مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
فاطمة (عليها السلام) في دور الاُمّ/ مؤسسة السبطين
+ = -

فاطمة (عليها السلام) في دور الاُمّ

 فاطمة (عليها السلام) في دور الاُمّ

إنّ الاُمومة من الوظائف الحسّاسة والمهام الثقيلة التي اُلقيت على عاتق الزهراء (عليها السلام) حيث أنجبت خمسة أطفال هم : الحسن والحسين وزينب واُمّ  كلثوم في حين اسقط جنينها المحسن قبل ولادته(1). وقد قدّر الله سبحانه وتعالى أن يكون نسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذرّيّته من فاطمة (عليها السلام)، كما أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقوله : « إنّ الله جعل ذرّيّة كلّ نبيّ في صلبه وجعل ذرّيّتي في صلب عليّ بن أبي طالب »(2) .
إنّ الزهراء (عليها السلام) ـ وهي ربيبة الوحي والنبوّة ـ تَعرِف جيداً مناهج التربية الإسلامية والتي تجلّت في تربيتها لمثل الحسن (عليه السلام) الذي أعدّته ليتحمّل مسؤولية قيادة المسلمين ويتجرّع الغصص في أحرج اللحظات من تأريخ الرسالة ، ويصالح معاوية على مضض حفاظاً على سلامة الدين الإسلامي والفئة المؤمنة ، ويعلن للعالم أنّ الإسلام وهو دين السلام لا يسمح لأعدائه باستغلال مشاكله الداخلية لضربه وإضعافه، فيُسقط ما في يد معاوية ويُفشل خططه ومؤامراته لإحياء الجاهلية ، ويكشف تضليله لعامة الناس ولو بعد برهة ، ويقضي على اللعبة التي أراد معاوية أن يمرّرها على المسلمين.
والزهراء (عليها السلام) قد ربّت مثل الحسين (عليه السلام) الذي اختار التضحية بنفسه وجميع أهله وأعزّ أصحابه في سبيل الله ومن أجل مقارعة الظلم والظالمين، ليُروّي بدمه شجرة الإسلام الباسقة .
وربَّت الزهراء (عليها السلام) مثل زينب واُمّ كلثوم ، وعلّمتهنّ دروس التضحية والفداء والصمود أمام الظالمين ، حتى لا يذعنّ ولا يخضعن للظالم وقوته ، ويقلن الحقّ ، أمام جبروت بني أُميّة بكلّ جرأة وصراحة، لتتّضح خطورة المؤامرة على الدين وعلى اُمّة سيّد المرسلين .

الزهراء (عليها السلام) مع النبيّ (صلى الله عليه وآله) في تثبيت دعائم الدولة :

