مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
البحث الفائز الثالث ((فَاطِمَةُ الزَّهرَاءِ (عَ) بِنتُ الرِّسَالَةِ، وأُمُّ الرَّسُولِ (صَ) ))/ الشيخ الحسين أحمد كريمو (السيد) من سوريا
+ = -

البحث: فَاطِمَةُ الزَّهرَاءِ (عَ) بِنتُ الرِّسَالَةِ، وأُمُّ الرَّسُولِ (صَ)  

الشيخ الحسين أحمد كريمو (السيد)

تقديم اجتماعي

الخالق سبحانه خلق المخلوقات كلها زوج، وخلق الإنسان من نفس واحدة، وخلق منها زوجها كما نصَّت الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[1] وتكرر ذلك في أربع آيات كريمة وبألفاظ: (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)، ولكن في آية كريمة: (أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)[2]، فكلها تؤكد أن الخلق والإنشاء واحد، ولذا لا يمكن أن يعيش الفرد منهم – رجل كان امرأة – دون نصفه الآخر، ولذا قالوا: المرأة خُلقت من الرجل فهو يشعر بالنقص دونها، وهي تحس بالضياع دونه، والمرأة نصف المجتمع بهذا المعنى.

وإذا اجتمعت المرأة بالرجل وتزاوجوا بعقد شرعي بينها يشكلون أسرة صغيرة لها مهمة وهدف في هذه الحياة، هي الحفظ على النسل بإنجاب الأولاد والذرية، وهؤلاء عندما يكثرون يُشكلون مجتمعاً بشرياً، وهكذا إلى أن أصبحنا اليوم حوالي ثمانية مليارات من البشر نعيش على هذا الكوكب ويقولون كذباً وزوراً وبهتاناً: أنه يضيق بهم، وذلك لأنهم ينظرون إلى الآخرين بعين العداوة والبغضاء، وكان عليهم أن ينظروا إليهم بعين الأخوة ويُعاملونهم بالمحبة والتقدير لا بالقتل والنار والتدمير، فكلهم جميعاً من أب وأم واحدة، وخُلقوا ليتكاملوا لا ليتقاتلوا، وليتنافسوا بالخيرات وعمل الصالحات، ويتعاونوا على بناء الأرض والحضارة لا أن يتسابقوا على حرقها ودمارها.

وقال أهل العلم الاجتماعي: أن “الإنسان مخلوق مدني اجتماعي بالطبع“، أي أن الله سبحانه خلقه على طبيعة اجتماعية صرفة فلا يمكن أن يعيش مفرداً، ولا بدَّ له من مجتمع يأوي إليه فيتنامى فيه ويتكامل مع إخوته من البشر، هذا إذا كان بشراً سوياً وأما إذا كان مريضاً فيجب أن يبحث عن طبيب معالجاً لنفسه، وهذه الحقيقة الاجتماعية بينها الخالق في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).[3]

ويقول السيد الطباطبائي: (كون النوع الإنساني نوعاً اجتماعياً لا يحتاج في إثباته إلى كثير بحث، فكل فرد من هذا النوع مفطور على ذلك، ولم يزل الإنسان يعيش في حال الاجتماع على ما يحكيه التأريخ والآثار المشهودة الحاكية لأقدم العهود التي كان هذا النوع يعيش فيها ويحكم على هذه الأرض).[4]

وهذه الحقيقة أكدت عليها الأحاديث الشريفة، والسيرة العملية لأئمة المسلمين (ع) فعن صعصعة بن صوحان العبدي، قال: (عادَني عليٌّ أمير المؤمنين (ع) في مرض، ثم قال: انظرْ لا تجعلنَّ عيادتي إياك فخراً على قومك، وإذا رأيتهم في أمر فلا تخرج منه، فإنَّه ليس بالرجل غنًى عن قومه، إذا خلع منهم يداً واحدة يخلعون منه أيدياً كثيرة، فإذا رأيتهم في خير فأعِنْهم عليه، وإذا رأيتهم في شر فلا تخذلنَّهم، وليكن تعاونكم على طاعة الله، فإنَّكم لن تزالوا بخير ما تعاونتم على طاعة الله، وتناهيتم عن معاصيه).[5]

ومن أجلِّ الوصايا والخطب الاجتماعية لأمير المؤمنين (ع) الخطبة التي يُبين فيها أهمية التكافل مع القرابة والعشيرة، ويُعلل ذلك تعليلاً عميقاً يتناسب مع البيئة الاجتماعية التي عاصرها، حيث يقول (عليه ‌السلام): (أَيُّهَا النّاسُ، إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي الرَّجُلُ – وَإِنْ كَانَ ذَا مَال – عَنْ عَشِيرَتِهِ، وَدِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَلسِنَتِهمْ، وَهُمْ أَعْظَمُ النَّاسِ حَيْطَةً مِنْ وَرَائِهِ وَأَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ، وَأَعْطَفُهُمْ عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَة إنْ نَزَلَتْ بِهِ، وَلِسَانُ الصِّدْقِ (حُسْنُ الذِّكر) يَجْعَلُهُ اللهُ لِلْمَرْءِ في النَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ المَالِ؛ يُورِثُهُ غيرَهُ.. أَلاَ لاَ يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ القَرَابِةِ يَرَى بِهَا الخَصَاصَةَ (الفقر والحاجة) أنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لا يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ، وَلاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ (المال)، وَمَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ، فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ، وَتُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْد كَثِيرَةٌ؛ وَمَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ المَوَدَّةَ).[6]

وكانت وصيته (ع) لولده الإمام الحسن السبط (ع) تصبُّ في هذا المعنى حين قال: (وَأَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِيرُ، وَأَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ، وَيَدُكَ الَّتي بِهَا تَصُولُ).[7]

 والإمام الصادق (ع) يُوصي أصحابه وشيعته فيقول: (إِنَّهُ لَا بُدَّ لَكُم مِن النَّاسِ إنْ أَحَداً لا يَستَغنِي عَن النَّاسِ حَيَاتَه… وَالنَّاسُ لا بُدَّ لبَعضِهم مِن بَعضٍ مَا دَامُوا عَلَى هَذِه الحَال).[8]

وهذا ما أكده علماء النفس الاجتماعي حديثاً، حيث قالوا: بوجود الروح الاجتماعية في الإنسان، وإن اختلفوا هل هي فطرية أو مكتسبة، ولكن الأكثر يرون أن الدافع الاجتماعي دافع فطري، مغروس في طينته التي خُلق عليها، فالإنسان كائن اجتماعي بطبيعته، يميل إلى العيش في جماعات، ويرغب في العيش والاجتماع ببني جنسه، والاشتراك معهم في نشاطاتهم، فيأخذ منهم ويُعطيهم، ويتفاعل معهم ليُحقق سعادته وكماله في ذلك، ولذا تراه يشعر بالوحشة والضِّيق إن حيلَ بينه وبين ذلك، ومنه كانت عقوبة السجن وحجز الحرية تكون من أصعب العقوبات، وأشدِّها وأشقاها السجن الانفرادي، قد تؤدِّي إلى المرض النفسي والجنون.

فالإنسان يتكامل بالآخرين، ولا يستطيع أن يكتفي ذاتياً في سدِّ حاجاته المادية، ولا قدرة له على الوحدة، فالاجتماع ضرورة لسعادة الإنسان، وشرط في استمرار وجوده، فهو يستأنس بوجود أبناء جنسه، وَيُقوِّم حياته فيهم من جميع نواحيها المادية والمعنوية، وذلك الأسباب، أهمها:

1- لأنَّه لا يستطيع تحقيق لوازم حياته الأساسية بدون جماعة.

2- لأنه لا يستطيع أن يشعر بالأمن والأمان، والطمأنينة، والشخصية الذاتية، إلا في المجتمع.

3- لأنه لا يستطيع أن ينمو، ويتكامل نفسياً، وفكرياً عقلياً، ولا مهنياً، وثقافياً إلا في الاجتماع.

وتلك حكمة الله في خلقه حيث فطرهم على روح التجمع، وجميل ما يُنقل عن فيلسوف الرومان شيشرون: “لو أن (الإله) رفع إنساناً من بين قومه ووضعته في روض أريَض بعيداً عن منازل الناس، وجعلت تحت أمره الشيء الكثير من كل ما تشتهيه النفس ويسر الخاطر، ثم حتَّمت عليه ألا يرى بشراً، ولا يساكن إنساناً لتخيَّر الفقر المدقع بين قومه على نعيم مقيم لا يكلم فيه إنساناً”.

وقال فيلسوف آخر: “لو أن إنساناً صعد إلى السماء، وشاهد من هنالك عجائب الأرض وجمال الكواكب لتبرم، وضاق صدره؛ لأنَّه لم يجد من الناس مَنْ يُخبره بما شاهد من عجائب الأرض وبدائع السماوات”،[9] وحقاً هذا الذي جرى مع أبينا إبراهيم الخليل (ع) حين أراه الله تعالى الملكوت، وكذلك الحبيب المصطفى (ص) حينما عُرج به إلى السماء كان جليسه وأنيسه جبرائيل (ع)، والكلام كان بصوت أحب الخلق إليه أمير المؤمنين الإمام علي (ع) كما في الرواية.[10] 

الأسرة المثال في المجتمع البشري

وبناء على ما تقدم نعرف أن الإنسان مجبول على فطرة الاجتماع، ومجبول عليها، وأساسها، وأصلها هي الأسرة التي تتكوَّن من الرجل والمرأة، ثم الأولاد، فأساس بناء المجتمع البشري هي هذه البُنية البسيطة الجميلة التي جعلها الله أُنساً وعُرساً كل منهما للآخر، ولهذا جاء في وصيَّة السيدة فاطمة الزهراء (ع) لابن عمِّها أمير المؤمنين (ع) في آخر لحظات حياتها الشريفة، وقبل رحيلها إلى ربها شهيدة مظلومة، حيث قالت له (ع): (فإِنَّ الرِّجَالَ لَا بُدَّ لَهُم مِنَ النِّسَاءِ).[11]

ولكن الحقيقة التي توصَّلتُ إليها شخصياً من خلال تتبعي ودراستي للتاريخ عامَّة، والإسلامي خاصَّة، وقراءاتي الكثيرة والغزيرة جداً منذ ثلاثة عقود، أنه لا يُوجد أسرة في العالم كأسرة علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء (عليهم سلام الله)، لا قديماً ولا حتى في الأنبياء والأوصياء (ع) جميعاً وذلك – كما أعتقد – ليكون هذا البيت الشَّريف، وهذه الأسرة المباركة هي المثال الرَّباني، لأنها كانت مثلاً في الكمال والجمال الإنساني في كل أفرادها.

