فاطمة الزهراءعليها السلام العلة الغائية
جامعة بغداد – مركز البحوث التربوية والنفسية
قيمة الزهراء عليها السلام :
قد يتساءل بعض الناس ، ويقول : إن إشراك الزهراء ( ع ) في قضية المباهلة لا دلالة له على عظيم ما لها ( ع ) من قيمة وفضل ، فإنه ( ص ) إنما جاء بأهل بيته ( ع ) ، لأنهم أعز الخلق عليه ، وأحبهم إليه ، ليثبت أنه على استعداد للتضحية حتى بهؤلاء من أجل هذا الدين ، ولا دلالة في هذا على شئ آخر .
ونقول في الجواب : لقد أشرك الله سبحانه الزهراء في قضية لها مساس ببقاء هذا الدين ، وحقانيته ، وهي تلامس جوهر الإيمان فيه إلى قيام الساعة ، وذلك لأن ما يراد إثباته بالمباهلة هو بشرية عيسى عليه السلام ، ونفي ألوهيته .
وقد خلد القرآن الكريم لها هذه المشاركة لكي يظهر أنها عليها السلام قد بلغت في كمالها وسؤددها وفضلها مبلغا عظيما ، وبحيث جعلها الله سبحانه وتعالى بالإضافة إلى النبي والوصي والسبطين ، وثيقة على صدق النبي ( ص ) فيما يقول ، حيث إن الله سبحانه هو الذي أمر نبيه ( ص ) بالمباهلة بهؤلاء ، ولم يكن ذلك في أساسه من تلقاء نفسه ( ص ) .
إذن ، لم يكن ذلك لأنهم عائلته ، وأهل بيته صلى الله عليه وآله وسلم ، بل لأن فاطمة صلوات الله وسلامه عليها ، والنبي ( ص ) وعلي والحسنان عليهم السلام ، كانوا – وهم كذلك – أعز ما في هذا الوجود ، وأكرم المخلوقات على الله سبحانه ، بحيث ظهر أنه تعالى يريد أن يفهم الناس جميعا أن التفريط بهؤلاء الصفوة الزاكية هو تفريط بكل شئ ، ولا قيمة لأي شئ في هذا الوجود بدونهم ، وهو ما أشير إليه في الحديث الشريف .
ثم إن إخراج أكثر من رجل وحصر عنصر المرأة بالزهراء عليها السلام في هذه القضية إنما يشير إلى أن أيا من النساء لم تكن لتداني الزهراء في المقام والسؤدد والكرامة عند الله سبحانه وتعالى فلا مجال لادعاء أي صفة يمكن أن تجعل لغيرها عليها السلام امتيازا وفضلا على سائر النساء .
فما يدعي لبعض نسائه ( ص ) – كعائشة – من مقام وفضل على نساء الأمة ، لا يمكن أن يصح خصوصا مع ملاحظة ما صدر عنها بعد وفاة رسول الله ( ص ) من الخروج على الإمام أمير المؤمنين ( ع ) ، والتصدي لحرب وصي رسول رب العالمين ، مما تسبب بإزهاق عدد كبير جدا من الأرواح البريئة من أهل الإيمان والإسلام ، فأطلع الشيطان قرنه من حيث أشار النبي ( ص ) وصدق الله العظيم وصدق رسوله الكريم .
إذن ، فلا يصح اعتبار ما صدر عنها من معصية الله مسوغا لممارسة المرأة للعمل السياسي – كما ربما يدعي البعض – ولا يكون قرينة على رضى الإسلام بهذا الأمر ، أو عدم رضاه .
أما ما صدر عن الزهراء ( ع ) فهو المعيار وهو الميزان لأنه كان في طاعة الله وهي المرأة المطهرة المعصومة التي يستدل بقولها وبفعلها على الحكم الشرعي ، سياسيا كان أو غيره .
