فلسفة الإسلام في منطق الزهراء(4): الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحة للعامّة/الشهيد عبدالزهراء عثمان محمد
فلسفة الإسلام في منطق الزهراء(4): الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحة للعامّة |
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحة للعامّة: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عمليّة كبيرة تحمل فاعليّة ضخمة في إصلاح كلّ الإنحرافات -التي يتعرّض لها المجتمع الإسلامي- عن معين الرّسالة الإلهية. وهو على هذا التقدير عمليّة علاجيّة تنمحي على أساسها كلُّ الآثار المرضية التي تصيب جسم الأُمة الإسلامية بمرور الأزمان، لأنّ الأمّة الإسلامية ليست بدعاً من الأمر، فهي أُمّة كبقية الأُمم: ترتفع وتنخفض تنهض وتهجع، تتحرّك وتسكت، ولمّا كانت هذه الأُمّة: هي «الأُمّة الوسط» التي أرادها الله سبحانه أن تكون شاهدة على النّاس متميزة عن غيرها من الأُمم، تحمل هويّة السماء وتتلمذ على الوحي لتتخرّج أجيالها، وهي تحمل شارة «خير أُمّة أُخرجت للنّاس». حين يكون لهذه الأُمّة الإسلامية هذا النصيب الأوفر، الذي خصّها الله سبحانه فيه، فلا بدّ أن يمنحها -بلطفه- منهجاً تعود على أساسه إلى عزّتها، إن ادلهمّت بها الخطوب واجتمعت عليها المحن، وفعلاً قد امتدّت يد الرّحمة إلى هذه الأُمّة فأتحفتها بمنهج الأمر بمالعروف والنّهي عن المنكر، لتتّخذ منه قاعدةً عمليّة ضخمة ـ يبتني على أساسه مجدها وكرامتها كلّما تكالبت عليها أُمم الجاهليّة لتزحزحها عن مقامها الذي يوّأها الله فيه. وبعد أن دلّها الله تعالى على طريق سؤددها لم يترك أمر سلوكه من قبل الأُمة اختياريّاً، وإنّما منحه الصّفة الإلزامية. والصّفة الإلزامية أعلى الدّرجات للتكليف في التّشريع الإسلامي. ولكن هذه السّمة الإلزامية أُعطيت الصفة الكفائية. وعلى هذا الأساس أصبح الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر واجباً كفائياً. إن قام به شخص أو جماعة من الناس سقطت مسؤوليته عن الجماعات الإسلامية الأُخرى، والقيام بمسؤولية الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر -هنا- يتطلب تحقيق المطالب التي شرع من أجلها، فليس المراد بالأمر والمعروف أن يقوم به شخص أو جماعة من الأُمة الإسلامية، وبمجرّد قيامهم بالعمل ودون تحقيقهم لمتطلّباته، يسقط الواجب عن الأمة بحال، إذ ليس المراد هذا، وإنّما يتحقّق سقوط المسؤولية عن الأُمة الإسلامية بتحقيق هذا الشخص أو هذه الفئة كل مستلزمات الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر: من إلغاء للمنكر وإقامة للمعروف. فلو ظهرت لدى بعض أفراد الأُمة الإسلامية عادة ممارسة الميسر، وقام جماعة من المسلمين في إنكار هذا المنكر بالسبل التي رسمها الإسلام: من حكمة وموعظة أو نحوها، فإن استطاع هؤلاء أن يأخذوا على أيدي هؤلاء المنحرفين، ويمنعوهم عن التمادي في هذا المنكر، سقطت مسؤولية الأمر بالمعروف وإنكار المنكر عن الأُمة كلها. أما لو فشل المخلصون الذي تصدّروا لمهمة الأمر بالمعروف، في تحقيق هذا الجانب الإصلاحي، وجب على الأُمة الإسلامية -برمّتها- أن تتولّى هذه المهمّة حتى يتحقّق الإصلاح أو تسقط المسؤولية عن الأُمة بعد قيامها بالمهمّة، وعدم استطاعتها لاستفحال المنكر مثلاً، أو لوجود ظروف تمنع إنكاره(1) وحينئذٍ ينطبق عليها تعليم السماء القائل «لا يكلّف الله نفساً إلاّ وسعها»(2). وأما إذا تقاعدت الأُمّة الإسلامية عن تحقيق مطالب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر بحجة