الغرض, كونها أفادت مطلق الجمع[51].
ومن بين الأصوات التي كان لها ظهور واضح في أكثر نصوص أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) صوت (الياء)، من ذلك قولها في الدعاء للأمر العظيم وكشف الهمّ: ” بحقِّ يس والقرآن الحكيم, وبحقِّ طه والقرآنِ العظيم, يا منْ يقدرُ على حوائج السائلين, يا منْ يعلمُ ما في الضمير, يا مُنفِّسًا عن المكروبين, يا مفرّجًاً عن المغمومين, يا راحم الشيخ الكبير, يا رازق الطفل الصغير, يا من لا يحتاج إلى التفسير…”[52], فلو نظرنا إلى النصّ نجد صوت الياء تكرر ثلاث عشرة مرّة في كلمات مختلفة, وتكرّر سبع مرّات في حرف النداء (يا) فيكون مجموع تكرار حرف الياء في نصّ الدعاء عشرين مرّة, وصوت الياء من أصوات المدّ واللين التي تتّصف بخصائص تجعلها قادرة على إحداث تأثيرات نفسيّة[53], إذ يرد تلبية لدواعٍ نفسيّة؛ لأنّ أحرف المدّ واللين ” غير مهموسة ومخارجها متّسعة لهواء الصوت، وليس شيء من الحروف أوسع مخارج منها ولا أمدّ للصوت “[54], فالسيّدة الزهراء (عليها السلام) عند الدعاء كانت ترفع صوتها, وصوت المدّ يلائم هذه الحالة في رفع الصوت, فضلًا عن ذلك وجود صوت الألف مع صوت الياء في حرف النداء (يا) جعلت صوت المدّ عند الدعاء يكون طويلًا مشبعًا في الاستطالة والمدّ, أضف إلى ذلك أنّ مدّ الصوت بحرف (الياء) يدلّ على الانفعال المؤثّر في البواطن[55], وبهذا كان لرفع الصوت مع أسلوب النداء وتوظيف المدّ أثّر في بيان أهميّة الدعاء وتحقيقه من لدن الباري عزّ وجلّ.
2_ تكرار الكلمة
يأخذ تكرار الكلمة في نصوص الأدعية للسيّدة الزهراء (عليها السلام) أشكالًا عدّة سواء أكان اللفظ المكرّر اسمًا أم فعلاً, وفي مواضع عدّة, ومن بين الألفاظ التي كان تكرارها ظاهرة واضحة في نصوص الأدعية لفظة (اللَّهُمَّ), فلا يكاد يخلو نصّ من أدعيتها (عليها السلام) من تكرار هذه اللفظة، ومن ذلك ما ورد في قولها (عليها السلام): ” اللَّهُمَّ وأعدائى ومن كادني… اللَّهُمَّ اكفني حسد الحاسدين، وبغي الباغين, وكيدَ الكافرين, اللَّهُمَّ احرسنا بعينك التي لا تنام, وركنك الذي لا يُرامُ…”[56], فقد تكرّرت اللفظة (اللَّهُمَّ) ثلاث مرّات متصدّرة الدعاء, وهي بهذا حملت الدلالة المدحيّة والتفخيميّة للمدعو؛ لما تتميّز به هذه اللفظة من مزايا، فهي تحتوي على جميع أحرف اسم الجلالة (الله) مضافًا إليها (الميم) الدالّة على التفخيم[57]؛ لأنّ السيّدة الزهراء (عليها السلام) عمدت إلى إظهار هذا التفخيم في بداية الدعاء ليكون مدخلًا حسنًا لما يأتي بعده من طلب في الدعاء, ولهذا نجد هذه اللفظة وردت في الأدعية كلّها مقرونة بالطلب الذي يحتاج لمقدّمة تطمئن بها نفس السائلة لتكون لها سبيلًا للغوص في الطلب والدعاء.
ومن بين الألفاظ التي تكرّر ذكرها في أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) لفظة (إلهي) من ذلك قولها: ” إلهي وسيِّدي, هذا مُحمدٌ نبيك,… إلهي أنزل علينا مائدة من السماء…”[58], وقولها: ” إلهي وَسيِّدي احكم بيني وبين من ظلمني… إلهي وسيّدي ذُرِّيَتي وشيعتي…”[59], وقولها: ” إلهي وسيِّدي أسألك بالذين اصطفيتهم…”[60], وقولها: ” إلهي أنت المنى وفوق المنى…”[61], وقولها: ” إلهي وسيّدي سمّيتني فاطمة, وفطمت بي من تولّاني وتولّى ذريتي… “[62], فنلحظ تكرار هذه اللفظة في أكثر من دعاء بعضها ترد وحدها, والبعض الآخر ترد مع لفظة (سيّدي), وفي أكثر المواضع وردت في بداية فقرات الدعاء, وممّا لا شكّ أنّ لهذه اللفظة أثرًا خاصًّا في نفس السيّدة الزهراء (عليها السلام), فهذه اللفظة تتميّز بحذف حرف النداء وإضافتها إلى (ياء) المتكلّم, وهي بهذا تقرّب المسافة بين الداعي (الزهراء عليها السلام)، والمدعو وهو الله سبحانه وتعالى، فيشعر الداعي وكأنّه قريب إلى الله تعالى, فضلًا عمّا تضفيه ياء المتكلّمين من دلالة الخصوصيّة, فيشعر الداعي أنّ المدعو خاصّ به.
ومن الألفاظ التي تكرّرت في أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) لفظة (ربِّ) من ذلك ما جاء في قولها: ” يا رَبِّ, أَرني الحسنَ والحسينَ…, يا ربِّ شيعتي…, يا ربِّ شيعةُ وُلْدى…, يا ربِّ شيعَةُ شيعتي “[63], فنجد لفظة (ربّ) تكررت أربع مرّات في الدعاء مقترنة بصيغة النداء, وبعبارات متتابعة تركّزت على أهميّة شيعة السيّدة الزهراء(عليها السلام), فتكرار صيغة النداء للربِّ سبحانه وتعالى اقترن بذكر الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) وبتكرار ذكر الشيعة, وغرضها في ذلك بيان أهميّة من تذكره في الدعاء.
