مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
قبس من وحي خطبة الصديقة الزهراء(ع)
+ = -

إن خطبة السيدة الزهراء(عليها السلام) مليئة بالكنوز المعرفية على مستوى العقيدة والفقه والأخلاق، بل كل كلماتها هي كنوز لمن يبحث عن الغنى في ال

إن خطبة السيدة الزهراء(عليها السلام) مليئة بالكنوز المعرفية على مستوى العقيدة والفقه والأخلاق، بل كل كلماتها هي كنوز لمن يبحث عن الغنى في الدارين، وهذه محاولة في اقتباس شيء من فقرة من فقراتها النورانية علنا نستلهم منها درساً يفيض على وجودنا نوراً وبركة بإذن الله، وهو قولها سلام الله عليها: “والصلاة تنزيها لكم من الكبر”.(١)

فقد عُرف التكبر أنه: “إظهار العظمة” (٢)، فعن الرسول (صلى الله عليه وآله): يقول الله عز وجل: “الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما ألقيته في النار”.(٣)

فالتكبر “صفة يوصف بها الله سبحانه، فهو المستحق لهذه الصفة لأن عظمته واقعية وحقيقية، فإظهارها ليس بمذموم، بل ممدوح من أجل مصلحة تعود إلى تربية الخلق وتكاملهم،..” (٢).

ومن تعاريف التكبر- التي تبين لنا علة كونها مذمومة وعدم اتصاف الإنسان بها تشكل حاجز ورادع له- هو:

“إن التكبر يولد التعالي على الآخرين ورؤية النفس أن قدرها فوق قدر الغير،..” (٤).

فهكذا إنسان سيظلم وسينتهك حقوق غيره بسهولة، لكن إدراكه لوجود من أقوى منه وهو الله المتعال يجعله يرتدع ويعرف حجم نفسه.

“والتكبر من نتائج العجب بالنفس،..”(٤)، فعن الأمير قال: “العجب يظهر النقيصة”.(٥)

ومن هنا نعرف قصد أن انتفاء صفة التكبر في الانسان تكون سبب لتكامله، وبخلافه تودي إلى اظهار نواقصه وعيوبه.

ومن هنا نفهم مقصد إمامنا الباقر (عليه السلام) لما قال: “سد سبيل العجب بمعرفة النفس”.(٦)

ومن أهم سُبل معرفة النفس هي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ…} (فاطر:15)، وبقوله: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ}(النساء: 79).

بلى فمعرفة أننا فقراء لله تعالى في أصل وجودنا وفي كل ما لدينا وما سنملك، بل وحتى في ما نعطي لغيرنا، فهو بالأصل من الله تعالى وبتوفيقه؛ سواء كان العطاء مادياً كالمال، فالذي يدرك أنه مستخلف عليه وللغير حق فيه لا يَمُن إذا أعطى بل هو يعرف أن الفضل لله تعالى إن وفق ليكون من أهل العطاء.

وعلى مستوى العطاء المعنوي كالعلم فهو نور يقذفه تعالى بقلب من يشاء، وهذا العالم إنما هو وسيلة لنقل ما عنده لغيره.

فالصديقة (عليها السلام) أعطت حلاً جذرياً ليكون الانسان خالي من هذه الحالة النفسية المذمومة في النفس الانسانية إذا ما ظهرت في سلوكه وذلك  لما لها من خطر على مصيره الأبدي، ناهيك عن أثرها الدنيوي.

فالصلاة تربينا وتهذب هذه النفس، حيث من الالتفاتات اللطيفة لأحد الأفاضل – أنه جاء في مضمون كلامه عن أهم ثمار الصلاة – أنه قال: “هي ايجاد حالة التأدب بحضرة الله تعالى، فمع ان الصلاة هي لحظات لقاء وصلة بين الرب وعبده، إلا انها تبتدأ بالتكبير وهي من الصفات الجلالية التي تشير الى التعظيم، لا الصفات الجمالية التي تشير للرحمة والحب والرأفة الالهية، بالإضافة إلى وجوب الركوع والسجود فهي تربي الانسان على الخضوع لله تعالى واظهار حالة التواضع من العبد لسيده”.

لذا فكلما كان الإنسان مُقبلاً على ربه بقلب خاضع مستشعر لعظمة بين يدي من هو حاضر شيئا فشيئا هذا الحال يصبح ملكة في الانسان فلا تنفك هذه الصلة في كل حالاته، وفي كل لحظاته اليومية، وفي كل ميادين الحياة لأن الرب الذي وقف بين يديه في صلاته واستشعر هيبته وعظمته، هو معه في كل آن، وأينما كان.

فلا يظلم ولا يعصي لأنه يستشعر إحاطته سبحانه له وحضوره، وهذا الاستشعار ليس نابع من خوف، بل نابع عن الحب، فالمحب عندما يدرك أن عين محبوبه عليه هو يحب أن يظهر أمامه بأفضل حال، ويفعل كل ما يجعله مسرورا منه.

فلا يتكبر ولا يتعالى على خلق الله ليس خوفاً من هؤلاء الخلق، بل لأنه بمحضر الخالق العظيم المتعالي.

