من خطبتها (عليها السلام):
“وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمةٌ جعل الإخلاص تأويلها، وضمَّن القلوب موصولها، وأنار في التفكير معقولها”
بعد الحمد والثناء على ربِّ الأرض والسماء أخذت سيدة النساء تلهج بالشهادة الغراء، وأطلقت على الشهادة (كلمة)، بلحاظ أنّ كل لغة تحتوي على كلمة بسيطة، ومركبة، وهيأة تركيبية، فالشهادة هي هيأة تركيبية تم ربط كلماتها بحروف فأصبحت جملة تامة.
(الإخلاص تأويلها):
هنا لابد من بيان مفردتي الإخلاص والتأويل، ثم ربطهما بالشهادة.
(الإخلاص) يختلف تعريفه باختلاف موضوعه، إلاّ أنّ مراد السيّدة الزهراء (عليها السلام) مرتبط بالإخلاص لله سبحانه، وعلى تلك المفردة دلّ الله تعالى بنفسه عليها في كتابه العزيز، حيث قال: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّين}(١)
فالمراد من الإخلاص إذن هو الإخلاص لله تعالى في دينه، لكن القرآن الكريم لم يوضح كيفية الإخلاص، لذا تعين الرجوع للسنة النبوية -ما صح عن النبي وآله عليهم السلام من روايات_ المفسرة له.
وقد روي عن سيّد الموحدين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في خطبته المباركة، أنّه جعل الإخلاص كمالاً لتوحيد الله تعالى، ثم أسهب في بيان كيفية الإخلاص في التوحيد، حيث قال: “كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ، وَ كَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ ، وَ شَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَة”(٢)
والمراد من نفي الصفات عنه تعالى هو نفي الصفات الزائدة على الذات، الأمر الذي قالت به بعض المذاهب الإسلامية (الأشاعرة)، فيكون المقصود من كلامه (عليه السلام) هو عينية الصفات للذات، وبالتالي لا تكون الذات الإلهية مركبة من ذات وصفات؛ لأنّ التركيب لازمه التعدد، وهذا خلاف التوحيد.
وعن الإمام زين العابدين (عليه السلام)أنه قال: “فأما حق الله الأكبر عليك فأن تعبده لا تشرك به شيئا”(٣).
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: “خالصاً مخلصاً ليس فيه شيء من عبادة الأوثان”(٤).
فالروايات تشير إلى تنزيه المولى سبحانه عن أن يكون معه شيء ثانٍ قديم بقِدَمه سبحانه.
والقديم المنفي عنه مطلقاً، أي سواء أكان موجوداً -كمن يدّعي وجود إله مع الله سبحانه- أو كانت صفاته سبحانه -كمن يدّعي زيادة صفاته الذاتية عليه سبحانه-.
وأما مفردة (التأويل)
“التأويل في اللغة من: أوّل الكلام وتأوله: دبّره وقدّر، وأوله وتأوله: فسّره، وقوله عزَّ وجل: ولمّا يأتكم تأويله، أي لم يكن معهم علم تأويله.
والمراد بالتأويل: نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ”(٥)، فظاهراً تؤول الشهادة إلى نفي الشريك والقديم عن الله تعالى.
وبعد أن اتضحت لنا المفردتان نلملم أطراف الحديث ونربطها بكلمة الشهادة، (جعل الاخلاص تأويلها) أي إنّ شهادة لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تؤوّل بنفي الشريك والقديم عنه.
(وضمّن القلوب موصولها):
أي حوى القلوب ما يصله ويكتفى به للإقرار بالشهادة لله سبحانه، فبالفطرة عُرف الله سبحانه ولهجت الألسن بالشهادة بألوهيته، وتلك هي أدنى درجات المعرفة به سبحانه.
حيث روي عَن أَبِي الْحَسَنِ (عَلَيْهِ السَّلام) حينما سئل عن أدنى المعرفة الفطرية أنه قال: “الاقْرَارُ بِأَنَّهُ لا إِلَهَ غَيْرُهُ، وَلا شِبْهَ لَهُ وَلا نَظِيرَ، وَأَنَّهُ قَدِيمٌ مُثْبَتٌ مَوْجُودٌ غَيْرُ فَقِيدٍ، وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء”(٦)
وإلى ذلك أشارت السيدة الزهراء (عليها السلام) بكلمة واحدة.
(وأنار في الفكر معقولها):
أي أضاء في الذهن الإنساني ما يتعلق بكلمة الشهادة لله تعالى بالوحدانية من الدلائل والبراهين، والكلام حصراً في الأدلة العقلية، كدليل التمانع، وخلاصته:
“لو كان لله شريك للزم فساد الكون، وهذا الدليل مستنبط من قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}(٧). والتالي باطل، والمقدم مثله في البطلان.
بيان ذلك:
لو أراد الله تعالى خلق جسم ما، وأراد الإله الآخر خلق نفس الجسم، فهنا احتمالان:
١/إن اختلفت ارادتهما بأن يريده أحدهما ساكناً، والآخر متحركاً، فالأمر لا يخلو عن ثلاث فرضيات:
أ- أن يقع مرادهما. وهذا باطل؛ لأنه يلزم اجتماع النقيضين -الحركة والسكون-.
ب- أن يقع مراد أحدهما، وهذا باطل؛ لأنه ترجيح بلا مرجح، ويدل على عجز الإله الثاني، فتنتفي فرضية وجود شريك مع الله سبحانه.
ج- أن لا يقع مرادهما، وهذا باطل؛ لأنه يلزم خلو الجسم من الحركة والسكون.
٢/إن اتحدت إرادتهما، بأن يريدا الجسم أن يكون متحركاً مثلاً، وهذا باطل أيضاً؛ لأن الجسم لا تتعلق به أكثر من إرادة واحدة، وبالتالي يقع مراد أحدهما، ويكون الآخر عاجزاً، والعاجز لا يصح أن يكون إلهاً، وهذا ينفي وجود شريك مع الله سبحانه”(٨).
فهنا تعقل الفكر وعملية الاستدلال على معاني كلمة الشهادة، وهي لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له.
وهناك العديد من الأدلة العقلية التي تؤدي نفس الغرض المثبت أعلاه، كدليل التمايز، والتعدد يستلزم التركيب، وما شابه ذلك.
______________
(١) البينة: ٥.
(٢) نهج البلاغة، الخطبة الأولى، ٤٠.
(٣) ميزان الحكمة: للريشهري، ج١، ص٦٧٠.
(٤) وسائل الشيعة: للحر العاملي، ج١، ص٤٣.
(٥) الميزان في تقسير القرآن: للعلامة الطباطبائي، ج٣، ص٢٨.
(٦) الكافي: للشيخ الكليني، ج١، ب ٢٦،ح١.
(٧) الأنبياء: ٢٢.
(٨) أجوبة الشبهات الكلامية: محمد قراملكي، ج١، ص٣٨٥.
وصلِ اللّهم على محمد نجيبكَ من خلقكَ، وعلى آله صفوة خلقك.
علوية الحسيني