فاطمة الزهراء العلة الغائية:
( يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك ، ولولا علي لما خلقتك ، ولولا فاطمة لما خلقتكما ) . هذا الحديث من الأحاديث المأثورة التي رواها جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله عن الله تبارك وتعالى ومن المعلوم أن كلام الله تعالى جاء على قسمين أحدهما ما ورد في القرآن الكريم والأخر ما جاء على لسان رسول الله من دون أن يكون له وجود في القرآن الكريم وهو ما يعبر عنه بالأحاديث القدسية التي خاطب بها الله تعالى رسوله ولقد جمعت كثير من الكتب هذه الأحاديث القدسية مثل كتاب كلمة الله وكتاب الأحاديث القدسية عند الفريقين وغيرهما من الكتب والذي يهمنا في المقام هذا الحديث القدسي الذي جاء ليثبت للصديقة فاطمة كرامة أخرى ، ومنقبة عظمي وذلك من خلال التمعن في مدلولات هذا الحديث المبارك . يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك والخطاب هنا من الباري عز وجل لرسوله محمد ومن المعلوم لدينا أن الرسول له عدة أسماء وردت على لسان القرآن الكريم مثل مسجد ( ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ) ومثل أحمد ( ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ) ، وكذلك ياسين ، وغيرها من الأسماء التي جاءت بتعابير مختلفة ، وفيما نحن فيه جاء الخطاب للرسول باسم أحمد ، حيث توجه إليه الخطاب الإلهي ليقول له لولاك يا رسول الله لما خلقت الموجودات التي هي متيسرة في الأفلاك ، والأفلاك هنا معناها كل الموجودات التي تدور حياتها ووجودها في الكون سواء نعلم بوجودها أم لا نعلم ، فعلة خلق الموجودات هو لأجل رسول الله وأهل بيته وهذا ما أكدته كثير من الأحاديث المأثورة في هذا المقام منها عن النبي لما خلق الله آدم أبو البشر نفخ فيه من روحه التفت آدم يمنة العرش فإذا في النور خمسة أشباح سجدا وركعا قال آدم : يا رب ! هل خلقت أحدا من طين قبلي ؟ قال : لا ، يا آدم ، قال : من هؤلاء الخمسة الأشباح الذين أراهم في هيئتي وصورتي ؟ قال : هؤلاء خمسة من ولدك لولاهم ما خلقتك ، هؤلاء خمسة شققت لهم خمسة أسماء من أسمائي لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار ، ولا العرش ولا الكرسي ، ولا السماء ولا الأرض ، ولا الملائكة ولا الأنس ولا الجن ، فإن المحمود وهذا محمد ، وأنا العالي وهذا علي وأنا الفاطر وهذه فاطمة ، وأنا الإحسان وهذا الحسن ، وأنا الحسن وهذا الحسين آليت بعزتي أنه لا يأتيني أحد بمثقال ذرة من خردل من بغض أحدهم إلا أدخلته ناري ولا أبالي يا آدم ، هؤلاء صفوتي من خلقي بهم أنجيهم ، وبهم أهلكهم فإذا كان لك إلي حاجة فبهؤلاء توسل فقال النبي نحن سفينة النجاة .
من تعلق بها نجا ، ومن حاد عنها هلك ، فمن كان له إلى الله حاجة فليسأل بنا أهل البيت . يظهر من هذا الحديث عدة أمور مهمة تتطابق في مدلولاتها مع الحديث القدسي الذي نحن بشأن توضيحه ، فأنوار رسول الله وأهل بيته عليهم السلام مخلوقة قبل وجود آدم ، وأكد الحديث على أن علة خلق آدم هو من أجل هذه الأنوار – حيث قال الله تعالى لآدم : لولاهم ما خلقتك بل تجاوز الأمر إلى أن كل الموجودات هي مخلوقة بسببهم فالعرش والجنة والنار والكرسي والسماء والأرض والملائكة والإنس والجن كلهم لن يوجدوا لولا وجود أنوار أهل البيت بما فيهم جدهم رسول الله لذلك نجد في حديث الكساء المتقدم الذكر في كتابنا هذا أنه يصف علة إيجاد الأفلاك هو لأجل أهل البيت عليهم السلام حيث يقول الله تعالى ملائكتي ويا سكان سماواتي إني ما خلقت سماء مبنية ولا أرضا مدحية ولا قمرا منيرا ولا شمسا مضيئة ولا فلكا يدور ولا بحرا يجري ولا فلكا يسري إلا في محبة هؤلاء عليهم السلام أي إني لأجل حبهم وأنوارهم خلقت هذه الأفلاك .
