التحقت خديجة سلام الله عليها بالرفيق الأعلى وفاطمة صلوات الله عليها في الخامسة من عمرها ، فكانت فاطمة بنت أسد وبقية أخواتها وجماعة من نساء بني هاشم يتعاهدن فاطمة ، ولازمنها ملازمة الظل ، وما زال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يوصيهن بها ويأمرهن بتسليتها من فراق أمها ، إلا أن فاطمة كانت مشغول عنهن ; لأنها لا تأنس بأحد سوى أبيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فكانت تلوذ به وتنتهل من عذب معينه مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات النبوية وتتأدب بها ، وكانت لها مراقبات ومواظبات خاصة في صيام الأيام وقيام الليالي بما يعجز عنه الغير ، فأقبلت على العبادات والطاعات ، وأقدمت عليها إقداما أحجم عنه نساء زمانها ، مع أنها كانت في تلك السن الصغيرة ، فكانت تصبر على المشاق الصعبة وتتحمل ما يخرج عن العادات البشرية ويحير العقول الإنسانية ، فوجد فيها النساء خير قدوة بعد أمها خديجة « كالمرآة المجلوة يحاذي بها شطر الحق » .
أجل : لقد قضت من قبل آلاف الدهور في كنف الحق مشغولة بالتقديس والتسبيح ، وأظهرت العبودية في عالم غيب الغيوب بأطوار عديدة ، فلما نزلت إلى عالم الشهود واستقرت في دار الخمود كفلها النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله ) ، وزاملها الولي الأعظم ، وخدمها روح القدس والملائكة الكرام ، ومن كانت كذلك حق لها أن تأتي في صغرها بما يعجز عنه كبار العباد ، وذلك لأن قواها العاقلة وملكاتها الإلهية تختلف عن قوى الآخرين ، وتختلف عن ملكات الرجال والنساء من العالمين .
لقد كفل زكريا مريم ورأى منها – قبل البلوغ – خوارق العادات ، وكانت تنمي – كفاطمة الزهراء – خلافا للعادة المرسومة بين النسوان ، كما نص على ذلك كتب الأخبار والتفاسير ، ولكن يبقى ثمة فرق بينهما حيث الشرف الذاتي النفساني لفاطمة على مريم ، وفضل الذات المقدسة النبوية على زكريا ، وشرف مكة المكرمة على بيت المقدس .
فتربية فاطمة وكفالتها وقابليتها شئ آخر يختلف تماما عن حالات مريم والنساء الأخريات . نعم ; قد تكون مثالا لفاطمة ، كالخضر لصاحب الزمان ( عليه السلام ) ، فقد ورد في أخبار أهل البيت ( عليهم السلام ) أن طول عمر الخضر وبقاء حياته آية ودليل على طول عمر آية الله في العالمين إمام العصر ، وهكذا هي عبادة مريم ( عليها السلام ) وخدمتها وعصمتها وملكاتها الحسنة آية ودليل ومثال للصديقة الكبرى سلام الله عليها .
الحاصل : عاشت حبيبة ذي الجلال على هذا المنوال ثلاث سنين أخرى في كنف أبيها وهي تتزود بالفضائل في كل ساعة وآن ، وتشتد في العبادات البدنية في ساعات الليل والنهار ، وكان النبي يتلقى الوحي من المبادئ العالية ، وكلما نزل عليه شئ شمت ريحه فاطمة ( عليها السلام ) .
وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يلقنها الوحي ويعلمها وهي تأخذه كاملا تاما كما نزل ، فاكتسبت في السنوات الثمان تمام معارف الدين ومعالم شريعة سيد المرسلين أصولا وفروعا ، حتى لم يكن حينئذ أحد من العالمين له يقين كيقينها أو عرفان كعرفانها أو كمال إيمان يماثل كمال إيمانها ، فلما هاجرت إلى المدينة كانت – كما قالت سلمى – أكثر نساء العالمين علما وأدبا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ( وما النصر إلا من عند الله ) .
وكيف لا تكون فاطمة كذلك ؟ ! وأنى لنساء العالمين أن يكن مثلها ؟ فالزجاجة لا تكون ياقوتا وجواهر مهما صقلت ، والحديد لا يداني الذهب والفضة مهما انجلى ، فالجوهر المقدس لمعدن العصمة والحياء غير الجواهر والأعيان الأخرى ، وذاتها الطاهرة المطهرة أطهر من أن تنالها شوائب النساء وأقذارها ، والله الموفق لكل خير وكمال والإيصال إلى الآمال .
