مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
بين السيدة سارة(ع) والسيدة الزهراء(ع)/الشيخ محمد باقر الكجوري.
+ = -
بين السيدة سارة(ع) والسيدة الزهراء(ع)
سارة رضي الله عنها هي من بنات الأنبياء وابنة خالة إبراهيم خليل الرحمن -عليه صلوات الله الملك المنان- وهي من النساء الممدوحات في القرآن، وكان لها جمال في حد الكمال بعد حواء(ع)، قال الإمام(ع): كان لسارة جمال كأنها حورية الجنان، بل كانت حوراء في صورة إنسية، وقد مر هذا المضمون في حق الصديقة الطاهرة(ع). ولم يكن لها في زمانها من النساء قرين في حسن السيرة وجمال المنظر، وكانت آية من الآيات الإلهية في الحسن والجمال، وكان خليل الرحمن يحبها حبا جما، وكان إبراهيم(ع) يراها إذا خرجت حتى تعود، وترتفع الحجب عن عينه فيرعاها بنظره ذهابا وإيابا، وكان إذا خرج من البيت أقفل عليها الباب.
وجاء في رواية معتبرة: إن إبراهيم حينما خرج إلى مصر عمل تابوتا وجعل فيه سارة وشد عليها الأغلاق غيرة منه عليها، ومضى حتى خرج من سلطان نمرود وسار إلى سلطان رجل من القبط يقال له «عرارة»، فمر بعاشر(1) فاعترضه العاشر ليعشر ما معه، فلما انتهى إلى العاشر ومعه التابوت، قال العاشر لإبراهيم(ع): إفتح هذا التابوت حتى نعشر ما فيه، فقال له إبراهيم(ع): قل ما شئت فيه من ذهب أو فضلة حتى نعطي عشره ولا نفتحه، قال: فأبى العاشر إلا فتحه، قال: وغصب إبراهيم(ع) على فتحه، فلما بدت له سارة وكانت موصوفة بالحسن والجمال، قال له العاشر: ما هذه المرأة منك؟!
قال إبراهيم: هي حرمتي وابنة خالتي، فقال له العاشر: فما دعاك إلى أن خبيتها في هذا التابوت؟!
فقال إبراهيم(ع): الغيرة عليها أن يراها أحد، فقال له العاشر: لست أدعك تبرح حتى أعلم الملك حالها وحالك، قال: فبعث رسولا إلى الملك فأعلمه، فبعث الملك رسولا من قبله ليأتوه بالتابوت، فأتوا ليذهبوا به فقال لهم إبراهيم(ع): إني لست أفارق التابوت حتى يفارق روحي جسدي… فحملوا إبراهيم(ع) والتابوت وجميع ما كان معه حتى أدخل على الملك، فقال هل الملك: إفتح التابوت، فقال له إبراهيم(ع): أيها الملك إن فيه حرمتي وبنت خالتي، وأنا مفتد فتحه بجميع ما معي، قال: فغصب الملك إبراهيم على فتحه، فلما رأى سارة لم يملك حلمه سفهه أن مد يده إليها، فأعرض إبراهيم(ع) وجهه عنها وعنه غيرة منه وقال: اللهم احبس يده عن حرمتي وابنة خالتي، فلم تصل يده إليها ولم ترجع إليه.. فيبست يده، فاعتذر إليه الملك واستغفر وطلب منه أن يدعو ربه ليطلق يده ، ففعل إبراهيم، وعاد الملك إلى فعله ثلاث مرات، وإبراهيم(ع) يدعو فتيبس يده ويستغفر فتطلق، فلما رأى منه الملك ما رأى عظمه وهابه ووهبه جارية قبطية لخدمة سارة، وقال له: أحب أن تأذن لي أن أخذمها قبطية عندي جميلة عاقلة تكون لها خادما، وهي هاجر أم إسماعيل… والحديث طويل(2).
والغيرة من الخصال الممدوحة في الرجال، ومعنى الغيرة: الحمية وكراهة شراكة الغير في الحق الثابت للإنسان، ومن لا غيرة له فهو منكوس القلب، وفي الحديث «لا أحد أغير من الله تعالى»(3) وروي أيضا: «إن الله يغار والمؤمن يغار» روي أيضا: «المؤمن غيور».
