نماذج المرأة الصالحة
وإذا ما أشرنا إليهن فبدأنا من عمق التاريخ والعصور الغابرة، فإن آسيا بنت مزاحم ثم مريم بنت عمران وأم المؤمنين خديجة الكبرى سلام الله عليهنّ، ثم سيدّتهن وقدوتهن جميعاً الطاهرة البتول والراضية المرضية فاطمة الزهراء سلام الله وصلواته عليها.
فترى لماذا كان هذا النور الإلهي الذي انبثق من صلب خاتم النبيين صلى الله عليه وآله فتجسد بشخص فاطمة الزهراء عليها السلام، وامتد في حياة ووجود الرسالة، وكان ركناً أساسياً في بقائها إلى يومنا هذا؟ ولماذا كان عقب وذرية الرسول الأكرم المباركة قد اقتصر على ريحانته الصديقة الطاهرة المطهرة الزهراء سلام الله عليها، ولم يكن في أحد أبنائه؟
إن الزهراء البتول وُلدت كبرعم تفتّح في ربيع الحياة، أو كنسمة فوّاحة انسابت على سهل الحياة، أو كسحابة خير هطلت فاهتزّت لها صحراء الوجود، أو كومضة سطعت على آفاق العالم المظلم، ذلك لأن الزهراء جزءٌ لا يتجزّأ من نور الرسالة، وركن أساسي من الإيمان، حيث عاشت صلوات الله عليها كربيع عجّل انقضاؤه قيض الحقد اللئيم، لكنها -رغم ذلك- بقيت عطراً ممتداً وبركة لا تنقطع، فهي بذرة الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وهي جوهر أهل البيت الطاهر الذي شاء الله له أن يكون مشكاة لنور يسطع وهّاجاً في ضمير الزمن وعلى امتداد الدهور.
وهذه الحكمة هي التي كانت وراء أن تكون الزهراء القدوة الأولى لنساء العالم ليقمن بوجه الاستبداد والظلم وسلب الحقوق والإجحاف والتطاول الذي يتعرضن له من قبل الظالمين والمستبدين على اختلاف أنواعهم وأشكالهم.
فلو كانت المرأة تتعرض للظلم الاجتماعي، ولم يكن بمقدور الزوج أو الابن أن يأخذوا لها حقّها، فما الذي تصنعه هذه المرأة؟ هل تتخذ موقف الصمت فتتنازل وتقبل بالهزيمة؟
الجواب: كلا؛ لن يكون ذلك منها مادامت هناك فاطمة الزهراء عليها السلام تقف على قمـة الزمن تتحدى وتصرخ بوجه الظلم والإنحراف، فهي القدوة التي وقفت تطالب بحقها؛ لا طمعاً بما ينطوي عليه هذا الحق، بل لمجرد كونه حقّاً، حيث لا ينبغي لها أن تسكت، وكانت مطالبتها تلك – من ناحية أخرى- درساً لكل الأجيال، لا سيما الشطر النسوي منه.
فالزهراء عليها السلام دخلت الساحة السياسية مدافعة عن فدكها الذي كان يتضمن في حقيقة الأمر الدفاع عن الإمام علي عليه السلام ومجمل التراث النبوي الشريف، فهي دافعت في الواقع عن أحقيّة أهل البيت في تولي قيادة الأمة، إنها نزلت إلى المعترك رغم المصائب الجسدية والنفسية التي تعرضت لها وهدّت قواها، فقد تراكم على قلبها هموم الأيام بفقدانها أباها النبي الأكرم، فعاشت في تلكم الأيام بعد رحيل النبي وهي ترى تراثه نهباً يتلاقفه القوم، وهي ترى زوجها الذي قام الإسلام بجهوده الجبّارة، تراه يضطهد ولا من مدافع، وترى الإمامين السبطين الحسن والحسين عليهما السلام لا حول ولا قوة لهما في إصلاح ما أفسدته الجاهلية الثانية التي اختلقها الطامعون. إنها رغم كل ذلك تقف شامخة كالطود العظيم تدافع عن الحق والحقوق المهدورة؛ تلقي بالحجج البالغات والدلائل الدامغات وتشهّدُ من شاهد وشهد، تدافع عن القضية التي كانت فدك عنواناً ومفتاحاً لها.
وجذوة القول؛ إن المهم في سيرة الزهراء سلام الله عليها هو تصدّيها بنفسها للدفاع عن الحق، فهو -الدفاع- قيمة إلهية عظمى، وهو قمة الخلق السامي والرفعة الإنسانية. ومن هذا كله تتجلّى أمام أنظارنا الحكمة الربانية القاضية بأن تكون الصديقة الزهراء هي العقب الطاهر والامتداد الكريم لرسول ربِّ العالمين، فلم يكن من العبث بمكان أبداً أن يقول الرسول الأكرم : فاطمة أمَّ أبيها وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو -نطقه- إلاّ وحيٌ يوحى. وهذا يعني أن قيم ومفاهيم الرسالة كادت تتلاشى لولا وجود وجهود الزهراء، حيث أوضحت الحقائق وكشفت عن خفايا الطمع والجاهلية لكل ذي سمع ونظر وعقل.