ولنعم ما قيل :
فلم يستتم أمر النبي بمكة * فهاجر منها فاستقام بطيبة
لقد مات أبو طالب – كما في المصباح – في السادس والعشرين من شهر رجب وماتت خديجة في شهر شعبان في السنة العاشرة من المبعث ، فسمى رسول الله ذلك العام : « عام الحزن » وقال : « ما زالت قريش قاعدة عني حتى مات أبو طالب » ، فكانت قريش تواجهه بالمكائد والأذى ، وكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يعرض نفسه على قبائل العرب في الموسم ، ويذكر اليهود والنصارى بأوصافه المذكورة في التوراة والإنجيل ، حتى شاعت دعوته ، وكان ستة نفر من أهل المدينة آمنوا وانصرفوا راجعين ، فلما قدموا المدينة على قومهم ذكروا لهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حتى إذا كان العام المقبل أتى الموسم من الأنصار إثنا عشر رجلا ، فلقوا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فبايعوه ، وبعث معهم مصعب بن عمير ، وكان بينهم بالمدينة يسمى المقرئ ، وخرج من خرج من الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم ، فاجتمعوا في الشعب عند العقبة ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان في أيام التشريق بالليل ، وكان فيهم البراء بن معرور ، فبايعوا البيعة المعروفة ، ثم رجعوا إلى المدينة وأفشوا الخبر هناك .
ثم إن الله أمر نبيه بالهجرة إلى المدينة في قوله تعالى ( يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ) وقوله ( قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا * إلا المستضعفين من الرجال والنساء ) وقوله ( واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا ) .
وهكذا جاء الأمر الإلهي أن يترك عليا يبات في مكانه ويخرج إلى غار ثور ، ومن ثم إلى المدينة الطيبة ، فخرج مع أبي بكر بن أبي قحافة وغلامه عامر بن فهيرة ، ودليلهم عبد الله بن الأريقط .
فأصبح صوت بمكة عاليا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه يردد أبياتا ، فلما سمع بذلك حسان بن ثابت نشب يجاوب الهاتف :
لقد خاب قوم زال منهم نبيهم * وقدس من يسري إليهم ويقتدي
ترحل عن قوم فزالت عقولهم * وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم * وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله * ويتلو كتاب الله في كل مشهد
وكان خروج النبي ( صلى الله عليه وآله ) – حسب رواية المصباح – من مكة في أول يوم من ربيع الأول ، وذلك يوم الخميس من سنة ثلاث عشرة من المبعث ، وقدم المدينة لاثنتي عشر ليلة خلت من شهر ربيع الأول بعد أن بات ثلاث ليال في غار ثور ، ودخل المدينة عن طريق ذي الحليفة ، فخرج الرجال والنساء والصبيان واليهود من بني قريضة وبني النضير وبنيى القينقاع ورؤساؤهم وعظماؤهم وأعيان القبائل وأشراف العشائر مستبشرين لقدومه الميمون ، يتعادون لرؤية النور الباهر على تفصيل سنذكره في محله .
وكان أول بيت نزل فيه في المدينة الطيبة – كما في روضة الكافي – في قبا في بيت كلثوم بن هدم ، ثم بيت خيثمة الأوسي ، ثم خط لهم مسجد قبا وهو الذي قال فيه تعالى : ( لمسجد أسس على التقوى ) وصلى فيه ثم انتقل إلى بيت عمرو بن عوف ، ثم لم يزل مقيما ينتظر عليا ( عليه السلام ) فيقولون له : أدخل المدينة ، فيقول : لا ، إني أنتظر علي بن أبي طالب ، وقد أمرته أن يلحقني ، ولست مستوطنا منزلا حتى يقدم علي ، وما أسرعه إن شاء الله .
ثم إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لما قدم علي ( عليه السلام ) تحول من قبا إلى بني سالم بن عوف ، ثم راح إلى المدينة على ناقته التي كان قدم عليها وعلي معه لا يفارقه يمشي بمشيه ، وليس يمر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ببطن من بطون الأنصار إلا قاموا إليه يسألونه أن ينزل عليهم ، فيقول لهم : خلوا سبيل الناقة فإنها مأمورة ، فانطلقت به إلى باب مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فوقفت عنده وبركت ووضعت جرانها على الأرض ، فنزل رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأقبل أبو أيوب مبادرا حتى احتمل رحله فأدخله منزله .
