ما حصل في الساعات الأولى من رحيل النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، إلى جوار ربه، لم يكن بالأمر الهيّن، ليس وفق المقاسات السياسية وحسب، وإنما وفق المقاسات الحضارية، بأن تقوم مجموعة من الأشخاص بتدبير ما يشبه الانقلاب العسكري للاستيلاء على الحكم لدولة مثل الدولة التي أنشأها النبي الأكرم، والتي قال أقر المفكرون والعلماء في الغرب على أنها أبرز نقطة مضيئة في تاريخ البشرية.
الإمام علي، عليه السلام، كان مأموراً بالصمت وعدم اتخاذ ما يؤدي إلى انزلاق الأمة نحو الحرب الأهلية، فبقي الميدان مفتوحاً أمام الصديقة الزهراء، عليها السلام، بأن تنهض لوحدها بهذا الدور التاريخي والاستثنائي وتقف بقوة أمام محاولة تقمّص الخلافة والشرعية الدينية وكشف زيف أدعياء الدين.
سرعة المبادرة
في أجواء ملبّدة بالتآمر والخديعة، وأمام نفوس شحيحة على الخير، مشحونة بالنفاق والحقد والعصبية الجاهلية، كان لابد من سرعة المبادرة للوقوف أمام هذا الانحراف الخطير الذي لا يدرك أبعاده سوى شخصية مثل الزهراء وأيضا بعلها؛ أمير المؤمنين، بيد أن السؤال عن السبب الذي يدفع امرأة لأن تتصدى لهذا الدور، فهل كانت الزهراء، عليها السلام، تبحث عن بطولة أمام الرجال -حاشاه من ذلك-؟! أم أن القضية -كما يتصور البعض- مقتصرة على حق شخصي في أرض فدك، أو حتى المطالبة بالحكم لبعلها أمير المؤمنين؟
إن هذه المطالبات وغيرها -وهي مشروعة وحقّة لا شك- كانت ضمن حملة الزهراء على ذلك الانحراف، بيد أن الغاية القصوى كانت أبعد بكثير من علائق دنيوية تسمو عليها الصديقة الطاهرة، وهو الذي دفعها لأن تخوض غمار هذه المواجهة لتسجّل أول حضور لأهل البيت، عليهم السلام، في معركة الدفاع عن الدين والقيم السماوية.
فما الذي كانت تخاف عليه الزهراء في هذه المعركة، وقد اقتنع معظم المسلمون آنذاك، بأن الذين يحكمونهم بعد النبي، يُعدون «خلفاء»؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى قاعدة منطقية:
يقول الفقيه الراحل آية الله السيد محمد رضا الشيرازي -قدس سره- بأنه «في المنطق هنالك بحث حول البراهين اللّمية، والبراهين الإنيّة؛ البرهان الإنّي هو أن ننتقل من المعلول إلى العلة، أي عندما نلاحظ الدخان ننتقل من وجود الدخان إلى وجود النار؛ فهذا يُقال له «البرهان الإنّي» أو ربما هذا أحد فردي البرهان الإنّي، حيث يتم تقييم الفكرة من خلال نتائجها، وما ولّدته الفكرة في الواقع العملي، حينئذ نحكم على الفكرة أنها باطلة أم حقّة، فيما يقيّم بعض المفكرين -وليس كلهم- الأفكار من خلال ذاتها، ولكن الطابع العام في المجتمعات هو تقييم الفكرة من خلال نتائجها».
انطلاقاً من هذه القاعدة والحقيقة نعرف أن الصديقة الزهراء، سلام الله عليها، تحركت من وحي معرفتها الدقيقة بنفوس الناس وطريقة بناء أفكارهم وقناعاتهم، فقراءة الأمور ومجمل قضايا الحياة من نتائجها أقرب إلى الذهنية العامة للمجتمع والأمة، فإذا مضت الأيام على وجود على وجود أولئك الأدعياء في مقام «الخلافة» وقد وصلوا إليها بتلك الطريقة البشعة والدكتاتورية، فإنهم سيبنون أفكارهم في قادم الأيام على كون الإسلام دين العنف والمال والجاه، ومن يريد الحكم عليه أن تتوفر لديه هذه المواصفات.
والتاريخ لم يغضّ النظر عما جرى لسعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج عندما اعترض على أمر السقيفة، فكان جزاءه الركل والرفس بكل وحشية، وقال أحدهم (…): « طؤوه»!! فأشبعوه ركلاً ورفساً في بطنه حتى ألمّ به المرض الشديد إثر الآلام المبرحة ومات بسببها، ولم يطلب شيئاً سوى أن قال: «منّا أمير ومنكم أمير»، بما يعني المطالبة بحق الأنصار بأن تكون لهم كلمة ودور في مصير خلافة رسول الله، صلى الله عليه وآله.
