بسم الله الرحمن الرحيم
النتاج الأدبي لدى السيّدة الزهراء(الدعاء أُنموذجاً)… دراسة جماليّة
د. ناصر قاسمي[1]
د. مجتبى عمراني بور[2] د.عـمّار الزويـنيّ الحسـينيّ[3]
الملخّص:
لاشكَّ أنّ أدعيةَ الزّهراءِ (عليها السّلام) ثقافةٌ أدبيّةٌ مليئةٌ بالمعارفِ، وسلسلةٌ رفيعةٌ في الحكمةِ والبلاغةِ، ومعالمٌ فريدةٌ في العرفانِ، ومجموعةٌ كبيرةٌ من المواعظ والآداب، فهي نهج الفصاحة، ومنجم البلاغة، فقد تضمّنت البرامج الأدبيّة، ورسمت لها أصول الدراسة؛ لينطلق الأدباء من خلال الدعاء في الانفتاح على القضايا الأدبيّة، ويتحرّكوا نحو الدراسات الجماليّة التي يستهويها الأديب، لذا أصبحت تراثاً فكرّياً، ونتاجاً أدبيّاً ينهل منه أهل النحو واللغة والبلاغة.
احتوت أدعية الزّهراء(عليها السّلام) على دراسة جماليّة ذات جاذبيّة رائعة للبُعدين: اللغويّ(الصوتيّ) والدلالي، فقد تضمّنت جماليّة اللفظة والعبارة في المستويين الصّوتي، والدلالي؛ وذلك لأهميّتهما في الدّراسة الجماليّة، وكذلك تضمّنت جماليّة الصورة (التّشبيه-الاستعارة-الكناية)، كذلك جماليّة الأسلوب، وقد استعملت الزهراء(عليها السّلام) الجمال في الّلفظة والصّورة والأسلوب دون التكلّف والتصنّع بألفاظ بديعة مفعمة بالمعاني، مستلهمةً صياغة ألفاظها من بلاغة القرآن الكريم.
ومن النتائج التي توصّل إليها المقال هي: الاهتمام بدور الحروف ودلالاتها في الأدعية، واستعمال الصور الفنيّة، وكذلك الأساليب الدلاليّة من التكرار والسجع والإيقاع وحسن الابتداء والختام في عبارات لطيفة جعلت الدعاء مصدراً أدبيّاً.
الكلمات الافتتاحيّة : الأدعية، ﺍلجماﻟﻴّﺔ، ﺍلزهراء (عليها السّلام).
المقدّمة:
الدعاء ﻋﻼﻗﺔ ﺭﻭﺣﻴّﺔ ﻭﻣﺜﺎﻟﻴّﺔ ﺑين العبد ومعبوده، ﻭﻣـﻦ هذه ﺍﻟﻨﺎﺣﻴﺔ ﺻﺎﺭ الدعاء ﺭﻛﻨﺎﹰ ﺍﺳﺎﺳﻴّﺎﹰ في ﻋﺒﺎﺩﺗﻨﺎ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴّﺔ والنظريّة ﻣﻌﺎﹰ، ﻭﻣﻦ الطبيعي أﻥّ الدعاء ليس ﻛﻠﻤﺎﺕ تلفظ فحسب، ﻭإنّما ﺍﻟﻨﻴـﺔ وحدها نوع ﻣﻦ الدعاء ﺃﻳﻀﺎ،ﹰ ﻭﻟﻜﻨّﻪ إﺫﺍ ظهر في ثوب الألفاظ اكتسب ﺭﻭﻧﻘﻪ ومظهره ﺍلخاﺭﺟﻲ الذي ﻳﺘﺠـﺎﻭﺯ ﺧـﺼﻮﺻﻴﺔ ﺍلمكان ﻭﺍﻟﺰﻣﺎﻥ، ﻓﻔﻲ ﻛﻞّ ﺯﻣﺎﻥ ﻭﻣﻜﺎﻥ يجب ﻋﻠﯽ المرء ﺃﻥ يخشع لخالقه ويرجوه.
لا زالت ﺃﺩﻋﻴﺔ الزهراء(عليها السّلام) الموسومة ﺑـ (ﺍﻟـﺼﺤﻴﻔﺔ الفاطميّة) في ﻣﺘﻨﺎﻭﻝ يد ﺍلمـﺴﻠﻤين، ﻭﻛﻞ ﻣَﻦ ﻛﺎﻥ جديراً باستعداده ﺍﻻﻧﺘﻔﺎﻉ ﺑﻬﺎ ﻭﺍﻻﺳﺘﻔﺎﺩﺓ ﻣﻨﻬﺎ، فهي تحوي خمسةً وستّين دعاءً بناءً ﻋﻠﯽ كتاب الصحيفة الفاطميّة الجامعة للعلاّمة الموحد الأصفهاني، فقد رواها عن الكتب المعتبرة(مصباح المتهجّد، جمال الأسبوع، مهج الدعوات، فلاح السائل، البلد الأمين، الجنّة الواقية)، وبناءً على ذلك لا يتطرّق إليها أدنى شكّ وشبهة من ناحية إسنادها.
ﺃﻣّﺎ ﻣﻦ ﺍﻟﻨﺎﺣﻴﺔ ﺍﻷﺩﺑﻴّﺔ ﻓﻤﻦ حيث أنّ الزهراء(عليها السّلام) تملك ناصية أدب الدعاء، فلها شأنٌ ومقامٌ تتفرّد به، فأدعيتها ﻣـﻦ ﺃجمل ﺍﻟﻨﺼﻮﺹ ﺍلأﺩﺑﻴّﺔ ﺍﻟتي لم تحظَ ﺑﺘﺤﻠﻴﻞ وتدقيق ﻛﺎﻓﻴين ﻣـﻊ ﺍﻷﺳﻒ ﺣﺘﯽ ﺍﻵﻥ ﻣﻦ ناحية ﺍلجمال ﺍﻷﺩبي وأسلوب ونمط التعبير، ﻭﺇّﻧﻤﺎ ﺃﻗﺘﺼﺮ ﺍلأﻣﺮ ﻋﻠﯽ ﺷﺮﺡ ﺍﻟﺼﺤﻴﻔﺔ الفاطميّة ﻭﺗﻔﺴير فقراتها ﻣﻦ حيث ﻣﻌﻨﺎﻫﺎ ﻭﺃﺳﺴﻬﺎ ﺍﻻﻋﺘﻘﺎﺩﻳّﺔ ﻭﻃﺮﺍﺋﻔﻬﺎ العرفانيّة. ﺇنّ ﻟﻐﺔ الزهراء(عليها السّلام) ﻛﻠﻐﺔ أبيها وبعلها ﻣﺴﺘﻠﻬﻤﺔ ﻣﻦ الوحي ﺍلإلهي الينبوع ﺍﻷﺻـﻠﻲ لنبوغهم ﺍلمتمثّل في ﺍﻷﺩﻋﻴّﺔ ﺍلجميلة التي ﺗﻔـﺘﺢ ﺳـﺒﻴﻞ ﺍلخلاص والإخلاص، والجديرة ﺑﺎﻟﺘﺤﻘﻴﻖ ﻭﺍﻟﺘﺘﺒّﻊ، فالصحيفة الفاطميّة ﺃﺛرٌ خالدٌ قيّمٌ ﺗﻌﺘبر رﻋﺎﻳﺘﻪ ﻭﺣﺮﺍﺳﺘﻪ ﻭﺍﺟﺒﺎﹰ ﻋﻠﯽ ﺍلمسلمين جميعاً.
إنّ ﺃﺩﺏ الدعاء يمتلك ﺃﺳﺎﺳﺎﹰ مزايا وأساليب ﺧﺎﺻّﺔﹰَ به، منها بساطة ﺍﻟﺘﻌﺒير ﻭﺍﻟﺒﻴﺎﻥ تميّزه ﻋﻦ إسلوب الخطابة والرسالة والوعظ، ﻓﺈﻥّ هذه ﺍﻟﺼﺤﻴﻔﺔ الفاطميّة لو طالعناها بدقّةٍ حتّى نهايتها ﻷﺩﺭﻛﻨﺎ ﺃﻥّ الزهراء(عليها السّلام) ﻛﻠّﻤﺎ استعملت جمال اللفظة والعبارة، وجمال الصورة في ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻪ والاستعارة ﻭﺍﻟﻜﻨﺎﻳﺔ، وجمال الأسلوب، استعملتها في لطفٍ وجمالٍ وتعبيرٍ عن المطلوب بتراكيبٍ تداعب الروح، لذلك يمكن الاستنتاج من أنّ الزهراء(عليها السّلام) لو شاءت واقتضت أدب الدعاء لاختارت تعبيراً أفضل وأكثر اختلافاً ممّا قالته من الناحية الأدبيّة، ولاستعملت كلمات وتراكيب في المجاز والاستعارة أكثر عمقاً، فكلامها ﻣﺴﺠّﻊ وسلس وبسيط وبعيد ﻋﻦ ﻛـﻞ أشكال التكلّف ﻭﺍﻟﺘﺼﻨّﻊ اللفظي، ﻭﻳﺘﻤﺘّﻊ بوﺴﺎﺋﻞ أﺧﻼﻗﻴّﺔٍ ﻭﺍﺟﺘﻤﺎﻋﻴـّﺔٍ ﻭﺳﻴﺎﺳﻴّﺔٍ ﻣﻬﻤّﺔٍ ﻭﺑﺎﺭﺯﺓ.
إنّ دراستنا تستند إلى مفهوم الجمال الممتد المؤثّر في جوهر الأساليب الجماليّة لعلم المعاني ومعرفة أبعادها الحقيقيّة والمجازيّة والوقوف عند أسرار النصوص النثريّة العظيمة، فكلّما تأمّلناها بعيون مفتوحة، وقلوب يقظةٍ أبانت لنا عن مخزون دلالي لا ينفد ولا ينقطع على مرّ الأجيال، وفي ضوء ذلك كان لا بدّ لنا أنّ نستكمل النتاج الزهرائي الأدبي بعد أن انتهينا من بحثين في شعرها وخطبها عن جماليّة الّلفظة والعبارة، والصورة، والأسلوب ببحث ثالث أسميناه (النتاج الأدبي لدى السيّدة الزهراء الدعاء أُنموذجاً… دراسة جماليّة)، مؤسسين لـه بمدخل يبين مفهوم وحدة النصّ، ومن ثمّ قسّمناه إلى ثلاثة مباحث: الأوّل بعنوان (جماليّة الّلفظة والعبارة)؛ والثّاني (جماليّة الصورة)؛ والثّالث(جماليّة الأسلوب).