أنّ المسؤول عن ذلك هم العلماء أو الخطباء أو غير ذلك، فقد أصبحت مأثومة برمّتها، سيّما وأنّها لا تملك دليلاً على هذا التّبرير الفارغ، وأنّى لها بالدّليل الذي يؤكد لها: أنّ العلماء أو الخطباء أو غير ذلك هم المسؤولون -فقط- عن هذه المهمّة الإصلاحية الكبرى، بل ما ذنب هذه الفئة المخلصة لكي تتحمّل كلّ مشقّة في سبيل تحقيق شعار الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر إذا كانت غير مكلّفة تكليفاً شرعيّاً في كتاب أو سنّة؟. والأدلّة الشرعيّة التي وردت في الكتاب والسنّة تدلُّ دلالة واضحة على أنّ هذه المسؤوليّة -مسؤوليّة الأمر بالمعروف- مكلّفة بها كلُّ الجماعات التي تحمل شارة التبعية لرسالة محمد(ص)، فالقرآن الكريم يعلن: «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر…»(3). وقوله تعالى «كنتم خيرَ أُمّةٍ أُخرجَت للنّاس تأمرونَ بالمعروف، وتنهونَ عن المنكر…»(4). وهذا يدلّ على أنّ صفة الأمر بالمعروف صفة ملازمة لمعسكر الإيمان، وكذلك إنكار المنكر، رجاله ونسائه ـ لا تنفكّ عنهم بأي حال من الأحوال. كما أنّ السُّنة الشّريفة تدل على هذه الحقيقة لقول الرسول(ص): «ما زال الناسُ بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر». وقد ورد كذلك عن أمير المؤمنين(ع) قوله: «لا تتركوا الأمرَ بالمعروف والنّهي عن المنكر، فيولّى عليكم شراركم ثم تدعون، فلا يستجاب لكم…». وهذا النّداء موجّهٌ لجميع أفراد الأُمة دون استثناء أو تخصيص، ولم يول التشريع الإسلامي هذه العملية -عملية الأمر بالمعروف- هذه العناية إلاّ لأنه سياج متين وإطار حديدي يحفظ المجتمع من كل أدران الجاهليّة التي ترفض منهج الله سبحانه وتقصيه عن واقع الإنسان فهو مصلحة لطبقات الأُمة كافّة، وكيف لا يكون كذلك، وهو الذي: تقام به الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتمنع المظالم، وتعمّر الأرض وينتصف للمظلوم من الظالم، ولا يزال النّاس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتعاونوا على البرّ، فاذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السّماء. وإذا كانت هذه المهام الكبار من منع للمظالم واعمار الأرض والعدالة بين الناس والضرب على أيدي الظلمة من التلاعب بمقدّرات الأُمة وإقامة للفرائض وإحلال للمكاسب. إذا كان الأمر بالمعروف يتحمّل هذه المسؤولية الجسيمة في إنقاذ المجتمع وإصلاح أوده، فقد تجلّت الغاية التي من أجلها أعلنت فاطمة الزهراء(ع) كونه، مصلحة للعامّة، فهو مصلحة للعامّة؛ لعامّة أبناء الأُمة، به تحفظ حقوقها وتدوم كرامتها ويقوم اعوجاجها، فهو الى جانب كونه تشريعا عباديا كلّف الله به الإنسان المسلم إلاّ أنّ ما يدرّه من أرباح وما يحقق من نتائج إيجابية وما يوفّره من مصالح، كلُّ ذلك تجنيه الأُمّة الإسلامية برمّتها، ولهذا الهدف أصبح -على حد تعبير الزّهراء(ع) مصلحةً للعامة يتفيئون ظلاله ويرتفعون على أساسه إلى مستوى الكرامة والعزّة- مهما تراكمت المحن وادلهمّت الخطوب.
____________ (1) الفكر الإسلامي، محمّد محمّد إسماعيل عبده. (2) آخر آية من سورة البقرة. (3) سورة التّوبة، الآية: 71 يلاحظ تفسير هذه الآية في (تفسير التبيان للطوسي) ليتّضح إطار الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. (4) سورة آل عمران، الآية: 110.
المصدر: الزّهَراء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله: الشهيد عبد الزهراء عثمان محمد (الكتابُ الذي أحرز الجائزة الثانية في مُباراة التأليف عن حياة الصديقة الزهراء عليها السلام). |