فللمصلين مراتب ولكل مرتبة أثر وثمرة، فهناك مرتبة (الصلاة الظاهرية)، أي الذي يؤدي الصلاة الواجبة التي هي فرض من الله عز وجل في أوقاتها المحددة لإسقاط الواجب قال تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} (النساء :103)، فهناك من يصلي ليسقط عنه الواجب, ولينجو من العقاب، مع أن الله عز وجل وضع العقاب لكي يحفزنا للتقرب منه ولنصل إليه، فتلك صلاة الخائفين!!.  

وهناك مرتبة (الصلاة الباطنية)، أي يكون القلب حاضرا وملتفتا لما تفعله الجوارح وما يقوله المصلي وواعٍ للمقصد قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِى صَلاَتِهِمْ خَاـشِعُونَ} (المؤمنون:3)، فعن النبي(ص): فقيل له ما الخشوع؟ قال: التواضع في الصلاة وأن يقبل العبد بقلبه كله على ربه عز وجل.(٧).

“فالخشوع هو لغة بمعنى الضراعة، وحقيقته حالة نفسية أو قلبية توجد في الذليل تجاه العظيم نتيجة شعوره بالذلة والتصاغر أمامه”.(٨)  

ومن هنا نعرف خطورة ابليس الذي طرد من رحمة الله لأنه لم يتخلص من هذه الصفة الذميمة فهو كان يصلي لكن صلاته لم تتعدى جوارحه فلم تنفعه لما أتى أمر ربه {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} (البقرة: 34).

فهو خرج من سمت التعقل التي تتصف بها الملائكة بقوله تعالى على لسان ابليس {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (ص:76)، فعن علي(ع): “العجب يفسد العقل”.(٩)

وهو القائل المتوعد لبني البشر بقوله تعالى: {… لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} (الأعراف:16).

فكما قال الامام علي(ع): “الصلاة حصن من سطوات الشيطان”.(١٠).

فالصلاة هي التي توصل الانسان للاستقامة والاتزان في الحياة وبها تقبل الأعمال ويكون الانسان بها من المفلحين.

وهذه مرتبة أخرى لعلاقة المصلين بصلاتهم وهي المحافظة على أدائها كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ الَّلْغوِ مُعْرِضُونَ(3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَوةِ فَـعِلُونَ(4) وَالَّذِينَ هُمْ لاِمَـنَـتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} (المؤمنون:9).

فالحفاظ عليها وادائها وعدم تركها على كل حال من موجبات التحصن من هذا العدو، وبالتالي التبري من صفاته التي اخرجته من رحمة الله وغفرانه ورضوانه.

وهناك مرتبة أعلى للمصلين وهي الغاية القصوى وهي إقامة الصلاة التي طلبها خليل الله تعالى ابراهيم عليه السلام بقوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} (إبراهيم :40).

أي أنه يصبح إنسان إلهي حامل لمسؤولية إحياء القيم السماوية في المعمورة وفي كل من حوله، أن يحول دون إنحراف الآخرين عن فطرتهم السليمة… فإقامة الصلاة يعني أن تروى الأرواح العطشى وتنجذب لرحاب الله وتتصل به.

فإقامة الصلاة أول هدف لمن يُمكن ويُستخلف في الأرض من القادة الالهيين لأن بها صلاح النفوس، وشيوع السلام الاجتماعي كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ …} (الحج:41)، فالهدف الأول للأئمة الذين يهدون بأمر الله يتمثل بإقامة الصلاة.

ومن هنا نعلم لماذا الطغاة والقيادات الباطلة لمَ منطقهم الاستعلاء والاستكبار؟!! بقوله تعالى:{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} (طه) (24:ومنطق اتباعهم هو الاستعلاء {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى} طه:( 64).

ومن هنا نعلم: أن الصلاة هي طلب ودعاء وطاقة يستمدها الإنسان من ربه ليتحرك فيها في كل حياتك… ويصبح فيها إنسان.

لذا فصلّها على كل حال، فبها الفلاح ونيل كل الآمال..

فإذا لم ترد أن تصلي صلاة العاشق المحب-كما يقولون- فلتصلي صلاة العاقل الذي يدرك أن كل حاجاته على هذا الباب فعليه أن يحضر ويطرق الباب بأدب لكي يبلغ حاجته؟!  

__________
(١)شرح خطبة الصديقة فاطمة الزهراء(ع)، ص١٤٧.
(٢)فقه الاخلاق: ج١، ص ٦٨(بتصرف).
(٣)ارشاد القلوب: ج١، ص١٨٩.
(٤)الاخلاق والآداب الاسلامية: ص٢١٤(بتصرف).
(٥)غرر الحكم: ص٣٠٩.
(٦)البحار: ج٧٥، ص١٦٢، ح١.
(٧)مستدرك الوسائل: ج١، ص١٠.            
(٨)فقه الاخلاق: ج١، ص ٦٩(بتصرف).
(٩)غرر الحكم: ص٦٥.
(١٠)ميزان الحكمة: ج٥، ح١٠٥٣١، ص٢١٥١.