إذن يظهر من هذه الأمور ومن خلال عدة أحاديث مأثورة أن الأفلاك والموجودات ما خلقت لولا رسول الله: يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك وهذه العبارة مطابقة لمضمون كثير من الأحاديث الولائية سواء كانت من كتب الخاصة أو العامة
وبعبارة أخرى لتوضيح المطلب :
أولا : حينما نسأل ، لماذا خلق الله الكون الأفلاك ؟ فإن الجواب يأتي من القرآن الكريم وهو أن الله خلق الكون والحياة من أجل الإنسان ، لأنه قال : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا . . . ) ، وقال : ( وسخر لكم الشمس والقمر . . . وسخر الليل والنهار ) وسخر كل شئ في السماوات ، وكل شئ في الأرض ، وسخرها في خدمة الإنسان ، لأنه حينما يقول : سخرها ، فإن ذلك يعني أنه جعلها ، في خدمة الإنسان مسخرة له ، يتصرف بها كيف يشاء . . . مثل تسخير القمر ، والبحر للإنسان ، فمن القمر ، ننتفع بالضوء ، ومن البحر ننتفع بالماء . . . وكما أن القمر يحمل السفن الفضائية على ظهره ، كذلك البحر يحمل السفن الشراعية على ظهره أيضا .
إذا : فالجواب على السؤال المتقدم : لماذا خلق الله الأفلاك والكون ، والحياة ؟ أقول : الجواب ، خلقها من أجل الإنسان ، كما صرح بذلك القرآن الكريم ، في أكثر من مائة آية كلها تؤكد المعنى ، وتصب اهتماما في هذا الجانب ، بكلمة : سخر . . . وجعل . . الخ .
وثانيا : نسأل ، لماذا خلق الله الإنسان ؟ ويأتي الجواب من القرآن أيضا : إنه للعبادة ، ( وما خلقت الجن ، والإنس إلا ليعبدون ) . والعبادة لا تتحقق إلا بشروط ، ومن أهم تلك الشروط : معرفة الطريق . وكشف الوسيلة . . ووجود القائد ، لأنه من دون القائد ، لا يمكن الانطلاق في اتجاه صحيح ، ولذلك صار القائد ، الإمام المعصوم . . ومعنى ذلك : أن فقدان القائد ، يعني فقدان العبادة ، وإذا فقدت العبادة ، انتفت الحكمة من وجود الإنسان ، وإذا انتفت الحكمة من وجود الإنسان ، ولم يعد لوجود الأفلاك معنى ، لأن الأفلاك إنما وجدت بوجود الإنسان الذي يعبد الله ، ولذلك عندما تقوم الساعة ، وينتهي دور الإنسان في الحياة ، فإن الكواكب ، والنجوم ، والأفلاك كلها تتمزق شذر مذر ، وينتهي دورها : وحملت الأرض والجبال ، فدكتا ، دكة واحدة ، ويقول : ( ويسألونك عن الجبال ، فقل ينسفها ربي نسفا ) ويقول القرآن الكريم : ( إذا السماء انشقت ) .
( وإذا النجوم . . ) . وعليه فمن كل ما تقدم ، نخرج بالنتيجة التالية : وهي أن الله سبحانه – لولا الحبيب المصطفى – لم يخلق الكون ، ولا الأفلاك . . ولأن هذه الحكمة ، لا تسقط بموت النبي وإنما تستمر الحكمة ، من خلال الأئمة الطاهرين أجمعين .