ومن هنا يجدر بنا البحث كثيراً وطويلاً حول الدروس التربوية المستفادة من هذه الأسرة الكاملة، فالرجل أمير المؤمنين (ع) وهو معصوم، والمرأة سيدة النساء (ع) وهي معصومة، والابنان سيدا شباب أهل الجنة (ع) وهما معصومان، فأين توجد أسرة في حياة البشرية اجتمعت فيها هذه النفوس الطاهرة المطهرة القدسية، فهؤلاء الكرام أصلهم من نور عظمة الله، وهم أصل شجرة النور المباركة، التي وصفتها سورة النور الشريفة العظيمة.

فالأسرة الأولى في هذه الحياة، أبو البشر الأول آدم وحواءه، أنجبا ولدين /هابيل وقابيل / عندما كبرا قتل قابيل أخاه هابيل، وكانت أول جريمة وقعت، وكذلك أسرة أبو البشر الثاني نبي الله ورسوله نوح (ع) من أربع أولاد كان ربعهم /كنعان / عمل غير صالح، وعصى ربه وأباه وغرق مع الغارقين، وأما أبو الأنبياء (ع) وأبونا إبراهيم الخليل (ع) فلم يكن لديه إلا ولدين، فكان اسحق معه في فلسطين، والآخر في جبال فاران وفي الوادي المقفر غير ذي زرع نتيجة غيرة السيدة سارة أم إسحق، وأما السيد المسيح فلم يكن لديه إلا أمه البتول مريم (ع)، وكذلك الحبيب المصطفى (ص)، فليس لديه إلا فاطمة الزهراء (ع) وكأن الله تعالى أراد بإرادته النافذة والحتمية أن تكون ذرية رسول الله (ص) محصورة في هذه البَّضعة الطاهرة، لتكون أسرتها بهذه المواصفات الراقية جداً في دنيا الإنسانية، وبالتالي لتكون الأسرة المعيار، والمقياس، والمثال في هذه الحياة.

تقصيرنا في إظهار الحقيقة

وفي القرآن الحكيم آيات درسناها، ودرسها العلماء الأعلام، واستفادوا منها كثيراً لا سيما بعد أن عضدوها بالروايات الشريفة الواردة عن النبي الأكرم (ص)، وعترته الطاهرة (ع)، ولكن لم نلتفت إلى الجانب التربوي النسوي فيها والتي تمثِّل السيدة فاطمة الزهراء (ع) محورها وأصلها وأساسها، فترانا نستدل بالآية الكريمة على طهارة أهل البيت (ع) (آية التطهير)، لنقول: وفاطمة الزهراء (ع) منهم، وفيهم، فهي طاهرة بنصِّ الآية الكريمة، ولكن ما معنى ذلك، وما يترتب عليه، في حياتها الاجتماعية كامرأة، ولكن ليست كالنساء أبداً من الطهارة من الدماء وغيرها، وهي تُشكل أساس حياة المرأة وأحكامها؟

 وكذلك الأمر حينما ندرس قصة المباهلة وآيتها المباركة، فلماذا مثَّلت فيها سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) النساء جميعاً، رغم وجود الآلاف لا سيما زوجات النبي (ص) وأمهات المؤمنين كما سمَّاهن الله تعالى، عدا عن بقية النساء، ألا يعني ذلك ما ذهبنا إليه؛ أن السيدة فاطمة (ع) هي المثال، والمقياس، والمعيار الإنساني، والكمال النسائي في حياة المرأة الإنسانة؟

والطامَّة الكُبرى عندما نتناول أقصر سورة في القرآن الحكيم التي نزلت لتسلية قلب رسول الله (ص) عندما شمت به عدوَّه عندما توفي آخر ولده الذكور فقال عنه: (إنه أبتر)، فأنزل الله سبحانه سورة (الكوثر)، والتي تعني بلا شك ولا ريب أنها فاطمة الزهراء (ع) خاصَّةً ناصَّةً ولكن تقصيرنا بحقها فإننا إلى اليوم نفسرها: (بنهر في الجنة)، وكأن ربنا سبحانه يُسلِّي نبيَّه الكريم (ص) بشيء من الحُلم، أو الوهم بالنسبة لأهل الجاهلية الذين لا يؤمنون بالجنة والنار أصلاً.

فكيف يُسلِّيه بنهر في الجنة وهو يُعيَّر بالذرية والبنين في مكة؟ فهل هذا ينطبق مع علم المعاني ومقتضى الحال كما يذهب أهل البلاغة النصية؟ أو أن الحقيقة الواضحة وضوح الشمس أن الله سبحانه قال لرسول الكريم (ص): أنت لست أبتراً من الذرية ولكن حصرنا ذريتك بابنتك فاطمة من وصيك وابن عمِّك علي بن أبي طالب (ع) وستكون كالنهر الذي لا ينضب في هذه الحياة، وأما ذاك الشَّانئ اللعين العاص بن وائل السَّهمي أو غيره فهو الأبتر لأن الله سيقطع ذكره ونسله في هذه الحياة؟

  هكذا يكون تفسير (الكوثر)؛ هي فاطمة الزهراء (ع) وذريتها المباركة، ورغم كل محاولات الإبادة الجماعية ضدها من كربلاء المأساة الخالدة وحتى الآن نجدها نهراً بشرياً يكاد لا ينحصر بالعد والإحصاء فأذكر أن إحصائية جرت في سبعينيات القرن الماضي أي قبل نصف قرن كان عدد السادة من نسلها – روحي فداها – أكثر من خمسين مليون، هؤلاء السَّادة المسجلين ولديهم شجرة نسب متصلة بالسيدة فاطمة (ع)، عدا عن أمثالنا الذين ليس لدينا شجرة نسب ولكن معروفين في بلدنا ومنطقتها ب(بيت السيد).[12]

فالتقصير فينا ومنا لأننا لم نستطع أن ننزل تلك الروايات الكثيرة، المتسقة مع منطوق سورة الكوثر المباركة، ونثبت عقلاً، ونقلاً، ومنطقاً، ولغة، وبلاغة، أن الكوثر هو فاطمة الزهراء (ع) وليس نهراً في الجنة، لأن الجنة كلها خُلقت من نور ولدها الإمام الحسين (ع) سيد شباب أهل الجنة، وهي سيدة السادة، وأمهم، وأصلهم المبارك فهي أرفع وأجل من ذلك لأن الوجود ظهر وأزهر من نورها الذي خُلق من نور العظمة الإلهية.          

وأما تقصيرنا الكبير فهو في السورة المباركة التي نزلت بحقها وكانت محورها التي تدور حولها من بدايتها إلى خاتمتها، فهي سورة (الإنسان، الدَّهر، هل أتي)، فهي خاصَّة في أهل البيت الأطهار (ع) حتى أن الباحث الدقيق يشعر وكأن آية التطهير قُطفت منها ودُسَّت في سورة الأحزاب كجملة معترضة في آية تتحدث عن زوجات النبي (ص)، ليقولوا: أنها نزلت فيهن، وهي أبعد ما تكون عنهنَّ، وهنَّ أبعد ما يكنَّ عنها قولاً وعملاً، فمَنْ يدَّعي لهنَّ الطهارة المطلقة؟

وهناك شبه إجماع على أنها نزلت فيها، ولذا أهل الفهم والعلم يقولون: أن الله سبحانه لم يذكر الحور العين في هذه السورة وهي تتحدث عن نعيم الآخرة كرامةً، وحباً، واحتراماً للسيدة فاطمة الزهراء (ع) لأنها الحوراء الإنسية فلماذا يُذكر الحور العين وهي سيدتهن في الدنيا والآخرة؟

ولكن هل استطعنا أن نثبت ذلك في الأمة الإسلامية؟ أو سكتنا ومشينا معهم بإنكارهم حتى ابتلينا بصبيان النار الوهابية وأتباع المخذول ابن تيمية الذي يُنكرون كل فضيلة، ويأبون كل كرامة لمحمد وآله الطيبين الطاهرين، وتعلقوا ببعض الروايات المكذوبة التي تنال منها ومن زوجها أمير المؤمنين (ع)، مما رواه البخاري المجهول في كتابه المنحول له لأنه سرقه من أستاذه وهرب به ليدَّعيه في غفلة من الزمن الأغبر؟[13]

 وكم هي عظيمة سورة الإنسان المباركة وكم فيها من أحكام وبيِّنات راقية ولطائف تخصُّ سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) نخاف، وربما نخجل من إظهارها وبيانها لجمهورنا الكريم من شيعتها ومحبيها، فنذهب إلى أقوال الطبري، والزمخشري، والرازي، وغيرهم ونترك روايات أبناءها من أئمة المسلمين (ع) حولها، وفي تفسير هذه السورة الشريفة والمضامين التربوية فيها فهي كنز من المفاهيم التربوية الراقية جداً وتشمل الزوج والأبناء والخدم وكيفية التعامل الحضاري مع الطبقات الضعيفة في المجتمع الإسلامي، فلماذا نغفل ذلك في حياتنا ونحن أحوج ما نكون لها؟