3ـ تكرار العبارة
إن تكرار العبارة بأكملها في نصوص الأدعية للسيّدة الزهراء (عليها السلام) يأخذ أبعادًا نفسيّة عميقة عن السيّدة الزهراء (عليها السلام), فضلًا عن القيمة التأثيريّة التي ينتجها التكرار, ولا يخفى ما لهذا النوع من التكرار ” من قيمة إيحائيّة ودلاليّة”[64], ومثل هذا التكرار نجده في دعائها (عليها السلام) في تسبيح الله عزّ وجلّ في قولها: ” سبُّوحٌ قدّوسٌ ربُّ الملائكة والروح… سبحان ذي العزِّ الشامخ المنيف… سُبحان ذي العزِّ الشامخ المنيف… “[65], فلو رجعنا إلى نصّ الدعاء في الصحيفة الفاطميّة, نجده قد اشتمل على أكثر من عبارة مكرّرة, فالسيّدة الزهراء (عليها السلام) قد كرّرت عبارة (سُبحان ذي العزِّ الشامخ المنيف) مرّتين, وكرّرت عبارة (سُبحان منْ) ثلاث عشرة مرّة, وكرّرت عبارة (سبحان ذي) مرّتين, إنَّ هذا الترديد للتركيب نفسه في كلّ مقطع من مقاطع الدعاء منح النصّ قيمة أسلوبيّة، وقدرة إيحائيّة وصوتيّة، فتراكم هذه البنى المتكرّرة تداخلت مع رؤية السيّدة الزهراء (عليها السلام) في دعائها وتسبيحها, وهو من أكثر الأدلّة لتوضيح المعنى المراد بصورة مكثّفة, فإلحاح السيّدة الزهراء (عليها السلام) في تكرار عبارات معيّنة أفاد تمكين المعنى وتقريره في نفس المتلقّي, فضلًا عمّا أفاده هذا الاستعمال من ترابط وتماسك بين أجزاء الدعاء, أضف إلى ذلك ما منحه هذا التكرار من متعة التأمّل للمتلقّي لما يحمله من معانٍ.
وفي دعائها (عليها السلام) في تحميد الله عزّ وجلّ في قولها: ” الحمد لله الذي لا يَنسى منْ ذكرهُ, الحمدُ لله الذي لا يخيبُ… الحمد لله الذي لا يَنسى منْ ذكرهُ, ولا يخيبُ من دعاهُ…”[66], فلو رجعنا إلى نصّ الدعاء نجد السيّدة الزهراء (عليها السلام) قد كرّرت أكثر من عبارة في دعائها, فكرّرت عبارة (الحمد لله الذي لا يَنسى منْ ذكرهُ) مرّتين, وكرّرت عبارة (لا يخيبُ) مرّتين, وكرّرت عبارة (الحمد لله الذي) ثماني مرّات, وكرّرت عبارة (الحمدُ لله) مرّتين, وقد أفاد هذا التكرار تأكيد المعنى, وأفاد إحداث إيقاع موسيقي موحّد متميّز يستلزمه نصّ الدعاء, فضلًا عن التناسق الصوتي الذي خلقه هذا التكرار. وفي دعائها المسمّى بدعاء الحريق والذي تقول فيه (عليها السلام): ” اللَّهُمَّ إنّي أصبحتُ أشْهُدُك وكفى بك شهيدًا, وأشهدُ ملائكتك وحملة عرشك, وسُكان سبع سماواتك وأراضيك… “[67], فعند الرجوع إلى نصّ الدعاء في الصحيفة الفاطميّة نجد تكرار العبارة قد ورد في أكثر من فقرة في الدعاء, فقد كرّرت عبارة (بسم الله) مرّتين, وكرّرت عبارة (بسْمِ الله على) أربع مرّات, وعبارة (أسألك أن تُصلي على محمد وآل محمد) مرّتين, وكرّرت عبارة (اللّهم صلِّ على مُحمدٍ وأهل بيته) ثلاث مرّات, وكرّرت عبارة (اللّهم صلِّ عليهم) خمس مرّات, وكرّرت عبارة(اللّهم صلِّ على مُحمدٍ وآلِ محمد) إحدى عشرة مرّة, فتكرار العبارات في نصّ الدعاء قد أفاد تعظيم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وتعظيم آل بيته (عليهم السلام), فضلًا عمّا أضافه هذا التكرار من إيقاع عالٍ وإيحاءٍ مكثفٍ للمعنى يتلاءم مع غاية الدعاء.
وفي ضوء ما تقدّم من ذكر لظاهرة التكرار بكلّ أنواعه، يمكننا القول: إنّ هذه الظاهرة أخذت حيّزًا كبيرًا في نصوص دعائها (عليها السلام), وأنّها مثّلت سمة أسلوبيّة.
ثانيًاً: السجع
يُعدّ السجع من الظواهر الأسلوبيّة الصوتيّة في النصّ الأدبي, ويقصد به ” تواطؤ الفواصل في الكلام المنثور على حرف واحد “[68], وتأتي أهميته من كونه يمتلك القدرة على نقل الكلام المنثور من الحالة النثريّة التقريريّة إلى حالة ذات طابع إيقاعي مميز, فهو أحد المرتكزات الصوتيّة التي تسهم في تكوين الإيقاع, فضلًا عن المساهمة في تشكيل الانسجام اللفظي في السياق, ويعطي رونقًا ونغمة موسيقيّة للكلام.
