فلسفة الإسلام في منطق الزهراء:
« … فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشّرك، والصّلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنّفس ونماء في الرّزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحج تشييداً للدّين، والعدلَ تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزّاً للإسلام وذلاً لأهل الكفر والنّفاق، والصّبر معونةً على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مصلحةً للعامة، وبرّ الوالدين وقايةً من السُّخط، وصِلَة الأرحام منسأةً في العمر ومنماةً في العدد، والقصاص، حقناً للدّماء، والوفاء بالنّذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخسة، والنّهي عن الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السّرقة إيجاباً للعفّة، وحرّم الله الشّرك إخلاصاً له بالربوبيّة: «فاتّقُوا الله حقّ تقاته، ولا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عَنهُ، فإنّما يخشى الله من عباده العلماءُ …»
في هذا المقطع الوضّاء من الخطبة ترسم الزهراء(ع) الحقيقة الكبرى التي امتاز بها الإسلام عن سواه من الشرائع: في كونه عقيدةً ونظاماً ومنهجاً فهرس الحياة الإنسانيّة برُمّتها ، وبرمج متطلّبات النّوع الإنساني بهيكل تشريعي ضخم، طرق باب كلّ مشكلة من مشاكل الحياة الإنسانية ، وتوفّر على حلّها بما يتناسب والمصلحة وبما يتماشي والحكمة.
وهذه الحقيقة الكبرى التي امتاز بها منهج الله تعالى قد أغفلها الكثيرون من أبناء الأُمّة الإسلامية، تأثراً بالحضارة الغربيّة الغازية التي فصلت الدّين عن الحياة. وعلى هذا الأساس ردّد أبناؤنا صدى أفكار أعدائهم فراحوا يسمُّون دينهم بدين الكنائس والمساجد، فليس بمقدوره بل وليس من اختصاصه أن ينشىء أُمّةً، أو يخلق مجتمعاً لأنّ وظيفته -بزعمهم- محصورة في إطار المساجد والطُّقوس العبادية.
ونحن بدورنا حين نستقرىء جانباً من خطبة الزّهراء(ع) يتّضح لنا أنّها حين تحدّثت عن فلسفة الإسلام وإطاره العام لم تكن لتستهدف اقناع مخاطبيها أنّ في الإسلام نظاماً يهذّب الفرد، وينظّم الجماعة، ويقيم الدّولة، وإنّما كان ذلك أمراً بديهيّاً في حديثها، بل من الأُمور التي لا يرتاب فيها مسلم، مهما انخفضت درجة إيمانه بالإسلام يومذاك، ولذا فإنّ الزّهراء(ع) استعرضت معالم الإسلام وتعليماته كوسيلة لتبيان حقيقة أُخرى ترتبط بالحقيقة الأُولى، إذ كان همُّها أن تبيّن الأهداف السّامية التي من أجلها كان التّشريع الإسلامي بهذا الشكل لا بسواه، بل إنّها أرادت أن ترسم العلل التي من أجلها حدّدت معالم الرّسالة الإسلامية بهذه الصيغة المعلومة لا بسواها.
ولا بدّ لنا أن نلّم إلمامةً سريعة بالمفاهيم الإسلامية التي طفحت بها هذه التحفة التي منحتها الزّهراء لأجيالنا الإسلامية المتعاقبة وبمقدورنا أن نستنبط النقاط التالية على ضوئها:
1ـ الجانب العقيدي:
يعتبر جانب العقيدة في كلّ رسالة أو مذهب اجتماعي الحجر الأساس الذي تبتني عليه معالم الرسالة وتحدّد على ضوئها أُطرها ومقوّماتها…
وانطلاقاً من هذه الحقيقة الثابتة، إنطلق الإسلام في تثبيت جانب العقيدة في نفوس الجماعة من أتباعه، وأنفق وقتاً وجُهداً كبيراً خدمة لهذا الجانب في موكب دعوته الهادر. ولهذا توفرّ القرآن الكريم -وهو دستور المنهج الإلهي- على دراسة واسعة جدّاً للعقيدة، أوقف خلالها زهاء ثلاثة أرباعه، خدمةً لها وتثبيتاً لمعالمها. وقد نبض بهذا العامل القرآن المكّي -خصوصاً- إذ كان الإيمانُ بالله ورسوله واليوم الآخر هي الأوتار الحسّاسة التي أهتمّ في الضّرب عليها. وبعد تثبيت هذه القواعد الرّصينة انطلق الوحي المقدّس لرسم معالم التّشريع الإجتماعي والإقتصادي والعسكري وغيره، لكي تكون هذه الجوانب قد امتلكت قاعدتها الصُّلبة التي تستند عليها في تحقيق أهدافها في حياة النّوع الإنساني.