وأما آية (المودة) وأجر الرِّسالة فهي تحتاج إلى حديث وبحث ربما يستغرق كتاباً مستقلاً بنفسه لأنها الآية الكريمة التي طلبت أجراً من كل مَنْ يدخل في دين الإسلام عليه أن يدفعه، ومَنْ لم يدفعه فيكون غاصباً ولا يُقبل منه شيء صرفاً ولا عدلاً، ولا قيلاً ولا كثيراً حتى يُؤدِّيه لأهله، وهي الآية التي لو أحسنَّا درسها وبحثها وإثبات مؤداها عقلاً ونقلاً فإننا بشكل طبيعي نقول لكل مَنْ لم يؤدِّ أجر الرسالة بمودة أهلها فإنه ليس مسلماً وعمله كمَنْ يعمل في مكان مغصوب أي باطلاً أصلاً وفصلاً، ولكننا مقصِّرون، وخائفون، رغم معرفتنا بالحق الذي نحن عليه، والباطل الذي هم يتعبَّدون به، إلا أنهم مازالوا يُقاتلون بعناد عجيب عن باطلهم ونتخاذل بشكل أعجب عن حقنا وكأننا لم نسمع أو نقرأ كلمة أمير المؤمنين (ع) وقوله: (عَجَباً – وَاللهِ – يُمِيتُ القَلْبَ وَيَجْلِبُ الهَمَّ مِن اجْتِمَاعِ هؤُلاَءِ القَوْمِ عَلَى بَاطِلِهمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ! فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً، حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً، يُرمَى؛ يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلاَ تُغِيرُونَ، وَتُغْزَوْنَ وَلاَ تَغْرُونَ، وَيُعْصَى اللهُ وَتَرْضَوْن)![14]

نعم؛ مازلنا كذلك سيدي ومولاي يا أمير المؤمنين، عندنا الحق والصدق ونخاف أن ننطق به، والآخرين لديهم باطل وكل أنواع الكذب والنفاق والدَّجل ويُحاربنا لأجل أن نصدِّقه، فنخاف منه فنخفي حقنا، ونسلِّم لباطلهم حتى يظهر وكأنه حق ونحن راضون به، بحجة التقية التي لا نحتاج إليها في كثير من المواقف والمواطن الآن، أو أننا نحتاجها ولكن لماذا لا نغيِّر أسلوب الطرح، فنطرح الحق الذي عندنا ونؤيده بالعقل والنقل ونترك الأمة تختار براحتها، لا أن نترك الباطل يطرح لك ما في جعبته من كذب ودجل حتى يكون هو السَّائد كما يفعل صبيان ابن عبد الوهاب حتى صار الإسلام هو الوهابية وشيخه ابن تيمية، وهم ليسوا من الإسلام في شيء.

سرُّ فاطمة الزهراء (ع)

وعليه فإن فاطمة الزهراء (ع) هي سرٌّ ولغزٌ حيَّر العلماء منذ أن كانت نَسمة طيبة، وبضعة طاهرة من سيد الخلق، ورسول الإنسانية الحبيب المصطفى محمد بن عبد الله (ص) الذي كان عُصارة القيم الإنسانية في بني آدم، وكانت فاطمة الزهراء (ع) عُصارته لأنها (روحه التي بين جنبيه)، ولذا بقيت لغزاً محيِّراً للفطاحل، والأعلام لأنهم لم يستطيعوا أن يُدركوا معناها الرفيع جداً، أو يعرفوا ما أشار به الحديث القدسي المعروف باسمها والذي نزل في بيتها المبارك، وكانت هي محور الحديث، وركيزة البيت، حيث قال سبحانه في حديث الكساء اليماني، حيث قالت (ع): (فَقالَ عَزَّ وَجَلَّ: هُمْ أَهْلُ بَیْتِ النُّبُوَّةِ، وَمَعْدِنُ الرِّسالَةِ؛ هُمْ فاطِمَةُ، وَأَبُوها، وَبَعْلُها، وَبَنُوها).[15] هذا هو مكانها ومكانتها عند الله تعالى، ولذا نحن في الحقيقة والواقع قاصرون عن معرفتها، وذلك لأن؛ (على معرفتها دارت القرون الأولى[16] كما يقول حفيدها صادق آل محمد (ص).. فإذا كانت المعرفة الحقَّة متعذرة علينا فما المطلوب منا تُجاه هذه السيدة الجليلة؟

المطلوب منا؛ معرفة حقها علينا، واحترامها، وتقديرها، والاقتداء والتأسي بها، لأن الله سبحانه بفضله وكرمه ولُطفه بنا أنزلها من مقامها الأعلى (في عليين لأنها من العالين)، وجعلها تعيش بين البشر لتكون لهم نبراساً في الخير، ومتراساً في الجهاد والفضيلة، لا سيما لبنات جنسها من النساء، فهي حُجة الله الكبرى عليهن، لأنهن أعلم وأدرى الخلق بالنساء ونقصهن، إلا أنها الوحيدة فيهن كاملة ومكمَّلة ومعصومة دون غيرها من بنات جنسها.

فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله) انه قال: (كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثيرٌ وَلَمْ يَكمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا أَربَع، آسيه بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد[17] فهل أدركنا معنى (كَمُل من النساء)، وأي شهادة هذه من رسول الله (ص)؟

وخير تلك النساء، وأفضلهنَّ، وأكملهنَّ، هي السيِّدة فاطمة (عليها السلام)، وقد دلَّ على ذلك الكثير من الأخبار، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لها في آخر أيام حياته الشريفة وفي مرضه الذي قُبض فيه بشهادة زوجته الغيورة جداً منها، وهي التي تروي هذه الشهادة والجميع يرويها ويُصححها: (ألا تَرضينَ أن تَكوني سيِّدةَ نِساءِ المؤمنينَ، أو نساءِ هذِهِ الأمَّةِ).[18]

ولكن القوم عندما تأتي رواية تربوية عظيمة جداً كرواية عمران بن الحصين حيث قال: خرَجْتُ يومًا فإذا أنا برَسولِ اللهِ، (عليه السَّلامُ)، فقال لي: يا عِمرانُ، إنَّ فاطمةَ مريضةٌ، فهل لكَ أنْ تَعُودَها؟ قال: قُلْتُ: فِداكَ أبي وأُمِّي، وأيُّ شرَفٍ أشرَفُ من هذا؟ قال: انطلِقْ، فانطلَقَ رسولُ اللهِ (عليه السَّلامُ)، وانطلَقْتُ معه حتى أتَى البابَ، فقال: السَّلامُ عليكم، أدخُلُ؟ فقالت: وعليكمُ، ادخُلْ، فقال رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه (وآله) وسلَّمَ): أنا ومَنْ مَعي؟ قالت: والذي بعثَكَ بالحقِّ ما عليَّ إلَّا هذه العَباءةُ، قال: ومع رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه (وآله) وسلَّمَ) مُلاءةٌ خَلِقةٌ، فرَمى بها إليها، فقال لها: شُدِّيها على رأسِكِ، ففعَلتْ، ثمَّ قالت: ادخُلْ، فدخَل رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه (وآله) وسلَّمَ)، ودخَلْتُ معه، فقعَد عندَ رأسِها، وقعَدْتُ قريبًا منه، فقال: أيْ بُنَيَّةُ، كيفَ تَجِدينَكِ؟ قالت: واللهِ يا رسولَ اللهِ إنِّي لَوَجِعةٌ، وإنَّه لَيَزيدُني وجَعًا إلى وجَعي أنَّه ليْسَ عندي ما آكُلُ، فبَكى رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليه (وآله) وسلَّمَ)، وبكَتْ فاطمةُ (عليها السَّلامُ)، وبكَيْتُ معهما، فقال لها: أيْ بُنَيَّةُ، تَصَبَّري؛ مرَّتَيْنِ، أو ثلاثًا، ثمَّ قال لها: أيْ بُنَيَّةُ، أمَا تَرْضَيْنَ أنْ تكوني سيِّدةَ نساءِ العالَمِينَ؟ قالت: يا ليْتَها ماتَتْ، وأينَ مَريَمُ بنتُ عِمرانَ؟ فقال لها: أيْ بُنَيَّةُ تلك سيِّدةُ نساءِ عالَمِها، وأنتِ سيِّدةُ نساءِ عالَمِكِ، والذي بعثَني بالحقِّ لقدْ زوَّجتُكِ سيِّدًا في الدُّنيا، وسيِّدًا في الآخِرةِ، لا يُبغِضُهُ إلَّا مُنافِقٌ).[19]

فيحكم الباحث والمحدث عليه بالمنكر فيقول: “فيه ليث بن داود.. أن الذهبي ذكره في الميزان، وقال: أتى بخبر منكر جداً، وهو يعني هذا الحديث”، فلماذا هذا الحديث منكراً جداً أيها الذهبي، أ لأنه لم يذكر فضل الثريد وصاحبته، الذي تروونه وتصحِّحونه؟ وحقيقة لا أدري، ولم أفهم وجه المقارنة بين أمِّكم المصون والثريد والطعام، بما تروونه في كل مجاميعكم عن السَّامري أبي موسى الأشعري قال (ص): (كَمَلَ مِنَ الرِّجالِ كَثِيرٌ، ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّساءِ إلَّا مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرانَ، وآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وفَضْلُ عائِشَةَ علَى النِّساءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سائِرِ الطَّعامِ).[20]

فما علاقة عائشة بالكمال، وما ربط الفضل في الثريد والطعام يا أمة الإسلام؟

ففاطمة الزهراء (ع) سيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء عالمها، وسيدة نساء المؤمنين، وسيدة نساء الأولين والآخرين، وسيدة نساء أهل الجنة، وسيدة نساء المسلمين، وسيدة نساء يوم القيامة، وسيدة النساء عموماً دون استثناء أو تخصيص، وقد ورد في ذلك أخبار كثيرة متظافرة، ولكن هذا لا يروق لأهل الرِّدة من اتباع السلطة القرشية، لأن أمهم المحترمة كانت تغار كثيراً من السيدة خديجة، وابنتها المباركة فاطمة الزهراء (ع)، ولا يهون عليهم أمهم وغيرتها على كل حال.