وفي الحديث المذكور آنفا: قال إبراهيم(ع) للملك: «إن إلهي غيور يكره الحرام، وهو الذي حال بينك وبين ما أردت من الحرام». فسارة لها نسبة قرابة مع إبراهيم(ع)، ويكفي في جلالها أن إبراهيم(ع) كان مأمورا باسترضائها وتطييب خاطرها، وهو دليل على حسن حالها ومكارم أخلاقها ومحاسن أفعالها، بل يتبين من بعض الأخبار الصحيحة أنها مجابة الدعوة، استجاب لها خالق البريات، وهذا دليل على شأنها العظيم ومقامها الرفيع.
ومن خصائصها الرائعة أنها بشرت بقوله تعالى: «فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب»(4)، فبعد مضي خمس وسبعون سنة من عمرها الشريف ووهن قواها واندكاك أعضاءها، بعث الله إليها الملائكة الكرام يبشرونها بمولود من مثل إسحاق، وجعل من ذريته أنبياء.
وكانت ولادتها غير متوقعة -عادة- لذا قالت (أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا)؟! ولكنها الدعوة المستجابة تماما، كما وهب يحيى(ع) بتلك الموهبة الكبرى.
وقد ذكرها الله عز وجل وذكر ضيافتها ومحبتها للضيوف واتباعها لإبراهيم أبي الأضياف، فقال تعالى: «هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين»(5).
وخاطبها جبرئيل والملائكة الكرام، واعتنى بها قاضي الحاجات عناية خاصة يطول شرحها. منها على سبيل المثال: أن إبراهيم(ع) كان له يوما ضيف، ولم يكن عنده ما يمون ضيفه فقال في نفسه: أقوم إلى سقفي فأستخرج من جذوعه فأبيعه من النجار فيعمل صنما؟! فلم يفعل، وخرج ومعه إزار إلى موضع وصلى ركعتين، فلما فرغ ولم يجد الإزار علم أن الله هيأ أسبابه، فلما دخل داره رأى سارة تطبخ شيئا فقال لها: أنى لك هذا؟ قالت: هذا الذي بعثته على يد الرجل، وكان الله سبحانه أمر جبرئيل أن يأخذ الرمل الذي كان في الموضع الذي صلى فيه إبراهيم ويجعله في إزاره والحجارة الملقاة هناك أيضا، ففعل جبرئيل ذلك وقد جعل الله الرمل جاورسا مقشرا -وفي رواية ذرة- والحجارة المدورة شلجما والمستطيل جزرا»(6).
وروي أيضا عن جعفر بن محمد(ع) قال: «إذا سافر أحدكم فقدم من سفره فليأت أهله بما تيسر ولو بحجر، فإن إبراهيم(ع) كان إذا ضاق أتى قومه، وإنه ضاق ضيقة فأتى قومه فوافق منهم إزمة فرجع كما ذهب، فلما قرب من منزله نزل عن حماره فملأ خرجه رملا إرادة أن يسكن به من روح سارة، فلما دخل منزله حط الخرج عن الحمار وافتتح الصلاة، فجاءت سارة ففتحت الخرج فوجدته مملوء دقيقا، فأعجنت منه وأخبزت، ثم قالت لإبراهيم(ع): انفتل من صلاتك وكل! فقال لها: أنى لك هذا؟ قالت: من الدقيق الذي في الخرج، فرفع رأسه إلى السماء وقال: أشهد أنك الخليل»(7).
وكانت سارة صابرة لأنها صبرت على ضيافة إبراهيم الخليل مع ما كانوا عليه من الفقر والفاقة، وروي أنه كان قد لا يتغذى ثلاثة أيام حتى يجد ضيفا فيأكل معه(8)، ولذا كني بـ‍ « أبو الضيفان» و «أبو الأضياف».
ولذا قال(ع): «من أكرم ضيفه فهو مع إبراهيم في الجنة». وروي أن الضيف إذا دخل فتح لصاحب الدار ألف باب من أبواب الرحمة، وغفر الله له ذنوبه، وكتب له بكل لقمة يأكلها ضيفه ثواب حجة وعمرة مقبولة، وبنى له مدينة في الجنة. ومن أكرم ضيفه فكأنما أكرم سبعين نبيا، وكتب له ثواب ألف شهيد(9).
وقال النبي(ص): «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»(10).