إنّ المنهج الذي اتّبعناه في هذه الدراسة هو المنهج الفنّي الذي یعتمد استقراء النصوص الأدبيّة النثريّة ، وتحليلها من أجل الخروج بالنتائج التي تظهر من خلال الدراسة والتحليل، فهو منهج تحليلي، فثمّة أدعيةٌ للزهراء(عليها السّلام) متمثّلة بكمٍّ هائل من النصوص لفتت نظرنا، وهي ذو فائدة عظيمة على الحياة الأدبيّة ، لاشتمالها على أفكار كلاسيكيّة وحداثويّة، فصاحبها يحمل نظرة صادقة وثاقبة في مجال الأدب، ولكن لم تنله الدراسة الكافية عند دارسي اللغة العربيّة، لذا حاولت الدراسة إثراء الخزانة الأدبيّة والمكتبة العربيّة بفكر الأدب الزهرائي من النصوص النثريّة في الدعاء ، ولما يحتوي من مضامين عديدة، وكذلك كان لأسلوب الزهراء(عليها السّلام) أثرٌ كبيرٌ يتيح الفرصة للاطّلاع على كثير من الكتب الأدبيّة واللغويّة لمعرفة أغلب جوانب أدبها والوقوف على أثره، وهذا ممّا دفعنا إلى الغوص في ذلك الأدب، وأيضاً إظهار ما كان مغموراً في طيّات نثرها ، فنحاول تسهیل البحث عن كنوزه، فإن كنّا موفّقين؛ فهذا فضل من الله سبحانه، ومنَّة منه علينا؛ وإن كنّا قصَّرنا، فعسى أن يكون هدي المتلقّي باباً لإقالة عثراتنا مستشهدين بقوله تعالى: ﴿قل أَمَر ربّي بالقسْط﴾(الأعراف 7/29)، ﴿والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى﴾(النَّمل 27/59)؛والله وليّ التوفيق.
وحدةُ النصِّ في الدعاء:
عندما يُشار إلى هذا موضوعة وحدة النّصِّ، فهذا لا يعني بالضّبط أن يكون للدعاء موضوعاً واحداً فقط، إنّما أن تتّجه جميع النصوص، وتعمل متّحدة مع بعضها من أجل التوصّل إلى تحقيق الهدف المراد من أدب الدعاء، وذلك من أجل أن تخدم النصّ، وإحداث تغيير في وجهة النظر لدى المتلقّي إلى موضوعة الدعاء المتناول، كون الدعاء يحمل غايات كبيرة، وأهدافاً عظيمة في الحياة، وفي الأدب.
لاشكَّ أنّ أدب الدعاء يلعب دوراً كبيراً في أذهان المتلقين في أغلب الأصعدة، فعلى الصعيد الاجتماعي، يحاول قدر الإمكان التركيز في نصّه على وحدة موضوعه وفكرته، من أجل أن يصبح بإمكانه إنتاج أدب يكون لها بالغ الأهميّة، والقدرة على القيام بالدور المنوط به على أكمل وجه.
إنّ قائل الدعاء يؤدّي به إلى حذف كلِّ ما لا يلزم، والتركيز على المناسب جداً، والذي من المستحسن لديه أن يقوم باختياره، وأغلبه يكون مرتجلاً، ولعلّ هذا ينسجم مع طبيعة التفكير البشري والإنساني، إذ لابدّ أن تتّجه الأفكار كلها إلى الوجهة والطريقة الصحيحة والسليمة، التي تساعد على تأدية وظيفة الانسجام بين العبد ومعبوده في جميع الحالات، فتشتّت الأفكار، وكثرة الموضوعات في الدعاء الواحد، تبعث على السأم والملل والنفور حتى لدى المستمع، أو المتلقّي، فكيف بنصٍّ مثل نصّ الدعاء الوارد من بضعة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)؟.
إنّ وحدة النصّ في الدعاء، وتعميق المعنى عبر مجموعة من الأفكار والحوادث الموجودة فيه، يجرّها إلى أكبر أثرٍ في النّفس، إذ تتواشج هذه الأفكار الموحّدة، كلّ بحسب أهميتها، وما تحتويه من دفقات نفسيّة واجتماعيّة وفكريّة وغيرها، وتقوم كلّ واحدة منها بدورها، لتغوص في أعماق النّفس الإنسانيّة، وتتسرّب شيئاً فشئياً عبر التوالي المتّحد في النّصِّ؛ لأنّ النصوص حين تتّحد تترك بصمتها في المتلقي، وذائقته الأدبيّة، فيقبل على النصِّ، ويستسيغه بشكل أفضل، وأحسن، بل يستمرّ في إعادته على لسانه، لشدّة أنسه بذلك الدعاء.
كذلك لا يمكن لوحدة النصّ في الدعاء أن تكون ناجعة، وناجحة، إن لم تكن ثمرة القناعة بجدواها، وقيمتها، ودورها في الحياة والمجتمع، وتأثيرها في النفوس، لذلك لابدّ أن تتحوّل تلك القناعة إلى وحدة فعل يقوم القائل بالدعاء بتجسيدها على أرض الواقع، ويبعث فيها البحث عن وسائل أكثر جدوى للتأثير في المتلقي.
ولنتأمّل قليلا في أدعية الزهراء(عليها السَّلام)، ونأخذ دعاء الحريق أنموذجاً، حيث تقول: « يامَنْ فاق مدحَ المادحين فخرُ مدحه، وعدى وصف الواصفين مأثر حمده، وجلّ عن مقالة الناطقين تعظيم شأنه »[1] ، فهنا تبينُ السيّدة الزهراء(عليها السّلام) كيفيّة ثناء العبد لمعبوده ، ويُحال في كلامها على الخالق (Y ) بالضمائر المطابقة له الموجودة في : ( مدحه، حمده، شأنه ) غير أنّ هذه الضمائر وإن وحّدت النصّ باتّساقها ، وجعلته متّصلاً بعضه ببعض بصورة سلسة حتى أضفت موسيقيّة واضحة ، بالذي يطرق الأذهان لتبيّن كيف يثني العبد على خالقه ؟ وكيف يكون عبداً شاكراً ؟
ويبدو أنّ السيّدة الزهراء(عليه السّلام) كانت بعفويّتها الثقافيّة تباشر عملها الإبداعي الفوري، فيأتي النصُّ المرتجلُ متماسكاً في وحدة النصِّ مثل النصِّ المكتوب، فهو في غاية الإتقان والإبداع، فجريان خطابها على هذا النحو الباهر في طوله وقصره هو دليل على الفعاليّة الخارقـة لعقـل مبدع موهوب هو السيد المؤكد في عالم العقول ولا يمكن أن تتوفّر تلك الخصوصيّة لقوّة الـنصِّ فـي المخاطبة الارتجاليّة وفي الكتابة لشخص آخر غير السيّدة الزهراء(عليه السّلام)، من أجل ذلك كانت أدعية السيّدة الزهراء(عليها السّلام) وماتزال تفتح أبواباﹰ كثيرة للدراسة، فهي أرض خصبة للدارسـين؛ وذلك لسعة مادّتها وتنوّع موضوعاتها.
المبحث الأوّل- جماليّة اللفظة والعبارة:
لاشكَّ أنّ جماليّة اللفظة والعبارة، وقضيّة تذوّق النّصّ الأدبي من القضايا القديمة، التي شغلت النقاد في مختلف العصور، وهي تخصّ ما يفيض به النصّ من مشاعر وألوان عاطفية وأسلوبيّة، وتتّصل بجملة عوامل متعلقة بملكة الذوق، وهي ملكة ذاتيّة وفطريّة قابلة للنماء، وبجملة العوامل المساهمة في تشكيل الذوق الجمالي الجمعي السائد في مجتمع ما، فدراسة جماليّة اللفظ في ذاتها، وعلاقتها بالألفاظ الأخرى، ضمن محاولة نقديّة تستند إلى رؤية اللغة في أكثر تجلياتها تكون حيويّة سائغة.
إنّ مصطلح جمال اللفظة والعبارة عُرف قياساً إلى وحدتين صغيرتين، هما: الوحدة الصوتيّة، والوحدة اللغويّة، وهو يجسّد المادّة التي تشكّل الوجود الظاهري للعمل الأدبي، فثمّة عوامل صوتيّة هامّة، تدخل في نسيج موسيقى النصّ الأدبي وتسهم بشكل فعّال في تذوقه، وفي إدراك جوانبه الجماليّة، وبالتالي يتوجّب الكشف عن دورها البنائي الذي لا يمكن أن يذوب في السياق، أو في البنية العامّة للنصّ، لكن تنسيق الألفاظ موسيقيّاً لا يستثمر طاقة الأصوات اللغويّة بمعزل عن معانيها التي تشير إليها. ومع ذلك فان التنسيق اللفظي المحكم يجعل من الخيال معبراً إلى فضاء التأمّل، وعليه صار الادب خلاصة جرس لغوي، وفحوى وصورة موحية. هكذا تغدو اللفظة جزءاً من عملية الابداع الأدبي، لها دورها المرتبط بالسياق الذي يشبك دلالات اللفظ في نسيج متكامل.
إنّ الدارسين لجمال اللفة والعبارة يميّزون بين خمس مدارس[2]: الأسلوبيّة اللسانيّة، التي يمثلها «شارك بالي» تلميذ «سوسير»، والأسلوبيّة المثاليّة، المنبثقة عن أفكار كل من «فوملير» و«كروتشيه» اللذين يريان أنّ الجمالية في اللفظة والعبارة تعبير عن الترابط الداخلي للذات الفردية المنعكسة في العمل الأدبي، والأسلوبيّة البنيانيّة، التي نظر لها ثلاثة من كبار النقاد هم: «رومان جاكوبسون» الذي يركّز على دراسة الوظيفة الشعريّة لّلغة، و«تزيفيتان تودوروف» الذي يركز على الطابع الأسلوبي للخطاب اللغوي، و«جورج مولينييه» الذي نظر لأسلوبية التلقّي، وهي الأقرب الى علم الجمال، وهو محور بحثنا.
لابدّ من توظيف اللفظة والعبارة توظيفاً تحليلياً في عدة أنواع من النصوص النثريّة من أدعية الزهراء(عليها السّلام)، وكذلك استجلاء دور اللفظة داخل السياق المدروس، وضمن تنسيق النصّ الإيقاعي، ويعوّل على هذه الفاعليّة المزدوجة استجابة لضرورة عدم الفصل ما بين جمال النصّ الأدبي في الدعاء، وبين طريقة قراءته المنبثقة من بنائه اللفظي والدلالي.
