مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
البعد الأخلاقي والاجتماعي:الزهد في سيرة فاطمة الزهراء(ع) /د.علاء رزاك فاضل النجار/مركز دراسات البصرة والخليج العربي /قسم الدراسات التاريخية
+ = -

الزُّهد في اللغة: الإعراض، والزهيد: الشيء القليل، فالأصلُ اللغوي واحد يدلُّ على قلَّة الشيء. فمعنى الزهد في الشيء: الإعراض عــنه؛ لاستقلالِه واحتقارِه، وارْتفاع الهمَّة عنـه. والزاهد: العابد، والزهادة في الشيء خلاف الرغبة فيه، وأخذ أقل الزيادة، والزَّهدُ: القدر اليسير. ولم ترد هذه المادة في القرآن الكريم إلاَّ في موضع واحد، في قوله تعالى ﴿ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ﴾ [يوسف: 20].

    اما اصطلاحاً فقد وردت تعاريف عدة لمعنى الزهد تصب في معنى واحد. فالزهد هو الإعراض من متاع الدنيا وطيباتها. ويقال زَهِدَ في الدنيا: ترك حلالها مخافة حسابه، وترك حرامها مخافة عقابه. وأيضا الزهد :هو صرف الرغبة عن الدنيا وعدم إرادتها بقلبه إلا بقدر ضرورة بدنه. وورد عن الشيخ محمد تقي بهجت t في كتاب الناصح أنّ الزهد هو: أن تملك نفسك، وتراقب إِذْنَ الله تعالى في كلِّ فعلٍ وتَزكٍّ. ويرى علماء الأخلاق أنّ الزهد إنّما يتحقق إذا تمكن المرء من الدنيا وتركها، وكان الحافز على الترك هو حقارة المرغوب عنه، أو كان المرغوب إليه هو الله تعالى، فلو كان الترك لعدم قدرته عليه، أو لغرض غير المولى تعالى، لم يكن ذلك زهداً أصلاً.

الزهد في الاسلام وعند رسول الله واهل بيته عليهم السلام:

    إن الله سبحانه وتعالى لا يُرغب الانسان عن الدنيا بل يرغب عن حرامها، والاسلام لا يُزهد الناس في الدنيا ليتركوها بالكلية وينقطعوا إلى الآخرة، ولا يرغبهم في الآخرة ليقبلوا عليها بالكلية ويتركوا الدنيا؛ بل يتخذ بين ذلك سبيلا، هو الجمع بين خيري الدنيا والآخرة. أما الذين انقطعوا عن الدنيا بالكلية، ورغبوا في الآخرة فهذه نافلة فرضوها على أنفسهم ولم يفرضها الله عليهم. فالزهد الحقيقي هو الكف عن المعصية وعما زاد عن الحاجة. وحضارة الإسلام لم تقم على الزهد في الدنيا والانقطاع للآخرة بل مزجت الدنيا بالآخرة فآتت أكلها طيبا. فقد اتخذ بعض الزهاد الزهد حجة للفرار وسبيلاً يبعدهم عن الحياة السياسية والطبيعية، بينما نجد أهل البيت عليهم السلام حثوا على اتخاذ الزهد سبيلاً إلى الآخرة لا غير، وكان هذا منهج رسول الله واهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام. فعن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “وأمّا علامة الزاهد فعشرة: يَزهَدُ في المَحَارِم، ويَكُفُّ نَفسَهُ، ويُقيمُ فَرَائضَ رَبِّه، فإن كانَ مَملُوكاً أَحسَن الطَّاعةَ، وإِنْ كَان مَالكاً أَحسَنَ المَملكةَ، ولَيس له محميّة ولا حِقدٌ، يحسن إلى من أساء إليه، ويَنفعُ مَن ضرّه، ويَعفو عمَّن ظَلَمه، ويتواضَع لحقِّ الله”. كما ذكر رسول الله  (صلى الله عليه وآله وسلم): “الزهد في الدنيا يريح القلب والبدن، والرغبة فيها تتعب القلب والبدن”