طبعاً؛ الحكام الثلاثة الذين توالوا على خلافة النبي، مارسوا عملهم وأمضوا سنوات حكمهم بما يشهد له التاريخ من أعمال تزييف وتحريف للقيم والمبادئ التي ضحى من أجلها رسول الله والأجلاء من أصحابه وأهل بيته، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، أو يعود الحق إلى أهله، وإنما نفّذ الأمويون ما كانوا يخططون له منذ تلك الأيام العصيبة، وهو تحويل «الخلافة» إلى ملك عضوض يتوارثه بنو أمية، ثم جرت السنّة السيئة على يد بني العباس، ومن بعدهم بني عثمان (العثمانيون)، ولكن؛ تلك الصرخة المدوية التي انطلقت بوجه الأدعياء هي اختطت في الأرض الطريق الصحيح للوصول إلى الإسلام الحقيقي بسماته المعروفة؛ من عدالة وسلام وحرية، ولعل ما ذكره سماحة الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي -قدس سره- في إحدى محاضراته حول شخصية الزهراء، يكون خير مصداق لما نذهب إليه، عندما وصف تحرك الصديقة الزهراء بأنه ضمن للإسلام بأن لا يكون مثل الديانات الأخرى في العالم، مثل المسيحية واليهودية؛ تحمل الشكل دون المضمون، ومجرد طقوس لا علاقة لها بحياة الناس.
سلاح الزهراء
انطلاقاً من الحديث المأثور عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، وإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان». وهكذا انطلقت الصديقة الزهراء، عليها السلام، في نهضتها الإصلاحية الرائدة بما تملك من القدرة المتناسبة مع تكوينها الفسيولوجي، فهي في عيون أبناء مجتمعها آنذاك، كانت كإحدى النساء، وهي ابنة ثمانية عشر سنة، ومعروف عن أهل البيت، عليهم السلام، اعتمادهم قانون الأسباب في الحياة، ولم يكونوا يوماً من أهل المعاجز والأفعال غير الطبيعية لتنفيذ ما يريدونه، مهما كانت الحاجة إلى ذلك شديدة، لذا نجد التضحيات الجسام وتحمّل شتّى صنوف الضغوط النفسية والآلام والمحن.
لذا كانت الكلمة، سلاح الصديقة الزهراء، عليها السلام، به خرجت من بيتها لأول مرة في حياتها وبتلك الحالة، وبه بينت للناس من هم…؟! ومن أين؟! والى أين؟! ولمن يراجع الخطبة البليغة والصاعقة المعروفة بـ «الفدكية» ويتدبر فيها، يجد المعارف الواسعة والمعاني العميقة التي حفظت بها الإسلام وحصنت به الأجيال القادمة من الانحراف الفكري والعقدي، وأن يعرفوا حق المعرفة الموازين الحق التي يزنون بها الأمور، وبعد مقدمة عقائدية، توجهت إلى الحاضرين في مسجد النبي بالقول: «أنتم الله نُصْبُ أمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَحَمَلَةُ دينِهِ وَوَحْيِهِ، وِأُمَناءُ اللهِ عَلى أنْفُسِكُمْ، وَبُلَغاؤُهُ إلى الأُمَمِ، وَزَعَمْتُمْ حَقٌّ لَكُمْ للهِ فِيكُمْ، عَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ، وَبَقِيَّةٌ استَخْلَفَها عَلَيْكُمْ. كِتابُ اللهِ النّاطِقُ، والقُرْآنُ الصّادِقُ، وَالنُّورُ السّاطِعُ، وَالضِّياءُ اللاّمِعُ، بَيِّنَةٌ بَصائِرُهُ، مُنْكَشِفَةٌ سَرائِرُهُ، مُتَجَلِّيَةٌ ظَواهِرُهُ، مُغْتَبِطَةٌ بِهِ أَشْياعُهُ، قائِدٌ إلى الرِّضْوانِ اتّباعُهُ، مُؤَدٍّ إلى النَّجاةِ إسْماعُهُ...».
ثم تطرقت المآل السيئ الذي بلغوه بسبب ضعف الإيمان وخور العزيمة ومصادرة الحريات والإرادة. فقالت منبهة: «أيُّها النّاسُ! اعْلَمُوا أنِّي فاطِمَةُ، وَأبي مُحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلا أقُولُ ما أقُولُ غَلَطاً، وَلا أفْغَلُما أفْعَلُ شَطَطاً: {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤوفٌ رَحِيم} فَإنْ تَعْزُوه وَتَعْرِفُوهُ تَجِدُوهُ أبي دُونَ نِسائِكُمْ، وَأخا ابْنِ عَمَّي دُونَ رِجالِكُمْ، وَ لَنِعْمَ الْمَعْزِيُّ إلَيْهِ صَلى الله عليه وآله. فَبَلَّغَ الرِّسالَةَ صادِعاً بِالنِّذارَةِ، مائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضارِباً ثَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأكْظامِهِمْ، داعِياً إلى سَبيلِ رَبِّهِ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنةِ، يَكْسِرُ الأَصْنامَ، وَيَنْكُتُ الْهامَ، حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلُّوا الدُّبُرَ، حَتّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأسْفَرَ الحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِيمُ الدّينِ، وَخَرِسَتْ شَقاشِقُ الشَّياطينِ، وَطاحَ وَشيظُ النِّفاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الإْخْلاصِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْبيضِ الْخِماصِ، وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ، وَتَقْتاتُونَ الْوَرَقَ، أذِلَّةً خاسِئِينَ، {تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ}، فَأنْقَذَكُمُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ صَلى الله عليه وآله».