النتاج النثري(الدعاء):
ﺍﻟﺼﺤﻴﻔﺔ ﺍﻟفاطميّة ﻣﻦ حيث ﻓﺼﺎﺣﺔ ﺍﻟﻜﻠﻤﺔ والكلام تطابق قواعد ومقاييس علم البلاغة تماماً، ﻓﻜﻠﻤﺎﺗﻬـﺎ – كلٌّ ﻣﻨـﻬﺎ بمفرﺩﻫﺎ – ﺧﺎﻟﻴﹲﺔ من العيوب ﺍﻟتي أحصوها في علم المعاني، وعدّوها مخلّة بفصاحة الكلمة، ﺃﻱ ﺃﻧّﻪ ﻻتوجد ﻛﻠﻤﺔ، ﺃﻭ ﺗﻌـﺒير واحد في الصحيفة الفاطميّة كلّها لها ﺻﻔﺔ « الكراهة في ﺍﻟﺴّﻤﻊ » ، ﺃﻭ « ﻏﺮﺍﺑﺔ الاستعمال»، أو « تنافر الحروف »، فمن ﻧﺎﺣﻴﺔ ﻓﺼﺎﺣﺔ ﺍﻟﻜﻼﻡ تكون اﻟﺼﺤﻴﻔﺔ الفاطميّة ﺗﺘّﻤﻊ بمرﺍﻋﺎﺓ ﻣﻌﺎﻳير وأصول ﺍﻟﺒﻼﻏﺔ ﺍﻟتي يجب ﺃﻥ ﻳﺮﺍﻋﻴﻬﺎ الأديب ﺍﻟﺒﻠﻴـﻎ ﻭﺍﻟﺸّﺎﻋﺮ والمتحدّث ، وقد اقتصرنا في بحثنا على بعض الأدعية نقتطف منهما ما يكون محوراً لبحثنا.
السمات الدلاليّة في أدعية الزهراء(عليها السّلام):
التّكرار :
إنّ التكرار اللفظي في النّصوص النثريّة في أدعية الزهراء(عليها السّلام) اتّخذ أشكالاً ومستويات متعدِّدة نذكرها باختصار، وهي:
أ-: التكرار على مستوى الحرف:
تميّزت اللغة العربية بأنَّها ” أكثر اللغات انسجاماً مع التعبير الفنيّ وإثارةً للأحاسيس الفنيّة والإنسانيّة، فتكرار الحرف في النصّ الفنيّ واحدٌ من أهمّ مزايا ذلك الإنسجام لتشكّل قطعة موسيقيّة متكاملة يستلذّ بها السمع وتطرب لها الأذن.
فمن ذلك ما جاء في نصوص الأدعية لدى الزهراء(عليها السّلام) ، حيث تقول: « اللَّهُمَّ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي واستُرنِي وَعَافِنِي أبداً ما أبقيتَنِي، واغفِرْ لي وارحَمنِي، اللَّهُمَّ لا تُعيِنَنِي في طَلَبِ مَا لا تقدِّر لي، وَمَا قَدَّرتَهُ علَيَّ فاجعلهُ مُيَسَّرا سَهلاً.
اللَّهُمَّ كافِئ عَنِّي وَالِدَيَّ وَكُلَّ مَن لهُ نِعمَة علَيَّ خيرُ مُكَافَأةٍ، اللَّهُمَّ فَرِّغنِي لما خَلقتَنِي لَهُ، وَلا تُشغِلنِي لما تَكَفَّلتَ لي به، ولا تعذِّبنِي وَأنا استغفرُك، وَلا تَحرِمني وَأنَا أَسأَلُك.
اللَّهُمَّ ذَلِّل نَفسِي فِي نَفسِي، وَعَظِّم شَأنَكَ في نَفسي، وأَلهِمْنِي طاعَتَك، وَالعَمَلَ بِما يُرضِيكَ، والتجنُّبَ لما يُسخِطُك يا أرحَمَ الرَّاحِمِين»[3]، فهنا وردت حروف متكرّرة ظهر فيها الانسجام والتناغم الصوتي الذي يؤدّي إلى إيقاع لطيف، فقد تكرّر حرف الميم في هذا المقطع القصير أربعاً وعشرين مرّة، والنون خمساً وعشرين مرّة، والرّاء أحد عشر مرّة، والباء ثمان مرّات، والّلام ثلاثين مرّة.
لقد أظهرت السيّدة الزهراء في تكرار هذه الحروف القيمة الموسيقية والدلاليّة، فتكرارها الحروف أثارت في النصّ الحسّ الصوتي جسَّدَته أصوات الغنة ( الميم والنون والتنوين ) التي وردت ما يقارب (ثلاثين) مرّة في هذا النصّ , مما يثير رغبة المتلقي في التواصل ومتابعة المعنى مع الإلتذاذ السمعي الذي يشعر به . فضلاً عن ذلك فإنَّ تكرار ( الأصوات الذلقية ) التي تتميز بخفتها وسهولة النطق بها بشكل كبير أضاف نوعاً من التناغم والانسجام بين المتكلم والمتلقي.
إنّ هذا النصّ النثري على قصره يحمل المؤثّرات الصوتيّة الدلاليّة بما يناسب الموضوع , فنشاهد السكينة واللغة الشاعرة والنبرة الهادئة تطغى على جوِّ النصّ , فالغنّة وما تحمله من لذّة في السمع , والاصوات الذلقيّة وسهولتها في النطق , قد أدّى إلى خلق نوع من التوازن والتناغم ولفت نظر المتلقّي إلى المدلول عن طريق الإيقاع الصوتي .
نلاحظ كذلك جماليّة تكرار حرف اللّام صوتيّاً ودلالياً في دعاء الزهراء، فقد تكرّر حرف اللام ثلاثين مرّة، وهو حرف ذلقي من الحروف المجهورة يحتاج إلى جهد صوتي, وشدَّة معاناة في نطقها ليتناسب ذلك, فتلصق اللسان بالفك الأعلى، ثم ترسله،, فتكرار حرف الّلام أسهم في الكشف عن بعض الدلالات النفسيّة والموضوعية والفنيّة للنصّ .
ب: التكرار على مستوى المقطع الصوتي:
إنمازت أدعية الزهراء(عليها السّلام) بأساليب تستهوي القلوب وتتجاوب معها الأرواح والنفوس النّقية فضلاً عن أنّها تتفاعل مع العقول والأفكار لما تتضمنه من معان عميقة راقية، لذا تجاوز الزهراء(عليها السّلام) بالدعاء تسجيل العلاقة المباشرة والوجدانيّة بين الله والعبد إلى رصد مختلف العلاقات الاجتماعيّة، فدعاؤها ثروة فكريّة وروحيّة لم يحدّد بزمان ولا مكان، وإنما يوضع بين يدي الأجيال المتعاقبة يعتبر بها أولو الألباب، وهي دعوة تربويّة أخلاقيّة تستهدف بناء الشخصيّة الإنسانيّة الواعية، وتتوخّى شرح فكرة الإيمان بنقائها وأصالتها القرآنية السليمة[4].
إنّ التّكرار على مستوى المقطع الصوتي له قيمة صوتيّة ودلاليّة أيضاً، فعلى سبيل المثال نرى القيمة الصوتيّة في قولها: «يا حيّ ياقيّوم برحمتك استغيث فـأغثني، اللهم زحزحني عن النار وأدخلني الجنّة»[5]، فتكرار المقطع ( زحّ ) وهو قصير يتضمّن صوتي ( الزاي والحاء ) اللذينِ يتضمنان الشّدَّة والتهويل , فالزاي بأزيزه وصرامة نغمه في السمع , والحاء بشدّته وعنف خروج الهواء من مخرجه, قد رسما لنا صوتيّاً الخوف الشّديد, وازداد شدَّة بتكرّر المقطع, فالداعي يخاف النار ، وأمّا القيمة الدلاليّة نراها في استعمالها لفظة ( ياقيّوم ) التي تدل على الطلب , يعني ذلك أنَّها بحاجة لمَن هو قائم وحافظ لكلِّ شيء ، وكذلك اسناد الضمير ( الياء ) إلى الفعل ( زحزح ) يدل دلالة قاطعة بأنَّ هذا الفعل _ دخول النار _ لم يكن صادراً من الله سبحانه فحسب ، بل أنَّ العبد يجلبه لنفسه بسبب أعماله السيّئة .
وكذلك قولها (عليها السلام):« اللهمّ إذا أدنيت الشمس من الجماجم، فكان بينها وبين الجماجم مقدار ميل، وزيد في حرّها حرّ عشر سنين، فإنّا نسألك أن تظلّنا بالغمام، وتنصب لنا المنابر والكراسي…»[6]، فقد تكرر المقطع (جم) في لفظة (جماجم) المتألّف من حرفي ( الجيم والميم ) الشديدين , وزاد المقطع شِدَّة وثقلاً بُعد المخرجين بينهما, فأضافت صخباً نغمياً ثقيلاً نتيجة لتردّد هذا المقطع الثقيل ثقل دلالته , فالمعنى السياقي للنصِّ يشير إلى أنَّ المرء لايمكن له تحمّل تلك النار التي سجّرها جبّارها لغضبه، فنجد هنا سمة الاضطراب والقلق والشدِّة ، فقد رسمت لنا الزهراء صورة فنيّة جميلة مستعارة للعذاب , فصوّرت النار كشمس تقترب إلى الرؤوس شديدة الحرارة تهلك كلّ من اقترب منها، لذلك تطلب الاستظلال بالغمام.
ج : التكرار على مستوى الكلمة:
إنّ الزهراء(عليها السّلام) توظّف كلّ كلمة من كلماتها في الدعاء لتحتل مساحة واسعة جداً في نفوس المتلقين ، فمن تكرارها على مستوى الكلمة تكرار مفردة ( الّلهمّ ) في بداية أغلب مقاطع أدعيتها، ولاسيما في أدعية الأيام، وقد أجمع علماء اللّغة على أنّ مفردة اللَّهمَّ أصلها ومعناها (يا الله)، فحذفت منها ياء النّداء وعوّض عن ياء النّداء الميم[7]، بل لم يرد (اللَّهُمَّ) في القرآن إلا بهذا المعني فقط (يا الله)، وربما سبب تأخير الميم، وهو أنّ الميم أُخرت في لفظ الجلالة (اللَّهمَّ) تيمنًا بالبداءة باسم الله، لماذا يقول ذلك؟ يقول ذلك حتى لا تجعل بينك وبين اسم الله أي لفظ إذا دعوته حتى ولو كان ذلك اللفظ (يا النداء)! ولذلك لم يرد النداء بصيغة (يا الله) في القرآن مطلقًا.. وهذا مصداقًا لقوله تعالى (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، فحُذفت ياء النداء حتى يتحقّق هذا القرب الذي تتحدّث عنه هذه الآية الكريمة شكلًا ومضمونًا، فتبدأ الدعاء باسم الله مباشرة (اللَّهمَّ)! وبذلك كان من الأدب مع الله عزّ وجلّ إسقاط حرف النداء “يا” في الدّعاء بما يشعر بقرب المنادَى سبحانه، بخلاف دعاء الله سبحانه لعباده فإنه غالبًا ما يأتي بحرف النداء “يا” المشيرة إلى أنه سبحانه موصوف بالتعالي والاستغناء عن خلقه، َفأَنْتَ تَرَى أَنَّ نِدَاءَ اللَّهِ لِلْعِبَادِ لَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ فِي الْغَالِبِ إِلَّا بِـ”يَا” الْمُشِيرَةِ إِلَى بُعْدِ الْمُنَادِي لِأَنَّ صَاحِبَ النِّدَاءِ مُنَزَّهٌ عَنْ مُدَانَاةِ الْعِبَادِ، مَوْصُوفٌ بِالتَّعَالِي عَنْهُمْ وَالِاسْتِغْنَاءِ، فَإِذَا قَرَّرَ نِدَاءَ الْعِبَادِ لِلرَّبِّ أَتَى بِأُمُورٍ تَسْتَدْعِي قُرْبَ الْإِجَابَةِ: مِنْهَا: إِسْقَاطُ حَرْفِ النِّدَاءِ الْمُشِيرِ إِلَى قُرْبِ الْمُنَادَى، وَأَنَّهُ حَاضِرٌ مَعَ الْمُنَادِيِ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْهُ[8]، ويستخدم العبد اسم الجلالة (اللَّهُمَّ) لمناجاة ربه، وقد أمر اللَّه عزّ وجلّ نبيه مُحمَّدًا(صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك في قوله تعالى:﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ…﴾ (آل عمران/26)، وفي قوله تعالى:﴿ قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ…﴾(الزمر/46)، ومفتاح المطالب في الجنّة بهذا الاسم، فتجد المؤمنين في الجنّة يعترفون بنعم ربّهم عليهم وينزّهونه ويطلبون ما يشتهونه بهذا الاسم، وذلك تصديقًا لقوله تعالى: ﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّوَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ…﴾(يونس/10).
