ومضة من نور المصطفى، الصبر الجميل غذاءها، الطهر نفسها والرضية رتبتها، بكل صفات الكمال التي تحملها، والكرامة التي أنزلها الله بها، عنفت وأسقط جنينها، وكسر ضلعها، وغصبت فدكها، إلا أنها بقيت القائد الذي لا يقهر، والإيمان الذي لا يكسر، وأسست لثروة من عفة ازدانت بالعلم والمعرفة.
في قبتها المخفية طلاسم أسئلة، أو لأنها فاطمة بنت محمد النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه، وإذا ما أرادت النساء أن تتعلم القيادة الحقة وتفعيل الدور في المجتمع، فهي أسمى درس لذلك، حوار أجريناه مع سماحة الشيخ جعفر العاملي.
كيف حولت السيدة فاطمة عليها السلام العنف ضدها إلى عامل قوة لتوجيه الرأي العام وقيادة الأمة إلى جانب الأمام علي عليه السلام؟.
نص الحوار..
*غيرة علي(ع) وحميته تأبى عليه أن يدع الزهراء تفتح الباب للمهاجمين لماذا تركها تقوم بهذا العمل؟.
_ “إن جلوس علي عليه السلام في داخل البيت، وتركه زوجته تبادر لفتح الباب، يتنافى مع الغيرة والحمية، وهل يمكن أن يصدر مثل ذلك من علي عليه الصلاة والسلام!؟ بالتأكيد لا
إذا إنه لا شك في أن أمير المؤمنين عليه السلام هو إمام الغيارى، وهو صاحب النجدة والحمية، والحسين(ع) كأبيه.. وقد حمل الحسين(ع) نساءه معه، ومنهم العقيلة زينب(ع) ليواجهوا المحن والبلايا، والمصائب والرزايا، لأن الله سبحانه شاء أن يراهن سبايا فكن ينقلن من بلد إلى بلد، يتصفح وجوههن القريب والبعيد، في يد الأعداء الذين لا يتورعون عن ارتكاب أبشع الجرائم الموبقة، حتى مثل قتل أوصياء الأنبياء وذبح الأطفال، وسبي بنات الوحي”.
“وإذا كانت الحوراء زينب(ع) قد قالت لابن زياد: رضا الله رضانا أهل البيت، فإن عليا عليه السلام أولى من ابنته زينب بأن يرضيه ما يرضي الله سبحانه.
وبديهي أن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، يريد لهذا الدين أن يستمر قويا راسخا، حتى ولو كلفه ذلك روحه التي بين جنبيه، وهو على استعداد لتحمل أنواع الأذى في هذا السبيل.
وليس في إجابة الزهراء(ع) للمهاجمين ما يتنافى مع الغيرة والحمية، كما لم يكن حمل زينب والنساء إلى كربلاء مع العلم بسبيهم يتنافى مع ذلك.
حسب الروايات عند الفريقين كان النبي (ص) يأمر بعض زوجاته وأم أيمن بأن تجيب من كان يطرق عليه الباب حين يقتضي الأمر ذلك. وهل هناك أغير من رسول الله (ص)؟!
وثالثا: المهاجمون هم الذين اعتدوا وفعلوا ما يخالف الدين والشرع والغيرة، والحمية، وحتى العرف الجاهلي، أما علي(ع) فلم يصدر منه شيء من ذلك، بل هو قد عمل بتكليفه، والزهراء(ع) عملت بتكليفها، والخلاف والتعدي قد جاء من قبل المهاجمين”.
* شجاعة علي(ع) تأبى عليه أن يدع الزهراء عليها السلام تواجه الخطر، نتيجة لفتحها الباب أمام القوم المعتدين؟.
_المهاجمون كانوا يريدون إضاعة الحق باستدراج الإمام علي عليه السلام، ولو أنه عليه السلام استجاب لهم، لضاعت فرصة معرفة الحق، ولأمكنهم أن يمتلكوا كل الأسهم الرابحة وكل إمكانات التشويه، والتزييف للحقيقة.
فبطولة علي(ع) هنا هي بصبره على الأذى، وعدم استجابته للاستفزاز الذي مارسوه ضده، فعلي(ع) هو الذي يضحي بكل شيء في سبيل حفظ هذا الدين، ويعتبر أن هذه هي مسؤوليته وواجبه الشرعي، ولم يكن ليفرط في دينه في سبيل أي شيء آخر.