فَاطِمَةُ أُمُّ أَبِيهَا

هذا ليس كلامنا، بل هو نصُّ رواية عن أبيها رسول الله (ص)، ولنا أن نسأله روحي له الفداء: كيف صارت البنتُ أماً لأبيها يا رسول الله (ص)؟ هنا تنكسر الأقلام، وتحار الأفكار، وتَذهل العقول، ولكن يمكن لنا أن نقول ما نفهمه في هذا المقام.

فالمعروف في التاريخ النبوي والسيرة العطرة لرسول الله (ص) أن والده عبد الله توفي وهو جنين في بطن أمه، ثم توفيت والدته المباركة، وهو طفل في السادسة من عمره فكفله جده إبراهيم العرب الثاني عبد المطلب (ع) فتوفي عنه وهو في الثامنة، فكفله عمَّه الكريم عبد مناف بن عبد المطلب المعروف بأبي طالب (ع) وكان عمُّه الشَّقيق لأبيه، ولم يكن لديه أبناء من زوجته السيدة الجليلة فاطمة بنت أسد، فصار محمد بن عبد الله (ص) ولدهما وسلوتهما، وبعدها رُزقا الأولاد ببركته ومشورته لأمه الثانية فاطمة بنت أسد حيث كان يقول عنها: (إنها كانت من أحسن خلق الله بي بعد أبي طالب، إن هذه المرأة كانت أمي بعد أمي التي ولدتني).[21]

 وعليه فإن رسول الله (ص) فقد أمَّه الحنونة وهو في طفولته، فعوَّضه الله تعالى عنها بهذه السيدة الجليلة النبيلة فاطمة بنت أسد، التي كانت ترعاه كأمه تماماً وتفيض عليه حباً وحناناً، إلى أن شبَّ وقوي عوده فتزوج من السيدة خديجة بنت خويلد عظيمة قريش وطاهرتها – كما كانوا يُسمونها – فأعطته كل ما لديها من نفس طاهرة وحياة سعيدة ومال وفير، ولم ينغِّص عيشهما إلا أنهما كلما رُزقا بولد كان سيف القدر يخطفه بلحظة من لحظات الألم، وفي الأربعين من عمره الشريف ذهب كعادته للتَّعبد في غار حراء كجده عبد المطلب (ع)، ولم يكن معه إلا ابن عمِّه الذي اتخذه ولداً وصفيَّاً مرافقاً علي بن أبي طالب (ع)، فنزل الوحي المقدس عليهما وأمر محمداً (ص) بالنبوة، وعلياً (ع) بالوصية والولاية.

وهذا نأخذه من أمير المؤمنين (ع) حيث يقول: (وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله) فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: (هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيّ، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر).[22]

هنا بدأت الدنيا تتغيَّر باتجاه الأحسن لأن الأوضاع كانت في غاية التوحُّش والجهل، والتخلف، في كل مناحي الحياة لا سيما القيمي منها، والإنساني على وجه الخصوص، فقد كانوا يقتلون أنفسهم إذا جاعوا، فكانوا يغلقون عليهم بابهم حتى يموتوا جوعاً، أو يخرجوا إلى الصحراء وكل منهم يحفر حفرة له ويجلس فيها حتى يموت، بما يُسمونه ب(الإعتفاد، أو الإعتفار) الذي أبطله سيدنا هاشم الخير، وإذا ولدت لأحدهم بنتاً وأدها ودفنها حيَّةً، وفيما بين ذلك عيشهم على الغزو والسَّبي، والقتل والدماء، وإذا ما تنادموا سكروا حتى غابوا عن الوعي، فكانت الحياة العربية في بؤس شديد، وخير ما وُصفوا به قول أمير المؤمنين (ع): (إِنَّ اللهَ سُبحانَه بَعَثَ مُحَمَّداً نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمِيناً عَلَى التَّنْزِيلِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ عَلَى شَرِّ دِين، وَفِي شَرِّ دَار، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجارَة خُشْن، وَحَيَّات صُمٍّ، تشْرَبُونَ الكَدِرَ، وَتَأْكُلُونَ الجَشِبَ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، الأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، وَالآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ).[23]

ووصف سيدة النساء (ع) لهم في قولها: (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ، مُذْقَةَ الشّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطّامِعِ، وَقُبْسَةَ الْعَجْلانِ، وَمَوْطِئَ الأقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطّرْقَ، وَتَقْتاتُونَ الْوَرَقَ، أذِلَّةً خاسِئِينَ، {تَخافُونَ أنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ} فَأنْقَذَكُمُ اللهُ تَبارَكَ وَتَعالى بِمُحَمَّدٍ (صَلى الله عليه وآله).[24]  

بدأ نزول الوحي المقدس وجاء به إلى خديجة فآمنت وإلتحقت بركب النور الذي لم يكن فيه أحد إلا هذا البيت الطاهر، وتتابعت الأحداث وصار محمد (ص) مالئ الدنيا وشاغل الناس، وذُهل الجميع عن أشغالهم وأعمالهم وصار عملهم الرسول والرسالة لا سيما الطغاة والجبابرة من قريش المشركة التي تعبد هبل وصواحبها، فأعلنوها حرباً شعواء لا هوادة فيها على محمد يتيم أبي طالب (ع)، ثم على بني هاشم الأكارم جميعاً، وفي السنة الخامسة من البعثة كانت مكة مضطربة ومنقسمة على نفسها، وأوحش البيت النبوي، فنزل الأمين جبرائيل (ع) وأمر النبي الأكرم (ص) أن يعتزل عن السيدة خديجة  في بيت أم هانئ يصوم النهار ويقوم الليل بالعبادة، والسيدة خديجة (ع) في بيتها، والرواية تقول: (فلما كان في كمال الأربعين هبط جبرائيل، فقال: يا محمد! العلي الأعلى يُقرئك السلام وهو يأمرك أن تتأهب لتحيَّته وتحفته..

فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا جبرئيل وما تحفة رب العالمين وما تحيته؟

فقال جبرئيل: لا علم لي؛ فبينما النبي (صلى الله عليه وآله) كذلك إذ هبط ميكائيل ومعه طبق مغطّى بمنديل سندس أو إستبرق، فوضعه بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) وأقبل جبرئيل (عليه السلام) وقال: يا محمد يأمرك ربك أن تجعل الليلة إفطارك على هذا الطعام.

قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا أراد أن يفطر أمرني أن أفتح الباب لمن يرد من الأقطار فلما كان في تلك الليلة أقعدني النبي (صلى الله عليه وآله) على باب المنزل وقال: يا بن أبي طالب إنه طعام محرَّم إلاّ عليَّ.

قال الإمام علي (عليه السلام): فجلستُ على الباب، وخلى النبي (صلى الله عليه وآله) بالطعام، وكشف الطبق، فإذا عذق من رطب، وعنقود من عنب، فأكل النبي (صلى الله عليه وآله) منه شبعاً وشرب من الماء رياً، ومدّ يده للغسل، فأفاض الماء عليه جبرائيل، وغسل يده ميكائيل وتمندله إسرافيل، وارتفع فاضل (باقي) الطعام مع الإناء إلى السماء.

ثم قام النبي (صلى الله عليه وآله) ليُصلي فأقبل عليه جبرئيل (ع) وقال: الصلاة محرَّمة عليك في وقتك حتى تأتي إلى منزل خديجة فتواقعها، فإن الله عز وجل آلى (حلف) على نفسه أن يخلق من صلبك هذه الليلة ذرية طيّبة.. فوثب النبي (صلى الله عليه وآله) إلى منزل خديجة.

قالت خديجة: وقد كنت قد ألفت الوحدة، فكان إذا جنّني الليل غطّيت رأسي، وسجفت (أرسلت) ستري وغلّقت بابي، وصلّيت وِردي، وأطفأت مصباحي، وآويت إلى فراشي؛ فلما كانت تلك الليلة لم أكن نائمة ولا بالمنتبهة إذ جاء النبي فقرع الباب، فناديت: من هذا الذي يقرع حلقة لا يقرعها إلا محمد؟

فنادى النبي (صلى الله عليه وآله) بعذوبة كلامه وحلاوة منطقه: افتحي يا خديجة فإني محمد. قالت خديجة: فقمت مستبشرة بالنبي، وفتحت الباب، ودخل النبي المنزل، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا دخل المنزل دعا بالإناء فتطهر للصلاة ثم يقوم فيصلي ركعتين يوجز فيهما، ثم يأوي إلى فراشه.. فلما كانت تلك الليلة لم يدعُ بالإناء ولم يتأهب للصلاة.. بل كان بيني وبينه ما يكون بين المرأة وبعلها، فلا والذي سمك السماء، وأنبع الماء ما تباعد عني النبي حتى أحسست بثقل فاطمة في بطني). (فاطمة الزهراء (ع) من المهد إلى اللحد، السيد القزويني: ص22 بتصرف بسيط منا)

ولكن كيف كانت الولادة الميمونة، بعد هذه النطفة السماوية المباركة، هذا ما كنا لنعرفه لولا أبناءها وأحفادها، فقد سأل المفضل بن عمرو، قال: قلتُ لأبي عبد الله بن جعفر بن محمد (عليهما السلام): كيف كانت ولادة فاطمة (عليها السلام)؟

قال: نعم، إن خديجة عليها رضوان الله لما تزوج بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) هجرتها نسوة مكة، فكنَّ لا يدخلن عليها ولا يُسلِّمن عليها ولا يتركن امرأة تدخل عليها، فاستوحشت خديجة من ذلك، فلما حملت بفاطمة (عليها السلام) صارت تُحدِّثها في بطنها وتصبرها،[25] وكانت خديجة تكتم ذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فدخل يوماً وسمع خديجة تُحدِّث فاطمة، فقال لها: يا خديجة مَنْ يُحدِّثك؟ قالت: الجنين الذي في بطني يُحدِّثني ويؤنسني، فقال لها: (هذا جبرئيل يبشرني أنها أنثى، وأنها النَّسمَة الطاهرة الميمونة، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة في الأمة، يجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه).