وإبرازاً لهذه الحقيقة ـدشّنت الزهراء(ع) حديثها عن الإسلام مبتدئة بالإيمان: «فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشّرك …» فهي تؤكد لنا أنّ الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخرـ الذي أوجب الله الإلتزام به كعقيدةٍ رصينة للمسلم يمثّل المناعة الطبيعية التي يمتلكها المسلم لدرء وباء الشّرك الذي يزلزل العقيدة القويمة ويهدّد كيانها بالإنهيار، فيصاب العقل والفكر والرّوح بعاهة يفقدها التوازن، لأنّ الشرك والإيمان لا يمكن أن يجتمعا في كيان إنسان واحدٍ أبداً، لأنّهما مفهومان لكلًّ منهما معالمه التي تسيطر على العقل والروُّح، فإذا دخل الشّرك عقلية المسلم فإنّ ذلك يعني أن قوى الإيمان قد انسحبت من المنطقة التي احتلّتها قوى الشّرك في ذهنه، ولذا كان الإيمان الرّصين إبادةً لجراثيم الشّرك بالله سبحانه في عقلية المسلم.
والمشرك -على هذا الأساس- من يستهدي في حياته الفكرية أو العملية منهجاً غير منهج الله تعالى، أو من يخلط بين مفاهيم الرسالة الإسلامية وغيرها من نتاج الجاهليّة الهوجاء.
وحين تفتتح الزّهراء(ع) حديثها عن الإسلام بالحديث عن الإيمان وفلسفته وبصفته الركيزة الأُولى التي يقوم عليها المبدأ الإسلامي الحنيف، تنطلق -بعد ذلك- لتحديد معالم الإسلام فتختتم حديثها عنها بالتحدُّث عن الإيمان أيضاً: وحرّم الله الشرك، إخلاصاً له بالربوبية فاتقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتُنّ إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنّما يخشى الله من عباده العلماء …».
فهي تعلن حرمة الشّرك الذي لا تتحقق العبودية المطلقة لله في كيان المرء إذا دخل في نفسه، ثم تعلن فلسفة تحريمه التي تنسجم ومتطلّبات الإيمان الصّحيح، وأن تحريمه كان حفظاً لمبدأ العبودية المطلقة لله سبحانه، وتأكيداً لربويّته في الأرض: في الفكر والعمل والعواطف، ثم تنطلق لتحذّر من مغبة الشّرك: « فاتقوا الله حقّ تقاته، ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون …».
حيث ألزمت الامة والأجيال القادمة بالسّير على منهج الله بعيداً عن المتاهات والزّيغ، ولا يتُّم ذلك الا بالسّير وفقاً لمفهومي الحلال والحرام الاسلاميين، لأنهما -وحدهما- اللّذان يمثلان المقياس الثابت الّذي يزن المرء بهما سلوكه وتصرفاته وكافة ألوان نشاطه في حياته.
وهذان المفهومان قد عبّرت عنهما الزّهراء بأمر الله ونهية -كما دلّ عليه قولها- : «وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه فإنما يخشى الله من عباده العلماء …».
المصدر: الزّهَراء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله: الشهيد عبد الزهراء عثمان محمد (الكتابُ الذي أحرز الجائزة الثانية في مُباراة التأليف عن حياة الصديقة الزهراء عليها السلام).