ولنفرض جدلا صحة ما يقوله البعض من أن القوم كانوا يحترمون الزهراء(ع) ويقدرونها، فلماذا لا يفترض أيضا أن يكون الهدف من إجابة الزهراء(ع) لهم على الباب هو الاستفادة من مكانتها وموقعها لدفعهم بأسهل الطرق وأيسرها؟! وهل ترى أن مكانتها واحترامها دفع عنها هجوم القوم وأذاهم؟.
قال ابن حمزة الزيدي وهو يرد على بعضهم: إنه لا عار عليه في أن يغلب، إذ ليست الغلبة دلالة على حق، ولا باطل، ولا على جبن. وهو إمام معصوم بالنص، لا يفعل بالعصبية، وإنما يفعل بالأمر، وقد أمر بالصبر، فكان يصبر امتثالا لأمر الله سبحانه، وأمر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، لا يقدم غضبا ولا يحجم جنبا(2).
*إذا كانت الزهراء(ع) مخدرة، فكيف تبادر هي لفتح الباب، فإن التي لا ترى الرجال ولا تقابل أحدا لا تفعل ذلك؟.
_”الإسلام لم يمنع المخدرة من أن تدافع عن نفسها، لو هوجمت، أو عن ولدها وزوجها، أو عن شرفها، أو دينها، ورسالتها، وأسمى مثال هي السيدة زينب عليها السلام حين أخرجها الإمام الحسين(ع) معه إلى كربلاء لتواجه السبي، والمصائب، وتواجه الرجال، وتخطب في الكوفة، وفي الشام أمام طواغيت وجبابرة الأرض في زمانها.
وخدرها لم يمنعها من الإجابة من خلف الباب، أو أن إجابتها هذه لا تكشف للناس ما لا يجوز لهم رؤيته منها، إذ انها كانت قد أجابتهم من خلف الباب، فحين كسروا الباب، لاذت خلفه رعاية للستر والحجاب، وعصروها بين الباب والحائط.
كما أن هذه المخدرة تحمل رسالة إلهية للنساء وللعالم اجمع أدتها حين خطبت الناس بالمسجد، وعرف الحق من الباطل، ومفادها أن خدر المرأة لا يمنعها من أن تدافع عن القضية العادلة، وعن الحق لو انحصر بها الدفاع عنه واستلزم ذلك الجهر بالمظلومية؟.
ألم يستثن الفقهاء صورة الدفاع عن الحق، من ممنوعية سماع صوت المرأة، لو قيل بتحريمه؟!.
ولو منعها خدرها من الدفاع عن الإمامة وكشف الحقيقة للأجيال حين انحصر إنجاز هذا الأمر الخطير بها عليها السلام لتشوه وجه الاسلام بالجريمة التي ضاع مرتكبها والمظلوم فيها.
كما كشفت للناس بشاعة المعتدي وأظهرت واقع نواياهم، وجرأتهم على الله ورسوله، وأنهم على استعداد للتعرض حتى للنساء، بل حتى لأقدس امرأة، وهي سيدة نساء العالمين، والبنت الوحيدة لأعظم رسول، حتى فور استشهاده صلوات الله وسلامه عليه.
إن هذا المعترض نفسه ينكر صحة حديث: خير للمرأة أن لا يراها الرجال ولا ترى الرجال، ويستند في ذلك إلى ما ذكرناه من خطبتها عليها السلام في المسجد، وبخروجها مع النساء في الحروب والغزوات، فما معنى أن يستدل بذلك هنا، وينكره هناك؟!”.
* الزهراء(ع) وديعة الرسول (ص)، فكيف يعرضها أمير المؤمنين(ع) للخطر؟.
إذا كانت الزهراء(ع) وديعة رسول الله (ص) عند علي(ع) فكيف لم يدافع عنها؟! ألا يجب حفظ الوديعة؟!.
_أولا: “إن دين الله كان أعظم وديعة من قبل الله ورسوله عند علي عليه الصلاة والسلام. ولا بد من حفظ هذه الوديعة، على أن هذه الوديعة نفسها، أعني الزهراء عليها السلام لم تتوان لحظة في الدفاع بنفسها، وبكل ما تملك وتستطيع عن الوديعة الأخرى، أعني دين الله سبحانه وتعالى.
ثانيا: إن عليا(ع) لم يفعل ما يتنافى مع حفظ الوديعة، والزهراء(ع) قد قامت بواجبها، وعملت بتكليفها، والمهاجمون هم الذين خالفوا حكم الله، واعتدوا على وديعة رسول الله (ص)، فالخطاب بحفظ الوديعة موجه إليهم بالدرجة الأولى.
