مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
في معاني الاسم الشريف « فاطمة »
+ = -

أرى لزاما على أن أحرر في هذه الخصيصة معنى الاسم المبارك « فاطمة » وعلة التسمية ، وستنكشف بذلك علوم ومطالب عالية ، والأفضل أن أبدأ بمقدمة فأقول : فاطمة مشتق من فطم ، قال صاحب مجمع البحرين : الفطيم ككريم هو الذي انتهت مدة رضاعه ، يقال : فطمت الرضيع فصلته عن الرضاع ، ويجمع الفطيم على فطم – بضمتين – وهو قليل الاستعمال في العربية .

قال البوصيري :
والنفس كالطفل إن تهمله شب على * حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) : « ستحرصون على الإمارة ثم تكون حسرة وندامة ، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة » أي المفطومة .
وقال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) أيضا : « خير أمتي من هدم شبابه في طاعة الله وفطم لذاته عن لذات الدنيا » .
وقد اقتبس البوصيري هذا المعنى من الحديث الشريف ونظمه في شعره المذكور .
قال الفيروزآبادي في القاموس : « أفطم السخلة : حان أن تفطم ، فإذا فطمت فهي فاطم ومفطومة وفطيم ، قال العرب : فطمت الأم صبيها أي قطعته عن اللبن وتم رضاعه ، وفطم يأتي لازما ومتعدي فالفطم والفطام : القطع ، وغالبا ما استعملت في أخبار الأئمة الأطهار وآثارهم بمعنى الانقطاع عن الدنيا ولذاتها .
وفي تفسير العسكري في معنى « فاطمة » : قال إن الله سبحانه سمى نفسه الفاطم ، يعني الفاطم أولياءه عن أعدائه في دخول الجنة والنار .
وفي حديث العلل : لما سأل الأعرابي الحسنين (علیهما السلام) وعبد الله وتحير الأعرابي من جودهما وعلو همتهما قال له عثمان : ومن لك بمثل هؤلاء الفتية ؟ أولئك فطموا العلم فطما وحازوا الخير والحكمة .
قال الصدوق (رحمه الله) : فطموا العلم أي قطعوه عن غيرهم قطعا ، وجمعوا لأنفسهم جمعا .
ولما كان اعتمادي في كتب اللغة على الصحاح والقاموس ، فسأنقل عبارة القاموس وفيها ما سبق وزيادة ، قال : فطمه يفطمه : قطعه ، والصبي فصله عن الرضاعة ، مفطوم وفطيم جمع ككتب والاسم ككتاب ، وناقة فاطم بلغ حوارها سنة ، وأفطم السخلة حان أن تفطم ، فإذا فطمت فهي فاطم ، ومفطومة ، وفطيمة ، وفاطمة عشرون صحابية ، والفواطم التي في الحديث : سيدة النساء فاطمة الزهراء وبنت أسد أم علي بن أبي طالب (علیه السلام) ، وبنت حمزة عم النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ، والثالثة بنت عتبة بنت ربيعة ، ولعل المراد بالثالثة غير فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) وفيه نظر ، والفواطم اللاتي ولدن النبي : قرشية وقيسيتان وخزاعية وأزدية . انتهى ملخصا .
قال صاحب جنات الخلود : عدد الحرفين الأخرين من اسم فاطمة يساوي خمسة وأربعين ونصف الحروف الثلاثة الأول أيضا تساوي خمسة وأربعين ، وفي عدد النصف أثر ثابت كما أن في جمعه أثرا مقررا .
أقول : في عدد الحروف الثلاثة الأولى ( فاء ألف وطاء ) أيضا أثر خاص ، بل إن بعض أهل الخلوص والرياضة يواظبون مواظبة خاصة على العدد 45 و 90 و 135 في توسلاتهم بفاطمة الطاهرة (سلام الله علیها) ، وقد أثبتت لهم التجربة حصول المقصود .
ومنهم من قنع في الأدعية والصلوات المنسوبة للمحجوبة الكبرى بعدد حرف الطاء ، وهو تسعة – الواقع في وسط الاسم الشريف ، بل سمعت من بعض المرتاضين المخلصين من ذوي المحبة الشديدة أنهم يقسمون على الله بفقر فاطمة وآلها وطهارتها ومحبتها وهدايتها ، ويلحون بإصرار بهذه الحروف الخمسة مع التركيز لاستحضار ملكات السيدة وكمالاتها .
يوصي هذا الحقير – بدوره – بالمواظبة قدر الإمكان على الأعداد المذكور في الشدائد والبلايا ، على أمل أن أكتب – فيما بعد – مفصلا كل ما تعلمته وعملت به وجربته ورأيت فائدته وأثره في باب التوسل بفاطمة (سلام الله علیها) إن شاء الله تعالى .
عشرة وجوه في معنى فاطمة وسأذكر – عجالة – في هذا المقام عشرة وجوه لمعنى اسم « فاطمة » مما اتخذته من الأخبار المروية من كتب الخاصة والعامة .