تعدّ مفردة (اللهمّ) إعلاناً للتبعيّة، وإيذاناً سرمديّاً بالحاجة الملحّة التي تتّخذ من علاقة بين الله والإنسان بمثابة انطلاقة روحيّة تستفرغ جهداً في السلوك المستقيم نحو قولها في دعاء يوم السبت:« اللهم افتح لنا خزائن رحمتك ، وهب لنا اللهمّ رحمة لا تعذبنا بعدها في الدنيا والآخرة … اللهم وسّع علينا في الدنيا…، »، وقولها في دعاء يوم الأحد :« اللهم اجعل أوّل يومي هذا فلاحاً، وآخره نجاحاً ، وأوسطه صلاحاً ، اللهم صلِّ على محمدّ وآل محمدّ واجعلنا ممن أناب إليك فقبلته …»[9]، وقد يشكّل هذا التّكرار نقلة فنيّة من الذّات إلى الموضوع هذا من جانب ، ومن جانب آخر يشكّل أداة وصل وتلاحم بين الموضوعات[10] ، وقد تنوّعت موضوعات أدعيتها بحسب المناسبة من ذلك دعاؤها عند دخول المسجد وعند الخروج منه، وأدعية الأيام ، ودعاؤها لقضاء الحوائج ، ولدفع الشدائد ، وللأمر العظيم ، وإذا طلع شهر رمضان، وعند النوم ، ولدفع الأرق، وبعد فقد أبيها ، وتعقيبات الصلوات اليومية ، ولطلب المساعدة والمعونة، وغير ذلك، فهي أدعية متنوّعة لايُصاب الداعي بها بسأمٍ أو مللٍ في تكرارها، فالزهراء(عليها السّلام) جمعت تعقيبات الصلوات ، وأدعيتها في الأوقات ، وفي أيام الأسبوع ، وأدعيتها لنفسها ولغيرها، ودعائها على ظالميها ، وفي طلب الحوائج وكشف الهموم ، وللأمر العظيم وكشف الهم ، ولتفريج الهمّ والخلاص من السّجن ، ولطلب مكارم الأخلاق ، ولطلب الشفاء ، والدعاء عند النوم ، والأحراز ، وغير ذلك.
كذلك تكرارها لمفردة (سبحان) في أغلب أدعيتها، وهي مفردة رائعة تنزِّه الله عن أن يكون له ولد أو شريك أو صاحبة، وقد كرّرها القرآن الكريم أربع عشرة مرّة، فتكرار الزهراء(عليها السلام) لهذه المفردة يعطي طابع الإقرار بالتنزيه للباري(Y)، حيث تقول:« سبحان ذي العرش الشامخ المنيف، سبحان ذي الجلال الباذخ العظيم، سبحان ذي المُلك الفاخر القديم، سبحان مَن لبس البهجة والجمال، سبحان مَن تردّى بالنور والوقار، سبحان مَن يعلم جوارح القلوب…»[11].
د : التكرار على مستوى الجملة:
إنّ تكرار الجملة في أدعية الزهراء(عليها السّلام) تحمل أيضاً بُعدين(صوتي ودلالي)، فمِن ذلك قولها : « اللهُمَّ صلِّ على محمدٍ كما رحِمْتَنا به , وصلِّ على محمدٍ كما عزَزَتَنا به , وصلِّ على محمدٍ كما أنقذتنا به من شفا حفرةٍ من النار…»[12]، ففي هذا المقطع تكرّرت عبارة ( صلِّ على محمّد ) بصورة تُظهِر قصديّة الداعي لذلك إذ خلق هذا التكرار نغماً موسيقيّاً وجوّاً روحيّاً ممتعاً في ترديده الصلاة على نبيّه , فيتحوّل من خلاله إلى الأبعاد الدلاليّة لهذا التكرار الذي جاء في مقاطع متوازيّة ، فكلّ صلاة تحمل دلالة ومعنى جديداً يختلف عمَّا تحمله الأخرى من كل مقطع، فـ ( والرحمة والعِزة والإنقاذ ) كلّها دلالات قامت عليها الصلاة على محمد (الّلهم صلِّ على محمّد وآل محمّد وعجّل فرجهم)، فهنا التكرار يجذب المتلقين إلى المضامين الانفعاليّة المختلفة .
وكذلك قولها:« الّلهم صلِّ على محمّد وأهل بيته المباركين، الّلهم صلِّ على محمّد وآل محمّد وبارك على محمد وآل محمّد وارحم محمّداً وآل محمّد كأفضل ما صليت وباركت وترحمت على إبراهيم إنّك حميد مجيد …»[13] ، فهنا يشكّل تكرار الجملة نقلة فنيّة من الذات إلى الموضوع هذا من جانب ، ومن جانب آخر يشكّل أداة وصل وتلاحم بين الموضوعات، وقد تنوّعت أدعية الزهراء(عليها السّلام) بحسب المناسبة ، فقد استعملت التكرار لزيادة النغم، وتقوية الجرس، فضلا عن التقوية والتأكيد للمعنى الذي يتأتّى بعده، وقد اقتصرنا على هذه النصوص، لضيق المقام.
السّجع:
ﺇﻥّ أدب الزهراء عليها السّلام يغلب عليه طابع السجع، فهو أحد صور البلاغة، بل أجملها ، فمن ذلك قولها:« سبحان ذي العز الشامخ المنيف ، سبحان ذي الجلال الباذخ العظيم ، سبحان ذي الملك الفاخر العظيم ، سبحان من لبس البهجة والجمال ، سبحان من تردى بالنور والوقار … »[14]، ويعد التّسبيح لله تعالى والتحميد والتمجيد له أسلوباً من أساليب الإعداد والتحضير النّفسي فمن خلال هذه التقديم يتهيّأ الإنسان للإقبال مع الله ، والطلب والسؤال من الله ؛لأنّ حقيقة الدّعاء في إقبال القلب على الله، فإذا اشتغل القلب بغير الله من شواغل العاجلة لم يحقّق حقيقة الدعاء[15].
وكذلك قولها:« الحمد لله الذي لايبلغ مدحته القائلون، والحمد لله الذي لايُحصي نعماءه العادّون، والحمد لله الذي لايؤدّي حقّه المجتهدون »[16]، وقولها:« سبحان من يعلم جوارح القلوب ، سبحان من يحصي عدد الذنوب ، سبحان من لا يخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء…»[17] ، وقولها:« الحمد لله رفيع الدرجات ، منزل الآيات ، واسع البركات ، ساتر العورات ، قابل الحسنات ، مقيل العثرات ، منفّس الكربات ، منزل البركات ، مجيب الدعوات محيي الأموات ، إله مَن في الأرض والسموات ، الحمد لله على كلِّ حمد وذكر وشكر وصبر وصلاة وزكاة وقيام وعبادة وسعادة وبركة…»[18]، وهنا نشاهد السّجع غير المتكلّف في الصياغة الذي أتى على السليقة والبديهة ، وما يؤدّيه هذا السّجع من إيقاع منتظم ، وهو سمة مميّزة لأدعية الزهراء(عليها السّلام)، ولعلّ السرَّ الفنيّ وراء ذلك يكمن في طبيعة عنصر التلاوة التي يمتاز بها الدعاء عن غيره فالدعاء لا يُسمع ولا يُقرأ فحسب، بل يُتلى فالتلاوة تتطلّب إيقاعاً متناسباً مع وحداته الصوتيّة التي تنتظم في السجع أو التجانس اللفظيّ[19].
الإيقاع:
يمتاز الإيقاع في أدعية الزهراء(عليها السّلام) عن غيره، فهو إيقاع يجذب القلوب، ويؤنس النّفوس ، فمثلاً قولها في دعاء الخلاص من الحبس:« اللهمّ بحقِّ العرش ومَن علاه، وبحقِّ الوحي ومَن أوحاه، وبحقِّ النبيّ ومَن أنباه، ياسامع كلّ صوت، ياجامع كلّ فوت، يا بارئ النفوس بعد الموت،…»[20]، فهذا النصّ يشتمل على عناصر مختلفةٍ والتي ينتج عنها إيقاع متّسقُ وموسيقى رائعةُ، منها: إيقاع التجمعات الصوتية من خلال عدّة حروف منها الألف والهاء في كلمات (علاه، أوحاه، أنباه)، ومنها الألف في كلمات (الدار،الأبرار،الغفّار)، ومنها الألف في كلمات (سامع، جامع، بارئ) هذه الكلمات قد ختمت بالحروف المجهورة الشديدة والرخوة تشبه حركة موج البحر العالية تارةً والخافضة أخرى ولا شك أن السّجع بين الكلمات من العناصر البنّاءة للإيقاع .
لقد اكتسبت هذه الكلمات في هذا المقطع القصير جرساً موسيقيّاً خاصّاً، ويأتي ذلك من تشابه بعض الكلمات في الوزن وتماثل بعضها الآخر، ومن التساوي بين الفقرتين في عدد الكلمات(ياسامع كلّ صوت، ياجامع كلّ فوت) أو في أوزانها وممّا لا شكَّ فيه أنّ استخدام حرف المدّ(الألف) في نهاية بعض المفردات قبل الحروف الأخيرة قد أضفى على هذا المقطع إيقاعاً ملحوظاً وأحدث رنيناً يتلاءم مع سياق الكلام، فهنا نرى الوزن والإيقاع قد التقيا في هذا المقطع.
كذلك نرى الإيقاع في قولها:« قد لفظتني البلاد، وتخلّى منّي العباد… واحتجت إلى صالح عملي، وألقى ما مهّدت لنفسي، وقدّمت لآخرتي، وعملت في أيّام حياتي…»[21]، فهنا إيقاع الأصوات الجميلة في حرفي الألف والدال في(البلاد، العباد)، وكذلك في الياء في الكلمات(عملي، نفسي، آخرتي، حياتي)، فقد اجتمع والوزن والإيقاع.
