حقيقة الرّسالة الإسلامية من خلال خطبةالزهراء(ع)(4): الحجُّ تشييداً للدّين
والحجُّ تشييداً للدّين.. وبهذه العبارة القصيرة تكشف الزّهراء عن فلسفة الحج وأهدافه السامية، فهو تشييد للرسالة وإقامة لصروحها الشامخة. ولا بدّ أن تحمل هذه العبارة الجليلة سرّاً كامناً خلفها، إذ لماذا تعلن الصّدّيقة(ع) كون الحج تشييداً للدّين دون غيره من الفرائض، بل لماذا أعطت الزهراء هذه الفريضة هذا المقام الرفيع دون غيرها من الفرائض الإسلاميّة ؟ فالحجُّ في حقيقته مؤتمر إسلامي كبير يضم ممثلين عن مختلف الشعوب الإسلامية على سطح هذا الكوكب الأرضي. والإنسان المسلم الذي يحضر هذا المؤتمر الإسلامي السنوي المعقود عند أشرف بقعة في الأرض «الكعبة المشرّفة» يبذل المال ويبذل الوقت الوجهد ولكنّه سيعيش واقعاً إسلامياً ويحيا مناخاً إسلامياً يشعُّ بالوحدة وتسوده المساواة المطلقة والتقارب الروحي والتعارف والإخاء. وحين يعيش الحجيج هذه الإشعاعات التي تنبثق من فريضة الحج فإنّما يعيشون الإسلام حقيقة واقعة بصورة مصغرة مرّة في كلّ عام، فهم يعيشون الوحدة التي حمل الإسلام لواءها بكلّ أبعادها حيث يجتمعون في بقعة واحدة ويرددون نداءً واحداً، ويحملون هدفاً واحداً، هو رضوان الله تعالى، وتسودهم المساواة بكلّ أبعادها أيضاً، فتلغي الفوارق كما أراد لها الإسلام في واقع الحياة حيث يتحقق هذا الشّعار بالزيّ الواحد الذي يرتديه الأبيض والأسود، العربيّ والأعجميّ، الرجل والمرأة، الكبير والصغير، الغنيُّ والفقير، الرئيس والمرؤوس؛ فاللباس موحّد، والهتاف موحّد، والعمل واحد، والفعّاليّات واحدة؛ وهذه المراسيم تمثل المساواة التي رسم الإسلام حدودها بأعلى صورها وأنصع ألوانها، ثم تتحقّق الاخوّة بأجلى مظاهرها، فلا اغتياب ولا سباب، بل ولا جدال، وعلى هذا الأساس يتحقّق مفهوم الأُخوة ويتجسّد حقيقة ملموسة لا حديثاً او لفضاً مطلقاً. وإلى جانب هذه الصُّورة المصغّرة للمجتمع الذي يعمل الإسلام على إرساء قواعده وتشييد معالمه، ينشأ التّفاهم والتّعارف بين ممثّلي الشعوب الإسلامية، فيلتقي الفارسيُّ بالهنديّ والعربيّ بالتركيّ وغيرهم لكي يتعرّفوا على مشاكلهم، فيهتدوا لعلاجها، ويبحثوا في وسائل عزّتهم، ويزيلوا ما يعيق نهضتهم من أشواك، فيستفيد كلُّ شعب من أشقّائه ليسير العمل متناسقاً لبلوغ الغاية التي أرادها الله لهذه الأُمّة لتكون كما أراد الله لها «خير أُمّةٍ أُخرجت للنّاس» وحين تنكشف لنا الفوائد الجليلة التي شرع الحجّ من أجلها من تحقيق لواقع إسلامي مصغّر أو فهم للمشاكل المشتركة وغير المشتركة لدى الشعوب الإسلامية. حين ينكشف لنا هذا المغزى الرّصين من تشريع الحجّ نكون قد فهمنا الدّافع الذي حمل الزهراء(ع) لتعدّ الحجّ تشييداً للدّين. فهو -لعمر الحق- تشييد للدّين إذا جنى المسلمون ثماره التي شرعه الله سبحانه من أجلها. ولعلّنا وفقنا لعرضها قبل قليل.
المصدر: الزّهَراء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله: الشهيد عبد الزهراء عثمان محمد (الكتابُ الذي أحرز الجائزة الثانية في مُباراة التأليف عن حياة الصديقة الزهراء عليها السلام).