فلم تزل خديجة رضي الله عنها على ذلك إلى أن حضرت ولادتها، فوجَّهت إلى نساء قريش، ونساء بني هاشم؛ يجئن ويلين منها ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها: “عصيتينا ولم تقبلي قولنا، وتزوجت محمداً يتيم أبي طالب فقيراً لا مال له، فلسنا نجئ ولا نلي من أمرك شيئا”، فاغتمَّت خديجة لذلك، فبينا هي كذلك إذ دخل عليها أربع نسوة طوال كأنهن من نساء بني هاشم، ففزعت منهن، فقالت لها إحداهن: لا تحزني يا خديجة، فإنا رُسُل ربك إليك، ونحن أخواتك: أنا سارة، وهذه آسية بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه صفراء بنت شعيب، بعثنا الله تعالى إليك لنلي من أمرك ما تلي النساء من النساء، فجلست واحدة عن يمينها، والأخرى عن يسارها، والثالثة من بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت خديجة فاطمة (عليها السلام) طاهرةً مطهرةً، فلما سقطت إلى الأرض أشرق منها النور حتى دخل بيوتات مكة، ولم يبقَ في شرق الأرض ولا غربها موضع إلا أشرق فيه ذلك النور، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها فغسَّلتها بماء الكوثر، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشد بياضاً من اللبن، وأطيب رائحة من المسك والعنبر، فلفتها بواحدة، وقنَّعتها بالأخرى، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة (عليها السلام): بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن أبي رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيد الأنبياء، وأن بعلي سيد الأوصياء، وأن ولدي سيد الأسباط، ثم سلَّمت عليهن، وسمَّت كل واحدة منهن باسمها، وضحكن إليها وتباشرت الحور العين، وبشَّر أهل الجنة بعضهم بعضاً بولادة فاطمة (عليها السلام)، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك اليوم، فلذلك سُميت الزهراء (عليها السلام)، وقالت: خذيها يا خديجة طاهرةً مطهرةً زكيةً ميمونةً، بورك فيها وفي نسلها، فتناولتها خديجة (عليها السلام) فرحةً مستبشرةً، فألقمتها ثديها، فشربت فدرَّ عليها، وكانت (عليها السلام) تنمي في كل يوم كما ينمي الصبي في شهر، وفي شهر كما ينمي الصبي في سنة، صلى الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها).[26]

هكذا كانت القصة الوحيدة الفريدة من هذا الخلق وبهذا الشكل والعظمة، ويأتيك مَنْ يقول لك: أنها ولدت السنة الخامسة قبل البعثة، وأن أمَّه المصون التي ولدت قبل البعثة وفي الجاهلية ولدت في السنة الخامسة من البعثة الشريف، ولكن رواياتها هي تفضحهم وتُكذِّبهم ولكن نحن مقصِّرون بحق سيدة النساء (ع) وهم قد فتنوا بأمهم الحميراء.

فإذا كان رسول الله (ص) يعتزل زوجته وحبيبته أربعين يوماً يصوم النهار ويقوم الليل، وبعدها يأتي كل شيء من السماء (الغذاء، والماء، وحتى المناديل)، ولم يسمح لعلي (ع) بالأكل منه، ولم يسمح له جبرائيل بالصلاة حتى يأتي خديجة، لأن الله تعالى أقسم أن يهبه تحفة وتحية من عنده، فأي عظمة، وأي مكانة تلك سيدتي يا فاطمة، ولم يكتمل المشهد السماوي الرَّهيب بل نزلت خيرة النساء من الجنان مع ماء الكوثر، والخرق أيضاً ليستقبلوا سيدتهم فاطمة الزهراء (ع) في الأرض، ولذا كانت هذه المخلوقة الفريدة، والدُّرة الوحيدة (حوراء إنسية) يشمُّ منها رسول الله (ص) ريح الجنة فيُكثر تقبيلها، فهل هذا إلا أمر رباني ووحي إلهي؟

والملاحظ هنا أن هذه الروايات ليست مجرَّد أحاديث شريفة نتبارك فيها فقط بل هي علم ونور وتربية يجب أن ندرسها وندرِّسها لأجيالنا حتى يستفيدوا منها معالم تربوية سماوية ربانية، ونشرحها ونوضِّحها ونبيِّنها لأجيالنا، ونحاول أن نوصلها إلى العالم أجمع لندعوهم إلى الله ببركاتها، ونحن في غفلة عن عظمة مثل هذه الروايات الشريفة، فعندما نفهم هذه المعاني نقترب من فهم الحديث الشريف (فاطمة أم أبيها)، فهي التي قامت مقام الأم في حياته حيث أغدقت عليه الحب والحنان، فكانت سلوته في وحدته، ونسله وذريته منها فيكون خالداً شخصاً ورسالةً بهذه النَّسمة الطاهرة كما بيَّن في الحديث المتقدم.

أما إذا أخذنا بعض الروايات القدسية الشريفة كحديث الكساء اليماني الذي جعلها محور أهل البيت الأطهار (ع)، وما تناقلته الكتب المعتبرة بالقبول رغم عظمته وشرفه وقداسته، فعن جابر بن عبد اللّه الأنصاري عن رسول الله (صلی الله عليه وآله) عن الله (تبارك وتعالى) قال: (يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا عليٌّ لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما).[27]

فهنا يتغيَّر المعنى كله ويختلف المبنى أيضاً لفهم هذه الرواية القدسية الشريفة.

فَاطِمَةُ (عَ) بِنتُ الرِّسَالَةِ

الرسالات السماوية كلها ذات مضامين اجتماعية وأعظم ما فيها العطاء، وهنا معقد البحث لأننا أمام بحر من العطاء، والكرم، والجود بكل معنى الكلمة، وهو ما يرتبط بنا نحن الأمة والإسلامية كلها، حيث مثَّلت السيدة فاطمة (ع) القدوة والأسوة لنا في حياتها القصيرة، ولكنها كانت تعطي المثال الرائع، والقدوة الأرقى لنا عن الإنسانة المؤمنة، التي تقوم في محرابها ليلاً حتى تتورم قدماها، كأبيها رسول الله (ص)، ضارعة متهجدة بالقرآن، داعية إلى جيرانها من أمة أبيها وتسميهم حتى تعجَّب منها ولدها الإمام الحسن السبط الأكبر (ع)، فعن فاطمة الصغرى، عن الحسين بن علي، عن أخيه الحسن (صلوات الله عليهم) قال: (رأيتُ أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة الجمعة، فلم تزل راكعةً ساجدةً حتى انفجر عمود الصبح، وسمعتُها تدعو للمؤمنين وتسميهم وتُكثر الدُّعاء لهم، ولا تدعو بشيء لنفسها فقلتُ: يا أماه لِمَ لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك، فقالت: يا بُني الجار ثم الدار).[28]

هذه قاعدة اجتماعية تربوية قلَّ نظيرها في تاريخ المجتمعات الإنسانية عبر العصور والدهور، حاولت أن تُرسخها سيدة النساء (ع) في المجتمع، وتُفهمنا أن المجتمع وقوته بالتآخي والتراحم بين جميع أفراده وأسره، فيكون الهمُّ الاجتماعي يغلب على الأفراد وهمومهم الفردية المختلفة، وهذا ما بيَّنه رسول الله (ص) بقوله: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى).[29]

فالمجتمع الإيماني يجب أن يكون كالبنيان المرصوص، أخوة متحابون في الله متوادون متواصلون متفاهمون متراحمون حتى تنزل عليهم الرَّحمة وإلا فإن مرض الاجتماع الجاهلي سيدخل بينهم كما جرى بعد رسول الله (ص)، فهذه القاعدة الذهبية (الأخوة) هي القاعدة التي بنا عليها رسول الله مجتمعه الناهض في مدينة يثرب، فالمجتمع الإسلامي أسرة واحدة، والأسرة الإسلامية يجب أن تقتدي بالأسرة النَّموذج والمثال في المسلمين وهي أسرة سيدة النساء (ع).

وما أجمل وصف الإمام الحسن العسكري للفرد الذي لا يأبه بإخوته المؤمنين، بقوله (ع): (ومثل مؤمن لا يرعى حقوق إخوانه المؤمنين، كمثل مَنْ حواسَّه كلها صحيحة؛ فهو لا يتأمل بعقله، ولا يُبصر بعينه، ولا يسمع بأذنه، ولا يُعبِّر بلسانه عن حاجته، ولا يدفع المكاره عن نفسه بالإدلاء بحججه، ولا يبطش لشيء بيديه، ولا ينهض إلى شيء برجليه، فذلك قطعة لحم قد فاتته المنافع، وصار غرضاً لكل المكاره، فكذلك المؤمن إذا جهل حقوق إخوانه، فاته ثواب حقوقهم، فكان كالعطشان بحضرة الماء البارد فلم يشرب حتى طفى(مات) وبمنزلة ذي الحواس لم يستعمل شيئاً منها لدفاع مكروه، ولا لانتفاع محبوب، فإذا هو سليب كل نعمة، مبتلى بكل آفة).[30]

هذه القاعدة الاجتماعية جعلت الأنصار يتقاسمون كل ما لديهم مع إخوتهم من المهاجرين، حتى نساءهم، وبداية كانوا يتوارثون فيما بينهم على ما حكى التاريخ حتى نزلت آيات الميراث، ولكن هذه القاعدة ضربتها السلطة القرشية بقوة في حكومة الرجل الثاني منها حيث قسَّم الأمة الواحدة إلى طبقات متفاوتة فأعاد سُنة الجاهلية إلى مجتمع الإسلام فعادت الطبقات، وعادت سيرة الطغاة الأغنياء الذين يملكون كل شيء بحجة الصحبة والقرابة من رسول الله (ص) وصادروا كل الأملاك المنقولة وغير المنقولة لأهل البيت (ع) وأولهم كانت سيدة البيت فاطمة الزهراء (ع) يوم صادرت السلطة منها فدكاً، والعوالي في المدينة كحرب اقتصادية حتى ينفضَّ الناس عنهم.