الجناس:
الجناس لونٌ من ألوان البديع له تأثير بليغ ، وجاذب للسّامع، بل يُحدث في نفسه ميلاً إلى الإصغاء والطلبة بنغمته العذبة وتجعل العبارة على الأذن سهلة ومستساغة، ولو تأمّلنا أدعية الزهراء(عليها السّلام) وجدنا هذا اللون البديعي فيها، فهو يمتاز بجودةٍ في السّبك وفي اختيار الألفاظ وجرس في الإيقاع، فقد استعملت المفردات، واستساغت الكلمات الأكثر إيحائيّة ودقّة في دعاء الداعي من خلال أسلوب بلاغي، وكذلك امتازت أدعيتها بخصائص أسلوبيّة رائعة جعلتها تعطي رونقاً جميلاً من المعارف والقيم الأخلاقية التي قلّما نجدها في أيّ أدب، وكما هو معلوم أنّ الجناس أنواع:(التام، الناقص، المُذَيَّل، المُطرف، الاشتقاق، المضارع، اللاحق).
لو تأمّلنا في أدعية الزهراء(عليها السلام) نجدها تكثر من الجناس النّاقص في قولها(عليها السّلام):« الحمد لله الذي خلق النّور من النّور، وأنزل النّور على الطّور في كتاب مسطور، في رقٍّ منشور، بقدر مقدور، على نبيّ محبور… الحمد لله الذي هو… وبالفخر مشهور، وعلى السرّاء والضرّاء مشكور…»[22]، فالاختلاف بين الحرفين (ن) و(ط) في(النور، الطّور) وهما بعيدي المخرجين الأمر الذي يزيد موسيقى العبارة ويُسمى أيضاً هذا النوع من الجناس جناساً لاحقاً، كذلك اختلاف الحرفين (ه) و(ك) في(مشهور، مشكور).
كذلك نجد جناس الاشتقاق حاضراً في أدعيتها(عليها السّلام) ، فنراها تُكثر منه، وجناس الاشتقاق – الذي يعني اشتراك لفظتين على جهة الاشتقاق، أي تكون اللفظتان مشتقّتين من أصل واحد – يأتي لبعث الأمن والطمأنينة في النفوس، وخصوصاً في دعاء الداعي حينما يكون في رحاب المدعو الرحمن الرحيم ، كما ورد ذلك في قولها:« الّلهم إنّي عائذ بك فأعذني ، ومستغيث بك فأغثني ، وداعيك فأجبني ، ومستغفرك فاغفر لي، ومستنصرك فانصرني ومستهديك فاهدني ، ومستكفيك فاكفني وملتج إليك فآوني ، ومتمسك بحبلك فاعصمني»[23]، فالاشتقاق هنا له دور ريادي مهمّ في قوّة وتفخيم الألفاظ، فلنتأمّل في الاشتقاقات في هذه العبارة العظيمة : عائذ فأعذني مشتقّة من مادّة(عاذ)، مستغيث فأغثني من مادّة (غاث)، مستنصرك فانصرني من مادّة (نصر)…، ومن ذلك قولها أيضاً:« الّلهمّ اكفني حسد الحاسدين ، وبغي الباغين ، وكيد الكائدين ، ومكر الماكرين ، وحيلة المحتالين ، وغيلة المغتالين ، وظلم الظالمين، وجور الجائرين ، واعتداء المعتدين ، وسخط المتسخطين ، وصولة الصّائلين ، واقتسار المقتسرين ، وغشم الغاشمين … ، ونمامة النمّامين ،وسحر السّحرة والمردة والشّياطين»[24]، فنجد الاشتقاقات في هذه العبارة: حسد الحاسدين من مادّة(حسد)، بغي الباغين من مادّة(بغى)، مكر الماكرين من مادّة(مكر)…
حُسن الابتداء والختام:
لاشكَّ أنّ النقاط البلاغيّة البديعيّة من حُسن ابتداء وختام للسيّدة الزّهراء(عليها السّلام) التي لم يسبقها مهرة البلغاء إليها أخرست الفصحاء بنصوصها البلاغيّة، وبأدعيتها المرتجلة، فهي تتكلّم بصوت شجيٍّ حزين تناجي ربّها، وكلّ كلمة منها تجعل الداعي يقترب من خالقه، وكأنّه قريب كما وصف نفسه: ﴿ وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريبٌ أجيب دعوة الداعي إذا دعانِ﴾(البقرة/186) ، فقد أجادت الزهراء(عليها السّلام) بأدعيتها المرتجلة بحُسن الابتداء والختام ، حيث بدأت في دعائها المعروف بدعاء تعقيب صلاة العشاء بحمد لله رب العالمين والثناء عليه، وانتهت بذكر نعمه، والإقرار بكرمه، واللجوء إليه في السرّاء والضرّاء، فقد ابتدأت بقولها:« الحمد لله سامِكِ السّماءِ، وساطحِ الأرضِ، وحاصرِ البحارِ، وناضدِ الجبال، وبارئ الحيوان… الحمد لله رفيع الدرجات، منزل الآيات ، واسع البركات، ساتر العورات، قابل الحسنات، مقيل العثرات…»، وختمت بقولها:« عزّ جارك، وجلّ ثناؤك، وتقدّست أسماؤك، ولا إله غيرك، حسبي أنت في السرّاء والضرّاء والشدّة والرخاء، ونعم الوكيل»[25]
لعلّ من أعظم عوامل الجذب بين العبد ومعبوده، وكذلك الالتصاق والارتباط بينهما هو: حُسن الابتداء والختام في الدعاء الممزوج بالعاطفة الصادقة، والحزن، وانكسار القلب، فقد حملت الزهراء(عليها السّلام) في طيّات دعائهاعاطفة ، وحزناً، وانكساراً للقلب، بل صدق الكلام، حيث ابتدأت بدعائها بقولها:« ياربِّ إنّي قد سئمت الحياة، وتبرّمت بأهل الدنيا فألحقني بأبي»، وختمت معهم بقولها: « ياإلهي عجّل وفاتي سريعاً، فلقد تنغّصت الحياة يامولائي… أليك ربّي»، وآخر ما ختمت به دعائها في لحظاتها الأخيرة ، حينما حضرتها الوفاة قالت:«اللهمّ رسولك، اللهمّ رضوانك وجوارك ودارك دار السّلام»[26].
المبحث الثاني- جماليّة الصّورة النّثريّة:
إنّ أدعية الزهراء لها نكهة أدبيّة وجماليّة في إثارة المتلقّي، أو في إثارة الداعي، فالدعاء له وسائله الخاصّة التي تجذب النفوس ، ومن هذه الوسائل التي يستخدمها الدعاء جماليّة الصورة الفنيّة من تشبيه واستعارة وكناية ، ونحن نعلم أنّ الصورة هي الناقل الأمين لأحاسيس الأديب وعواطفه بحيث تتّخذ هذه الأحاسيس والعواطف شكلاً فنيًّا بإمكانه أن يؤثّر في المتلقّي .
التشبيه:
التشبيه هو من أهمّ فنون البلاغة، وأكثرها جمالية، لذا استعملته الزهراء(عليها السّلام) في أدعيتها بشكل ظريف لطيف، وﻣﻦ ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻪ ما يكون مناسباً للهدف، ﻭفي ﺍﻟﺼﺤﻴﻔﺔ ﺍﻟفاطميّة ﻛﺜير ﻣﻦ هذه ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻬﺎﺕ ﺳﻨـﺸير إﻟﯽ ﺑﻌﺾ ﺍلموﺍﺭﺩ ﻣﻨﻬﺎ ﻛﻤﺜﺎﻝ ﻋﻠﯽ ذلك، ﻓﻔﻲ الدعاء ﺍﻟﺜـﺎلث- ﺍﻟﻌﺒﺎﺭﺓ الأخيرة – في وصف أبيها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حيث تقول:« وصلّى الله على البشير النذير والسّراج المنير»[27]، فقد شبّهت أباها بالسّراج المنير، وهو تشبيه مقتبس من القرآن الكريم:﴿ ياأيّها إنّا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً﴾(الأحزاب/46)، فالتشبيه بالسّراج تشبيه بليغ، وهو ﺃﺭﻗﯽ ﻭﺃﻓﻀﻞ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻪ؛ ﻷﻧّﻪ لايُذكر فيه سوى ﺍلمشبّه ﻭﺍلمشبّه ﺑﻪ، وتحذف منه أداة التشبيه ووجه الشبه، ﻭﺗﺒﻠﻎ ﻓﻴﻪ قوّة التصوّر ﺩﺭﺟﺔﹰ ﻣﻦ ﺍﻟﺮّﻗﻲ بحيث يوهم هذا النّوع من التشبيه ﺍتّحاد ﺍلمشبّه ﻭﺍلمشبّه ﺑﻪ وعدم ﺃﺭﺟﺤﻴّﺔ ﺃﺣﺪهما ﻋﻠﯽ ﺍﻵﺧﺮ، ويكتسب ﺍلمشبّه ﺍﻣﺘﻴﺎﺯﺍﹰ في ﺻـﻔﺘﻪ بحيث ﻳﺒﻠﻎ في ﻭﺟﻪ ﺷﺒﻬﻪ ﺍﻟﯽ مستوى ﺍلمشبّه ﺑﻪ : ﻭﻫﻮ ﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺍلمباﻟﻐﺔ في ﻗّﻮﺓ ﺍﻟﺘّﺸﺒﻴﻪ، وقد أوضحت الزهراء(عليها السّلام) ﻫﻨﺎ ﺑﺄﺳﻠﻮﺏ ﺍﻟﺘّﺸﺒﻴﻪ ﺃﻥّ ﺍﻟﺮﺳﻮﻝ(صلى الله عليه وآله وسلم) ليس ﻣﺸﺎﺑﻬﺎﹰ للسراج المنير، فحسب، ﺑﻞ ﺇﹼﻥّ تلك الحضرة ﺍلمباﺭﻛﺔﹶ ﻫﻲ السّراج المنير ﻧﻔﺴﻪ، ﻭﺍّﻧﻪ ﻫﻮ المختصّ بإنارة الكون بأنواره ، وأيضاً في تركيب (سراجاً منيراً) ﺍﺳﺘﻌﺎﺭﺓ بُنيت على ﺗﺸﺒﻴﻪ الإنارة السّراج، ﻓﺘﺮﻙ المشبّه ﺑﻪ ﻭﺫﻛﺮ ﻣﺎ ﻳﺘﻌﹼﻠـﻖ ﺑﻪ، ﻓﻬﻲ ﺍﺳﺘﻌﺎﺭﺓ ﻣﻜﻨﻴّﺔ، ﻭﻣﻦ حيث ﺍﺛﺒﺎﺕ ﻣﺎ ﻳﻠـﺰﻡ ﻭيختص ﺑﺎلمشبّه ﺑﻪ ﻟﻠﻤﺸّﺒﻪ (منيراً)، ﻓﻬﻲ ﺍﺳﺘﻌﺎﺭﺓ تخييليّة .