وقد شكّل هذا الفنّ سمة أسلوبيّة صوتيّة مميّزة في أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) بأنواعه المختلفة, وهي كما يأتي:
1_ السجع المتوازي
وهو ما ” تتّفق الكلمتان في الوزن وحروف السجع “[69], فنجد اللفظة الأخيرة من القرينة متّفقة مع نظرتها في الوزن والروي[70], وقد ورد هذا النوع من السجع في مواضع عديدة في أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) من ذلك قولها: ” اللهم إنّي عائذٌ بك فأعذني, ومستجيرٌ بك فأجرني, ومستعينٌ بك فأعنّي, ومستغيثٌ بك فأغثني, وداعيك فأجبني, ومستغفرك فاغفر لي, ومستنصرُك فانصرني, ومستهديك فاهدني, ومستكفيك فاكفني, ومُلتجأ إليك فآوني، ومستمسك بحبلك فاعصمني”[71], فنلحظ في هذه الفقرة أنّ السجع قد ورد في أكثر من مقطع, وقد جاء بصور متوافقة انبثق عنها نغم رتيب خاصّ بكلّ مقطع من المقاطع السجعيّة، فلو تأمّلنا في داخل العبارات المسجوعة لوجدناها متوازية فيما بينها محقّقة إيقاعًا ناتجًا من التوازي التركيبي العام مضافًا إلى الإيقاع السجعي الخاصّ.
وورد السجع المتوازي كذلك في قولها (عليها السلام): ” وإلى دار السلام فاهدني, وبالقرآن فانفعني, وبالقول الثابت فثبتني, ومن الشيطان الرَّجيم فاحفظني, وبحولك وقوّتك وجبروتك فاعصمني… “[72], فنلحظ وضوح الإيقاع الناتج عن الإيقاع التركيبي والصرفي والسجعي, فقد جاءت نهايات الفواصل المسجوعة متشابهة وفي أكثر من حرف, إذ تكرَر فيها (النون والألف) وهذا ولّد إيقاعًا يتوازى مع المفردات, فضلًا عن ذلك أنّ حرف الألف من حروف المدّ، فجاء صوت المدّ هنا يتلاءم مع دلالة العبارات الدعائيّة, ونلاحظ أيضًا طول العبارات المسجوعة، إذ تكوّنت من أكثر من لفظتين وهذه هي الجدّة التي كُسرت بها الرتابة.
2_ السجع المطرّف
وهو ما كانت ” الكلمتان الأخيرتان من السجعتين مختلفتين في الوزن، متّفقتين في الحرف الأخير “[73], وقد ورد هذا النوع في مواضع مختلفة منها قولها (عليها السلام): ” اللهمَّ إنّي أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى, والعمل بما تُحبُّ وترضى, اللهم إنّي أسألك من قوّتك لضعفنا, ومن غناك لفقرنا وفاقتنا, ومن حلمك وعلمك لجهلنا “[74], إذ نلحظ هنا الموسيقى العذبة التي لا تخرج عن موسيقى الوجدان الموحية بالضعف والانكسار والحاجة, ونجد أن فعل الطلب جاء بصيغة الأمر, وجاءت نهايات الفواصل المسجوعة متشابهة الحروف, ويمكن ملاحظة ذلك في الألفاظ (التقى, الغنى, ترضى, لضعفنا, لفقرنا, فاقتنا, لجهلنا)، فالألفاظ الثلاثة الأولى تكرّر في نهايتها الألف, والألفاظ الثلاثة الأخرى تكرّر في نهايتها النون والألف, وهذا ما جعل الإيقاع أكثر وضوحًا وحيويةً, فكثّفه وجعل له رنينًا, فضلًا عمّا أضافه فعل الأمر من أثر في توليد الشعور بالحاجة والرغبة الجادّة في الوصول إلى المبتغى.
ومن السجع المطرّف أيضا قولها (عليها السلام): ” اللهم اجعلنا من أقرب من تقرّب إليك, وأوجه من توجّه إليك، وأنجح من سألك وتضرع إليك, اللهم اجعلنا ممن كأنّه يراك إلى يوم القيامة الذي فيه يلقاك, ولا تُمتنا إلّا على رضاك “[75], فلننظر إلى هذا التموّج والتنقّل والتنوّع في الإيقاع الذي جاء مناسبًا مع تنوّع وزن المفردة المسجوعة (تقرّب إليك, وتضرّع إليك, فيه يلقاك, على رضاك)، فضلًا عمّا إضافته هذه الحريّة في التنوّع النغمي من إنتاج حريّة في اختيار زنة المفردة، وهذا يلائم المستوى الدلالي لهذه الفقرة, لذا نجدها (عليها السلام) تنتقل بحريّة في دعائها وطلبها في مسائل تتعلّق بالحياة الدنيا والآخرة.
ومن السجع المطرّف قولها (عليها السلام): ” الحمد لله العليِّ المكان, والرفيع البيان, الشديد الأركان, العزيز السلطان, العظيم الشأن, الواضح البرهان, الرَّحيم الرَّحمان, المنعم المنان “[76], فنلحظ الألفاظ المسجوعة (المكان, البيان, الأركان, السلطان, الشأن, البرهان, الرَّحمان, المنان) جاءت بصورة متوافقة, حتّى أنّ الانتظام في هيكليّة عبارات الفقرة جعل من تغيّر الصيغة الصرفيّة للّفظة المسجوعة لا يؤثّر في المستوى النغمي لها؛ لأنّنا نلاحظ أنّ الفقرة قد قُسِّمت على وحدات إيقاعيّة منتظمة, فالعبارات جاءت بمستوى بنائي واحد, مما أضفى جماليّة في الفقرات المسجوعة, فضلًا عمّا أضفاه من موسيقى داخليّة ناتجة عن تماثل الأصوات المتكرّرة في نهاية كل فقرة.
3_ السجع الترصيعي
وفي هذا النوع تكون الألفاظ في السجعتين متّفقة في أوزانها وفي أعجازها, أي في ” الحرف الأخير من كلّ متقابلين فيها “[77], وقد ورد هذا النوع من السجع في مواضع متعدّدة منها قولها (عليها السلام): ” اللَّهم ربَّ البيت الحرام, والشهر الحرام, وربّ المشعر الحرام, وربّ الركن والمقام, ربّ الحلّ والحرام “[78], فلو نظرنا إلى نصّ الدعاء نجد التقسيم المميّز للعبارات المسجوعة التي جعلت منه وحدات صوتيّة تلتزم بتماثل الحرف الأخير في كلّ لفظتين متقابلتين ( ربَّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــ الحرام, ربَّ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحرام, ربَّ ـــــــــــــــــــــــــــــ المقام, ربَّ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الحرام)، فجعل هذه الفقرات تمتلك بعدًا صوتيًّا مؤثّرًا.