قال سعيد بن المسيب لعلي بن الحسين ( عليهما السلام ) : جعلت فداك كان أبو بكر مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حين أقبل إلى المدينة ، فأين فارقه ؟ فقال : إن أبا بكر لما قدم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى قباء فنزل بهم ينتظر قدوم علي ( عليه السلام ) ، فقال أبو بكر : انهض بنا إلى المدينة فإن القوم قد فرحوا بقدومك وهم يستريثون إقبالك إليهم ، فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر عليا ، فما أظنه يقدم إليك إلى شهر ، فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : كلا ما أسرعه ، ولست أريم حتى يقدم ابن عمي وأخي في الله – عز وجل – وأحب أهل بيتي إلي ، فقد وقاني بنفسه من المشركين – وفي أمالي الشيخ : ابن عمي وبنتي فاطمة – .
قال : فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأز وداخله من ذلك حسد لعلي ( عليه السلام ) ، وكان ذلك أول عداوة بدت منه لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في علي ، وأول خلاف على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فانطلق حتى دخل المدينة ، وتخلف رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقباء حتى ينتظر عليا .
وفي كامل التواريخ : ونزل أبو بكر على خبيب بن أساف بالسنح ، وقيل نزل على خارجة بن زيد أخي الحرث بن الخزرج .
قال سعيد بن المسيب : فقلت لعلي بن الحسين ( عليهما السلام ) : فمتى زوج رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فاطمة ( عليها السلام ) من علي ( عليه السلام ) ؟ فقال : بالمدينة بعد الهجرة بسنة ، وكان لها يومئذ تسع سنين .
قال علي بن الحسين ( عليهما السلام ) : ولم يولد لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من خديجة على فطرة الإسلام إلا فاطمة ( عليها السلام ) ، وقد كانت خديجة ماتت قبل الهجرة بسنة ، ومات أبو طالب ( رضي الله عنه ) بعد موت خديجة رضي الله عنها بسنة ، فلما فقدهما رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) سئم المقام بمكة ، ودخله حزن شديد ، وأشفق على نفسه من كفار قريش ، فشكى إلى جبرئيل ( عليه السلام ) ذلك ، فأوحى الله عز وجل إليه : أخرج من القرية الظالم أهلها وهاجر إلى المدينة ، فليس لك اليوم بمكة ناصر . . . وقد وقع الإختلاف في الفترة التي مكث فيها النبي ( صلى الله عليه وآله ) بمكة بعد وفاة أبي طالب ( عليه السلام ) .
[ أما هجرة فاطمة ( عليها السلام ) ] هاجرت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) إلى المدينة ورسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بقبا .
وقد اختلف الشيعة وأهل الخلاف فيمن هاجر بها ( عليها السلام ) : فمنهم من قال : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلى فاطمة وزوجته سودة بنت زمعة وأم أيمن وابنها أسامة بن زيد وزيد بن حارثة وأبا رافع مع بعيرين وخمسمائة درهم ، فحملاهن من مكة إلى المدينة ، وخرج عبد الله بن أبي بكر بعيال أبيه إليه ، وهن أم رومان وأم عبد الله وأختيه أسماء ذات النطاقين وعائشة ، وصحبهم طلحة بن عبيد الله .
وهذا الخبر لا يذكر أمير المؤمنين وخروج فاطمة ( عليها السلام ) معه . وقال ابن الأثير في الكامل : « وأما علي فإنه لما فرغ من الذي أمره به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هاجر إلى المدينة ، فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى قدم المدينة وقد تفطرت قدماه ، فقال النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أدعو لي عليا ، قيل : لا يقدر أن يمشي ، فأتاه النبي ( صلى الله عليه وآله ) واعتنقه وبكى رحمة لما بقدميه من الورم ، وتفل في يديه وأمرها على قدميه فلم يشتكهما بعد حتى قتل . . . » .
والحق هو ما سنذكره من هجرة فاطمة مع علي ( عليه السلام ) ، ويمكن الجمع بين الأخبار بأن يكون أمير المؤمنين وصل إلى المدينة وأمره الرسول ( صلى الله عليه وآله ) بالعودة ثانية لحمل فاطمة ( عليها السلام ) .