وعلى هذا الأساس كان خلق السماوات والأرض وما بينهما لأجل الإنسان وليعبد الله تعالى بعد معرفة الإنسان بأن الله تعالى خلقه بقدرته لذلك وأنه سيبعثه يوم القيامة لتجزى كل نفس بما كسبت ومن الضروري الذي ثبت في محله إن الذين الذي رضى به الله تعالى وأتمه وأكمله لعباده هو الذي قال فيه تعالى – ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا( هذا هو الدين القيم الذي أرسل به رسوله محمد ( بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ) ، فظهر مما ذكرنا إجمالا معنى قوله لولاك ما خلقت الأفلاك وذلك لكونه سيد المرسلين وخاتم النبيين ، ورسولا إلى الناس جميعا بهذا الدين المبين ، وفي ذلك يقول سيدنا الأستاذ آية الله السيد عادل العلوي ما نصه : فغاية الخلق هو الرسول الأعظم محمد كما هو الصادر الأول – لقاعدة الأشرف كما في الفلسفة – وقد ورد في الخبر الشريف – كما تقدم ذلك – أول ما خلق الله نور محمد فهو العلة التامة بعد علة العلل وهو الله سبحانه . ولولا علي لما خلقتك أي يا رسول الله لولا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما خلقتك ، وربما يظهر من هذا الكلام بعض التشويه لمن ليس له الباع الطويل لفهم ودراية أحاديث أهل البيت عليهم السلام ، ولكن بأبسط تأمل وتدقيق في معاني هذا الكلام ينحل لنا هذا اللغز المحير ، فالرواية التقدمة في علة خلق الموجودات تبين أن لولاهم ما خلقتك يا آدم ، أي أن الرسول والإمام علي مشتركين في نفس الأمر لكون الإمام علي هو نفس رسول الله وكما عبرت عنه آية المباهلة أنفسنا فلا يتوهم المتوهمين في عدم تأويل وبيان هذا الأمر وتوجد نكته مهمة في هذا المقام متعلقة بأسرار البسملة ليست بقابلة للتقرير والتحرير ، حيث قيل في هذا المقام أن الوجود ظهر من باء بسم الله الرحمن الرحيم وكما ورد ذلك في الأحاديث المأثورة عن أهل بيت العصمة وقيل بالباء ظهر الوجود وبالنقطة تميز العابد عن المعبود .
وقال أمير المؤمنين ومولى الموحدين علي عليه السلام والله ! لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من شرح باء بسم الله الرحمن الرحيم . وقال أيضا أنا النقطة تحت الباء لأنه كنقطة بالنسبة إلى التعين الأول الذي هو النور الحقيقي المحمدي لقوله – أي رسول الله محمد – أول ما خلق الله نوري المسمى بالرحيم ولقوله أنا وعلي من نور واحد لأن النبي كالباء وعلي عليه السلام كالنقطة تحتها ، لأن الباء لا تعين إلا بالنقطة ، كما أن النبي لا يتكمل إلا بالولاية ، ومن هنا كان لولا علي لما خلقتك يا رسول الله فأفهم تغنم والله الهادي إلى الحق ، وعلى هذا الأساس فإنه لا بد للرسالة السماوية من حجج وأئمة بعد النبي وما أثبت هذا في محله من علم الكلام . لأن الأرض لا تخلو من حجة وإمام في كل زمان ، وأنه من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية وهذا علي عليه السلام إمام وأب الأئمة المعصومين عليهم السلام كلهم خلقوا من أجل هذا الدين الحنيف الذي روحه العبودية لله رب العالمين برسالة رسوله وخلافة هؤلاء الأئمة الأمناء على الدين ، وصفوة الله وخزان علمه . . . .