الوجه الأول روى العلامة المجلسي (رحمه الله) في بحار الأنوار عن الصادق (علیه السلام) ، قال : « سميت فاطمة لانقطاعها عن نساء زمانها فضلا ودينا وحسبا وقيل : لانقطاعها عن الدنيا إلى الله » .
وقد اتضح من هذا البيان أن الفخر بالنسب ليس فيه كثير فائدة للإنسان ، وإن الذي ينفعه حقا هو الفضل في الدين والشرف في الحسب وعلى ذلك كثير من الشواهد العقلية والنقلية .
منها : ومن قصر به علمه لم ينفعه حسبه .
وأيضا : لا حسب أبلغ من الأدب .
وايضا : حسب المرء دينه .
وأيضا : المؤمن يتبع على حسب دينه .
وقال النبي لقريش : ستأتون غدا يوم القيامة بأحسابكم لا بأنسابكم .
ونعم ما قيل : شرف المرء بالعلم والأدب لا بالأصل والنسب . نعم ، إذا اجتمعت الأصالة والنبالة في الأنساب مع الشرف والفخامة في الأحساب ، فهو شرف على شرف وفضيلة على فضيلة .
والمهم في الحديث التأكيد على دين فاطمة (سلام الله علیها) الذي كان في غاية الكمال وحسبها وفضلها في الحسب ثابت لا كلام فيه ، ومعنى الحديث أن فاطمة لا تقاس بسواها من النساء في الفضل والدين والحسب ، ولها فضل وشرف على الجميع كافة ، كما أن قوله (صلی الله علیه وآله وسلم) « إنها ليست كالآدميين » فيه دلالة على عموم الأفضلية .
الوجه الثاني روى في البحار – أيضا – قال : « سميت فاطمة لانقطاعها عن الفواطم التسعة » لأنهن ولدن في الكفر ، وولدت فاطمة في الإسلام ، ولها بذلك الفخر .
وهذا الخبر خاص بتفضيلها على الفواطم التسع ، بينما كان الخبر السابق عاما يشمل نساء زمانها أيضا ، وسيأتي في حديث معتبر أن أربعة كن سيدات عالمهن وأفضلهن عالما فاطمة بنت محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) .
الوجه الثالث روى الصدوق طاب ثراه في علل الشرائع عن الباقر (علیه السلام) مسندا ، قال : لما ولدت فاطمة (سلام الله علیها) أوحى الله عز وجل إلى ملك فانطلق به لسان محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) فسماها فاطمة ، ثم قال : إني فطمتك بالعلم وفطمتك عن الطمث .
ثم قال أبو جعفر (علیه السلام) : والله لقد فطمها الله تبارك وتعالى بالعلم وعن الطمث بالميثاق .
وإذا تأملت الحديث وجدت فيه مطالب أربعة : الأول : إن الملك أجرى اسم فاطمة على لسان النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) .
الثاني : كان فطام فاطمة بالعلم .
الثالث : إنها فطمت عن الطمث .
الرابع : يمين الإمام (علیه السلام) والميثاق يؤكدان وقوع ما أخبر به النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) .
أما المطلب الأول فقد تعرضنا له في الخصيصة السابقة .
وأما المطلب الثاني : فيدل صراحة على علم فاطمة ، والأفضل أن ننقل كلام المرحوم المجلسي في ذيل هذا الحديث ، قال : فطمتك بالعلم أي أرضعتك بالعلم حتى استغنيت ، وفطمت أو قطعتك عن الجهل بسبب العلم ، أو جعلت فطامك من اللبن مقرونا بالعلم ، كناية عن كونها في بدو فطرتها عالمة بالعلوم الربانية ، وعلى التقادير كان الفاعل بمعنى المفعول كالدافق بمعنى المدفوق ، أو يقرء على بناء التفعيل ، أي جعلتك قاطعة الناس من الجهل ، أو المعنى : لما فطمها من الجهل فهي تفطم الناس منه ، والوجهان الأخيران يشكل إجراؤهما في قوله : فطمتك عن الطمث إلا بتكلف ، بأن يجعل الطمث كناية عن الأخلاق والأفعال الذميمة ، أو يقال على الثالث : لما فطمتك عن الأدناس الروحانية والجسمانية فأنت تفطم الناس عن الأدناس المعنوية ، انتهى كلامه (رحمه الله) .
بعد التشبث بذيل عنايات المرحوم المجلسي طاب ثراه فإن لي وجها آخر قد يكون وجيها في نظر أهل الخبر .