المجتمع الإسلامي يقوم على البذل والعطاء

 إن من بديهيات الحياة الأسرية أن تقوم على التواصل (صلة الرحم)، والتعاطف، والتباذل فيما بينهم، وكل العبادات المالية في المجتمع الإسلامي هي تصب في هذا المجال الراقي من الحياة القيمة الراقية، فتبدأ من البذل المالي بأنواع الزكاة، والأخماس، والصدقات، والنذور والقربات، وتنتهي ببذل النفس في سبيل الله، والشهادة وهي قمَّة العطاء وهذا ما رسخته سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) في حياتها الأسرية، فهي التي أعطت بذلة عرسها الجديدة في يوم زفافها لسائل بسيط من الأمة، فيُروى أن النبي (صلى الله عليه وآله) صنع لها قميصاً جديداً ليلة عرسها وزفافها، وكان لها قميص مرقوع وإذا بسائل على الباب يقول: أطلب من بيت النبوة قميصاً خَلِقاً، فأرادت أن تدفع إليه القميص المرقوع فتذكرت قوله تعالى: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).[31]

فدفعت له الجديد، فلما قرب الزفاف نزل جبرائيل وقال: يا محمد إن الله يقرئك السلام وأمرني أن أُسلِّم على فاطمة وقد أرسل لها معي هدية من ثياب الجنة من السندس الأخضر، فلما بلغها السلام وألبسها القميص الذي جاء به لفها رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالعباءة ولفها جبرائيل بأجنحته حتى لا يأخذ نور القميص بالأبصار، فلما جلست بين النساء الكافرات ومع كل واحدة شمعة ومع فاطمة (رض) سراج، رفع جبرائيل جناحه ورفع العباءة وإذا بالأنوار قد طبقت المشرق والمغرب، فلما وقع النور على أبصار الكافرات خرج الكفر من قلوبهن وأظهرن الشهادتين).[32]

كم هو عظيم أن تُعطي أغلى ما لديك وأنت أحوج ما تكون إليه، والأعظم أن تُعطي كل ما لديك وتبقى أنت بلا شيء، كالطعام الذي وصفه الله تعالى في سورة هل أتى حيث قال تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا).[33] هذا ليس من عطاء أهل الدنيا أبداً، لأن طبيعة أهل الدنيا يُعطون الزائد عنهم، وما لا يحتاجون إليه، وأما يُعطون طعامهم وهم صيام وليس عندهم غيره فيُفطروا على الماء القراح، ويتكرر ذلك ثلاثة أيام فهذا قطعاً عطاء أهل الآخرة، وكم هو بائس مَنْ يفهم هذه السورة ويُفسرها بتفسيرات أهل الدنيا دون الإلتفات إلى هذه النكتة النورانية الدقيقة.

صورة أخرى من العطاء

يُروى عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: صلَّى بنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلاة العصر، فلما انفتل جلس في قبلته والناس حوله، فبينما هم كذلك إذ أقبل شيخ من العرب مهاجر، عليه سمل قد تهلل وأخلق(قديماً) وهو لا يكاد يتمالك كِبَراً وضعفاً، فأقبل عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يستحثه الخبر، فقال الشيخ: يا نبي الله أنا جائع الكبد فأطعمني، وعاري الجسد فاكسني، وفقير فأرشني (أحسن إليَّ).

فقال (صلى الله عليه وآله): ما أجد لك شيئاً، ولكن الدال على الخير كفاعله، انطلق إلى منزل مَن يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يؤثر الله على نفسه، انطلق إلى حجرة فاطمة.

وكان بيتها ملاصق بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي يتفرد به لنفسه من أزواجه، وقال: يا بلال قم فقف به على منزل فاطمة)، فانطلق الإعرابي مع بلال، فلما وقف على باب فاطمة نادى بأعلى صوته: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومختلف الملائكة، ومهبط جبرئيل الروح الأمين بالتنزيل من عند رب العالمين.. فقالت فاطمة: وعليك السلام، فمَنْ أنتَ يا هذا؟

 قال: شيخ من العرب، أقبلتُ على أبيك سيد البشر مهاجراً من شُقة، وأنا – يا بنت محمد – عاري الجسد، جائع الكبد، فواسيني يرحمك الله.. وكان لفاطمة وعلي – في تلك الحال – ورسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاثاً ما طعموا فيها طعاماً، وقد علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من شأنهما.. فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ (صباغ)، كان ينام عليه الحسن والحسين، فقالت: خذ هذا يا أيها الطارق، فعسى الله أن يرتاح لك ما هو خير منه.

فقال الإعرابي: يا بنت محمد شكوتُ إليك الجوع، فناولتني جلد كبش؟ ما أنا صانع به مع ما أجد من السَّغب (الجوع)؟ قال: فعمدت فاطمة – لما سمعت هذا من قوله – إلى عقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمها حمزة بن عبد المطلب، فقطعته من عنقها، ونبذته إلى الأعرابي فقالت: خذه وبِعهُ، فعسى الله أن يعوِّضك به ما هو خير منه.

فأخذ الإعرابي العقد، وانطلق إلى مسجد رسول الله، والنبي (صلى الله عليه وآله) جالس في أصحابه فقال: يا رسول الله أعطتني فاطمة بنت محمد هذا العقد فقالت: بِعه فعسى الله أن يصنع لك.. قال: فبكى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: (وكيف لا يصنع الله لك، وقد أعطته فاطمة بنت محمد سيدة بنات آدم). (انتبه لهذه الكلمة أرجوك؛ سيدة بنات آدم).

فقام عمار بن ياسر (رحمة الله عليه) فقال: يا رسول الله أتأذن لي بشراء هذا العقد؟ قال: اشتر يا عمار، فلو اشترك فيه الثقلان ما عذبّهم الله بالنار، فقال عمار: بكَمْ العقد يا أعرابي؟ قال: بشبعة من الخبز واللحم، وبُردة يمانية استر بها عورتي وأصلّى فيها لربي، ودينار يُبلغني إلى أهلي.. وكان عمار قد باع سهمه الذي نفله رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خيبر ولم يبقَ منه شيئاً فقال: لك عشرون ديناراً ومائتا درهم هجرية، وبُردة يمانية، وراحلتي تبلغك أهلك، وشبعك من خبز البرِّ واللحم.. فقال الإعرابي: ما أسخاك بالمال أيها الرجل؟ وانطلق عمار فوفّاه ما ضمن له.. وعاد الإعرابي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال له رسول الله: أشبعتَ واكتسيتَ؟!

قال الأعرابي: نعم، واستغنيتُ بأبي أنت وأمي: قال: فأجزِ فاطمة بصنيعها؟ فقال الأعرابي: اللهم أنت إله ما استحدثناك، ولا إله لنا نعبده سواك، فأنت رازقنا على كل الجهات، اللهم أعط فاطمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.. وإلى أن قال: فعمد عمار إلى العقد فطيّبه بالمسك، ولفَّه في بردة يمانية، وكان له عبد اسمه سهم ابتاعه من ذلك السَّهم الذي أصابه بخيبر، فدفع العقد إلى المملوك، وقال له: خذ هذا العقد فأدفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنتَ له.

فأخذ المملوك العقد فأتى به رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأخبره بقول عمار فقال النبي: انطلق إلى فاطمة فادفع إليها العقد وأنت لها. فجاء المملوك بالعقد وأخبرها بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخذت فاطمة العقد، وأعتقت المملوك.

فضحك المملوك فقالت: ما يضحكك يا غلام؟ فقال: أضحكني عِظَم بركة هذا العقد، أشبع جائعاً، وكسا عرياناً، وأغنى فقيراً، وأعتق عبداً، ورجع إلى ربه” (أي إلى صاحبته).[34]

هكذا يكون المجتمع الإسلامي، ويتكوَّن بالتعاطف والتراحم والمحبة بين أفراده والغني الواجد يبذل ما يُحب للفقير المحتاج، ولكن سيدة النساء (ع) كانت تُعطي الدروس في ذلك لتُعلِّم الأجيال أصول البذل والعطاء، وأن يكونوا لما عند الله أوثق منهم بما في أيديهم، فيبذلوا المعروف، ولا ينتظروا الجزاء من أحد، بل من الواحد الأحد فقط.

عطاء السماء جزاء الأولياء

وهذه صورة أخرى من عطاء سيدة النساء وأدبها مع ابن عمها وزوجها أمير المؤمنين (ع) الذي كنت تؤثره على نفسها وأطفالها بالطعام ولا تطلب منه حتى اللقمة، فأين هذا من نسائنا وبناتنا في هذا العصر الذي عزف فيه الشباب عن الزواج بسبب كثرة الأعباء من النساء، فعن أبي سعيد الخدري قال: أصبح علي بن أبي طالب (عليه السلام) ذات يوم ساغباً(جائعاً) وقال: يا فاطمة هل عندك شيء تغذّينيه؟ قالت: لا، والذي أكرم أبي بالنبوة، وأكرمك بالوصية ما أصبح الغداة شيء، وما كان شيء أطعمناه مذ يومين إلاَّ شيء كنت أؤثرك به على نفسي، وعلى ابني هذين؟ الحسن والحسين.. فقال علي: يا فاطمة؛ ألا كنتِ أعلَمتِني فأبغيكم شيئاً؟

فقالت: يا أبا الحسن إني لأستحيي من إلهي أن أكلّف نفسك ما لا تقدر عليه). (الله أكبر أي أدب هذا، واي تضحية تلك سيدتي؟! حقيقة يعجز اللسان عن الوصف والكلام هنا)

فخرج علي بن أبي طالب من عند فاطمة (عليهما السلام) واثقاً بالله بحسن الظن، فاستقرض ديناراً فبينما الدينار في يد علي بن أبي طالب (عليه السلام) يريد أن يبتاع لعياله ما يصلحهم، فتعرَّض له المقداد بن الأسود، في يوم شديد الحر، قد لوّحته الشمس من فوقه، وآذته من تحته فلما رآه علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنكر شأنه فقال: يا مقداد ما أزعجك هذه الساعة من رحلك؟ قال: يا أبا الحسن خلّ سبيلي ولا تسألني عمَّا ورائي!!