ولننظر قولها (عليها السلام): ” اللهم صلِّ على مُحَمّدٍ كما هديتنا به, وصلِّ على مُحَمّدٍ كما رحمتنا به, وصلِّ على مُحَمّدٍ كما عززتنا به, وصلِّ على مُحَمّدٍ كما فضّلتنا به, وصلِّ على مُحَمّدٍ كما شرّفتنا به, وصلِّ على مُحَمّدٍ كما نصرتنا به, وصلِّ على مُحَمّدٍ كما أنقذتنا به من شفا حُفرة من النار “[79], فنجد أثر توحيد النغم في نفس السامع؛ لأنّ الاستماع إلى الموسيقى الصوتيّة المنسجمة والنثر المسجوع أو الخاضع لنظام معين في توالي الكلمات، وسرد العبارات يحدث شيئًا من الدهشة والارتياح في نفس السامع[80], فضلًا عمّا أضافته فصوله المتساوية الأجزاء وكأنّها أفرغت في قالب واحد[81], وهذا بدوره زاد في إظهار الإيقاع وكثّفه وأكّده بسبب إعادة الإيقاع نفسه.
ثالثًا: الجناس
من الأنوار الصوتيّة المضيئة التي كان لها حضور في أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) الجناس, وهو أن ” يورد المتكلّم كلمتين تجانس كلّ واحدة منهما صاحبتها في تأليف حروفها” [82]. وتكمن أهميّة هذه الظاهرة الصوتيّة في كونها تمنح النصّ تناسبًا إيقاعيًّا من خلال تشابه اللفظتين في النطق واختلافهما في المعنى, وقد ورد الجناس في أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) بأنواعه المختلفة, وهي كما يأتي:
1_ الجناس الاشتقاقي
ويتميّز هذا النوع في اعتماده الاشتقاق, فنجد الكلمات فيه تتّفق في الأصل (الجذر اللغوي)[83], فيكون الاختلاف بالأحرف والاتفاق بالجذر الذي اشتقّت منه الألفاظ. ومن الشواهد التي وردت فيها هذه الظاهرة قولها (عليها السلام): ” يا كائن قبل أن يكون شيء, والمكوّن لكلّ شيء”[84], فنلحظ مجيء الألفاظ (كائن, يكون, مكوّن) وقد جمع بينها الاشتقاق, فهي تتشابه من حيث الجذر اللغوي, ولكنّها تختلف من حيث المعنى, فلفظة (كائن) الشيء المنشىء الموجود, ولفظة (يكون) تدلّ هنا على ما سيكون، أي لم يكن شيء بعد, ولفظة (مكوّن) تحمل هنا دلالة من يقوم بالتكوين. أمّا قولها: (عليها السلام): ” واغفر لنا مغفرةً جزمًا… ” [85], فنجد الجناس جاء بين اللفظتين (اغفر , مغفرة), فالأولى فعل أمر يحمل معنى طلب المغفرة, والثانية اسم المغفرة, والشيء نفسه في قولها: (عليها السلام): ” وأن تُفرّج عن محمد وآله وتجعل فرجي مقرونا بفرجهم “[86], فجاء الجناس بين الألفاظ (تفرج, فرجي, فرجهم), وهي كذلك اختلفت في المعنى لكنّها ترجع إلى الجذر اللغوي (فرج), من كلّ ما تقدّم نجد هذا النوع من الجناس قد أكسب نصوص الأدعية مستوًى نغميًّا عاليًا, كونه لم يتم فيه تكرار اللفظة نفسها، بل تكرار بعض حروفها وإضافة حروف أخرى، ممّا يؤدّي إلى خلق موسيقى خاصّة في النصّ.
2_ الجناس التضارعي (المضارع)
في هذا النوع من الجناس بين الكلمتين المتجانستين اختلاف بحرف واحد, واختلاف بالمعنى[87], ويمكن ملاحظة هذا النوع من الجناس في قولها: (عليها السلام): ” ومن حلمك وعلمك لجهلنا “[88], فجاء الجناس في اللفظتين (حلمك, علمك), فجاء الاختلاف بين اللفظتين بحرف الحاء في اللفظة الأولى, وحرف العين باللفظة الثانية, فضلًا عن الاختلاف بالمعنى, ونظير ذلك قولها: (عليها السلام): “بالله وبأسمائه التامَّة العامَّة, الشاملة الكاملة “[89], جاء الجناس بين (التامَّة, العامَّة), فالاختلاف بين التاء والعين وكذلك الاختلاف في المعنى, و(الشاملة، الكاملة) اختلفت اللفظتين المتجانستين بحرف الشين بالأولى, وحرف الكاف مع الاختلاف بالمعنى, وقولها (عليها السلام): ” وعلى السَّرّاءِ والضَّراءِ مشكورٌ “[90] جاء الجناس بين (السَّرّاءِ, والضَّراءِ), باختلاف الحرفين السين والضاد, واختلاف المعنى, في كلّ ما أوردنا من شواهد من الجناس المضارع حدث في النصوص تكثيف صوتي ناتج عن المضارعة المتقاربة التي أدّت إلى تكثيف دلالي توكيدي؛ بسبب التجمّعات الصوتيّة المكثّفة في النصوص, وهذا كلّه له أثر في الجانب النفسي للسامع (المتلقّي), فضلًا عمّا يعكسه من ثراء لغوي وذوق في اختيار الألفاظ تمتّعت به السيّدة الزهراء (عليها السلام).