أولا : إن قوله « فسماها » و « ثم » متفرع على نزول الملك وإجراء اسم فاطمة على لسان النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ، فسماها (صلی الله علیه وآله وسلم) على حسب ما جرى من الملك على لسانه ، ومن ثم قال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) « فطمتك بالعلم » أي بالعلم الأزلي الإلهي ، أو بعلمي السابق فطمتك عن سائر النساء بهذا الاسم ، يعني إني أعلم أنك فاطمة وأنك قطعت عن سائر النساء في كل شئ ، ولكني تريثت أنتظر الوحي لئلا يكون قد حصل بداء ; لأن هذا الملك قد أجرى الاسم على لسان النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) بالعلم القديم ، فالتفت وقال : إنك أنت فاطمة المقطوعة والمصطفاة على الفواطم التسعة ونساء عالمك بل نساء الأولين والآخرين ، وكان هذا في علمي فطمتك بما كنت أعلم .
ويفهم من عبارة « فطمتك عن الطمث » وتذييل الإمام بـ‍ « الميثاق » ، أن العهد والميثاق كان من اليوم الأول على طهارتك من كل الأدناس والأرجاس الظاهرة والباطنة .
وقوله : « بالعلم » قد يكون متعلقا بالعلم الإلهي أو بالعلم النبوي ، ولا مشاحة لإمكان الجمع بينهما .
ولا يمكن أن يكون النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) فاطم الطمث ولا فاطم فاطمة عن الفواطم وعن النساء ، بل كلاهما راجعان إلى الله تبارك وتعالى وهو الفاطر والفاطم ، وفاطمة الطاهرة (سلام الله علیها) هي المفطومة عن نساء العالمين وعن الطمث خاصة .
وذكر الطمث بعد الفطم عن النساء ذكر الخاص بعد العام ، فالفطام عن الطمث خاص والفطام بالعلم عن النساء عام ، والفطام عن الطمث أحد أفراد العام ، والعلم أحد أفراد العام ، وبعبارة أخرى فطمت فاطمة بالعلم الإلهي في جميع الكمالات خصوصا العلم ، وكان في علم الله أن فاطمة عالمة وجامعة لكل الكمالات الممدوحة ، وقد جعلها الله كذلك منذ يوم « ألست » يوم العهد والميثاق ; لتأتي منزهة عن كل الخبائث الظاهرية والباطنية ، ولما كانت عقوبة الطمث في النساء لها خصوصية اهتم بذكر رفعها والنص عليها ، وهذا المعنى يدل على علم فاطمة بالصفات الأخرى أيضا .
وقوله : « بالعلم » و « بالميثاق » إشارة إلى عدم الجهل وإلى الطهارة الأصلية لفاطمة الزكية .
وقوله : « بالميثاق » مفسر ومبين لقوله « بالعلم » ، وقد ذكره الإمام الباقر (علیه السلام) في كلامه توضيحا وتفسيرا .
والباء في « بالعلم » و « بالميثاق » سببية ومتعلقها « اسم فاطمة » ، وطريق الإنفطام معلوم وفيه قرينة مفيدة . ففاطمة موسومة « بفاطمة » بالعلم القديم والميثاق المأخوذ ، ويشهد لذلك الأمر الذي حمله ذلك الملك العظيم ويؤيده ويؤكده قوله « بالميثاق » ; فقوله « بالعلم » لا يرجع – ولو بالكناية –
إلى علم فاطمة ، بل يرجع إلى علم الله ورسوله ، وهذا النوع من التعبير كثير في الآيات وكلمات الأئمة الطاهرين مع ملاحظة الإختصار والإيجاز في كلامهم (علیهم السلام) ، فتأمل .
لطيفة ظريفة خطرت في بالي لطيفة طريفة في المقام : قيل في حديث « لا رضاع بعد فطام » أن الطفل إذا رضع اللبن من الغير بعد الفطام وإتمام الرضاع ، فرضاعه هذا لا ينشر الحرمة ، فيقال في هذا المقام إذا كانت فاطمة قد فطمت عن الجهل منذ بدو الخلقة ومنذ يوم « ألست » فهي لا تحتاج إلى استرضاع ، بل جاءت إلى هذا العالم وهي في غاية الإستغناء ، وما قاله عنها كان بيانا للواقع ليس إلا ، ومقارنة التسمية مع الولادة دليل على أن « لا رضاع بعد فطام » .
الوجه الرابع روى في البحار عن الصادق (علیه السلام) : تدري أي شئ تفسير فاطمة ؟ قال : فطمت من الشر .
ويقال : إنما سميت فاطمة لأنها فطمت عن الطمث .
وفي الأمالي والعلل عن عبد العظيم الحسني (علیه السلام) قال : حدثني الحسن بن عبد الله بن يونس بن ظبيان قال : قال أبو عبد الله (علیه السلام) : لفاطمة (سلام الله علیها) تسعة أسماء عند الله عز وجل – وذكر الأسماء – ثم قال : أتدري أي شئ تفسير فاطمة (سلام الله علیها) ؟ قلت : أخبرني يا سيدي .
قال : فطمت من الشر . . » .
فإذا قلنا : إن الفعل هنا لازم ، فيكون المعنى أن فاطمة (سلام الله علیها) هي التي فطمت نفسها من الشر وتباعدت عنه .