أ ـ الزهراء(عليها السلام) قبل فتح مكة :
منذ أن دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة المنورة كان دائباً على هدم أركان الجاهلية واستئصال جذورها وضرب مواقعها ، فكانت حياته في المدينة المنوّرة كما كانت في مكة حياة جهاد وبناء، جهاد المشركين والمنافقين واليهود والصليبيين ، وبناء الدولة الإسلامية العظيمة ، ونشر الدعوة وتبليغها في كلّ بقعة يمكن لصوت التوحيد أن يصل إليها، فراح رسول الله (صلى الله عليه وآله) يحارب بالكلمة والعقيدة تارةً ، وبالسيف والقوة تارةً اُخرى ، وبالاُسلوب الذي يمليه الموقف وتفرضه الحكمة .
وهكذا جاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقاتل في مرحلة حرجة صعبة ، لم يكن يملك فيها من المال والجيوش والاستعدادات العسكرية ما يعادل أو يقارب جيوش الأحزاب وقوى البغي والضلال التي تصدّت لدعوة الحق والهدى ، بل كانت كلّ قواه قائمة في إيمانه وانتصاره بربّه وبالفئة المخلصة من أصحابه.
والذي يقرأ تاريخ الدعوة وجهاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصبره واحتماله; يعرف عظمة هذا الإنسان المبدئي ، ويدرك قوّة عزيمته ومدى صبره ورعاية الله ونصره له ولاُولئك المجاهدين الذين حملوا راية الجهاد بين يديه، فيكتشف مصدر النصر والقوة الواقعيين .
ولقد مرّت هذه الفترة الجهادية الصعبة بكامل ظروفها وأبعادها بفاطمة(عليها السلام) وهي تعيش في كنف زوجها وأبيها، تعيش بروحها ومشاعرها، وبجهادها في بيتها ، وفي مواساتها ومشاركتها لأبيها ، في شدّته ومحنته، فقد شهدت جهاد أبيها وصبره واحتماله ، شاهدته وهو يُجرح في (اُحد) وتُكسر رباعيته ، ويخذله المنافقون ، ويستشهد عمّ أبيها حمزة أسد الله ونخبة من المؤمنين معه .
روي أنّه لمّا انتهت فاطمة (عليها السلام) وصفيّة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ـ بعد معركة اُحد ـ ونظرتا اليه قال (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) : « أمّا عمّتي فاحبسها عنّي وأمّا فاطمة فدعها » فلمّا دنت فاطمة (عليها السلام) من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورأته قد شُج وجهه واُدمي فوه ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول : اشتد غضب الله على مَنْ أدمى وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان (صلى الله عليه وآله) يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء فلا يتراجع منه شيء(3) .
وكانت فاطمة (عليها السلام) تحاول تضميد جرح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقطع الدم الذي كان ينزف من جسده الشريف ، فكان زوجها يصبّ الماء على جرح رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهي تغسله ، ولما يئست من انقطاع الدم أخذت قطعة حصير وأحرقتها حتى صار رماداً فذرّته على الجرح حتى انقطع دمه(4) .
ويحدّثنا التأريخ عن مشاركة فاطمة (عليها السلام) بروحها ومشاعرها لأبيها في كفاحه وصبره وجهاده في أكثر من موقع .
فقد روي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قدم من غزاة له ، فدخل المسجد فصلّى فيه ركعتين ، ثم بدأ ـ كعادته ـ ببيت فاطمة قبل بيوت نسائه، جاءها ليزورها ويسر بلقائها ، فرأت على وجهه آثار التعب والإجهاد ، فتألّمت لمّا رأت وبكت فسألها  (صلى الله عليه وآله)  : « ما يبكيك يا فاطمة  ؟ » فقالت : « أراك قد شحب لونك » فقال (صلى الله عليه وآله) لها : « يا فاطمة إنّ الله ـ عزوجل ـ بعث أباكِ بأمر لم يبق على ظهر الأرض بيت مدر ولا شعر إلاّ دخله به عزّاً أو ذلاً يبلغ حيث يبلغ الليل »(5) .
وليست هذه العاطفة وتلك العناية والمشاركة مع الأب القائد والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من ابنته فاطمة (عليها السلام) هي كلّ ما تقدّمه لأبيها من إيثارها له واهتمامها به ومشاركتها له في شدّته وعسرته ، إنّها جاءت يوم الخندق ورسول الله(صلى الله عليه وآله) منهمك مع أصحابه في حفر الخندق لتحصين المدينة وحماية الإسلام، جاءت وهي تحمل كسرة خبز فرفعتها اليه فقال (صلى الله عليه وآله) : « ما هذه يا فاطمة ؟ » قالت : « من قرص اختبزته لابنيّ ، جئتك منه بهذه الكسرة »
فقال (صلى الله عليه وآله) : « يا بنيّة أما إنّها لأول طعام دخل في فم أبيك منذ ثلاث »(6) .
هذه صورة مشرقة لجهاد المرأة المسلمة تصنعها فاطمة في ظلال رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فهي تشارك بكلّ ما لديها لتشد أزر الإسلام وتكافح جنباً إلى جنب مع أبيها وزوجها وأبنائها في ساحة واحدة وخندق واحد، لتدوّنَ في صحائف التأريخ درساً عملياً تتلقاه الأجيال من هذه الاُمّة المسلمة ، فتتعلّم حياة الإيمان التي تصنعها عقيدة التوحيد بعيدة عن اللهو والعبث والضياع .