3_ الجناس التذييلي (المذيّل)
في هذا النوع يكون الاختلاف بين اللفظين بزيادة حرف أو أكثر في أوّلهما أو آخرهما[91], ومنه قولها (عليها السلام): ” يا من لم يزل ولا يزال كما لم يزل “[92], فالجناس جاء بين (يزل ويزال) بزيادة حرف الألف, ومنه قولها (عليها السلام):”اللهم إنّي أسألك بحقّ كلّ اسم هو لك, يحقّ عليك فيه إجابة الدعاء… وأسألك بحقّك على جميع ما هو دونك ” [93], فالجناس جاء بين (يحقّ, بحقّ, بحقّك), بزيادة الياء في اللفظة الأولى, وزيادة الباء في اللفظة الثانية، وزيادة الباء والكاف في اللفظة الثالثة. ولننظر قولها(عليها السلام): ” وأضعاف ذلك, كأضعاف ذلك أضعافًا “[94], فجاء الجناس في الألفاظ (أضعاف, كأضعاف, أضعافًا), بزيادة الكاف في اللفظة الثانية, وزيادة الألف في نهاية اللفظة الثالثة, فلو نظر إلى الألفاظ كلّها التي أوردناها في هذا النوع من الجناس نجد فيها تقاربًا وتجانسًا صوتيًّا وتداخلاً دلاليًّا, وهذا يكمن في كون هذا النوع من الجناس ينتج ألفاظًا لها إيقاعات خاصة, ولها تناسب دلالي وتناسب صوتي.
رابعًا: الطباق (التضادّ)
وهي ظاهرة موسيقيّة تعمل على إثارة المتلقّي واستجابته مع منح إيحاءات ودلالات خاصّة في النصّ الدعائي, ونقصد بها ” الجمع بين الشيء وضدّه “[95], وقد شكّل التضادّ ملمحًا أسلوبيًّا في نصوص أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام), فقد ورد بكثرة من ذلك قولها (عليها السلام)” يا ربّ الأولين والآخرين, ويا خيرَ الأوّلين والآخرين “[96], فنجد التضادّ ورد بين (الأولين, والآخرين), وفي قولها (عليها السلام) ” وعلى فقيرٍ أغنيته, وعلى ضعيفٍ قوّيته, وعلى خائف أمّنته “[97], جاء التضادّ بين (فقير, وضعيف), وبين (أغنيته, وقوّيته), وبين (خائف , وأمّنته), وفي قولها(عليها السلام) ” وهبْ لنا اللهمَّ رحمة لا تعذّبنا بعدها في الدنيا والآخرة “[98], تحقّق التضاد بين (الدنيا, والآخرة), كذلك قولها (عليها السلام) ” يُحيي ويميت بيده الخيرُ “[99], جاء التضاد بين (يُحيي, ويميتُ), وفي هذه الشواهد جميعها كان للتضادّ أثرٌ في نصوص الأدعية, فقد أنتج جماليّة صوتيّة نتيجة الاختلاف في معنى الألفاظ المتضادّة, فضلًا عمّا أنتجته تلك الألفاظ من اختلاف في الصور, التي بدورها أنتجت إثارة وقدرة على التنبيه, وهذا بدوره يثير السامع كونه يدرك أنّ الإشارة لا يفهم معناها ما لم توجد إشارة تخالفها وتمايزها.
المبحث الثالث
الأنوار التركيبيّة
من بين الأنوار المضيئة التي كان لها حضور في أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) الأنوار التركيبيّة, ونقصد بها المستوى التركيبي الذي يشكّل ركيزة مهمّة في بنية نصّ الدعاء, كونه يعتمد في جوهره على اللغة وطريقة تشكيل المبدع لهذه التراكيب التي تنشأ من ترابط الألفاظ بعضها مع بعض, لتكون نسيجًا لغويًّا مميّزًا,-وهو في بحثنا هذا- نصّ الدعاء, وفي ضوء استقراء أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام) وقفنا عند بعض هذه الأنوار التركيبيّة وهي كما يأتي:
أوّلًا: الأمر والنهي
وقد قصدنا ذكرهما معًا كونهما وردا معًا في أكثر نصوص الأدعية, ولا سيما أنّ النصّ المدروس هو الدعاء، وهو من الأساليب الإنشائيّة التي تأتي متضمّنة صيغتي الأمر والنهي من الأقلّ منزلة إلى الأعلى منزلة[100], ولكن لأغراض بلاغيّة منها الدعاء وطلب المغفرة، فلو وقفنا عند فعل الأمر نجده ورد في العديد من نصوص الأدعية من ذك قولها (عليها السلام): ” فَصلِّ على مُحمّدٍ وآله, وامسح ما بي بيمينك الشافية, وانظر إليَّ بعينك الراحمة, وأدخلني في رحمتك الواسعة, واقبل إليَّ بوجهك الذي إذا أقبلت به على أسير فككتهُ “[101], نلحظ أفعال الأمر الواردة في النصّ (فَصَلِّ, امسح, نظر, أدخلني, اقبل), ومنه قولها (عليها السلام): ” اللَّهم افتح لنا خزائن رحمتك, وهبْ لنا اللهم رحمتك لا تعذبنا بعدها في الدنيا والآخرة, وارزقنا من فضلك الواسع رزقًا حلالًا طيّبًا… وزدنا بذلك شكرًا… اللهم وسِّع علينا في الدّنيا… واعطنا ما تحبّ, واجعلهُ لنا قوةً فيما تحبّ… “[102], فجاءت أفعال الأمر على النحو الآتي (افتح, هبْ, ارزقنا, زدنا, وسِّع, اعطنا, اجعله), فنلحظ في كلّ ما ورد من أفعال أمر خرجت إلى معنى الدعاء, فضلًا عمّا تميّزت به من الخشوع والتوسّل كونها توجّه إلى الخالق من المخلوق الذي يحاول بشتّى الطرائق إظهار خشوعه وتوسّله أمام الله عزّ وجلّ, وقد نجحت السيّدة الزهراء (عليها السلام) بذلك.