اختيار للخيار : مختصر في معنى الخير والشر إن غرضي الأساسي هو إظهار وإثبات فضل المخدرة الكبرى ما استطعت إلى ذلك سبيلا ، وقد بلغ بنا الكلام إلى فطام فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) عن الشرور ، لذا أحببت أن أطلع القراء عما يدور في خلدي حول معنى الخير والشر ، فأقول بإيجاز : إن إجراء الخير والشر منحصر في يد القدرة الإلهية ، بل إن الله تبارك وتعالى هو خالق الخير والشر كما في رواية الكافي عن معاوية بن وهب عن الصادق (علیه السلام) : إن مما أوحى الله إلى موسى (علیه السلام) . . . : « إني أنا الله خلقت الخلق وخلقت الخير وأجريته على يدي من أحب ، فطوبى لمن أجريته على يديه ، وأنا الله لا إله إلا أنا خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدي من أريده ، فويل لمن أجريته على يديه » .
قال بعض المحققين : إن هذا الحديث يعارض قوله « والخير في يديك والشر ليس إليك » ، فلا بد أن يقال : إن معنى الخير والشر مقدر بالتقديرات الإلهية ، أو أن الخير والشر هي الجنة والنار والمراد من إجراء الخير والشر إقبال التوفيق وإدباره المستتبع للغفران والخسران .
وقالوا أيضا : إن الخير ذاتي والشر عرضي ، وتركيب العالم قائم على الخير والشر حسب ما تقتضيه الحكمة ، فكل قهر تقابله رحمة ، وكل شر يقابله خير ، إلا أن مراتب الخير والشر متفاوتة ، فخلق النار – إذن – خير وشرها نادر ، ولأن في خلقها مصالح وحكم ، وأما شرها فلا ينسب إلى الحق جل وعلا ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) .
وعلى أي حال فالأشياء لا تخرج عن أحد الأمور الخمسة التالية : إما أن يكون الشئ خيرا محضا ، أو يكون شرا محضا ، أو يكون الخير والشر معا بالتساوي ولكن الخير غالب ، أو يكون الشر غالبا أو يكونان متساويين .
أما القسم الأول : أي يكون الشئ خيرا محضا ، فمثل عالم الروحانيات التي لم يلحظ فيها الشر أصلا ، ومنه الأنبياء والأولياء ومنهم الصديقة الكبرى والعصمة العظمى ، فهي مبرأة وعارية بالحقيقة من الشرور والمفاسد منذ اليوم الأول ; لأن الله خلقها خيرا محضا وصلاحا صرفا ، فليس للشر والفساد إليها سبيلا ، ولهذا فالأفضل أن تستعمل لها صيغة البناء للمجهول فيقال « فطمت عن الشر » ، أي أنها قطعت عن كل شر وفساد ظاهرا وباطنا ، وكانت تلك المخدرة منبع الخيرات ومصدر البركات ، ولم يكن في وجودها المبارك شئ من الشرور والمعاصي والملكات الذميمة ، ولا يتصور ذلك في حقها ، بل لا يتصور احتمال ارتكاب المخالفة في حقها ، وكانت كذلك منذ الأزل لمقتضى الصلاح والحكمة.
أما إذا قيل فطمت بالبناء للمعلوم ، فيعني أن فاطمة (سلام الله علیها) هي التي أبعدت نفسها عن الشرور ، وهذا الإبتعاد يحتاج إلى تأييد من الله جل وعلا .
قال العلامة المجلسي (رحمه الله) : ويمكن أن يقال : إنها فطمت نفسها وشيعتها من النار وعن الشرور ، وفطمت نفسها عن الطمث ، ولكون السبب في ذلك ما علم الله من محاسن أخلاقها ومكارم خصالها فالإسناد مجازي » .
الوجه الخامس عن البحار ، قال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) : « سميت فاطمة فاطمة لفطمها عن الدنيا ولذاتها وشهوتها » ، فلما نزل الملك وأجرى اسمها على لسان النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ، كانت فاطمة عازفة عن الدنيا ، معرضة عما سوى الله ، موجهة قلبها من المهد إلى اللحد نحو الآخرة ونحو الله ; لأن حب الدنيا قطع عنها قطعا واستغرقت في محبة الحق تعالى ، ولهذا عاشت في هذه الدنيا فترة قصيرة وكابدت فيها المصائب مكابدة وهي في غاية القدرة وكمال الكرامة ، ومن قرأ كتاب « زهد فاطمة » علم أنها « ليست كالآدميين » .
تكون التسمية بيان لما ستأول إليها (سلام الله علیها) كما قاله المجلسي طاب ثراه إن شاء الله تعالى .
الوجه السادس في كتاب علل الشرائع ، عن عبد الله المحض بن الحسن المثنى عن أبي الحسن السجاد (علیه السلام) قال : قال لي أبو الحسن (علیه السلام) : لم سميت فاطمة فاطمة ؟ قلت : فرقا بينه وبين الأسماء .