أما القول بأن ترك علي(ع) لها لتواجه هي التحدي وحدها، يعتبر تفريطا منه عليه السلام بها،
فليس صحيحا، لأن تكليفها هي أن تواجه وتدافع عن الإمامة، وقد قامت بذلك، وتكليفه هو أن لا يعطيهم شرعية، ولا مبررا لتمرير مخططهم، وأن يحفظ للناس فرصة تمييز الحق من الباطل، ثم أن لا يعطيهم فرصة الاعتداء على الزهراء(ع) ولا يمكنهم من تلميع صورتهم، وتخفيف بشاعة ما ارتكبوه واقترفوه ثم تمريرهم ذلك على الناس بدهاء.
وقد قام علي والزهراء عليهما سلام الله بما يجب عليهما خير قيام، ولم يكن بالإمكان فعل ما هو أفضل من ذلك، ومن يعمل بواجبه الشرعي لا يمكن أن يعتبر مفرطا بالوديعة، ومخالفا للحكم الشرعي، بل التفريط إنما جاء من قبل الآخرين”.
*هل ضرب الزهراء(ع) مسألة شخصية؟!
أولا: “إن الزهراء عليها السلام لا تعتبر ضربها ومسألة فدك مسألة شخصية، ولم تكن إجابتها القوم من وراء الباب تصرفا شخصيا، بل كان دفاعا عن الإمامة والخلافة، التي يراد اغتصابها، وتريد هي منع تشريع هذا الاغتصاب، ثم التخلص والتملص من تبعات سلبياته.
ثانيا: إن الإقدام على ما أقدموا عليه في حق الزهراء(ع)، وعلى القول للنبي (ص) وهو في مرض موته: إن النبي ليهجر، وعلى غير ذلك من أمور من أجل الحصول على أخطر موقع، وأشده حساسية، وأكثره مساسا بالواقع الإسلامي كله، إن ذلك يعطينا: أن من يفعل ذلك غير مؤهل للموقع الذي يطلبه، ويعرفنا: أنه لا يمثل النموذج الأمثل، والأفضل للحاكم الإسلامي، ولا تعكس مواقفه أو تصرفاته، الرؤية الإسلامية الدقيقة في كل المسائل.
فكان موقف الزهراء(ع) مفاجئا لهم فقد أفقدهم القدرة على التصرف المناسب وضيع عليهم ما جاؤوا لأجله، فتصرفوا معها برعونة وبانفعال وحقد، وتسببت في فضح أمرهم، كما إن ضرب الزهراء عليها السلام، وإسقاط جنينها، ليس أمرا عاديا، بل هو حدث هائل، لا يمكن أن يقبله منهم أي مسلم صادق الإيمان، ولسوف يجهر بالاعتراض عليهم والتقريع لهم، إذا لم يكن ثمة خوف من سيف أو سوط.
بالاضافة إلى إن مهاجمتهم لها عليها السلام ليس لأجل أنهم كانوا يقصدونها لذاتها، بل هاجموها لأنها منعتهم من الوصول إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام، وحالت بينهم وبينه، وقد صرحت النصوص بذلك، وبأنها حاولت منعهم من فتح الباب، أو تلقتهم على الباب.
*وكيف يمكن تحصين الأجيال من التزوير الإعلامي، الذي قد يمارسه الحكام بكل ما يملكون من طاقات وإمكانات سلطوية ومادية؟!.
_”لقد قتل المأمون أخاه الأمين، ثم صورة إعلامه أنه إنسان تافه، جاهل وأحمق، بل ومتخلف عقليا، ولم يزل الباحثون يعتقدون فيه نفس هذا الاعتقاد الذي أوحى به المأمون للناس، مع أن الحقيقة هي أنه كان على عكس ذلك تماما، لكن ذنبه: أنه هزم وقتل.
وهذا ما حاول انتهاجه المعادين لامير المؤمنين عليه السلام في قضية ضرب الزهراء عليها السلام، وهذا يوضح أنه لو كان علي عليه السلام هو الذي أجاب المهاجمين لضاع الحق لدى الكثيرين من الناس، وهو ما لم يكن علي (عليه السلام) ليقدم على التفريط به في أي ظرف، ولكانوا فعلوا ما أرادوه من اقتحام البيت، وغيره من أمور، وكانوا أعظم شراسة وأشد ضراوة، وأكثر عنفا وفتكا بأهله، ولوقع الناس في أعظم البلاء، حيث تسد عليهم النافذة الوحيدة لمعرفة الحق خصوصا من كان منهم بعيدا عن أجواء المدينة، فضلا عن الأجيال اللاحقة، وإلى يومنا هذا.