لقد برز جمال التشبيه في أدعية السيّدة الزهراء، ومن ذلك قولها في الدعاء(العشرين) المعروف بدعاء دفع الأرق، والذي تذكر فيه الاحتياج إلى الخلاص من الجوع والمرض، حيث تقول:« يامشبع البطون الجائعة، ويا كاسي الجسوم العارية، ويا ساكن العروق…، ويا منوّم العيون السّاهرة، سكّن عروقي الضاربة، وأذن لعيني نوماً عاجلاً»[28]، فهنا تشبّه عروق الجسد بالضاربة، ثمّ أضافت المشبّه(العروق) بالمشبّه به(الضاربة) ﻭﻫﻮ ﻧﻮﻉ ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻪ ﺍﻟﺒﻠﻴﻎ و(ﺗﺸﺒﻴﻪ ﳎﻤﻞ مؤكّد).
كذلك في الدعاء الرابع والعشرين المعروف بدعاء تعقيب صلاة الظهر، حيث تقول:« الهمّ صلِّ على محمّد كما هديتنا به… وصلِّ على محمّد كما شرّفتنا به»[29]، ﻓﻬﻨﺎ ﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻪ ﺍﻟﻤﺠﻤﻞ ﺍلمرﺳﻞ: ﻓﻴﻪ ﺍلمشبّه محذﻭﻑ ﻭﺍلمشبّه ﺑﻪ مصدر ﻣـﺆﻭّﻝ، ولكنّه مقدّر، و(شرّفتنا) يؤوّل بمصدر (تشريف) بسبب (ما المصدريّة)، والمشبّه محذوف، وهو(صلاة)، ويكون تقدير الجملة هكذا(اللهمّ صلِّ على محمّد وآله صلاة كتشريفك إيّانا به).
وكذلك في دعائها السّابع والعشرين المعروف بدعاء يوم الجمعة، حيث تقول:« واغفر لنا مغفرة جزماً حتماً لانقترف بعدها ذنباً ، ولانكتسب خطيئةً ولا إثماً»[30]، ﻭﻫﻨﺎ ﺷبّهت سلام الله عليها طلبها ﻣﻐﻔﺮﺓ الخطايا ﻭالسيّئاتبـ(الأمر المحتوم) كونها واثقة من رحمة ربّها العظيمة، وﻟكي تصل بهذا الأمر المحتوم إﻟﯽ ﺭﺿﻮﺍﻥ ﺍﷲ ﻭﺑﺎﺣﺘﻪ ﺍلآﻣﻨﺔ، ﻭﻫذا ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻪ تشبيه مؤكّد مجمل، ﻭﺍﻟﻐﺮﺽ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﺸﺒﻴﻪ ﻫﻨﺎ ﺑﻴﺎﻥ ﺣﺎﻝ ﻭﺃﻭﺻﺎﻑ ﺍلمشبّه ﻭﻭﺟﻪ ﺍﻟﺸﺒﻪ ﺍﻻﺗﺼﺎﻝ ﻭﺍإﻳﺼﺎﻝ ﻓﻴﻬﻤﺎ ﺃﻣﺎ في ﺃﺣﺪهما ﺣـّﺴﻲ ﻭفي ﺍﻵﺧـﺮﻋﻘﻠٌﻲ .
الاستعارة:
لقد استعملت الزّهراء(عليها السّلام) الاستعارة في أدعيتها، فكلّما كان النصّ حاوياً على استعارة، فلا شكَّ أنّه سيكون أكثر رونقاً وجمالاً وتأثيراً في النفوس، وهذا نجده في أدعية الزهراء(عليها السّلام)، ففي دعائها:« (اللهم لا تؤمنّي مكرك و لا تنسني ذكرك و لا تجعلني مع الغافلين»[31]، وكذلك دعائها:« « يا عالم الغيب والسرائر، يا مطاع ياعليم، يا الله يا الله يا الله ، يا هازم الأحزاب لمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم ، يا كائد فرعون لموسى ، يامنجي عيسى من الظلمة»[32]، فهنا نرى علاوة على الفنّ البديعي الموسوم بـ(الملحق بالجناس)، وهو نوع من أنواع جناس الاشتقاق في لفظتي(مكرك، ذكرك)، فإنّ استعمال لفظة(مكرك) و(كائد) بمعنى الإرادة والتدبير هو مجاز وعلاقته المشابهة، وهو ما أطلقوا عليه (الاستعارة)، فاللفظتان (المكر والكيد) لايستعملان بمعناهما الحقيقي في الله(Y)؛ وذلك لأنّ المكر والكيد يتّصفان بشيء من سوء القصد والنيّة السيّئة عند صاحبها ضدّ الشخص الآخر المضاد، ونحن نعلم أنّ الله سبحانه منزّه عن ذلك، وقد ورد في القرآن الكريم بهذا الاعتبار( التدبير والتنسيق للوصول إلى غاية شريفة)، فقد ورد في الآية الكريمة 76 من سورة يوسف قوله تعالى:﴿ كذلك كِدنا ليوسفَ﴾، أي (دبّرنا ليوسف)، وكذلك ورد في الآية 15 من سورة طه قوله تعالى:﴿إنّ السّاعةَ آتيةٌ آكاد أُخفيها ﴾، أي بمعنى(أريد أن أُخفيها).
لو رجعنا مليّاً إلى معاجم اللغة العربيّة نجد لفظة(الكيد) تعني:« إرادة مضرّة الغير خِفْية»[33]، وهو من الخَلق الحيلة السيّئة، ومن الله(Y) التدبير بالحقِّ بمجازاة أعمال الخَلق…﴿إنّهم يكيدون كيداً وأكيد كيداً﴾.
كذلك ورد في مفردات الأصفهاني في معنى لفظة(كيد) أنّها تعني الإرادة، ففي معنى الكيد في قوله تعالى:﴿ تالله لأكيدنّ أصنامكم﴾ يعني(لأريدنّ)، وكذلك وردت لفظة الكيد ، وتعني الإرادة في قول الشّاعر عمر بن أبي ربيعة، حيث يقول:
كادت وكِدت وتلك خير إرادةٍ لو عاد من لهو الصبابة ما مضى
فهنا نجد الشاعر يُشير إلى الكيد، ويعتبره خيراً، أي أنّ الإرادة والتفكير في تهيئة الوسائل والأسباب للوصول إلى غايةٍ هو أمرٌ حسنٌ مقبول.
إنّ ما ذكرناه في لفظة(الكيد) يصدق أيضاً على لفظة(المكر) كما قال سبحانه عزّ وجلّ في كتابه الكريم:﴿ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين﴾(آل عمران/54)، فنسبة الكيد والمكر هنا إلى الله(Y) هي من نوع (الاستعارة التبعيّة)، وأيضاً هي(تصريحيّة)، وهي باعتبار آخر(استعارة وفاقيّة)، وهي أيضاً (استعارة مطلقة)؛ وذلك لأنّ شيئاً من صفات وملائمات المستعار له(التدبير والإرادة) والمستعار فيه(الكيد والمكر) لم يذكر.
ورد في أدعيتها أيضاً لفظة(اليد) في قولها:« اللّهم ومواعيدك الصادقة وأياديك الفاضلة»، وهنا استعمال(اليد) تعني القدرة، وقد استعملها القرآن الكريم في قوله:﴿ يد الله فوق أيديهم﴾[34]، وهنا تجدر الإشارة إلى ثلاثة أمور:
أولاها: هنا استعارة مكنيّة، لأنّ الله سبحانه شبّه بشيء مثلاً الإنسان لما كان يتصرّف في الأمور ويمارس نشاطه بواسطة يده، فقد حذف المشبّه به(الإنسان)، وذكر شيء من لوازمه يعني(اليد) التي هي من لوازم الإنسان الأصيلة في تصريف شؤون قدرته، للمشبّه (الله)، وفي (أياديك ) الاستعارة التخيليّة، وهي نوع من الاستعارة المكنيّة، والتي تستند مستلزمات المشبّه به إلى المشبّه تخييلاً.
ثمّة التفاتة مهمّة، وهي أنّ تشبيه الله(Y) غير المحسوس بالحواس الخمس بشيء محسوس ليس نوعاً من وصف مشبّه خُفي بمشبّه جلي، بل إنّه تماماً موجّه لجعل فهم وإدراك الله سبحانه من قِبل العقل المحدود للإنسان عن طريق النظر إلى المحسوسات أبسط وأيس؛ لأنّ الإنسان أسرع في تقبّل وإدراك المحسوسات منه للمعقولات، وهذا من باب التسريع والتسهيل في فهم قدرة الله(Y).
ثانيها: إنّ الاستعارة هنا تصريحيّة، وهي تخالف الاستعارة المكنيّة من حيث أنّ قدرة الله(Y) شبّهت باليد التي هي أصلاً آلة ظهور القدرة والتصريف في الأمور، فقد حذف المشبّه (المستعار له)، أي القدرة، وذُكر المشبّه به(المستعار منه)، وهو(اليد)، ولم يذكر شيء من لوازم وملائمات المستعار له والمستعار منه، فهي استعارة مطلقة.
ثالثها: يمكن أن تكون مجازاً مفرداً مرسلاً ، وعلاقته الآليّة، يعني آلة القيام بالفعل قد استعمل هنا بمعنى القدرة ، وتنفيذها مكان الفعل نفسه، وهو هنا – يعني القيام بالفعل- كما هو مستعمل في القرآن الكريم حينما يقول:﴿ واجعل لي لسان صدق﴾(الشعراء/84)، فاللسان آلة الحديث على سبيل المجاز بعلاقته الآليّة.
كذلك يُدعى استعمال كهذا؛ توريةً أو إبهاماً في علم البديع ، لأنّ لكلمة(يد) معنيان: أحدهما قريب، وهو اليد نفسها، وثانيهما بعيد، وهو القدرة، والمقصود هنا معناه البعيد(القدرة)، وثمّة أمر آخر، وهو أنّ العطايا الفاضلة لمّا كانت من لوازم ومناسبات المعنى القريب ، ويعني أنّ العطاء يُعطي اعتياديّاً وبشكله المحسوس بواسطة اليد، وقد قرنت هنا باليد ، فهي تورية ترشيحيّة، أو مرشّحة.
الكناية:
الكناية هو أن تريد المعنى وتعبّر عنه بغير لفظه، وهي أيضا أن تطلق اللفظ وتريد لازم معناه مع قرينة لاتمنع من إرادة المعنى الحقيقي، ويبد أنّ سرّ جمال الكناية يكمن في الإتيان بالمعنى مصحوباً بالدليل عليه في إيجاز وتجسيم ، وكذلك التعبير بواسطتها عن كثير ممّا نتحاشى التصريح به، وأيضاً تضع لنا المعاني فى صورة المحسّات، أو المحسوسة.