وفي الخبر: «لذة الكرام في الإطعام ولذة اللئام في الطعام».
وقال علي(ع): «إني أحب من دنياكم ثلاثة: إكرام الضيف، والصوم في الصيف، والضرب بالسيف». فالإكرام فرع من فروع السخاء، وقد قال الله تعالى: «يابن آدم كن سخيا، فإن السخاء من حسن اليقين، والسخاء من الإيمان، والإيمان في الجنة.
يابن آدم! إياك والبخل، فإن البخل من الكفر، والكفر في النار».
وفي كتاب عوالم العلوم: رئي أمير المؤمنين(ع) حزينا، فقيل له: مما حزنك؟ قال: لسبع أتت لم يضف إلينا ضيف(11).
وقد نزلت آيات كثيرة في مدح أمير المؤمنين(ع) وفاطمة(ع) في إطعام الطعام وقرى الضيف والإنفاق على الفقراء وقد ضبطت في كتب الفريقين، خصوصا سورة هل أتى النازلة فيهم(ع).
على أي حال، فإن أجلى وأعلى الصفات الكريمة في سارة إنما هي الحسن والجمال وشدة العفاف وصبرها على خدمة ضيوف إبراهيم الخليل(ع) ورضاه عنها وامتثالها أمر الله سبحانه واقترانها لزوج عظيم يأتي في الفضل بعد رسول الله في سلسلة الأنبياء والمرسلين.
نعم، إن ما روي في كتب التفاسير والمناقب عن غيرة سارة وحسدها فهو من مقتضيات الطبيعة البشرية، وهي ليست معصومة، وقد ابتلي نظائرها وأترابها أيضا بهذا البلاء، كحواء حينما حسدت فاطمة الزهراء(ع) وما فعلته سارة مع هاجر كان من هذا الباب!!! ولكن لا يخفى على القارئ أن كل ما أذكره من خصائص في مثل هذه الموارد، فهو مقدمة لبيان المقامات الرفيعة المنيعة للصديقة الكبرى(ع)، وكل ما فيه من شرح لسير هؤلاء النساء المكرمات واستكشاف لكمالاتهن، فهو لمعرفة علو قدرها وسمو مقامها، فكل واحدة منهن كانت آية من آياتها الباهرات ليس أكثر. ففاطمة الطاهرة المرضية تزوجت من أمير المؤمنين، وكان الخليل من شيعته المخلصين كما في قوله تعالى «وإن من شيعته لإبراهيم»(12) ولطالما توسل به وبعترته الطاهرين في الشدائد، فاطمئن قلبه، وخصوصا حينما ألقي في النار.
وقد مر سابقا مقارنتها بفاطمة(ع) في بعض الموارد، وسنذكر هنا موارد أخرى فنقول: لقد كانت سارة بنت نبي ولها قرابة قريبة من إبراهيم(ع)، وفي ذلك فضل كبير، وفاطمة(ع) أيضا من بنات الأنبياء، ولكن لم يكن فيهن من كان لها نسب فاطمة في الفخامة، حيث أنها بنت نبي آخر الزمان، وكانت قرابتها من أمير المؤمنين أقرب من قرابة سارة من إبراهيم. وأما في الحسن والجمال، فإن في الروايات دلالة صريحة على أن نساء العالمين طرا لا يدانين تلك المحجوبة الكبرى في المحاسن الصورية والمعنوية، ولا في مكارم الأخلاق الظاهرية والباطنية، وسنبسط الكلام -فيما بعد- في شمائل مشكاة الأنوار وخصائل أم الأئمة الأطهار.
وأما بشارة سارة بولادة إسحاق(ع)، كما بشرت إيشاع أم يحيى بيحيى، وبشرت مريم بعيسى، فإن فاطمة الزهراء(ع) -أيضا- بشرت بالحسنين، وفي الحديث «إن النبي بشرها عند ولادة كل منهما»، فقال لها «ليهنئك أن ولدت إماما يسود أهل الجنة» وأكمل الله ذلك في عقبها(13).
وقد ولد من صلب إسحاق أنبياء عظام، وولد من صلب سيد الشهداء -ابن فاطمة الزهراء- أئمة الهدى(ع)، وهم المقصودون ب‍ «الكلمة الباقية» صلوات الله وسلامه عليهم. وأما حسن معاشرتها وصبرها على خدمة ضيوف الخليل وحبها لهم واسترضاءها لإبراهيم الحاكي عن رضا الله سبحانه، فكل ذلك لا يبلغ عشر من أعشار ما كان لفاطمة.