أمّا صيغة النهي فجاءت في قولها (عليها السلام) ” لا تفضحني في مشهد القيامة بمُوبقات الآثام, ولا تُعرِضْ بوجهك الكريم عنّي من بين الأنام “[103], فهي (عليها السلام) تستعمل صيغة النهي (لا تفضحني, لا تُعرضْ)؛ لتطلب من الباري أمرًا من أمور الآخرة وهو عدم الافتضاح يوم القيامة, وتطلب من الباري عزّ وجلّ أن لا يعرض عنها يوم القيامة, وهذه الطلبات قلّة من يفكّر فيها فهي (عليها السلام) فضّلت الدعاء للآخرة قبل الدنيا. ومن دعائها (عليها السلام) بصيغة النهي قولها: “لا تُحوجنا, ولا تُفقرنا إلى أحد سواك ” [104], فنجد الصيغة جاءت في طلب أمر من أمور الدنيا في (لا تُحوجنا, ولا تُفقرنا), لكن ليس رغبة في الدنيا، بل رغبة بعدم الحاجة والذلّة لمن في الدنيا، ولهذا نجدها (عليها السلام) تؤكّد المعنى في قولها (إلى أحد سواك), فهي بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم), وزوج أمير المؤمنين (عليه السلام), وأم الحسن والحسين (عليهما السلام) سيدي شباب أهل الجنّة, فلا بدّ أن يكون دعاؤها هذا حتّى لا تذلّ لأحد، وهيهات منها ذلك.
ثانيًا: النداء
من الأنوار التركيبيّة التي حظيت بظهور واضح في نصوص أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام), فلحظنا أكثر نصوص الأدعية جاءت مبدوءة بلفظة النداء (اللَّهم), فكانت أداة النداء محذوفة متضمنة في لفظة (اللَّهم), من ذلك قولها (عليها السلام) ” اللَّهُمَّ لك الحمدُ والثناءُ والشكرُ والمَنُّ “[105], ومن ذلك قولها (عليها السلام) “اللّهم أعطه أفضل ما سألك, وأفضل ما سئلتَ له “[106], ومن أدوات النداء التي استعملتها السيّدة الزهراء (عليها السلام) الأداة (يا) في قولها (عليها السلام) ” يا أعزَّ مذكورٍ … يا أوَّل الأوَّلين, ويا آخر الآخرين… يا عالِمَ الغيبِ والسرائر, يا مُطاعُ, يا عليمُ, يا الله “[107].
ونجد من صيغ الدعاء الواردة في نصوص أدعية الزهراء (عليها السلام) ما جاء بصيغة مباشرة في نداء الرَّب, وهذا ما نجده في قولها (عليها السلام) ” رَبّ فاستجبْ لي … ربِّ ارْحمْ عند فراق الأحبة صرعتي… رَبِّ استجيُرُ بكَ من النار فأجرني, رَبِّ أعوذ بك من النار فأعذني, رَبِّ أفزعُ إليك من النار فأبعدنى. رَبِّ اسْتَرْحمك مكرُوبًا فارحمني… “[108], وأغلب الظن في دعائها بهذه الصيغة قصد القرب من الخالق لحظة الدعاء بحذف أداة النداء، والنداء بلفظة (الرَّبّ) مباشرة من دون وسائل ووسائط حتّى تكون قريبة منه، وهي قريبة, ولهذا نجدها في أدعية أخرى تأتي بـ (ياء المتكلّم) مقرونة مع لفظة الرَّبِّ حتّى تعطي الدعاء خصوصيّة الطلب, والقرب في آن واحد, وهذا ما نجده في قولها (عليها السلام) ” إلهي وَسيّدي, هذا مُحمّدٌ نبيّك, وهذا عليٌّ ابن عمِّ نبيِّك, وهذان الحسن والحسين سبطا نبيّك, إلهي أنزل علينا مائدةً من السماء… “[109], ويؤكّد ما ذهبنا إليه ما ورد في الدعاء ممن ذكرتهم من أهل بيتها (عليهم السلام).
في كلّ ما تقدّم من ذكر لصيغ النداء المختلفة دلالة واضحة على ما تميّزت به السيّدة الزهراء (عليها السلام) من فكر ثاقب, وبلاغة في القول استطاعت عن طريقهما المجيء بصيغ وعبارات مختلفة في مخاطبة الباري عزّ وجلّ، والوقوف بين يديه للدعاء بصيغ يغلب عليها سمة الخشوع والرهبة والإيمان الصادق.
الخاتمة
في ختام هذه الرحلة الشائقة والماتعة مع أدعية سيّدة نساء العالمين (عليها السلام), تتّضح لنا تلك الأنوار المشعّة بجمالها الساطع في نصوص أدعيتها التي مهما درسنا وبحثنا فيها فهي قليلة, وتستحقّ الكثير من الوقوف عند جماليّتها, وقد جاءت هذه الأنوار لتعكس لنا وللقارئ ثقافة السيّدة الزهراء (عليها السلام) وبلاغتها, حتّى أنّها شملت مختلف العلوم ولا سيما ما وقفنا عنده من علوم تخصّ الثقافة الدينيّة المتمثّلة بالقرآن الكريم والتي شكّلت جزءًا مهمًّا في بنية الأدعية, فلا يكاد يخلو نصّ منها من لفظة, أو اقتباس، أو تضمين لنصّ قرآني, فضلًا عن القصص القرآنيّة التي استشهدت بها في أدعيتها.
وإذا وقفنا عمّا سمّيناه الأنوار الصوتيّة وقصدنا بها المستوى الصوتي في أدعية السيّدة الزهراء (عليها السلام)، فالقارئ يقف في حيرة من أمره أي النصوص يستشهد بها لذكر تلك الأنوار، وكلّ نصّ من أدعيتها يحمل الكثير، حتّى أن القارئ لهذه الأدعية يتأثّر ويبكي خشوعًا وعظمة لهذه الثقافة العظيمة والعبقريّة الشامخة, ويكفي أنّها على الرغم من كلّ ما مضى من سنين نحن إلى الآن ندرس نصوصها, ونستخرج منها تلك الجواهر المضئية, فسلام عليك يا سيدتي وحبيبتي يا فاطمة الزهراء أبدًا ما بقينا وبقي الليل والنهار، وقد تميّزت هذه الأنوار الصوتيّة بالتنوع والتعدّد، فجاء منها التكرار, والسجع, والجناس, والطباق أو التضاد, فضلًا عمّا تميّزت به من تنوّع واختلاف في كلّ نوع منها.