قال : « إن ذلك لمن الأسماء ، ولكن الاسم الذي سميت به إن الله تبارك وتعالى علم ما كان قبل كونه ، فعلم أن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) يتزوج في الأحياء وأنهم يطمعون في وراثة هذا الأمر فيهم من قبله ، فلما ولدت فاطمة سماها الله تبارك وتعالى فاطمة لما أخرج منها وجعل في ولدها فقطعهم عما طمعوا ، فبهذا سميت فاطمة لأنها فطمت طمعهم ، ومعنى فطمت : قطعت » .
قال العلامة المجلسي في ذيل هذا الخبر : « قوله « فرقا بينه وبين الأسماء » لعله توهم ( أي عبد الله المحض ) أن هذا الاسم مما لم يسبقها إليه أحد ، فلذا سميت به لئلا يشاركها فيه امرأة ممن مضى ، فأجاب (علیه السلام) بأنه كان من الأسماء التي كان يسمون بها قبل .
وقوله « إن الله » أي « لأن الله » .
قد يقال : إنه قال « فلما ولدت فاطمة سماها الله تعالى فاطمة » أي إن الله هو الذي سماها بهذا الاسم ، ثم قال « لما أخرج منها جعل في ولدها فقطعهم عما طمعوا » أي إن الله هو الذي جعل الوراثة والخلافة في ولدها ، وهو الذي قطع طمع الناس فهو الفاعل والجاعل تماما ; وقوله « فقطعهم » يفيد أن الله هو القاطع والفاطم ، وهو يعارض قوله « لأنها فطمت » أي أن فاطمة هي فاطمة .
والجواب : إن الجمع بين الفقرتين من قبيل الجمع بين الآيات الكريمة في قوله تعالى : ( الله يتوفى الأنس ) و ( يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ) و ( تتوفاهم الملائكة ) .
فالآية الأول صريحة في أن القابض للأرواح هو الله جل شأنه ، وفي الثانية : ملك الموت ، وفي الثالثة : الملائكة .
ومثله إذا قطع السكين شيئا فهو منسوب إلى السكين وإلى اليد وإلى الروح معا ، لكن الأصل هو الروح والقطع حاصل ظاهرا من اليد بواسطة السكين.
فالله سبحانه اختار فاطمة منذ الأزل بإرادته الحتمية وسماها بهذا الاسم وجعل الوراثة والخلافة في أولادها وقطع طمع الآخرين بفاطمة ، فلما ولدت فاطمة الطاهرة آيس الآخرين بوجودها الشخصي وقطع طمعهم .
وبعبارة أخرى : إن وجودها قطع الطمع لوجود تلك المقدمات جميعا ، ولكنه كان بإرادة الله وجعله .
ونظير قوله (صلی الله علیه وآله وسلم) : فطمتك بالعلم ، وفطمتك عن الطمث ، وفطمتك عن الشر ، فعلى كل التقدير يكون الفاعل هو الله العلام لا سيد الأنام (صلی الله علیه وآله وسلم) ، أي لأن الله العالم أراد ذلك فأنا – أيضا – أردته ، وإني فطمتها كما فطمها الله عن الجهل وعن الطمث .
الوجه السابع في البحار معنعنا عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) قال : « من عرفها حق معرفتها أدرك ليلة القدر ، وإنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن كنه معرفتها » .
وفي حديث آخر قال : إنما سميت فاطمة لأن أعدائها فطموا عن حبها .
وفي الحديث وجه آخر سيأتي بيانه ضمن بيان تأويل ليلة القدر بفاطمة الزهراء (سلام الله علیها)
تعريف لطيف يظهر من الحديث الأول أمران : الأول : إن معرفة فاطمة حق المعرفة يعني إدراك ليلة القدر .
الثاني : انقطاع الناس عن حقيقة معرفتها .
فالأول تعليق ، والثاني إخبار عن المحال لاستحالة معرفة فاطمة . ويستفاد من الأمر الثاني إستحالة إدراك ليلة القدر لاستحالة معرفة فاطمة حق المعرفة .
ونظيره بوجه قوله (علیه السلام) « من عرف نفسه فقد عرف ربه » حيث يفيد استحالة معرفة النفس لاستحالة معرفة الرب سبحانه .
ومعرفة فاطمة الزهراء تكون على نحوين : الأول : معرفة اسمها ونسبها وجملة من حالاتها ، كما فعل الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) حينما أخذ بيدها (سلام الله علیها) وقال : من عرفها فقد عرفها ومن لم يعرفها فهي فاطمة بضعة مني وروحي التي بين جنبي . . إلى آخر الحديث .