والحق : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كتب إلى علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) كتابا يأمره فيه بالمسير إليه وقلة التلوم ، وكان الرسول إليه أبا واقد الليثي ، فلما أتاه كتاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تهيأ للخروج والهجرة ، فآذن من كان معه من ضعفاء المؤمنين ، فأمرهم أن يتسللوا ويتخففوا – إذا ملأ الليل بطن كل واد – إلى ذي طوى ، وخرج علي ( عليه السلام ) بفاطمة ( عليها السلام ) بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ( عليها السلام ) وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ، وتبعهم أيمن بن أم أيمن مولى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأبو واقد رسول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهن ، فقال علي ( عليه السلام ) : أرفق بالنسوة أبا واقد إنهن من الضعائف ، قال : إني أخاف أن يدركنا الطالب ، فقال علي ( عليه السلام ) : أربع عليك ، فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) قال لي : يا علي ! إنهم لن يصلوا من الآن إليك بأمر تكرهه ، ثم جعل – يعني عليا – يسوق بهن سوقا رفيقا وهو يرتجز ويقول :
لا شئ إلا الله فارفع ظنكا * يكفيك رب الناس ما أهمكا
وسار فلما شارف ضجنان أدركه الطلب سبع فوارس من قريش متلثمين وثامنهم مولى الحارث بن أمية يدعى جناحا . . . ودنا القوم فاستقبلهم علي ( عليه السلام ) منتضيا سيفه ، فأقبلوا عليه فقالوا : ظننت أنك – يا غدار ! ! ! – ناج بالنسوة ، إرجع لا أبا لك ، قال : فإن لم أفعل ؟ قالوا : لترجعن راغما أو لنرجعن بأكثرك شعرا وأهون بك من هالك ، ودنا الفوارس من النسوة والمطايا ليثوروها ، فحال علي بينهم وبينها فأهوى له جناح بسيفه فراغ علي ( عليه السلام ) عن ضربته وتختله علي ( عليه السلام ) فضربه على عاتقه فأسرع السيف مضيا فيه حتى حس كاثبة فرسه ، فكان علي ( عليه السلام ) يشد على قدمه شد الفرس أو الفارس على فرسه ، فشد عليهم بسيفه وهو يقول :
خلوا سبيل الجاهد المجاهد * آليت لا أعبد غير الواحد
فتصدع القوم عنه فقالوا : أغن عنا نفسك يابن أبي طالب ، قال : فإني منطلق إلى ابن عمي رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بيثرب ، فمن سره أن أفري لحمه وأهريق دمه فليتبعني أو فليدن مني ، ثم أقبل على صاحبيه أيمن وأبي واقد فقال لهما : أطلقا مطاياكما ، ثم سار ظاهرا قاهرا حتى نزل ضجنان ، فتلوم بها قدر يومه وليلته ، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين . .
فصلى ليلته تلك هو والفواطم . . .
يصلون لله ليلتهم ويذكرونه قياما وقعودا وعلى جنوبهم . . .
وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم : ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا ) إلى قوله : ( فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى ) الذكر علي ( عليه السلام ) والأنثى فاطمة ( بعضكم من بعض ) يقول : علي من فاطمة ، وفاطمة من علي .
( فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ) .
وتلا ( صلى الله عليه وآله ) : ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد ) .
نزلت في علي ليلة المبيت ، وقال له : يا علي أنت أول هذه الأمة إيمانا بالله ورسوله ، وأولهم هجرة إلى الله ورسوله ، وآخرهم عهدا برسوله ، لا يحبك – والذي نفسي بيده – إلا مؤمن قد امتحن الله قلبه للإيمان ، ولا يبغضك إلا منافق أو كافر .
ثم آخى بين المهاجرين واختار أمير المؤمنين أخا لنفسه ، ولطالما كان يشكره ويثني عليه ويعتذر إليه مما يلقاه من أذى ويتحمله من مشاق .
إنصاف بلا اعتساف ألا ليت شعري هل ينظر بعض أهل الخلاف بعين الإنصاف إلى ما صدر من سلطان الولاية في عام الهجرة من مواقف عظيمة من قبيل : أولا : كيف بات على فراش النبي ( صلى الله عليه وآله ) وفداه بنفسه الشريفة وهو في ريعان الشباب وحداثة السن .
ثانيا : كيف أدى أمانات النبي ( صلى الله عليه وآله ) ونفذ وصيته وحمل الفواطم الثلاث إلى رسول الله في المدينة ، فبشره رسول الله بالآيات الكريمة النازلة فيه ، ولم يكن ثم من بذل روحه سرا وعلانية ، ليلا ونهارا حضرا وسفرا سوى أمير المؤمنين ( عليه السلام ) .
وقد حكى قوله تعالى ( الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك بعضهم أولياء بعض ) حسن إيمانه وهجرته وجهاده وأولويته في الولاية على الآخرين .