     وجاء عن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب u: الزهد كله في كلمتين من القرآن ، قال تعالى:﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾. حيث ذكر أمير المؤمنين u:”من لم يأْسَ على ما فات ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه”. وعنه u ايضاً: “الزهد تقصير الآمال وإخلاص الأعمال”. وقال u : “أفضل الطاعات الزهد في الدنيا”، و “عليك بالزهد فانّه عون الدين”، و “ينبغي لمن عرف الدنيا أن يزهد فيها ويعزف عنها”. والزهد كما يصفه الإمام علي بن الحسين u بقوله: “ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، إنّما الزهد أن لا يملكك شيء”. وقد سئل الامام محمد الباقر u عن أشد الناس زهداً فقال: “من لا يبالي الدنيا في يد من كانت، فقيل له: من أخسر الناس صفقة؟ فقال من باع الباقي بالفاني فقيل من أعظم الناس قدراً؟ فقال من لا يرى الدنيا لنفسه قدراً”. لذا فان الزهد الحقيقي عند الامام أبو جعفر u  هو التقوى بمفهومه الإيجابي والدقيق في متابعة الاستباق إلى الخيرات وإغاثة الملهوفين، والقيام بأمر الله تعالى لا تأخذهم في ذلك لومة لائم.

     فالزهد في الدنيا يعني عدم الاستسلام للطمع والحرص والبخل وحبس الحقوق. والمنهج الإسلامي باعتباره المنهج الأشمل للحياة يوجه الناس بشكل عام والمسلمين بشكل خاص الى التعود على البذل والعطاء والإطعام ومساعدة المحتاجين والإنفاق في سبيل الله، وإعطاء الزكاة والتصدق على الفقراء والمساهمة في المشاريع العامة التي تخدم الناس، عن أبي يعفور قال: “قلت لأبي عبد الله u : إنّا لنحب الدنيا. فقال لي u : تصنع بها ماذا؟ قلت: أتزوّج بها وأحجّ وانفق على عيالي وأنيل إخواني وأتصدق. قال لي: ليس هذا من الدنيا، هذا من الآخرة”. وفي القرآن الكريم: ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا﴾.

    إن جميع الروايات الواردة عن النبي الاكرم والعترة الطاهرة عليهم افضل الصلاة والسلام في الزهد ناظرة الى التعالي على مغريات الدنيا وعدم جعلها محركاً ودافعاً للإنسان ومقياساً له في التقييم، وأما استثمار الطيبات، وإنفاقها على الأهل وعلى أبناء المجتمع في حدود المأمور بها فهي مشروعة. والزهد صفة مميزة من صفات أرقى نماذج الشخصية الإنسانية، وهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام.

زهد فاطمة الزهراء عليها السلام:

    ترعرعت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء u في أجواء الزهد في بيت سيد الكائنات رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم وفي بيت سيد الأولياء الإمام علي u، فقد زهدت هذه الأسرة الكريمة في ملذات الحياة إيماناً منها بتقرير القيم المعنوية في الواقع؛ ولتقتدي بها سائر الأسر، وكذلك مساهمة منها في التكافل الاجتماعي. فمن يتصدى لإصلاح وتغيير الواقع ينبغي أن يكون مثلاً أعلى في جميع ممارساته وسيرته العملية. اذ ان الابرار الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه عرفوا الدنيا وما فيها من نعيم زائل فأعرضوا عنها بقلوبهم والتمسوا رضوان الله تعالى في مأكلهم وملبسهم واسلوب حياتهم فامرأة مثل الزهراء u وجلالة قدرها وعظم منزلتها كانت شملتها التي تلتف بها خَلِقه قد خيطت في اثني عشر مكاناً بسعف النخل.