أراد النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) بهذا التعريف أن يخبر عن إتحاده بفاطمة الزهراء الدال على كمال فضلها وشرفها ، وأراد أن يقول للناس إعرفوا فاطمة بهذه المعرفة فإنها روحي وقلبي ، ونتيجة هذه المعرفة أن يتعامل الناس مع روح النبي وقلبه وفؤاده وبضعته كما يتعاملون معه تماما ، وحرمة روح النبي كحرمة النبي ، واحترام الجزء الأعظم احترام للكل .
والثاني : معرفة كنهها وحقيقتها ، والإحاطة التامة بتمام مقاماتها وكمالاتها وفضائلها وفواضلها إضافة إلى اسمها ورسمها ونسبها وحسبها ، فهذا ما لا يبلغه أحد ، وقوله (صلی الله علیه وآله وسلم) : « وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى » المراد به المعرفة الإجمالية ، لأن فاقد المقامات العالية يعيش دائما في المرتبة الدانية ، فلا يصل إلى المقام العالي ولا يستطيع معرفته وإدراكه .
وإنما يعجز الإنسان عن إدراك الشئ أو الشخص لكثرة أوصافه وآياته فكلما ازدادت أوصاف الموصوف عظم قدره وعلا شأنه في الأعين .
فكيف يمكننا إدراك حقيقة النبوة ومعرفة كنهها ؟ إن الحديث السابق يدل على أن معرفة فاطمة و « ليلة القدر » أشد وأعظم من معرفة الإمام (علیه السلام) ، حيث قالوا في معرفة الإمام حق المعرفة : أن تعرف أنه إمام مفترض الطاعة ، وأن معرفته معرفة الله – أي به يعرف الله – ، بينما قالوا في فاطمة : إنها لا يمكن معرفتها بحال ، فهي كالاسم الأعظم والساعة المستجابة وليلة القدر .
وهذا البيان بنفسه نقوله في النبي والوصي والإمام ، حيث لا يمكن الوصول إلى معرفة كنههم بحال .
لا يقال : إن معرفة الإمام واجبة لازمة بناء على قوله (صلی الله علیه وآله وسلم) : « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » وغيره ، أما معرفة فاطمة فغير واجبة ولا لازمة لأنها ليست إماما ولا تكون إماما يوما ما .
كيف نقول ذلك ونعتقد صحته ونؤمن به ، مع أن الإمام قال غير ذلك وأمر الناس عن لسان النبي الأكرم والسلطان الأعظم بمعرفة فاطمة ، واعتبر معرفة تلك المستورة الكبرى من الإيمان بل جزءه المقوم « وأنها أعرف بالأشياء كلها » .
والبرهان العقلي يقول : لا بد للمحب أن يحب محبوب الحبيب ، وفاطمة الزهراء حبيبة الله ورسوله ، ومودتها ومحبتها محبة الرسول ، والمحبة فرع المعرفة ، فمن أحب فاطمة عليه أن يعرفها ، ولما كانت معرفة كنهها مستحيلة وجب أن يعرفها قدر الوسع والإمكان ، ومقتضى الفرض والحتم .
هذا الإجمال ، وسيأتيك التفصيل في خصائص أخرى إن شاء الله تعالى .
وقد تبين من الحديث الآخر أن أعداء فاطمة فطموا عن محبتها ، أي أن من كان يحب الله ورسوله أحب فاطمة ، ومن أحب فاطمة أحب الله ورسوله .
فالحديث الأول عام في عدم إدراك معرفة فاطمة ، والحديث الثاني خاص في عدم محبة أعداء فاطمة لفاطمة (سلام الله علیها) .
الوجه الثامن في البحار عن مصباح الأنوار عن الإمام محمد الباقر (علیه السلام) قال : إنما سميت فاطمة بنت محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) الطاهرة لطهارتها عن كل دنس ، وطهارتها من كل رفث ، وما رأت يوما قط حمرة ولا نفاسا .
وقد روى هذا الحديث في معنى الطاهرة والبتول ، والتعليل في معنى الحديث ظاهر ، ولكنه مأخوذ من « فطمت عن الطمث » ، وهاتان الطهارتان إشارة إلى نزاهة فاطمة الزهراء عن الدنس ظاهرا وباطنا ، وتكرار ذكر الطهارة باعتبار تعدد المتعلق من قبيل تكرار ذكر الاصطفاء في حق مريم (سلام الله علیها) ، فالدنس والرفث صريح في الأدناس الظاهرة والأرجاس الباطنة ، والدنس هو الوسخ حقيقة ، ولكنه يستعمل في غير مجاز وكناية ، فيقال : فلان دنس الثياب إذا كان خبيث الفعل والمذهب .
وفي وصف الأئمة (علیهم السلام) : « لم تدنسكم الجاهلية الجهلاء » كذا في مجمع البحرين .
والرفث أصلا الفحش ، وفي الحديث « ويكره للصائم الرفث »  ، وقال تعالى : ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) .