إذن العلة التامة كما قلنا في كمالاتها وصفاتها التي هي مظهر لأسماء الله وصفاته هو رسول الله محمد وهذا الإنسان الكامل والمخلوق الأتم – محمد – لا بد لمثل هذه العلة النورانية والكلمة الإلهية التامة من معلول يشابهه ويسانخه لقانون العلة والمعلول كما هو ثابت في الفلسفة والحكمة المتعالية ويكون عندئذ هو نفسه وهو أمير المؤمنين أسد الله الغالب علي بن أبي طالب عليه السلام ومما يدل على ذلك هو آية المباهلة ، فيظهر من هذا كله معنى ولولا علي لما خلقتك . ولولا فاطمة لما خلقتكما وذلك لكون فاطمة عليها السلام أم أبيها فهي جمعت الكمالات المحمدية وكانت مظهرا للصفات الربوبية وهي بقية النبوة ولولاها لما قام بعد النبي للدين عمود ولا أخضر له عود بنورها زهرت السماوات العلى . وكذلك كونها أم الأئمة . وهي الوعاء الطاهر لذرية النبي ، وهي الكوثر الذي لا ينقطع عطاؤه . . .
ومنها الامتداد العلوي لأئمة أهل البيت ، فإذا عرفنا ذلك أدركنا عظمة الزهراء وحكمة وجودها لأن صلاح العالم كله إنما يكون وينطلق من أبناءها ويكفي دليلا على ذلك ، أن يكون صلاح العالم ، وإصلاح الدنيا اليوم ، بواحد من أبناء فاطمة عليها السلام وهو الإمام المهدي عليه السلام يقول الرسول الأعظم محمد المهدي من ولد فاطمة .
إذا فإن فاطمة الزهراء ، هي الصديقة الكبرى ، وهي الكوثر المتدفق بالعطاء ، وهي أم الأئمة الطاهرين ، ولولاها ، لانعدمت الحكمة ، من وجود الإسلام ، وتكوين الحضارة ، لأن الحضارة إنما قامت بأبناء فاطمة أخذا من الإمام الحسن والحسين ، وعلي بن الحسين والباقر والصادق . . . ومرورا بالإمام الكاظم ، والرضا والجواد ، وانتهاء بالإمام الهادي ، والعسكري والإمام الحجة المنتظر عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام . ومن هنا جاء في تعريف فاطمة ، أنها ليلة القدر . . وأن الذي يعرف حقها ، وقدرها يدرك ليلة القدر ، ويستوعب مفهوم هذه الليلة العظمية التي نزل فيها القرآن هدى للناس ، وبينات من الهدى والفرقان ، ولا يتحقق هذا المعنى من وجود الهداية ، والبينات إلا بوجود الأئمة المعصومين ، من أبناء فاطمة . . .. والنتيجة هي : أنه لولا فاطمة ، لما كان هناك حكمة من وجود الإسلام ، وعلى هذا الأساس ، دون هذا المنطلق ، تنتفي حكمة البعثة ، وإذا لم يبعث النبي ، لم يوجد الوصي ، وهكذا نجد أن هذه المسألة على عمقها ، فإنها واضحة وضوح الشمس في رائعة النهار ، ولذلك جاء هذا الحديث القدسي ، جامعا ، معبرا ، قال : يا أحمد – لولاك ، لما خلقت الأفلاك ، ولولا علي لما خلقتك ولولا فاطمة ، لما خلقتكما . . . .
يعتبر العدل من الأصول الإعتقادية التي يمتاز بها الشيعة الامامية عن غيرهم من المذاهب الاخرى ، فمسألة العدل عندهم قد دخلت كل الأصعدة الحياتية المهمة وهذا يعود الى وجود العدل في كل أفعال الله تعالى فهو ـ أي الله تعالى ـ قد جعله من أسماءه الحسنى فعندما يأخذ الشيعة الامامية العدل ويعتبرونه من اصول الدين لم يكن هذا جزافاً وانما كان على اساس وأصل متين استمدوه من القرآن الكريم هذا الكتاب العظيم الذي بذر فكرة العدل في قلوب وأرواح الناس ثم سقاها ونماها فكرياً وفلسفياً وعملياً واجتماعياً انه القرآن الكريم الذي طرح مسألة العدل من حيث مظاهرها المختلفة العدل التكويني ، والعدل التشريعي ، والعدل الاخلاقي ، والعدل الاجتماعي … الخ .