فقال: يا أخي إنه لا يسعني أن تتجاوزني حتى أعلم علمك. فقال: يا أبا الحسن رغبة إلى الله وإليك أن تخلّي سبيلي، ولا تكشفني عن حالي!! فقال له: يا أخي إنه لا يسعك أن تكتمني حالك. فقال: يا أبا الحسن! أمَّا إذا أبيتَ! فو الذي أكرم محمد بالنبوة، وأكرمك بالوصية؛ ما أزعجني من رحلي إلاَّ الجهد، وقد تركتُ عيالي يتضوَّرون جوعاً، فلما سمعت بكاء العيال لم تحملني الأرض، فخرجت مهموماً، راكب رأسي، هذه حالي وقصتي!!

فانهمرت عينا عليّ بالبكاء حتى بلّت دمعته لحيته فقال له: أحلفُ بالذي حلفتَ؛ ما أزعجني إلاَّ الذي أزعجك من رحلك، فقد استقرضتُ ديناراً، فقد آثرتك على نفسي.. فدفع الدينار إليه ورجع حتى دخل مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فصلَّى فيه الظهر والعصر والمغرب، فلما قضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) المغرب مرَّ بعلي بن أبي طالب وهو في الصف الأول فغمزه برجله، فقام عليٌّ متعقباً خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى لحقه على باب من أبواب المسجد، فسلَّم عليه فردَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) السلام، فقال: يا أبا الحسن هل عندك شيء نتعشَّاه فنميل معك؟

فمكث مطرقاً لا يحير جواباً، حياءً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان النبي يعلم ما كان من أمر الدينار، ومن أين أخذه وأين وجّهه، وقد كان أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) أن يتعشى تلك الليلة عند علي بن أبي طالب.. فلما نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى سكوته فقال: يا أبا الحسن ما لَك لا تقول: لا. فانصرف؟ أو تقول: نعم. فأمضي معك؟ فقال – حياءً وتكرماً – : فاذهب بنا!!

فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يد علي بن أبي طالب فانطلقا حتى دخلا على فاطمة (عليها السلام) وهي في مصلاّها قد قضت صلاتها، وخلفها جفنة تفور دخاناً.. فلما سمعت كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرجت من مصلاّها فسلّمت عليه وكانت أعزّ الناس عليه، فردّ عليها السلام، ومسح بيده على رأسها وقال لها: يا بنتاه كيف أمسيت؟ قالت: بخير. قال: عشّينا، رحمك الله، وقد فعل.. فأخذت الجفنة فوضعتها بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب.. إلى أن قال: فقال علي لها: يا فاطمة أنِّي لك هذا الطعام الذي لم أنظر إلى مثل لونه قط، ولم أشمّ ريحه قط، وما آكل أطيب منه؟؟

قال: فوضع رسول الله (صلى الله عليه وآله) كفّه الطيبة المباركة بين كتفي علي بن أبي طالب (عليه السلام) فغمزها، ثم قال: (يا علي! هذا بدل دينارك، وهذا جزاء دينارك من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب).. ثم استعبر النبي (صلى الله عليه وآله) باكياً، ثم قال: الحمد لله الذي أبى لكم أن تخرجا من الدنيا حتى يجزيكما ويجريك – يا علي – مجرى زكريا، ويجري فاطمة مجرى مريم بنت عمران، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً).[35]

 أليس هذا عطاء السماء لابنة سيد الأنبياء (ص) وقرينة سيد الأوصياء (ع) بنت رسالة الإسلام، وأم الرسول الكريم، لا تسأل زوجها عن طعامها، ولا تُكلفه ما لا يُطيق من أمر معاشه، وزوجها يخرج ويستدين ثمن طعامهم، فيُصادف أخاً له في الدِّين فيؤثره على نفسه، ويعود إلى المسجد ليُصلي ويتعبَّد فيه مع رسول الله (ص) ولا يرجع إلى بيته خجلاً منهم، ويخجل من رسول الله (ص) الذي طلب منه العشاء عنده فاحتار في أمره، ولكن جزاء الله كان حاضرٌ مبارك وشهي لم يذق منه أهل الدنيا بل هم أهل الآخرة ولذا جاءهم الطعام من هناك.

عطاء العلم والفضيلة

والباحث في حياة سيدة النساء (ع) يجدها كنزاً ربانياً، وفيضاً نبوياً، وجنَّة سماوية، وحوراء إنسية، في كل حياتها، فكانت مميَّزة في كل شيء، ولم تكتف بالعطاء المادي بل تفيض قيمة وفضيلة، وتعطي العلم وهو الفضيلة الكبرى ولا يُثقل عليها شيء في سبيل تعليم الآخرين، وأين هذا من سيرة العلماء الكبار من علمائنا وأعلامنا الذين يتبرَّمون من مجرد سؤال فقهي، أو حكم شرعي، عدا عن نسائنا الاتي صار العلم الإلهي والفقه الدِّيني آخر ما يخطر في أذهانهنَّ، فيتعلمن كل شيء إلا فقه الدِّين وأحكام شريعة سيِّد المرسلين، فضعن في متاهة هذه الحياة.  

فعن الإمام العسكري (عليه السلام) قال: حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقالت: إن لي والدة ضعيفة وقد لبس – أي: اشتبه – عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألكِ، فأجابتها فاطمة (عليها السلام) عن ذلك، فثنّت (أي: جاءت مرة ثانية أو سألت)، فأجابت (الزهراء)، ثم ثلثت إلى أن عشرت (أي: جاءت مرة عاشرة أو سألت) فأجابت، ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشقّ عليكِ يا ابنة رسول الله.

قالت فاطمة: هاتي وسلي عما بدا لكِ، أرأيت من أكتُرِيَ (أي استؤجِر) يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراه (أي أجرته) مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت: لا، فقالت: أكتُريتُ أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، فأحرى أن لا يُثقل عليَّ سمعتُ أبي (صلى الله عليه وآله) يقول: إن علماء شيعتنا يُحشرون، فيُخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجِدّهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور، ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام محمد (صلى الله عليه وآله) الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم، فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا).. ثم قالت فاطمة (عليها السلام): (يا أمة الله إن سلكةً من تلك الخِلَع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة).[36]

هذا الحديث الفاطمي الشريف يحتاج إلى كتاب مستقل لدراسته وبحثه واكتشاف كنوزه المعرفية.

فاطمة الشفيعة هي القدوة 

ما أجمل وأكمل الحديث عن سيرة ومسيرة سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) لأنها سيرة الطهارة، والعفاف، والعطاء بأجلى، وأنقى، وأرقى صوره، ولكن نكتفي هنا بهذه الإشارات لضيق المجال، ولكن قبل أن نطبق القلم على المضض والألم مما أصابها من محن من أمة وصحابة أبيها رسول الله (ص)، التي كانت لها القدوة والأسوة ولم تقبل أن تكون من بنات الدنيا حتى في أعز شيء لدى البنت في حياتها، وهو مهرها وزواجها الذي جرى في السماء قبل الأرض.

في هذا العصر العصيب الرهيب الذي صار المهر بوزن العروسة غرامات ذهبية، أو بعمرها سككاً ذهبية، وتتباهى بالصَّرف والتكاليف الباهظة جداً، وكأن المرأة تُباع وتُشترى من السوق، ولكن فاطمة الزهراء (ع) لم تقبل أن يكون لها مهراً كبنات آدم، فكان مهرها الشفاعة وقد ورد في الخبر أنها لما سمعت بأن أباها زوّجها وجعل الدراهم مهراً لها فقالت: يا رسول الله إن بنات الناس يتزوّجن بالدراهم فما الفرق بيني وبينهن؟ أسألك أن تردها، وتدعو الله تعالى أن يجعل مهري الشفاعة في عصاة أمتك، فنزل جبرئيل (عليه السلام) ومعه بطاقة من حرير مكتوب فيها: (جعل الله مهر فاطمة الزهراء شفاعة المذنبين من أمة أبيها).[37]

ختامه مسك فاطمي

إن كان هناك مسكٌ اجتماعي في هذه الحياة فهو مسك فاطمة الزهراء (ع) سيدة المجتمعات البشرية لأن المرأة عادة يُطلق عليها سيدة البيت، والسيدة الأولى؛ فهي السيدة الأولى في البشر، وهي نصف الحياة، ونصف القيمة فيها، ولكنها هي الجنس اللطيف والرقيق والجميل فهي الضعيف أيضاً ولكن قوتها في ضعفها، وجمالها بخفائها، وكمالها بعفتها وحيائها.

فأين محن ومجتمعاتنا وأسرنا ونساءنا وبناتنا من سيرة تلك الحوراء الإنسية التي أنزلها الله لنا فضلاً وكرماً لتُنعشنا بأطيابها الفواحة وسيرتها المعطاءة، رغم أنها لم تلبث فيها إلا قليلاً، فكانت كنسمة الصباح الندية، أو ليلة القدر الخفية، سلام الله عليها في كل صبح وعشية.