وقد يكون قوله « وما رأت يوما » بيانا للفقرة الأولى من الحديث ، وقد يكون غير ذلك ، بأن يكون لكل تعبير معنى غير المعنى الآخر ، فالمراد من « الطهارة من الدنس » غير المراد من « الطهارة من الرفث » ورؤية دم النفاس وغيره . ومضمون هذا الحديث متواتر عند الشيعة والسنة ، ولكني اكتفيت بذكر حديث واحد في المقام ومؤداه : فطام فاطمة وتنزيهها وتهذيبها من أدناس النساء خاصة ، ومن الخصال الرذيلة في البشر عامة ، وهذه موهبة من مواهب الرحمن ومكرمة من مكارم الملك المنان ، وذلك فضل الله لها ورحمته عليها .
الوجه التاسع في علل الشرائع للمرحوم الصدوق طاب ثراه ، عن محمد بن مسلم الثقفي قال : سمعت أبا جعفر ( الباقر ) (علیه السلام) يقول : لفاطمة وقفة على باب جهنم ، فإذا كان يوم القيامة كتب بين عيني كل رجل مؤمن أو كافر ، فيؤمر بمحب قد كثرت ذنوبه إلى النار ، فتقرأ بين عينيه محبا فتقول : إلهي وسيدي سميتني فاطمة وفطمت بي من تولاني وتولى ذريتي من النار ، ووعدك الحق وأنت لا تخلف الميعاد .
فيقول الله عز وجل : صدقت يا فاطمة إني سميتك فاطمة وفطمت بك من أحبك وتولاك وأحب ذريتك وتولاهم من النار ، ووعدي الحق وأنا لا أخلف الميعاد ، وإنما أمرت بعبدي هذا إلى النار لتشفعي فيه ، ليتبين لملائكتي وأنبيائي ورسلي وأهل الموقف موقفك مني ومكانتك عندي ، فمن قرأت بين عينيه مؤمنا فجذبت بيده وأدخلته الجنة .
وفي عيون أخبار الرضا (علیه السلام) عن الرضا (علیه السلام) قال : قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) : إني سميت ابنتي فاطمة لأن الله عز وجل فطمها وفطم من أحبها عن النار .
وعن أبي هريرة مثله .
والخركوشي في شرف النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ، وابن بطة في الإبانة عن الكلبي عن جعفر بن محمد ( الصادق ) (علیه السلام) قال : قال رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) لعلي : هل تدري لم سميت فاطمة ؟ قال علي : لم سميت فاطمة يا رسول الله ؟ قال : لأنها فطمت هي وشيعتها من النار .
وفي العيون : بالإسناد إلى دارم قال : حدثنا علي بن موسى الرضا ومحمد بن علي قالا : سمعنا المأمون يحدث عن الرشيد ، عن المهدي ، عن المنصور ، عن أبيه عن جده قال : قال ابن عباس لمعاوية : أتدري لم سميت فاطمة فاطمة ؟ قال : لا .
قال : لأنها فطمت هي وشيعتها من النار ; سمعت رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) يقوله .
ومر في الحديث عن معنى المنصورة حديثا بهذا المضمون .
وسيأتي في خصائص الزهراء (سلام الله علیها) حديث ابن أبي جمهور الإحسائي من أن نار الدنيا لا تحرق بدن فاطمة وذريتها وشيعتها ، وهو من أعجب الأحاديث ، ويحتاج إلى خصيصة مستقلة . والخلاصة : إن ظهور هذا الوجه سيكون في الآخرة ، وإنه أعظم معاني اسم فاطمة ، وهو حديث متفق عليه لا تجد من ينكره ، والمخالفون جميعا يذعنون بصحته ، وكأن اسم فاطمة وضع للدلالة على الشفاعة ، ونجاة الشيعة من النار ، والوجوه السابقة المتعلقة بالدنيا كلها أوصاف يتصف بها من صاحب الشفاعة العظمى ، ولا تعارض بينها .
الوجه العاشر في البحار وغيره في معنى فاطمة والبتول « لأنها فطمت وبتلت عن النظير » يعني أن فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) مفطومة منقطعة عن المثيل ، أي لا ند لها ولا نظير في الدنيا ، وهو معنى كونها سيدة نساء الأولين والآخرين ، ومن كانت عديمة النظير من أول الخلقة إلى يوم القيامة لا بد أن تجمع كل الخصائص الحسنة ، وتتنزه عن كل النقائص والمعايب ، وتكون مفطومة معصومة عن كل الذنوب ، وإن كل هذه الأخبار والآثار المتظافرة الواردة عن الأئمة الأطهار (علیهم السلام) في أوصاف المخدرة الكبرى وفي إثبات عصمتها وطهارتها تدل جميعا على أنها لا نظير لها .
أجل : كانت مريم المعصومة الطاهرة نظير فاطمة في هذا العالم من حيث العصمة ، أما في غيرها فكيف يمكن أن تناظر فاطمة في المقامات والمراتب والفضائل الذاتية والخارجية وتصل إلى مقامها الشامخ ، ففاطمة حجبت القلب عما سوى الله وقطعت عرى المحبة عن كل فرد فرد من أجزاء هذا العالم ، ولم تر شيئا سوى الله ، ولم تفكر إلا به وبرضاه .