والقرآن الكريم يصرح بان نظام الوجود مبني على أساس العدل والتوازن على أساس الاستحقاق والقابلية ، وعلى هذا الاساس توجد عدة آيات قرآنية تؤكد على مسالة العدل سواء كان ذلك عن طريق ذكر المقابل للعدل أي الظلم وتأتي الآية القرآنية تنفي الظلم أي تقر العدل بالنتيجة أو عن طريق ذكر القرآن ان هناك يوم حساب يحاسبون فيه الناس ليكون العدل هو الاساس الذي سوف تكون عليه المحاسبة ، وهكذا يذكر القرآن الكريم آيات العدل في كل مظاهرها الوجودية ، وسنورد هنا بعض الآيات القرآنية التي تعتبر الفاعلية الالهية والتدبير الالهي قائماً على أساس العدل حيث يقول الباري عز وجل في هذا المضمار ( شهد الله أنه لا إله إلاّ هو والملائكة وأولوا العلم قائماً بالقسط ).
أو أن العدل هو المعيار لله سبحانه في موضوع الخلقة ( والسماء رفعها ووضع الميزان(
وعلق على هذه الآية الرسول الكريم بقوله : « بالعدل قامت السماوات والأرض » واهتم القرآن الكريم اهتماماً استثنائياً بالعدل التشريعي أي مراعاة أصل العدل دائماً في النظام الاعتباري والتشريع القانوني ، وقد صرح ذلك في الكتاب المعجز بان الهدف من ارسال الأنبياء وبعثة الرسل انما هو قيام النظام البشري وارساء الحياة الانسانية على أساس العدل والقسط : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ) .
واضافة إلى ذلك فان الاصل الكلي الذي نسبه القرآن الى كل الأنبياء بخصوص النظام التشريعي ولا سيما في الشريعة الاسلامية هو « قل أمر ربي بالقسط » وفي مكان آخر يقول « ذلكم أقسط عند الله » . ويعتبر القرآن الكريم الإمامة والقيادة عهداً الهياً ينبعث عنه النضال عنه النضال ضد الظلم والتلاؤم مع العدل ، ويقول القرآن الكريم في موضوع لياقة إبراهيم للامامة والقيادة : ( وإذا ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس اماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين .(
فعندما أختار الله إبراهيم إماماً ، إستفهم ابراهيم هل تشمل هذه الموهبة الالهية نسله ؟
فأجيب بأن الإمامة عهد إلهي والظالمون لا نصيب لهم فيه ، يعني مقتضى العدالة الربانية هكذا تكون مع الظالمين . وإذا دققنا النظر في القرآن الكريم وجدناه يدور حول محور واحد هو العدل في كل الأفكار القرآنية من التوحيد الى المعاد ومن النبوة الى الإمامة والزعامة ومن الآمال الفردية الى الأهداف الاجتماعية ، فالعدل في القرآن قرين التوحيد وركن المعاد وهدف لتشريع النبوة وفلسفة الزعامة والإمامة ومعيار كمال الفرد ومقياس سلامة المجتمع.
اذن بعد هذه المقدمة في العدل يأتي السؤال في هذا المقام الذي نحن فيه وهو هل ان الله جل جلاله أعطى الى اولياؤه الكثير من المناصب والمقامات الروحانية وعلى كل المستويات بالعدل أو جزافا اعطاهم اياها ؟
فمثلاً مقام فاطمة الزهراء عليها السلام وحجيتها على الأئمة وعلى جميع الأنبياء والجن والانس ، ومقام شفاعتها يوم القيامة وانها تشفع بالجنة هل أعطى تعالى هذه المقامات بالعدل لها فتكون عندئذ مرتبط بالعدل الالهي أم لا ؟
وهذا السؤال يحتاج الى ذكر مسألة مهمة وهي تعريف العاجل سواء لغوياً أم اصطلاحياً وبعد ذلك نرى مدى انطباق هذا الموضوع وعلى ضوء التعريف في حياة الصديقة الطاهرة فاطمة عليها السلام ومدى ارتباطها بالعدل الالهي .
العدل في اللغة : العدل من أسماء الله سبحانه ، العدل هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم ، وهو في الاصل مصدر سمي به فوضع موضع العادل وهوأبلغ منه لانه جعل المسمى نفسه عدلاً وفلان من أهل المعدلة أي من أهل العدل .