ونزل فيه قوله تعالى : ( فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لاكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ) فذكر هجرته وإخراجه من مكة وصبره على أذى أهلها ومقاتلتهم ، وما كتبه الله له من الأجر في جواره ، فهو أول من ذب عن نبيه بالسيف ، وأول من أخرج بعد نبيه عن بيت ربه ، وأول من أوذي مع فتيانه وعيالاته ، وأول من اقتدى برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأول من صلى معه ، وأول من استحق الثواب والدخول في جوار الله ورضوانه وجنانه .
ومن نظر في الآيات النازلة في فضل الهجرة والسابقين والمهاجرين ، عرف بالقطع واليقين أنها جميعا تحكي حالاته ومجاهداته ( عليه السلام ) حيث لا يسبقه سابق ولا يلحقه لاحق . الحاصل : تبين أن السيدة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) هاجرت إلى المدينة ولما تبلغ حد البلوغ ، وكان عمرها يومئذ ثمان سنين ، فأراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يبني لها منزلا وحجرة ، فاشترى مربدا كان لصغيرين يتيمين وبنى عليه مسجده ، وهو يجاور قبره المنور وضريحه المطهر اليوم ، ثم بنى حوله حجرا ، وكان كلما تزوج امرأة بنى لها حجرة ، وكانت أول من تزوج بها – على رواية الشيعة – سودة بنت زمعة ، وذهب بعض أهل السنة والجماعة إلى أنها « عائشة » التي هاجرت بأمر أبيها مع أخيها ، فخطبها النبي ( صلى الله عليه وآله ) في شوال ، وكان لها تسع سنين ، وكانت حجرة عائشة ملاصقة لحجرة السيدة فاطمة ( عليها السلام ) ، وكان بينهما كوة تسهل عليهما الإتصال والتعاون ، ولكن سرعان ماانقلب الأمر حيث بدأت عائشة – تدريجيا – بتسرير كلمات سخيفة وعبارات ركيكة ضعيفة ، وصارت تبدي العداوة والبغضاء المكنونة فيها بالفطرة والوراثة ، فأخذت تذم خديجة وتعير فاطمة بأمها وتفتخر على خديجة بالجمال والشباب ! ! فشق ذلك على الصديقة المطهرة وشكت إلى رسول الله ، فأمر النبي بسد تلك الكوة .
ونعم ما قيل : أقلب الطرف لا أرى من أحبه * وفي الدار ممن لا أحب كثير ثم اختار رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من بين النساء العاقلات الكاملات المخلصات امرأة – اختلفوا في اسمها – لخدمة فاطمة وملازمتها ليل نهار ورد الوحدة عنها ، فقالت : « والله ما رأيت امرأة أأدب منها » .
إنها على صغر سنها لا تحتاج إلى مربية ، بل كانت بذاتها الشريفة تربي النفوس الناقصة ، وتأدب أرباب العقول الكاملة ، فجوهر ذاتها المقدسة منزه مؤدب منذ اليوم الأول ، كما ذكرنا سابقا .
وسنذكر في هذا المقام مجملا عن آداب معدن الكمال والأدب ; ليكون شاهد صدق ينتفع به القراء .
وقبل الدخول في ذلك نود أن نشرح معنى الأدب أولا : فالأدب كما في كتب الأخلاق : تهذيب الأقوال والأفعال وتحسين الأخلاق ، بحيث يكون الظاهر عنوان الباطن ، والباطن موافقا للظاهر . يعني : أن يحكي ظاهره باطنه ، ويظهر باطنه على ظاهره .
يعني : أن يكون القلب متحليا بحلية الذكر ، والأعضاء والجوارح متزينة بزينة الأعمال الصالحة في آداب الشريعة المطهرة .
وببيان آخر : الأدب ضربان : أدب مع الخلق ، وأدب مع الخالق . أما الأدب مع الخلق فقد ورد ذكره في كثير من آيات القرآن في موارد عديدة حسب حالات الأشخاص والمكلفين ، كقوله تعالى : ( خذ العفو وأمر بالمعروف وأعرض عن الجاهلين ) .
وقوله تعالى : ( فأما اليتيم فلا تقهر * وأما السائل فلا تنهر * وأما بنعمة ربك فحدث ) .
وقوله تعالى : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم ) .
وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه ) ونظائرها من الآيات التي تتحدث عن الآداب مع خلق الله سبحانه وتعالى . قال أحد الأخيار : من تهاون وتغافل في الأدب مع الخلق يعاقب بالحرمان من السنن ، ومن حرم السنن حرم أداء الفرائض ، ومن حرم الفرائض حرم المعرفة الحقة وعوقب بالعقوبات الصعبة ، ونستجير بالله من حرمان العرفان وهجران آداب الإيمان ، وبالله الاستعانة وعليه التكلان . أما الأب مع الخالق ، فقد صرح به الكتاب العزيز في موارد عديدة ، وأكد عليه تأكيدا شديدا باعتباره السبب القوي للآداب الأخرى ، وإليه أشارت الآية التالية : ( ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ) .
أما الأدب مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) خاصة ، فهو إطاعة الأمر السماوي والحكم المحكم القرآني في قوله تعالى : ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) وقوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) فالأدب مع النبي امتثال أمره وإطاعته .
فكلما ازداد تمسك الفرد بهذه الآداب ازداد قربه من الحق سبحانه ، وزادت محبته من الله جل وعلا ، والأدب ثمرة المحبة ، ولذا قيل : « شرف المرء بعلم وأدب لا بأصل ونسب » ، وقال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : ليس اليتيم الذي قد مات والده * إن اليتيم يتيم العلم والأدب والآن لاحظ الآداب عند الأنبياء والمرسلين والأولياء الكاملين لتعلم أن معنى الأدب ليس هو القيام والقعود ووضع اليد على الصدر للاحترام وأمثال ذلك ، وإنما هو الانقطاع عن عباد الله والإقبال القلبي الكلي على الله ( وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى ) .
ومن علائم الأدب : حب الله والمداومة على ذكره « ومن أحب شيئا أكثر ذكره » وعن النبي ( صلى الله عليه وآله ) : « اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وسمعي وبصري وأهلي ومالي ومن الماء البارد » .
وقال أيضا ( صلى الله عليه وآله ) : « اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء ، وبرد العيش بعد الموت ، ولذة النظر إلى وجهك الكريم ، وشوقا إلى لقائك » ( .
الحاصل : قال الحكماء – ونعم ما قالوا – : إن البعض يجتنب الملكات الردية الرذيلة بنجابته الأصلية وطهارته الفطرية ، وبعض يحترز عنها بعد أن يفكر ويتأمل ويعرف رداءتها ورذالتها ، وبعض يتحاشاها خوفا من الوعيد والتهديد والعقاب ورجاء للأجر والثواب ، وهذه الطائفة هي الأكثر دائما ، والطائفة الوسطى تتبع التعليم ، والطائفة السفلى تمشي بدلالة الشرع ، ومثل الشرع فيها مثل من يأكل طعاما ويغص به ، فلا يجد حيلة إلا أن يشرب الماء ليدفعه بالقوة وإلا هلك .
والغرض من هذا البيان أن نقول أن الطائفة الأولى في الدرجة العليا مؤيدة بالتأييدات الإلهية ومجردة من التعلقات الطبيعية ، وهي جواهر مخلوقة من إشعاعات العقل الأول المعبر عنه بالقلم الأعلى ، والمسمى عند أهل الكشف بالحقيقة المحمدية ، فجواهر حقائقهم تستولي استيلاء خاصا على أفراد الموجودات وآحاد الكائنات ، وهكذا كانوا وسيكونون .
وبعبارة الحكماء : إن حقائق الأشياء جميعا منطوية فيهم إنطواء علميا ، ومندرجة ومندمجة في حقيقة كل واحد منهم كالبذرة المستورة بالتراب تنطوي فيها الأغصان والثمار الكثيرة ، حتى تخرج من مكمن الغيب إلى عالم الفعل والشهود .
أقول : خلقت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) حسب الأخبار المذكورة والأحاديث المأطورة من النور المجرد والعقل المؤيد ، وترعرعت في كنفه وحماه ، يربيها ويؤدبها ، ثم كفلها في هذا العالم ، فكيف لا تلتزم أفعاله وأقواله ولا تقتدي بآثاره اقتداء كاملا ؟ ولا ترضى – حق الرضا – برضا وليه وهي محيطة إحاطة كاملة بكل تلك البيانات ؟ ! ! ففاطمة الزهراء ( عليها السلام ) من الطائفة الأولى ، وهي مهذبة منذ صغرها ، وقد أدبها العلي الأعلى ، صلوات الله عليها وعلى من تولاها .
إلى هنا ينبغي أن نعقل اللسان في هذه الخصيصة لنذكر فضائل تلك المخدرة من خلال عبارات الأئمة الأطهار ( عليهم السلام ) لئلا يحرم العوام .