ونعم ما قيل : « جمالك في عيني وذكرك في فمي * وحبك في قلبي فأين تغيب » وقال الشاعر :
طلب الحبيب من الحبيب رضاه * ومنى الحبيب من الحبيب
لقاه فسبحان من خصها بأعظم الفضائل ، وميزها عن خلقه بأكرم الخصال ، وشرفها ، ورفع قدرها ، وأكرمها ، وأكثر نسلها ، وجعل كل حال من أحوالها آية باهرة ، وكل طور من أطوارها معجزة ظاهرة وكرامة زاهرة ، ونعم ما قيل :
ولو كان النساء بمثل هذي * لفضلت النساء على الرجال
والهدف الأول هو الله لا الدنيا ولا الآخرة ، والمطلوب والمقصود المحبوب هو الله وحده لا سواه ، ولهذا اصطفاها الله وانتجبها وفضلها على نساء العالمين وأعطاها السيادة .
وسيتضح للقراء من خلال حديثنا عن الملكات الشريفة للعصمة الكبرى ، كيف كانت سيدة نساء العالمين تتعبد الله في عالم الإمكان وفي هذا الزمان المحدود من عمرها المبارك ، وكيف أنها لازمت التقوى وطلبت رضا الله وتمحضت في العبودية ، وأفنت إنيتها في جنب الربوبية ، ولم تطلب لنفسها شيئا من نقير أو قطمير في أي حالة من حالاتها ، بل لم تر نفسها مالكة لأمر أو شئ ما ، تماما كأبيها رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) الذي قال الله في مدحه : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) يعني أنه كان في مقام التسليم والرضا فؤادا من رأسه حتى قدميه ، حيث أنه لم ير سوى الله ولم يسمع إلا من الله ولم يقل إلا من الله وبأمر الله ( ما زاغ البصر وما طغى ) وأن عينه الظاهرية لم تزغ ليلة المعراج إلى شئ من الأفلاك ، والأملاك وهو حكاية عن بصيرته الباطنية ورؤيته الفؤادية ، وفاطمة الزهراء (سلام الله علیها) ثمرة فؤاد نبي الرحمة ، وقرة عين هذه الذات المقدسة ، وقد اتفقت روايات المخالف والمؤالف على أن العصمة الكبرى فاطمة الزهراء شابهته وماثلته في الصورة والسيرة والكمالات اللامتناهية .
وقد يقال : إن المراد من قوله « بضعة مني » القلب الروحاني ، والمضغة الرحمانية المحمدية ، ولطالما كرر النبي قوله : « إن فاطمة روحي وقلبي » وقال أمير المؤمنين (علیه السلام) في خطبته « إن فاطمة المرضية آنية الله الزكية » وآنية الله أي قلب الله ، وأحب القلوب إلى الله أرقها وأصفاها .
وإن شئت فقل – بناء على الرواية المعتبرة – : إن فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) مهجة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) ، والمهجة سبب حياة القلب والجسد العنصري الإنساني ، وإلا فقل ما قاله النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) باختصار « فاطمة مني وأنا من فاطمة ) .
والخلاصة : إن لازم الإنفصال والانقطاع عن الخلق الإتصال والإلتحاق بالخالق ، وقد ظهر معنى الاسم والمسمى وتجلى الإنفطام والإنفصال عما سوى الله والاتصال بالمولى في وجودها الحق سلام الله عليها .
وقد قلت مرة على المنبر : إن فطام فاطمة الزهراء (سلام الله علیها) عام وخاص .
أما العام : فانقطاع المحبة عن كل ما سوى الله .
وأما الخاص : فتسليمها ورضاها بشهادة ولديها ، تلك الشهادة التي كانت تسمع نبأها من مصدر الوحي ومعدن الصدق منذ يوم الأزل حتى انعقاد النطفة الزكية وإلى الولادة .
فتقطع قلبها عن محبتها وتبكي لتلك الأخبار الموحشة للطبيعة البشرية ، مع أن دعوتها كانت مجابة إلا أنها رجحت رضا الحبيب على رضاها وعاشت على ذلك وبكت له ، ولم تنم عنها كلمة تخالف الإرادة الإلهية مع أنها كانت مجابة الدعوة .
وأما قوله تعالى : ( فحملته كرها ووضعته كرها ) فإشارة إلى طبيعتها البشرية ، وهي من المقتضيات الكاملة لوجودها الإنساني .
وما أصعب أن ترضع الأم وليدها وتفطمه وتربيه وتكبره وهي تعلم بالقطع واليقين كيف سيذوقن الشهادة .
فالأشد والأصعب من ذلك كله شهادة ولدها وعزيزها المحسن صلوات الله عليها وعلى والدها وبعلها وبنيها .