ب ـ الزهراء(عليها السلام) في فتح مكة :
لقد أحسّت سيّدة النساء بالغبطة والسعادة وقد رأت القسم الأكبر من الجزيرة يخضع لسلطان الإسلام ويدين برسالة أبيها، وها هي قريش مع عتوّها وكبريائها ترسل أحد زعمائها إلى يثرب عاصمة الإسلام لتفاوض النبيّ (صلى الله عليه وآله) على تمديد أمد الهدنة التي تمّ الاتفاق عليها في الحديبية، حينما ذهب النبيّ معتمراً في العام السادس للهجرة .
لقد أرسلت قريش زعيمها أبا سفيان بعد أن أخلّت بالشروط التي تمّ الاتفاق عليها ليعرض على النبيّ طلب قريش فلم يجد تجاوباً من النبيّ، فاستجار بجماعة من المسلمين فلم يجره أحد حتى ابنته رملة زوجة النبىّ(صلى الله عليه وآله)، فدخل على عليّ والزهراء (عليهما السلام) يطلب منهما الشفاعة له عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأبى كلّ من عليّ والزهراء والحسنين (عليهم السلام) أن يجيروه، ولمّا يئس من أن يجيره مسلم من المسلمين رجع آيساً خائفاً منكسراً يتعثّر بالفشل والخذلان .
وأيقنت الزهراء من موقف أبيها من أبي سفيان أنّه سيفتتح مكة ، ودنت الأيام فخرج الرسول في عشرة آلاف من المسلمين ولواؤه مع ابن عمّه ووصيّه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وخرجت معه الزهراء فيمن خرج معه من النساء، لقد ظلّت الزهراء إلى جانب أبيها مزهوّة بنصر الله وقد رأت الأصنام تحت أقدام أبيها، ورأت قريشاً تلوذ به وتقول : أخ كريم وابن أخ كريم ، وأبوها يقول لهم : اذهبوا فأنتم الطلقاء .
لقد كانت الأيام التي قضتها الزهراء مع أبيها في مكة حافلة بالذكريات، حيث تذكّرت فيها أيام أبيها يوم كان المشركون يطاردونه وأصحابه ويحاصرونه في الشعب، كما وتذكّرت أيام اُمها خديجة وعمّ أبيها أبي طالب.
لقد رأت في تلك الرحلة المظفرة هوازن وثقيفاً وأحلافهما من العرب الذين ظلّوا حتى ذلك التاريخ على موقفهم المتصلّب من الإسلام، رأتهم ينهارون وتندك حصونهم ومعاقلهم وتقع أموالهم وصبيانهم ونساؤهم في معركة حنين غنيمة للمسلمين .
وعادت مع أبيها وزوجها إلى مدينة الأنصار تاركةً مكة مرتع الصبا وموطن الأهل والأحباب ، وامتدّت حياتها عامين بعد هذه الرحلة وكانا من أسعد أيّام حياتها حيث الإسلام قد انتشر في جميع أنحاء الجزيرة، وأصبح الأول من بين الأديان(7) .