وختامًا وقفنا عند أنوارها التركيبيّة, التي كست تلك الأدعية ذلك الخشوع والرهبة في مناجاة الباري, فنجدها هي الأخرى لا تختلف عمّا تقدّم من أنوار تميّزت بالتنوع والاختلاف, فجاء فيها الأمر, والنهي, والنداء.
الهوامش
[1] الصحيفة الفاطمية : 16 .
[2] ينظر : معجم المعاني الجامع : مادة (نور).
[3] ينظر : المعجم الوسيط : مادة (نور).
[4] ينظر : لسان العرب : مادة (أضاءَ), وينظر : القاموس المحيط : مادة (أضاءَ).
[5] ينظر : معجم المعاني الجامع : مادة (جَوهر).
[6] ينظر : لسان العرب : مادة ( قبس ) .
[7] سورة طه : الآية 10 .
[8] نهاية الإيجاز في دراية الأعجاز : 147 .
[9] الإتقان في علوم القرآن : 111 .
[10] الصحيفة الفاطمية : 22 .
[11] سورة آل عمران : الآية 26 _27 .
[12] الصحيفة الفاطمية : 27 .
[13] سورة الأنبياء : الآية 69 .
[14] الصحيفة الفاطمية : 29 .
[15] سورة يس : الآية 1_2 .
[16] الصحيفة الفاطمية : 29 .
[17] الصحيفة الفاطمية : 33 .
[18] سورة الأنعام : الآية : 13 .
[19] الصحيفة الفاطمية : 30 .
[20] سورة الأنعام : الآية 95 .
[21] الصحيفة الفاطمية : 32 .
[22] سورة الطور : الآية 1_ 3 .
[23] الصحيفة الفاطمية : 27 .
[24] سورة يس : الآية 29 .
[25] سورة يس : الآية 78 .
[26] الصحيفة الفاطمية : 34 .
[27] سورة الأنبياء : الآية 69 .
[28] الصحيفة الفاطمية : 27 _ 28.
[29] ينظر : في ظلال القرآن : 4/ 29 _ 31 .
[30] ينظر : قصص الأنبياء : 441 .
[31] البداية والنهاية : 1/ 163 .
[32] الصحيفة الفاطمية : 17_18 .
[33] الصحيفة الفاطمية : 35 .
[34] الصحيفة الفاطمية : 27 .
[35] الصحيفة الفاطمية : 24 .
[36] الصحيفة الفاطمية : 28 .
[37] الصحيفة الفاطمية : 66 .
[38] الصحيفة الفاطمية : 26 .
[39] الصحيفة الفاطمية : 25 .
[40] الصحيفة الفاطمية : 40 .
[41] معجم الألفاظ والأعلام القرآنية : 1/ 47 .
[42] الصحيفة الفاطمية : 34 .
[43] الصحيفة الفاطمية : 49 .
[44] الصحيفة الفاطمية : 23 .
[45] الصحيفة الفاطمية : 57 .
[46] ينظر : الأسلوبية العربية التطبيقية : 221 .
[47] مبادئ النقد الأدبي والعلم والشعر : 118 .
[48] الصحيفة الفاطمية : 19 .
[49] ينظر : لغة الشعر العراقي المعاصر : 150 .
[50] الصحيفة الفاطمية : 21 _ 22 .
[51] ينظر : شرح ابن عقيل : 3/102 .
[52] الصحيفة الفاطمية : 29 .
[53] ينظر : موسيقى الشعر العربي : 110 .
[54] الكتاب : 2/285 .
[55] ينظر : المدخل اللغوي في نقد الشعر : 101 .
[56] الصحيفة الفاطمية : 31 .
[57] ينظر : المقتضب : 4/239 .
[58] الصحيفة الفاطمية : 69 .
[59] الصحيفة الفاطمية : 74 .
[60] الصحيفة الفطمية : 74 .
[61] الصحيفة الفطمية : 76 .
[62] الصحيفة الفطمية : 76 .
[63] الصحيفة الفاطمية : 75 .
[64] الأسلوبية وتحليل الخطاب : 79 .
[65] الصحيفة الفاطمية : 17 _ 18 .
[66] الصحيفة الفاطمية : 18 _ 19 .
[67] الصحيفة الفاطمية : 34 _ 43 .
[68] المثل السائر : 1/ 95 .
[69] البرهان في علوم القرآن : 1/ 75 .
[70] ينظر : خزانة الأدب وغاية الأرب : 2/ 411 .
[71] الصحيفة الفاطمية : 65 .
[72] الصحيفة الفاطمية : 62_63 .
[73] البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها : 2/507 .
[74] الصحيفة الفاطمية : 45 .
[75] الصحيفة الفاطمية : 45 .
[76] الصحيفة الفاطمية : 54 .
[77] البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها : 2/505 .
[78] الصحيفة الفاطمية : 63 .
[79] الصحيفة الفاطمية : 52 .
[80] ينظر : دراسات في علم النفس الأدبي : 86 .
[81] ينظر : المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر : 1/ 255 .
[82] كتاب الصناعتين : 353 .
[83] ينظر : جرس الألفاظ ودلالتها : 278 .
[84] الصحيفة الفاطمية : 20
[85] الصحيفة الفاطمية : 22 .
[86] الصحيفة الفاطمية : 25 .
[87] ينظر : الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الأعجاز : 2/ 366_367 .
[88] الصحيفة الفاطمية : 45
[89] الصحيفة الفاطمية : 40 .
[90] الصحيفة الفاطمية : 32 .
[91] ينظر : البلاغة العربية اسسها وعلومها وفنونها : 2/ 493 .
[92] الصحيفة الفاطمية : 20
[93] الصحيفة الفاطمية : 29 .
[94] الصحيفة الفاطمية : 39 .
[95] كتاب الصناعتين : 316 .
[96] الصحيفة الفاطمية : 19 .
[97] الصحيفة الفاطمية : 26 .
[98] الصحيفة الفاطمية : 47 .
[99] الصحيفة الفاطمية : 49 .
[100] ينظر : أدب الدعاء في نهج البلاغة ( دراسة دلالية ) : 3 .
[101] الصحيفة الفاطمية : 25 .
[102] الصحيفة الفاطمية : 47 .
