نسمع كثيراً بتسميةٍ تطلق على المرأة المعروفة والمشهورة بأنها “امرأة تحت الأضواء”، ولو تأملنا بهذا اللقب لوجدناه لقب ذم -بشكل من الأشكال- أكثر من كونهُ لقب مدح، لأنه يَصفها بأنها [تحت] الأضواء! يعني بالأصل لولا وجود هذه الأضواء المُسلطة عليها لما كان يُلتفت إليها أو يكون لها ظهور وتأثير.
بل كما إن تلك الأضواء مؤقته لا تدوم، فأثرها وتأثيرها أيضاً هكذا سيكون؛ فما أن تطفئ عنها وتغادر تلك المنصة فإنها تبقى هي… هي… بحقيقتها التي تَحملها، فإن كانتْ تحمل نوراً ورسالةً ووعياً وإنسانيةً لا يُضيرها وجود تلك الأضواء من عدمها؛ فوحدها صاحبة النور الحقيقي هي لا تحتاج أن تسلط عليها الأضواء لتعرف أو تؤثر.
وسيدة النسوان الصديقة الزهراء (عليها السلام)، هي أعطتنا معالم وملامح شخصية سيدة الأنوار لا الأضواء، فقد كان مِداد نورها لأهل السماء وأهل الأرض غير منقطع مع قِصر عمرها ومسيرتها عَبر كل الأزمان.
مما يُذكر في أحوالها (عليها السلام) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: [إن ابنتي فاطمة ملأ الله قلبها وجوارحها إيماناً ويقيناً إلى مشاشها، ففرغت لطاعة الله](١)، إذ نستطيع أن نقول أن هذا مَعلم من معالم شخصيتها النورية، فالقدرة على التفرغ للطاعة يتطلب تحصيل إيمان راسخ، ويقين ثابت في قلب المؤمنة -كلاً بحسب اجتهادها- حتى تكون قوية فلا تُشغلها المُلهيات عن التفرغ للطاعاتِ التي هي نافذتها للتزود بالنورِ الباطني، فهي ما أن تستقي من مصدر الفيض بمداومة الاتصال به عز وجل، فإن ذلك سينعكس على حياتها، وعلى تأثيرها في أي ميدان رسالي تَدخله.
وهذا يحتاج أيضا إلى خلوص في النية، وصدق في التوجه، كما ترشدنا هي (عليها السلام) بقولها: [من أصعد إلى الله خالص عبادته أهبط الله عز وجل له أفضل مصلحته](٢)، إذ لا يوجد أفضل وأحسن من أن تكون الإنسانة داعية للهدى، ومرشدة لسُبل التقى، كما قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَن قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّه وَعَمِلَ صَالِحًا }(فصلت: 33).
فلو تأملنا في وصفها(عليها السلام) عندما طالبت بحقها، كيف تجلى تأثيرها وحضورها بقول: [لاثَتْ خِمارَها على رأسِها، واشْتَمَلَتْ بِجِلْبابِها، وأَقْبَلَتْ في لُمَةٍ مِنْ حَفَدتِها ونساءِ قَوْمِها، تَطأ ذُيُولَها، ما تَخْرِمُ مِشْيَتُها مِشْيَةَ رَسولِ الله (صلى الله عليه وآله) حَتّى دَخَلَتْ عَلى الخليفة الأول وَهُو في حَشْدٍ مِنَ المهاجِرين والأَنصارِ وَغَيْرِهِمْ فَنيطَتْ دونَها مُلاءَةٌ، فَجَلَسَتْ، ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّةً أَجْهَشَ القومُ لها بِالْبُكاءِ، فَارْتَجَّ الْمَجلِسُ].
هنا نجد أن السيدة (عليها السلام) هي احتجبت عنهم بملائةٍ، ولكن بالمقابل ما إن (أَنَّتْ أَنَّةً) واحدة حتى أرجعت القوم إلى أنفسهم حسرةً وندماً وتأسفاً على غلبة هواهم، وعدم امتثالهم لما أمرهم به نبيهم، فبَينت لهم الحق، وألزمتهم الحجة.
ثم يُبين النص كيف إن الصديقة (عليها السلام) كانت تُدير وتحكم أجواء المجلس، إذ كانتْ هي محور التأثير بالجالسين، وذلك بقول [ثُمَّ أمْهَلَتْ هَنِيَّةً حَتَّى إذا سَكَنَ نَشيجُ القومِ، وهَدَأَتْ فَوْرَتُهُمْ، افْتَتَحَتِ الْكَلامَ بِحَمدِ اللهِ وَالثناءِ عليه والصلاةِ على رسولِ الله، فعادَ القومُ في بُكائِهِمْ، فَلَما أمْسَكُوا عادَتْ فِي كلامِها،…](٣) لتخطب خطبتها الفدكية المشهورة.
فهي (عليها السلام) قد فرضت نورها وهيبتها لأنها كانت ذات نور وقوتها ذاتية قد صنعتها بارتباطها بالله عز وجل، لا خارجية اكتسبتها من عوامل مادية، بالنتيجة على أثرها انقادت لها القلوب وخشعت لها الأصوات؛ إذ لم يَكن مقياس التأثير هو الظهور-بالشكل الذي يثقف عليه اليوم- بل السيدة كان ظهورها بمقاييس مغايرة وبصورة مختلفة تلك التي رسمها الله جل وعلا لها، فوجودها المعنوي كان كافياً ليُحدث هذا الأثر البالغ، ونورها المبارك عَمّ وإلى ما شاء الله من الزمان.
وهذا ما أورثته إلى تاليتها مولاتنا السيدة زينب (عليها السلام) لما دخلت أسيرة غريبة على طواغيت زمانها في قصر الكوفة والشام، كانت لها من إشعاعات نور أمها فاطمة الزهراء(عليها السلام)، التي أخرست بها ألسنت الظَلام والظُلام.
لذا المرأة الفاطمية الزينية تحتاج دائما أن تبني في داخلها بيت من نور تأسياً بسيدتها، فما أن تدخل المجتمع أو أي ميدان من ميادين حياتها تفتح منه نافذة لتُشرق على كل ما حولها، فتكون به قوية مُهابة ذات عزة وكرامة، وتأثير نوراني يَدوم ولا يزول حتى بعد رحيلها.