لو تابعنا أدعية الزهراء(عليها السّلام) نجد أنّها استخدمت الزهراء الكناية في قولها:« يا أمّ ملدم إن كنتِ آمنتِ بالله العظيم ورسوله الكريم، فلاتهشّمي العظم ، ولاتأكلي اللحم، ولاتشربي الدم، أُخرجي من من حامل كتابي هذا إلى مَن لايؤمن بالله العظيم، ورسوله الكريم …»[35]، فهنا كناية لطيفة عن الحمّى بـ(أمّ ملدم)، وقد وصفت الزهراء(عليها السّلام آثارها، فهي مهشّمة للعظام، وآكلة لّلحوم، وشاربة للدماء.
ويمكن أن تكون استعارة مكنيّة، فقد ذُكر شيء من لوازم الحمّى، وهو التهشيم للعظام.
كذلك قولها:« يا مَن كلّ يوم عنده جديد، وكلّ رزق عنده عتيد، للضعيف والقوي والشديد»[36]، فهنا كناية عن الاستطاعة الإلهيّة في تجديد الإيّام، والقدرة على تنوّع الأرزاق، وتوزيعها للضعيف والقوي والشديد، ويمكن أيضا أن تكون استعارة تصريحيّة،
وهذا من لطائف البلاغة ، حيث يمكن أن تكون كناية أو استعارة أو تشبيها.
المبحث الثالث:جمالية أسلوب الدعاء:
لاشكَّ أنّ أهمية القيم الجماليّة في الدعاء وارتباطها بالأدب العربي، وكذلك بالأخلاق، وتنمية الذوق لدى الإنسان لها دوراً رياديّاً في التجسيد الحي للأدب، وكذلك للمُثل الإنسانيّة، فهي تضيف الأناقة والجمال في الأسلوب، وسمو الذوق في الأخلاق، وهذا ينسحب على الجمال الظاهر والجمال الباطن، ولاشكَّ أنّ الزهراء(عليها السّلام) تدرك ضرورة التعرّف إلى حقيقة الجمال الإلهي في الدعاء وتجلّياته في الكون والنفس, من هنا كانت سيرتها(عليها السّلام) تجسيداً لجمال المظهر وجمال الجوهر ونظافتهما.
إنّ هذه الرؤية الشموليّة للجمال ومظاهره وتجليّاته التي نلمسها في معاني الدعاء لدى السيّدة الزهراء(عليها السّلام) ومضامينه الداخلية، تنسحب على بنيتها الفنيّة الخارجيّة أيضاً، وتحمل رسائل إيحائيّة متعدّدة بتعدّد الداعي، ودرجات تمثلها لتناسق ووحدة الشكل والمعنى، وبذلك يقدّم النصّ الدُّعائي عند الزهراء(عليها السّلام) جماليّته في ضوء انفتـاحه على عالم لا متناهٍ من الدلالات وأشكالها التعبيريّة، القـادرة على احتواء انفعالات الداعي المتباينة، وتوجيه فكره إلى ما فيه صـلاح نفسه واطمئنانها، وبما أنّ الدعاء حركات لفظيّة مباشرة تسعى للانتظام في النفس بما تحمله من دلالات وإيحاءات، فإنّها تظلّ مشـدودة في وظيفتـها إلى الرؤية الـكليّة المتمثّلة في ألفاظ الدعاء وتراكيب جمله وصوره البلاغية، التي تموج بشحنات عاطفيّة عـالية تقوم على الابتهال والاستعطاف، وتعبّر عن الوظيفة النفسيّة والحاجة الاجتماعيّة.
إنّ العلاقة الفنيّة بين أسلوب نصّ الدعاء ودلالاته وأهدافه تشهد بجماليّة السّبك ورونقه، وبلاغته الإعجازيّة التي بمقدار ما تمتع الدّاعي جماليّاً، تحقّق لديه نَشْوة عاطفيّة عالية، وتأمّلاً فكريّاً عريضاً، وهذه نماذج من الأدعية التي وردت على لسان السيّدة الزهراء(عليها السّلام) تكشف عن فاعليّتها في النفس، سواء من خلال إشاعتها للجمال، أو من خلال جماليتها في حد ذاتها، أو جماليّة الأسلوب البلاغي:
1- أدعية الأيّام:
تختصّ أدعية الأيّام بصفات جماليّة وبلاغيّة معجزة متنوّعة في جميع كلماتها، من مثل الجمع والإيجاز والتناسق وغير ذلك مما لا يُعدّ حصره… ونصوص الدعاء لدى الزهراء(عليها السّلام) هي نصوص جاءت على هيأة جملة واحدة قصيرة، تثير ملامح الجمال بتركيبها الجامع الموجز، وغالباً ما تأتي جملاً فعليّة تفيد عدم الثبات والاستقرار، لأنّ الإنسان بطبعه مجبول على الخطأ والنسيان، والانحراف عن الطريق القويم وعدم الثبات عليه، من هنا جاء طلبها في الدعاء دائماً بصيغة فعل الطلب والالتماس، لتنيبه الداعي إلى المزالق والأخطاء التي تحفّ طريقه، فيحاول الرجوع عنها وعدم الوقوع فيها, بتجدّد الدعوة اليوميّة في كل يوم، حيث تقول(عليها السّلام):« اللهمّ افتح لنا خزائن رحمتك، وهب لنا اللهمّ رحمة لا تعذّبنا بعدها في الدنيا والآخرة، وارزقنا من فضلك الواسع رزقاً حلالاً طيباً، ولا تحوجنا ولا تفقرنا إلى أحد سواك، وزدنا لك شكراً، وإليك فقراً وفاقة، وبك عمّن سواك غنىً وتعفّفاً.
اللهمّ وسّع علينا في الدنيا، اللهمّ إنّا نعوذ بك أن تزوي وجهك عنّا في حال ونحن نرغب إليك فيه، اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، وأعطنا ما تحبّ واجعله لنا قوّة فيما تحبّ يا أرحم الراحمين.»[37]، ونستطيع القول: إنّ هذا الدعاء(دعاء يوم السبت) يعبر عن أقصى درجات الإيجاز والاختصار التي يُدلّ بها بالألفاظ القليلة عن المعاني الكثيرة، ويمثل مجموعة كبيرة من الأدعية، فجملة(اللهمّ افتح لنا خزائن رحمتك) من العبارات الموجزة البليغة التي تختصر كلاماً كثيراً في مجالات الرحمة المتعدّدة، وتدل على المبالغة في طلبها، كما تشير إلى صورة جماليّة فيها استعارة تمزج اللفظ بالكثير من المعاني.
إنّ التجانس المختلف في الوزن والتركيب في أدعيّة الأيّام لدى السيّدة الزهراء(عليها السّلام) يضفي على الدعاء أنواعاً من اللطف والجمال تتردّد في النفس في مثل قولها(عليها السّلام) في دعاء يوم الأحد:« اللهم اجعل أول يومي هذا فلاحا واخره نجاحا وأوسطه صلاحا اللهم صل علي محمد وال محمد واجعلنا ممّن أناب إليك فقبلته، وتوكّل عليك فكفيته، وتضرّع إليك فرحمته»[38] ، ففي هذا الدعاء نجد التفاؤل والابتهال والتضرّع, وتنساب عباراته المركّزة انسياباً عميقاً في النّفس:( اللهم اجعل أول يومي هذا فلاحاً وآخره نجاحاً وأوسطه صلاحاً)، فبالإضافة إلى التجانس التام بين العبارات توافقت الفواصل وتوحّدت في حرف الحاء الممتد في الزمن، لاكتساب دلالات الوحدة في اللفظة والعبارة، وتردّدت لتستقرّ في النفس، وتؤثّر فيها.
وكذلك في دعاء يو الأثنين، حيث تقول:« اللهمّ إنّي أسألك قوّة في عبادتك، وتبصراً في كتابك، وفهماً في حكمك، اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، ولا تجعل القرآن بنا ماحلاً، والصراط زائلاً، ومحمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلم) عنّا مولياً»[39]، فهنا مجال واسع من مجالات الطلب فِي الدِّين والدنيا فيه من الفوائد الكثيرة والصور البديعة ما يجعله يصل إلى النّفس، ويمنحها الأمن والاطمئنان، ويحمل هذا الدعاء في طيّاته على المجاز والاستعارة، ويقدّم صوراً جماليّة تتمـكن من النّفس وتتغلغل فيها، لما يشعّه من مقاصد دلاليّة عميقة الإبلاغ والتأثير والإثارة،
ولا يخفى ما في هذا الدعاء من تجانس تام بين حسنة الدنيا وحسنة الآخرة، ومن مطابقة وتقابل بين الدنيا والآخرة تترك في نفس الداعي أثراً بليغاً، وتثير لديه حافزاً لبلوغ دلالات ومقاصد هذه الحسنة، خصوصاً في طلب الابتعاد عن الخصومة والجدال يوم القيامة(ولا تجعل القرآن بنا ماحلاً)، أي خصماً مجادلاً .
لايمكن لنا ذكر جميع أدعيّة الأيّام لضيق المقام، ولكن لابدّ من الإشارة إلى أنّها أدعية تجمع بين عمق المعاني وجلالها ورونق بيانها ودقته وبين انتظام ألفاظها وأصواتها وتناسقها الدالة على المعاني الواسعة والمتنوعة، من أبرزِ المظاهر البلاغيّة التي تحقِّقُ الوضوح والقوة والجمال في أسلوب الدعاء لدى السيّدة الزهراء(عليها السّلام) هو الدقّة في اختيارها الألفاظ، وهو من مظاهرِ الوضوح، وكذلك أساليب العدول أو الخروج عن الأصل؛ كالتقديم والتأخير، والإيجاز والحذف، والالتفات والتصوير، وهي مِن مظاهر القوّةِ والجمال في أدعية الزهراء (عليها السّلام).
لقد اختلفت تراكيب الدعاء التي استعملت في أدعية الزهراء(عليها السّلام)، فاشتملت على صيغ مختلفة، منها:
صيغة الخبر.
استعمال الجمل الفعليّة والجمل الإسميّة.
الفعل الماضي المسبوق بـ(لا) النافية، أو الفعل المضارع المسبوق بـ(لا) النافية.
صيغة فعل الأمر الخارج إلى الدعاء مجازاً.
صيغة النهي الخارجة إلى الدعاء مجازاً.
أسلوب النداء المتمخّض للدعاء.
صيغة المصدر.
صيغة الجملة الاعتراضيّة.
معاني الدعاء المضمّنة في الكلام عبر دلالات تراكيب ألفاظها مجتمعة.
وفي سياق الكلام لا ينفرد الدعاء باستعمال صيغة من دون صيغة أخرى، أو تتّحد الصيغ، وإنّما نجد الصيغ تتداخل فيما بينها، والجمل تترابط في نصوصها، لتشكّل نسقاً مترابطاً في نصّ واحد.