لسان المرأة و دوره المصيري
هكذا نجد الصديقة الزهراء، عليها السلام، لا تطالب الناس بالتضامن معها لاستعادة حقها المسلوب من أهل السلطة والحكم، وإنما كانت مذكرة ومبلغة ومنذرة، بما أوتيت من البلاغة والفصاحة والمنطق السديد، وكيف لا تكون كذلك؛ وهي ربيبة خاتم الأنبياء، وقد قال بحقّها النبي الأكرم: «يرضى الله لرضى فاطمة…….».
وهذا يفتح الباب واسعاً أمام بنات حواء على مر الأجيال لأن يستفدن من هذه الموهبة الإلهية (اللسان) في التعبير عن رأيها والمطالبة بحقوقها، والأهم من ذلك ممارسة دورها الحضاري العظيم، المتمثل بتربية النشء الصالح بأحسن الألفاظ وأحكم العبارات والكلمات التي تكون كمثل اللبنات القوية والأصيلة في البناء الضخم، فإذا كانت المواد الإنشائية للبناء غير مطابقة للمواصفات الجيدة، فإنها ستكون مصدر خطر داهم على مستقبل البناء، سواءً كانت برجاً شاهقاً أو حتى بيتاً صغيراً.
وقد أشار علماء الاجتماع إلى عامل الأسرة والأبوين في تربية الطفل، إلى جانب عوامل الوراثة والمدرسة وغيرها، مما يضع المرأة، وتحديداً الأم أمام مسؤولية خطيرة في البحث عن أفضل الطرق لإيصال الكلمة الصحيحة إلى الطفل بما تزرع فيه بذور الخير والفضيلة والاستقامة.
وطالما وجدنا عوائل في محيطات متدينة ومحافظة، بيد أن الملاحظ من النتاج التربوي؛ أطفال وشباب تتناقض سلوكهم وتصرفاتهم وحتى أفكارهم مع القيم الدينية والأخلاقية، وعندما نغوص في الأسباب، نجد أن الطرح في منهج التربية غير سليم ولم يعتمد المنطق والدليل، ويراعي الجوانب الإنسانية والمشاعر الكامنة لدى الطفل، بينما نلاحظ هذه المواصفات متوفرة في مصادر تربوية أخرى، مثل بعض القنوات الفضائية ومواقع الأنترنت وبعض المؤلفات الأدبية والثقافية التي تلتزم بالمنهج العلمي وتراعي الحالات النفسية للإنسان، مما يجعل الطفل والشاب يعد هذه المصادر الملجأ الوحيد لنشأته الفكرية ومصدراً للمعرفة والثقافة.
إن غياب الخطاب التربوي في شخصية المرأة، وحضوره القوي جداً في المحافل السياسية والمهنية، جعل من المرأة مجرد صوت عالٍ ضمن الأصوات العالية في الساحة، وربما يتخذها البعض وسيلة للتنافس السياسي والصراع على النفوذ والمصالح، حتى وصل الأمر إلى أن يُغرر بالبعض من النسوة ممن بلغن مستوى من الكفاءة العلمية من خلال الدراسة الأكاديمية، بخوض غمار السياسة بشكل مقرف وممجوج وغير متوازن على أنها صاحبة حق في هذا الجانب، وعليها أن تكون جنباً إلى جنب مع الرجل في المحافل السياسية ولا تتخلف عنهم في المقاعد الأمامية وعلى منصات الخطابات والظهور الإعلامي، كأن تكون نائب في البرلمان أو مديرة مؤسسة حكومية أو وزارة أو غير ذلك، مع إن هذه المناصب ليست مقتصرة على الرجل بأي حال من الأحوال، لكن؛ أن تكون المرأة واجهة لهذه الجماعة أو ذلك الحزب مستخدمة أداة النطق والكلام الذي وهبها إياها رب العزّة والجلالة لما فيه خيرها وخير المجتمع والأمة، فهذا عين التضليل والتغرير وتزييف الحقائق المتعلقة بشخصية المرأة ودورها الطبيعي الذي رسمته لها رسالة السماء.
المصدر: مجلة الهدى.
إيمان عبد الأمير