فالسيدة فاطمة (ع) كانت بنت رسالة الإسلام بكل عظمته ونوره وبركته، ولكنها كانت أم الرسول الأعظم (ص) بكل ما يحتاجه من حب وعطف وحنان في هذه الحياة، فليت مجتمعاتنا الإسلامية تقتدي بسيرتها لتهتدي في مسيرتها إلى هدى الحق والعل والنور.

فاطمة الزهراء سر الوجود، ومحنة أكرم موجود (الإنسان) في هذه الدنيا هلا عرفنا حقها؟

سلام الله عليها أبد الآبدين ودهر الداهرين من الآن إلى قيام يوم الدِّين.

*****

لائحة بالمصادر المعتمد في البحث

1-      القرآن الحكيم

2-      تفسير الإمام الحسن العسكري (ع) (الشاملة).

3-      تفسير نور الثقلين؛ الشيخ عبد على بن جمعة العروسى الحويزى (الشاملة).

4-      نهج البلاغة، الجامع له الشريف الرضي (الشاملة).

5-      مفاتيح الجنان الشيخ عباس القمي. دار الولاء بيروت لبنان.

6-      بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي (الشاملة).

7-      عوالم العلوم، الشيخ عبد الله البحراني. (الشاملة).

8-      كنز الفوائد لأبي الفتح محمد بن علي الكراجكي (الشاملة).

9-      الماء الجاري في غسيل البخاري؛ الشيخ علي الكوراني العاملي – ط1 قم المقدسة 1440ه 

10-     فاطمة الزهراء (ع) من المهد إلى اللحد؛ السيد كاظم القزويني – دار الغدير للطباعة والنشر

11-     فاطمة بهجة قلب المصطفى (ص)؛ الشيخ أحمد الرحماني الهمداني (المكتبة الشاملة).

12-     قضايا المجتمع والأسرة؛ السيد محمد حسين طباطبائي (شبكة الإنترنت)

13-     كل مصادر الحديثية لأهل العامة من (المكتبة الشاملة)


[1] – (النساء: 1)

[2] – (الأنعام: 97)

[3] – (الحجرات: 13)

[4] – (قضايا المجتمع والأسرة؛ السيد محمد حسين طباطبائي: ص7)

[5] – (بحار الأنوار الشيخ محمد باقر المجلسي: ج 71 ص 148)

[6] – (نهج البلاغة: خ23)

[7] – (نهج البلاغة: ك31)

[8] – (بحار الأنوار؛ الشيخ محمد باقر المجلسي: ج 71 ص162)

[9] – (شبكة الإنترنت؛ موقع الصراط بإشراف الشيخ جميل الربيعي)

[10] – (كنز الفوائد لأبي الفتح الكراجكي: ص 259، والمناقب للخوارزمي: ص37، وينابيع المودة للقندوزي: ص83 )

[11] – (فاطمة الزهراء (ع) من المهد إلى اللحد؛ السيد كاظم القزويني: ص567)

[12] – (ويُقال: أننا سادة نقويَّة من نسل الإمام علي الهادي النقي (ع)، ولكن مقتل جدنا في جبال حماه في قرية الآن تحمل اسمه (طيبة الإمام علي)، فجدنا كان مختفياً فيها فلما عرفوه قتلوه فظهرت لهم منه كرامات كثيرة ومنها نبع ماء عذب في قمة الجبل، فعملوا له ضريحاً وسموا القرية باسمه، وأبناءه هربوا إلى بلدنا الذي هجَّرنا منه جبهة الكسرة (النصرة) الإرهابية وأخذوا كل أراضينا وأموالنا وهجَّرونا فلجأنا إلى سيدتنا ومولاتنا عقيلة الهاشميين، وحامية الشام السيدة زينب الكبرى (ع) ابنة الزهراء (ع) وبضعتها، والحال كما هو إلى الآن من حيث حقوقنا وأراضينا وبيوتنا وأموالنا منهوبة من أتباع الشانئ الأبتر).

[13] – (قال شيخ الشريعة قدس سره في القول الصراح في نقد الصحاح/89: (يدل على عدم ديانته ووثاقته، وتدليسه، وأنه تصرف في مال الغير بغير إذنه، مع العلم بكراهته وعدم رضاه، وارتكب الكذب الصريح وأقدم على أمر قبيح، كما يظهر كلّه مما قاله مسلمة بن قاسم في تاريخه على ما نقل عنه، قال: وسبب تأليف البخاري الكتاب الصحيح: أن علي بن المديني ألف كتاب العلل، وكان ضنيناً به لا يخرجه إلى أحد، ولا يحدث به لشرفه وعظم خطره وكثرة فائدته، فغاب علي بن المديني في بعض حوائجه، فأتى البخاري إلى بعض بنيه فبذل له مائة دينار، على أن يخرج له كتاب العلل ليراه ويكون عنده ثلاثة أيام، ففتنه المال وأخذ منه مائة دينار، ثم تلطف مع أمه فأخرجت الكتاب فدفعه إليه، وأخذ عليه العهود والمواثيق أن لا يحبسه عنده أكثر من الأمد الذي ذكر، فأخذ البخاري الكتاب وكان مائة جزء، فدفعه إلى مائة من الوراقين، وأعطى كل رجل منهم ديناراً على نسخه ومقابلته في يوم وليلة، فكتبوا له الديوان في يوم وليلة وقوبل، ثم صرفه إلى ولد علي بن المديني، وقال: إنما نظرت إلى شيء فيه! وانصرف علي بن المديني فلم يعلم بالخبر، ثم ذهب البخاري فعكف على الكتاب شهوراً واستحفظه، وكان كثير الملازمة لابن المديني، وكان ابن المديني يقعد يوماً لأصحاب الحديث يتكلم في علله وطرقه، فلما أتاه البخاري بعد مدّة قال له: ما أجلسك عنا؟ قال: شغل عرض لي، ثم جعل علي يلقي الأحاديث ويسألهم عن عللها، فيبدر البخاري بالجواب بنصّ كلام علي في كتابه! فعجب لذلك، ثم قال له: من أين علمت هذا! هذا قول منصوص، والله ما أعلم أحداً في زماني يعلم هذا العلم غيري! فرجع إلى منزله كئيباً حزيناً، وعلم أن البخاري خدع أهله بالمال حتى أباحوا له الكتاب، ولم يزل مغموماً بذلك ولم يثبت إلاّ يسيراً حتى مات!). الماء الجاري في غسيل البخاري؛ الشيخ علي الكوراني العاملي: ص43 وما بعدها).

[14] – (نهج البلاغة: خ 27 أعظم خطبة له (ع) في الجهاد)

[15] – (مفاتيح الجنان الشيخ عباس القمي: ص716)

[16] – (بحار الأنوار: ج 43 ص105)

[17] – (تفسير نور الثقلين الحويزي: ج5 ص404، والكشاف للزمخشري: ج7 ص99، وتفسير الآلوسي: ج21 ص115)

[18] – (صحيح البخاري؛ البخاري: ح 6285 والحديث: صحيح)

[19] – (تخريج مشكل الآثار شعيب الأرناؤوط: ص: 149)

[20] – (صحيح البخاري: ح3769 ، ومسلم (2431)، الحديث: صحيح)

[21] – (كنز العمّال: 13/636/37607، والاستيعاب: 4/446/3486، سير أعلام النبلاء: 2/118/17، اُسد الغابة: 7/213/7176، شرح نهج البلاغة: 1/14)

[22] – (نهج البلاغة: خ 192 القاصعة)

[23] – (نهج البلاغة: خ26)

[24] – (فاطمة الزهراء (ع) من المهد إلى اللحد؛ السيد كاظم القزويني: ص383، وبحار الأنوار: ج 29 ص224)

[25] – (لهذا قدَّمنا المقدمة وقلنا: بأن الإنسان اجتماعي في الطبع ولا يمكن له العيش بدون البشر، فجعل الله فاطمة أُنساً لأمها وهي في بطنها تُحدِّثها وتُنسها لأن للوحدة وحشة قد تكون ممرضة، وقد تكون قاتلة، لمَنْ لا يملكون قوة الإيمان والأنس بالله تعالى).

[26] – (بحار الأنوار: ج 16 ص81)

[27] – (عوالم العلوم، الشيخ البحراني: ج 11، ص 43)

[28] – (بحار الأنوار: ج 43 ص81)

[29] – (أحمد المسند: 4/270، رقم 18404، ومسلم الصحيح: 4/1999، رقم 2586، والبيهقي: 3/353، رقم 6223، ميزان الحكمة عن كنز العمال: 765، 737)

[30] – (تفسير الإمام العسكري (ع): ص320، والوسائل: 11 / 473 ح 2، والبحار: 75 / 414، ومستدرك الوسائل: 2 / 94 باب 105 ح 19، وجامع الأخبار: 110)

[31] – (آل عمران: الآية 92)

[32] – (فاطمة بهجة قلب المصطفى (ص): ص69 عن نزهة المجالس: للصفوري، ج2، ص226، كما في (إحقاق الحق) ج10، ص402)

[33] – (الإنسان: 9)

[34] – (فاطمة الزهراء (ع) من المهد إلى اللحد السيد كاظم القزويني: ص227، وبحار الأنوار: ج 43 ص 58)

[35] – (فاطمة الزهراء (ع) من المهد إلى اللحد؛ السيد كاظم القزويني: ص 230، وبحار الأنوار: ج 37 ص 105)

[36] – (تفسير الإمام الحسن العسكري (ع): ص 341، وفاطمة الزهراء (ع) من المهد إلى اللحد؛ السيد كاظم القزويني: ص247، بحار الأنوار: ج 2 ص 4)

[37] – (فاطمة الزهراء (ع) من المهد إلى اللحد؛ السيد كاظم القزويني: ص153، وفاطمة بهجة قلب المصطفى (ص): ج2 ص56، عن إحقاق الحق: ج10، ص367)