ومن صيغ الدعاء التي استعملتها الزهراء(عليها السّلام) الدعاء بصيغة الجملة الخبريّة التي فعلها ماض أو مضارع، من ذلك قولها:« يا أكرم الأكرمين ومنتهى أمنية السائلين، أنت مولاي، فتحت لي باب الدعاء والإنابة، فلا تغلق عنّي باب القبول والإجابة، ونجّني برحمتك من النار، وبوّئني غرفات الجنان، واجعلني متمسّكاً بالعروة الوثقى، واختم لي بالسعادة»[40]، فقد جاء الدعاء بصيغة الجملة الخبريّة التي فعلها ماض (فتحت لي…)، جاعلة الدعاء شاملاً للطرفين: القائل أوّلاً، والمتلقّي ثانياً؛ لأنّ السيّدة الزهراء(عليها السّلام) هي القدوة للآخرين فقدّمت الدعاء لنفسها على الدعاء للآخرين لهذه العلّة، وقد جاء مقدّم الدعاء ممهّداً ومشوّقاً لما ختمت به (عليها السّلام) الكلام، فالصورة المشرقة التي طبعت تصويره للآخرة من أنّها مجموعة من المناظر المشرقة التي قد يتصوّرها العقل الصافي إنّما هي صورة قد توهم السامع أنّه (عليها السّلام) ي\تتحدّث عن الدنيا لا الآخرة، ولكنّ الأمر يزول من خلال النظر إلى يقين القلب وصدقه، فإذا ما تحقّق هذا الأمر تحقّقت الرؤيّة وتحقّق الشوق إلى هذه المنازل، فجاء الدعاء خاتماً لهذه الصورة من خلال الجمع بين شخص الزهراء(عليها السّلام) وشخص المتكلّمين، فضلاً عن ّأن الدعاء بصيغة الفعل الماضي ممّا يبعث على التفاؤل بتحقّق الدعاء وكأنّ التوفيق الالهيّ قد تمّ.
إلى جانب هذه الصيغة نجد أنّ استعمال صيغة النداء (اللهمّ) في الدعاء كثيرة أدعية الزهراء(عليها السّلام)، وهذه الصيغة إذا اقترنت بالدعاء أفادت الشكوى إلى الله سبحانه، مثال ذلك قولها: «اللهم انزع العجب والرياء، والكبر والبغي، والحسد والضعف والشكّ والوهن والضرّ والأسقام، والخذلان والمكر والخديعة والبليّة والفساد، من سمعي وبصري وجميع جوارحي، وخذ بناصيتي إلى ما تحبّ وترضى، يا أرحم الراحمين»[41]،
فقد استفتحت الزهراء(عايها السّلام) الدعاء بأسلوب النداء في (اللهمّ)، وهو أسلوب متعارف عند العرب الفصحاء، ثمّ استعملت صيغة فعل الأمر الخارج مجازاً إلى الدعاء في (انزع، خذ)، وتبدو جماليّة هذا الدعاء في تعميمه له على الطرفين، فهو دعاء لها وللآخرين معاً.
وقد تقترن صيغة النداء بـ (اللهمّ) بشكل من أشكال الطلب الأخرى كالأمر والنهي فيفيد التوسّل بالله سبحانه وتعالى في هذه الحالة، مثل قولها(عليها السّلام):«…اللهمّ فاغفر لي فإنّك بي عالم، ولاتعذبني، فإنّك قادر… واغفر… برحمتك ياأرحم الراحمين»[42] ، فقد جاء الدعاء بصيغة فعل الامر (فاغفر) لأنّ المغفرة من الصفات الذاتيّة لله عزّ وجلّ لم يشاركه فيها أحد، ومن ثمّ لا يحمل الأمر هنا على الحقيقة بل يحمل على المجاز، فكان التوسّل مخصوصاً بالله سبحانه من دون أن تتضمّن الصيغة الدعاء على أحد، فضلاً عن أنّ أسلوب التكرار للصيغة منحها بعداً دلاليّاً أسهم في توكيد الرغبة في تحقّق الدعاء وتحقّق الإجابة.
النتائج:
إنّ اهمَّ ما توصّل إليه البحث من النتائج والأساليب البلاغيّة المتنوّعة في النتاج الأدبي في أدعية السيّدة الزهراء عليها السّلام:
1-أن مقامَ الدعاء من أصدقِ المقامات الخطابية، وأبعدِها عن التكلُّف وبهرجة القول.
2- غزارة مادة (غفر)، وثراء دلالاتها، وانفراد أدعية الزهراء(عليها السّلام) بمعانٍ لم ترِدْ في كلام غيرها.
3- دعاء الزهراء(عليها السّلام) شاملٌ لكلّ الأدعية في الكتاب والسنَّة.
4- أن ترتيب الجُمَل في أدعية الزهراء(عليها السّلام) جاء موافقًا للترتيب الخارجي للأحداث، وقد يخالفُ مراعاةً لأمور يقتضيها السياقُ.
5- الكشف عن أهميّة اللفظة والعبارة في إلقاء المعنى بالنظر الى المادّة والصياغة، وكذلك أهميّة الدراسة الجماليّة وأثرها في المتلقّي، فالتكرار في النصوص النثريّة أظهر رونقاً جميلاً للأدب العربي، فضلاً عن الإيقاع النفسي والاجتماعي فيه.
6- الكشف عن المستويات البلاغيّة لما تحوي الأدعية من جماليّات عالية، وخصوصا في استعمال السجع ، والجناس ، فضلاً عن استعمال المستوى الصوتي في توظيف الحروف الانفجاريّة والمجهورة .
7- استخدمت السيّدة الزهراء أسلوباً جميلاً للتكلّم في نماذج عديدة حوت على مضامين بلاغيّة عديدة، منها حسن الابتداء والختام.
8-استخدمت المحسنات اللفظيّة والمعنويّة على سواءٍ وعدم الإشارة إلى أمثلة أخرى لا يدلُّ على وجود عدمها في كلامها.
9- غلبت على أدعيتها الجاذبيّة في الكلام، فقد نسجت كلام كلماتها نسجاً لطيفاً، وإيقاعاً يقرع الأسماع كي توصل مرادها ومبتغاها.
الهوامش:
[1] – جامعة طهران برديس فارابي، كليّة الإلهيّات: naserghasemi@ut.ac.ir
[2] – جامعة طهران برديس فارابي، كليّة الإلهيّات:emranipour@ut.ac.ir
[3] -جامـــعة طهران، برديس فارابي، كليّة الإلهيّات: Ammaralzwainy7@gmail.com
[1] – الأبطحي، محمد باقر،الصحيفة الفاطميّة الجامعة،ط3،أنصار المهدي، قم،إيران،1427ه،ص34.
[2] – إبراهيم،علي نجيب، جماليات اللفظة بين السياق ونظرية النظم،ط1،دار كنعان،دمشق،سوريا،2002م،ص22.
[3] – الأبطحي، الصحيفة الفاطميّة الجامعة، مصدر سابق،ص28.
[4]-البستاني،محمود،تاريخ الأدب العربي في ضوء المنهج الإسلامي،ط1،مجمع البحوث الإسلامية،مشهد،إيران،1413هـ، 352.
[5] – الأبطحي، الصحيفة الفاطميّة الجامعة،مصدر سابق،ص70.
[6] – المصدر نفسه،ص61.
[7]– ابن منظور، محمد بن مكرم، لسان العرب ، تحقيق يوسف البقاعي وإبراهيم شمس الدين ونضال علي، ط1، مؤسسة الاعلمي، بيروت، لبنان ،1985م،ج5ص135.
[8]-الشاطبي، إبراهيم،(ت 790هـ)، الموافقات،ط1،دار ابن عفّان،القاهرة،مصر،1417ه،ج4ص 202.
[9] – المصدر نفسه،ص47.
[10] – البستاني،محمود، الإسلام والفن،ط1،مجمع البحوث الإسلامية للدراسات والنشر ،بيروت ،لبنان ،1413هـ،ص 174.
[11] – الأبطحي، الصحيفة الفاطميّة الجامعة،مصدر سابق،ص17.
[12] – المصدر نفسه،ص43.
[13] – المصدر نفسة،ص 45.
[14] – المصدر نفسه،ص57.
[15] – الآصفي،محمد مهدي،الدعاء عند أهل البيت،ط4،منشورات جامعة المصطفى العالميّة،قم،إيران ،1429ه،ص98.
[16] – الأبطحي، الصحيفة الفاطميّة الجامعة،مصدر سابق ،ص59.
[17] – المصدر نفسه،ص54.
[18] – المصدر نفسه:35.
[19] – البستاني، الإسلام والفن،مصدر سابق،ص175.
[20] – الأبطحي، الصحيفة الفاطميّة الجامعة،مصدر سابق،ص30.
[21] – المصدر نفسه،ص51.
[22] -المصدر نفسه،ص32.
[24] – المصدر نفسه،ص51.
[25] – المصدر نفسه،ص68.
[26] – المصدر نفسه،ص71.
[27] – المصدر نفسه،ص21.
[28] – المصدر نفسه،ص34.
[29] – المصدر نفسه، ص 52.
[30] – المصدر نفسه،ص45.
[31] – المصدر نفسه،ص34.
[32] – المصدر نفسه،ص55.
[33] – مجمع اللغة العربيّة،المعجم الوسيط، مادّة كاد.
[34] -الأبطحي، الصحيفة الفاطميّة الجامعة،مصدر سابق،ص33.
[35] – المصدر نفسه،ص67.
[36] – المصدر نفسه،ص60.
[37] – المصدر نفسه،ص47.
[38] – المصدر نفسه،43.
[39] – المصدر نفسه،ص44.
[40] – المصدر نفسه،ص53.
[41] – المصدر نفسه،ص55.
[42] – المصدر نفسه،ص57.
المصادر:
القرآن الكريم.
The literary output of Mrs. Zahra (the supplication of a model … aesthetic study)
Dr. Nasser Qasimi
Ammar Al-Zwaini Al-Husseini
Summary:
There is no doubt that Adayat Al-Zahraa (peace be upon her) is a literary culture full of knowledge, a high series of wisdom and eloquence, unique features in Sufism, and a wide range of preaching and etiquette. During the call to open up to the literary issues, and moving towards the aesthetic studies that the author aspires, so it became an intellectual heritage, and literary output from the people of grammar, language and rhetoric.
Al-Zahraa (peace be upon him) contains an aesthetic study of great appeal to the two dimensions: linguistic (phonetic) and semantic. It included the aesthetics of the word and phrase in both the vocal and semantic levels for their importance in the aesthetic study. As well as aesthetic style, Zahra (peace be upon her) used beauty in the word and image and style without the cost and make wonderful words full of meanings, inspired by the wording of the words of the rhetoric of the Koran.
One of the findings of the article is: attention to the role of letters and their implications in supplications, and the use of artistic images, as well as semantic methods of repetition and the carpet and rhythm and good beginning and closing in the words of Latifa made a literary source.
Opening words: supplications, aesthetic, Zahra (peace be upon them).