3 ـ حجة الوداع والأيّام الأخيرة :
ومرّت تلك الأيام بعطائها وحلوها ومرّها حتى جاءت السنة العاشرة من الهجرة دعا النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) عامة المسلمين لأداء مناسك الحج ، وحجّ بهم حجّة الوداع ، وعلّمهم أحكام الحج ومناسكه، وعند العودة توقّف الركب عند غدير خم ، وصعد النبي (صلى الله عليه وآله) على منبر من أحداج الإبل ونادى بصوت عال بعد تمهيدات عديدة : « من كنت مولاه فعليّ مولاه اللهمّ والِ من والاه وعادِ من عاداه » فنصب عليّاً (عليه السلام) لخلافته من بعده ، ثم أمر المسلمين فبايعوا عليّاً وسلّموا عليه بإمرة المؤمنين ، ثمّ تفرّقوا في بلدانهم ، وعاد النبيّ  (صلى الله عليه وآله) إلىالمدينة .
وبدخول السنة الحادية عشرة من الهجرة، وفي الأيام الأخيرة من شهر صفر اشتكى النبيّ من مرض ألمّ به، وكان قد عزم على غزو الروم وأعدّ لقيادة جيشه اُسامة بن زيد وهو في مطلع شبابه ، وأمر جميعَ المهاجرين والأنصار أن ينضمّوا اليه ، وجعل يستحثّهم على الخروج، ونصّ على بعضهم بالاسم ليخلي الساحة من المخالفين والمتربّصين، ويفوّت الفرصة على المعارضين لخلافة الإمام عليّ (عليه السلام) .
وظنّ أكثر المسلمين في بداية الأمر أنّها وعكة صحيّة طارئة لا تلبث أن تزول بسرعة ، غير أنّ الزهراء لم تكد تسمع بشكوى أبيها حتى ارتجّ قلبها وانهارت وكأنّها والموت على ميعاد ، فقد بانت أمارات الموت عليه(صلى الله عليه وآله) وضعفت صحّته ، فكان يتهيّأ ويوصي بأهل بيته في كلّ مناسبة، ويزور البقيع ويخاطبهم بكلمات تُشعر بدنوّ أجله ، لا سيما وقد سمعته قبل ذلك يقول في بعض المناسبات لأصحابه وهو يعظهم : « يوشك أن اُدعى فاُجيب»، وسمعته يقول في حجّة الوداع على جبل عرفات وقد وقف بين المسلمين : «لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا»، وتكرّرت منه هذه المقالة في السنة العاشرة من الهجرة.
ومرّةً رأت فاطمة (عليها السلام) في منامها ـ بعد حجّة الوداع ـ أنّها كانت تقرأ القرآن وفجأةً وقع القرآن من يدها واختفى ، فاستيقظت مرعوبةً وقصّت الرؤيا على أبيها (صلى الله عليه وآله) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : « أنا ذلك القرآن ـ يا نور عيني ـ وسرعان ما أرحل »(8) .
لقد كانت فاطمة (عليها السلام) وأمير المؤمنين أشدّ الناس لصوقاً وأقربهم إلى رسول الله في فترةِ مرضه وحتى وفاته (صلى الله عليه وآله)، فعن عليّ (عليه السلام) : أنّ معاذاً سأل عائشة كيف وجدت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند وجعه ووفاته ؟ فقالت : يا معاذ ما شهدته عند وفاته ولكن دونك هذه فاطمة ابنته فاسألها(9) .
كما أنّ فاطمة كانت تطوف حين مرض النبيّ (صلى الله عليه وآله) على أزواجه فتقول : إنّه يشق على النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يطوف عليكنّ ، فقلن هو في حلّ(10) .
واشتد المرض بالنبيّ (صلى الله عليه وآله) أكثر فأكثر ، فهو مسجّىً على فراش الموت والزهراء بجانبه يشتدّ وجدها على أبيها، وتقول: واكربي لكربك يا أبتاه! فتارةً تحدّق في وجهه الشاحب وتذرف الدموع الساخنة، واُخرى تدعو له بالسلامة .
لقد ثقل المرض على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى أُغمي عليه ، فلمّا أفاق; وجد أبا بكر وعمر وآخرين عنده ، فقال (صلى الله عليه وآله) : « ألم آمركم بالمسير في جيش اُسامة ؟ » فاعتذروا إلاّ أنّ النبىّ (صلى الله عليه وآله) كان يعلم ما تُكِنُّ صدورهم وما يبيّتون من بقائهم في المدينة ليبتزّوا مركز القيادة الإسلامية، فقال (صلى الله عليه وآله) : «  إئتوني بدواة وبياض ، أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي أبداً »، فتنازعوا فقالوا : إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهجر وفي نص آخر : قال عمر : إن النبيّ غلبه الوجع حسبُنا كتاب الله فاختلفوا وكثر اللغط ، قال (صلى الله عليه وآله) : قوموا عنّي ولا ينبغي عندي التنازع(11) .
كانت الزهراء ترى كلّ ذلك بقلب حزين وعين دامعة ، وكأ نّها ترتقب أياماً صعبة الأحداث .

***************************
(1) لأنّ المحسن ولد ميتاً من ضربة المهاجمين على دار الزهراء بعد امتناع عليّ(عليه السلام) من البيعة بعد وفاة الرسول(صلى الله عليه وآله). وقد عدَّ ابن عساكر في تأريخه في ترجمة الإمام الحسن ـ أولاد السيّدة الزهراء ـ وأورد??المحسن قائلاً : مات في حياة أبيه . فراجع .
(2) تأريخ بغداد : 1 / 316 ، كنز العمّال : 11 / ح32892 .
(3) بحار الأنوار : 20 / 96 ، وروى أحمد بن حنبل في مسنده : 5 / 334 ما في معناه .
(4) فضائل الخمسة : 3 / 161 .
(5) فضائل الخمسة ( الفيروز آبادي ) : 3 / 161 ، وحلية الأولياء لأبي نعيم: 2/30، وكنز العمال 1 / ح 1448 .
(6) ذخائر العقبى : 47 ، وفضائل الخمسة : 3 / 161 .
(7) راجع سيرة الأئمة الاثني عشر : 1 / 100 ـ 105 .
(8) رياحين الشريعة : 1 / 239 .
(9) راجع الإصابة : 2 / 178 ( ط . مصر ) .
(10) راجع عوالم العلوم : 11 / 390 .
(11) الكامل في التأريخ : 2 / 320 ، طبعة دار الفكر ـ بيروت ، وصحـيح البخاري : كـتاب العـلم ، باب كـتابة العلم  .