والعدل : الحكم بالحق ، فيقال هو يقضي بالحق ويعدل وهو حكم عادل : ذو معدلة في حكمه
اما تعريف العدل في الاصطلاح فلقد وردت فيه عدة تعاريف ولكن الذي يهمنا فيما نحن فيه التحريف الذي يقول : « هو رعاية الاستحقاق في افاضة الوجود وعدم الامتناع عن الافاضة والرحمة حيث يتوفر امكان الوجود أو امكان الكمال » .
وعلى أساس هذا التعريف يتبين لنا ان الموجودات تتفاوت مع بعضها في النظام الكوني من حيث قابليتها لاكتساب الفيض الالهي من مبدأ الوجود ، فكل موجود وفي أي رتبة من الوجود يملك استحقاقاً خاصاً من حيث قابليته لاكتساب الفيض ، ولما كانت الذات الالهية المقدسة كمالاً مطلقاً وخيراً مطلقاً وفياضة على الاطلاق فهي تعطي ولاتمسك ولكنها تعطي لكل موجود ما هو ممكن له من وجودأو كمال وجود ، فالعدل الالهي ـ حسب هذه النظرية ـ يعني ان أي موجود يأخذ من الوجود ومن كماله المقدار الذي يستحقه وبأمكانه ان يستوفيه .
وعلى هذا الاساس تكون الزهراء مستحقة للعدل الالهي في افاضة الكمال لها وفي كل المقامات المعنوية والروحية ، فكونها عليها السلام حجة على الأنبياء وعلى جميع البشر وانه ما تكاملت نبوة نبي حتى أقر بفضلها وكذلك كونها صاحبة الشفاعة الكبرى يوم القيامة وغيرها من المقامات التي أعطاها الله تعالى اياها كل ذلك لانها كانت مستحقة لكل هذا الكمال ، أما كيف كانت مستحقة لذلك فهذا مانفهمه من خلال الزيارة الواردة في حقها « السلام عليك يا ممتحنة امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك فوجدك صارة لما امتحنك » فعلى أساس هذا الامتحان وكونها صابرة نجد ان الله تعالى وجدها مستحقة للعدل الالهي وللكمال الذي يليق بحالها ، وعليه تكون الحكمة الالهية للعدل الالهي وللكمال الذي يليق بحالها ، حيث تكون الحكمة الالهية في وضع الزهراء في مقامها السامي انما هو بالامكان اللأئق لها وبالعدل الالهي استحقت ذلك فتكون عليها السلام حينئذ مرتبطة بالعدل الالهي من حيث كونها مستحقة للافاضات الربانية وكما تبين لك من خلال الاحاديث الواردة في شأنها.
هذا من جهة ومن جهة أخرى ان مولاتنا لفاطمة هل هي من العدل الالهي أم لا ؟
لاشك ولا ريب عندما يطلب الله تعالى منا ان نكو مع الزهراء عليها السلام في التولية والتبرئة من اعدائها هو عين العدل الالهي لأنّ الله تعالى وعلى لسانه في القرآن الكريم اعتبر أذى رسوله من الأسباب المؤدية الى اللعنة والعذاب الأليم وبأعتبار كونها عليها السلام من لحم رسول الله بل هي نساء رسول الله المعبر عنهم « بنسائنا » في آية المباهلة وأيضاً رضاها رضى رسول الله وغضبها غضب الله ورسوله وإضافة الى ذلك انها مستحقة حسب وجودها واللفيوضات الربانية كل ذلك يعتبر من العدل الإلهي فتكون عندئذ عليها السلام مرتبطة بصميم العدل الإلهي وإن مولاتنا لها عين العدل الذي أمرنا الله تعالى ونكون له ملازمين له في كل الحالات .
الكافي -: ج 1 ص 179 و 198
الغيبة للنعماني : ص 139 و 138
بصائر الدرجات : ص 488 و 489
: الصحيح من سيرة النبي الأعظم ج 8 ص 359