[103] الصحيفة الفاطمية : 53 .
[104] الصحيفة الفاطمية : 47 .
[105] الصحيفة الفاطمية : 19 .
[106] الصحيفة الفاطمية : 63 .
[107] الصحيفة الفاطمية : 19 .
[108] الصحيفة الفاطمية : 61 .
[109] الصحيفة الفاطمية : 69 .
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
الإتقان في علوم القرآن , جلال الدين السيوطي الشافعي , مصر , ط3 , 1370هـ.
الأسلوبية العربية التطبيقية , أحمد طاهر حسين، مكتبة الأنجلو المصرية , القاهرة , ط1, (د.ت).
الأسلوبية وتحليل الخطاب , د. منذر عياشي , مركز الإنماء الحضاري , دار آية للطباعة والنشر والتوزيع , ط1 . 2000 م.
البداية والنهاية , ابن كثير , تحقيق:محمد عبد العزيز النجار , مطبعة الفجالة الجديدة (د.ت).
البرهان في علوم القرآن , بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي , تحقيق : محمد أبو الفضل إبراهيم , دار احياء تراث الكتب العربية , ط1 , 1376ه / 1975 م.
البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها , عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني , دار القلم, دمشق , الدار الشامية , بيروت , ط1 , 1416هـ / 1996م.
جرس الألفاظ ودلالتها في البحث البلاغي والنقدي عند العرب , د. ماهر مهدي هلال, دار الرشيد , العراق , وزارة الثقافة والإعلام , 1980م.
خزانة الأدب وغاية الأرب , تقي الدين أبو بكر علي عبد الله الحموي الأزراري , تحقيق: عصام شيعتو , دار ومكتبة الهلال , بيروت , ط1 , 1987م.
دراسات في علم النفس الأدبي , حامد عبد القادر , القاهرة , 1949م.
شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك , بهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي الهمذاني المصري , ومعه كتاب منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل , محمد محيي الدين عبد الحميد , مكتبة الهداية , بيروت،(د.ت).
الصحيفة الفاطميّة الجامعة لأدعية بنت رسول الله سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) وشبليها الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) والإمام الحسين بن علي (عليه السلام) , تأليف ونشر سماحة السيّد محمد باقر , نجل آية الله السيّد المرتضى الموحٌد الأبطحّي الأصفهاني (قدّس سرّه) , تحقيق: مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام), مطبعة الاعتماد , قم , ط1 , 1421ه.
الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز, السيد يحيى بن حمزة بن علي ابن إبراهيم العلوي اليمني , دار الكتب الخديوية , مطبعة المقتطف , مصر , 1914م.
في ظلال القرآن , سيد قطب , دار أحياء التراث العربي , بيروت , ط7 , 1971 م.
القاموس المحيط , العلامة اللغوي مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي( 817ه) , تقديم: الشيخ أبو الوفا نصر الهوريني المصري الشافعي , دار الكتب العلمية , بيروت/ لبنان , 1971م.
قصص الأنبياء , ابن كثير أبو الفداء إسماعيل ( 774هـ ) , تحقيق: علي بن عبد الحميد ومحمد سلمان ومعروف رزيق , دمشق , دار الخير , 1996م.
الكتاب , عمر بن عثمان بن قنبر , تحقيق : عبد السلام هارون , دار الجيل , بيروت.
كتاب الصناعتين , لأبي هلال العسكري ( ت 395ه ) , تحقيق : مفيد قميحة , دار الكتب العلمية , بيروت , ط2 , 1984م.
لسان العرب , ابن منظور , دار صادر , بيروت , 1955م.
لغة الشعر العراقي المعاصر , عمران خضير حميد الكبيسي , د. سهير القلماوي , وكالة المطبوعات , الكويت , ط1 , 1982.
مبادئ النقد الأدبي والعلم والشعر , إ.أ. رتشاردز , ترجمة : محمد مصطفى بدري , المجلس الأعلى للثقافة , القاهرة , مصر , ط1 , 2005م.
المثل السائر , ضياء الدين ابن الأثير ابن أبي الحديد ( ت 637هـ ) , تحقيق : محيي الدين عبد الحميد , المكتبة العصرية , بيروت 2010م.
المدخل اللغوي في نقد الشعر ( قراءة بنيوية ) , مصطفى السعدني , دار بور سعيد , الاسكندرية , ( د.ت ).
معجم الألفاظ والأعلام القرآنية , محمد إسماعيل إبراهيم ,دار الفكر العربي , ط2 , 1969م.
معجم المعاني الجامع : منشور على الانترنت.
المعجم الوسيط , أخرجه إبراهيم العقاد وآخرون ، تحقيق : عبد السلام محمد هارون ، المكتبة العلمية ، (د.ت).
المقتضب , أبو العباس محمد بن يزيد المبرد , تحقيق: محمد عبد الخالق عضيمة , مطبعة الأهرام التجارية , مصر , 1994م.
موسيقى الشعر العربي ، د. شكري محمد عياد , دار المعرفة ,القاهرة , ط1 , 1980م.
نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز , فخر الدين الرازي , تحقيق : د. بكري الشيخ أمين , دار العلم للملايين , بيروت , ط1 , 1985م.
الدوريات
أدب الدعاء في نهج البلاغة (دراسة دلاليّة) , د. هناء عبد الرضا ، د. مرتضى عباس فالح , جامعة البصرة , كلية التربية ، نشر في موقع الكتروني : http://arabic.balaghah.net/content
Abstract
The Fatimid newspaper represented the letters, words, styles, and structures of the Fatimid, a collection of luminous jewels containing a number of precious and precious stones, the system in a group of necklaces (du’aa ‘), each necklace for a particular occasion or subject, We have an invaluable wealth of illuminating lights that contain valuable meanings that combine religious knowledge, values of virtue, and self-indulgent values, as well as the knowledge sciences of Mrs. Zahra (peace be upon her). Therefore, our research, entitled “The Lights of the Fatimid Newspaper” When these lights, e The manifestations of the knowledge contained therein, which earned this light, which remained light to this day