وعلى ما هو المعلوم فإن أعلى درجات السخاء الإيثار، وهو بذل الشيء المحبوب للغير مع شدة الحاجة إليه، وبعبارة أخرى: أن تجوع أنت وتشبع جائعا، وهو معنى قوله تعالى «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة»(14) النازلة فيها(ع).
روى الكراجكي في كنز الفوائد، والشيخ عبد الله بن نور الله في عوالم العلوم عن أبي هريرة قال: إن رجلا جاء إلى النبي(ص) فشكا إليه الجوع، فبعث رسول الله(ص) إلى بيوت أزواجه، فقلن: ما عندنا إلا الماء، فقال(ص): من لهذا الرجل الليلة؟ فقال علي بن أبي طالب: أنا يا رسول الله، فأتى فاطمة(ع) فأعلمها، فقالت: ما عندنا إلا قوت الصبية، ولكنا نؤثر به ضيفنا، فقال(ع): نومي الصبية وأطفئي السراج، فلما أصبح غدا على رسول الله(ص) فنزل قوله تعالى: «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة»(15).
وفي كنز الفوائد أيضا في سبب نزول هذه الآية قال(ص) في حديث: «… يا علي! إن الله جعلك سباقا للخير سخاء بنفسك عن المال، أنت يعسوب المؤمنين والمال يعسوب الظلمة، والظلمة هم الذين يحسدونك ويبغون عليك ويمنعون حقك بعدي»(16).
ونقل صاحب العوالم عن محمد بن شهر آشوب صاحب المناقب أنه قال: «وأنفق -يعني أمير المؤمنين(ع)– على ثلاث ضيفان من الطعام قوت ثلاث ليال، فنزل فيه ثلاثين آية، ونص على عصمته وستره ومراده وقبول صدقته»(17).
أضف إلى ذلك حضور سارة عند ولادة فاطمة الزهراء(ع) وفي أوقات أخرى لخدمتها.
هذا في الدنيا، وستلتزم تلك السيدة المكرمة مع عدة آلاف من الحور العين والملائكة المقربين خدمة سيدة نساء العالمين يوم القيامة منذ زمن الشفاعة حتى دخول الجنة.
وروي في أخبار كثيرة أنها تشارك فاطمة الزهراء(ع) في تربية أطفال هذه الأمة في الجنة.
وكل تلك الأخبار تدل على علو قدرها وعظمة مقامها. وإن في نسبتها إلى أهل بيت العصمة والطهارة وقبولها لخدمتهم وإدراكها لصحبتهم كفاية، وهذا شرف فوق شرف وفضل فوق فضل، فلها غاية المنى والدرجة العليا في الآخرة والأولى، فعليها وعلى سيدتها ومولاتها شرائف التسليمات أزكاها، ونوامي البركات والتحيات أسناها.



الهوامش:
(1) العاشر والعشار: هو الذي يقبض العشر.
(2) البحار 12/ 44 ح 38.
(3) بحار الأنوار 6/ 110 ح 4 باب 23.
(4) هود: 71.
(5) الذاريات: 24.
(6) البحار 63/ 219 ح 4 باب 6 الجزر.
(7) البحار 73/ 282 ح 1 باب 52 في آداب الرجوع عن السفر عن تفسير العياشي: ذيل قوله تعالى (واتخذ الله إبراهيم خليلا).
(8) انظر بحار الأنوار 12/ 4.
(9) قرب الاسناد 50.
(10) البحار 72/ 460 ح 14 باب 93.
(11) البحار 41/ 28 ح 1 باب 102.
(12) الصافات: 83.
(13) بحار الأنوار 43/ 48 ح 46 باب 3.
(14) الحشر: 9.
(15) بحار الأنوار 43/ 48 ح 46 باب 3.
(16) الحشر: 9.
(17) البحار 36/ 59 ح 1 باب 36 عن كنز الفوائد


المصدر: الخصائص الفاطمية: الشيخ محمد باقر الكجوري. ج1، مصادر سيرة النبي والائمة، ترجمة: سيد علي جمال أشرف. الطبعة الأولى، 1380 ش، انتشارات الشريف الرضي.