    ويجسد زواج الزهراء u اروع صور الزهد والعفة، فبعد ان امر الله تعالى بزواج أمير المؤمنين علي من فاطمة u، توجه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى علي u بالقول :” يا أبا الحسن فهل معك شيء أزوّجك به ؟ فقال علي u: فداك أبي وأمي والله ما يخفى عليك من أمري شيء، أَملك سيفي، درعي، وناضحي، وما أملك شيئاً غير هذا. فقال له رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم يا علي، أمّا سيفك فلا غنى بك عنه، تجاهد به في سبيل الله، وتقاتل به أعداء الله، وناضحك تنضح به على نخلك وأهلك، وتحمل عليه رحلك في سفرك، ولكنّي قد زوّجتك بالدرع ورضيت بها منك”. وبذلك الدرع الذي باعه الأمام علي u باربعمائة درهم سود هجرية تم الزواج، وكان ذلك المبلغ البسيط مهر وجهاز فاطمة الزهراء u، وهو امرٌ يبين معنى الزهد والانقطاع عن ملذات الدنيا والتبتل إلى الله سبحانه وتعالى والتوجه إليه. حيث حملت الزهراء u جهاز الزواج ببساطته إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فلما عرض عليه جعلّ يقلبه بيده ويقول: بارك الله لأهل البيت. وفي رواية أخرى: اللهم بارك لقوم جلّ آنيتهم من الخزف.

     وعن الإمام علي u انه قال: “لقد تزوجت فاطمة وليس لنا فراش غير جلد كبش ننام عليه بالليل، ونعلف عليه الناضح بالنهار، وما لي ولها خادم غيرها”. كما كان زهد الزهراء u زهداً إيجابياً تجسد في إشباعها لحاجات المستضعفين وإنفاق ما تملك في سبيل الله. اذ ذكر امير المؤمنين u: “كانت ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأكرم أهله عليه، وكانت زوجتي حتى فجّرت بالرحا حتى أثرت الرحا بيدها، واستقت بالقربة حتى أثرت القربة بنحرها، وقمت البيت حتى أغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى تلوثت ثيابها، وأصابها من ذلك ضرر”. وهذه الرواية تدل على أنّ عمل الزهراء u لم يكن محدوداً، حيث يعبّر عن عمل متواصل، وهو غير مقتصر على عمل البيت المتواضع، فجر الرحا والاستسقاء وإيقاد القدر لا يتطلب الإرهاق المذكور ما لم يكن عملاً واسعاً يشمل مساعدة الجيران والفقراء والمعوزين، فقد كانت تساهم في إشباع حاجاتهم من الماء والطعام، فهي تطحن وتوقد القدر لبيتها ولبيوت الأسر المحرومة. ومن زهدها أن الإمام علياً u  قال لها: “يا فاطمة هل عندك شيء؟ قالت: والذي عظّم حقّك ما كان عندي منذ ثلاثة أيام شيء أقريك به. فقال: أفلا أخبرتني؟ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهاني عن أن أسألك شيئاً، فقال: لا تسألي ابن عمك شيئاً، إن جاء بشيء عفواً وإلا فلا تسأليه”.

      جاء في تفسير الثعلبي عن جعفر بن محمد u وتفسير القشيري عن جابر الأنصاري t قال: رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة u وعليها كساء من أجلّة الابل وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا بنتاه تعجلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقالت : يا رسول الله الحمد لله على نعمائه والشكر لله على آلائه. فانزل الله تعالى ﴿ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾. كما روي عن أسماء بنت عميس أنّها قالت: كنت عند فاطمة u إذ دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي عنقها قلادة من ذهب كان اشتراها لها عليّ بن أبي طالب u من فيء. فقال لها رسول الله: يا فاطمة لا يقول الناس: إنّ فاطمة بنت محمّد تلبس لباس الجبابرة! فقطعتها وباعتها واشترت بها رقبة، فأعتقتها، فسرّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    كانت السيدة فاطمة الزهراء u على جانب كبير من الزهد، فهي عرفت الحياة الدنيوية، وأدركت الحياة الأخروية، فلا عجب إذا قنعت باليسير اليسير من متاع الحياة، واختارت لنفسها فضيلة المواساة والإيثار، وهانت عليها الثروة، وكرهت الترف والسرف. فلا غرو، وهي بنت أزهد الزهاد، وحياتها العقائدية ملازمة للزهد، فهي أولى الناس بالسير على منهاج أبيها الرسول الزاهد العظيم صلى الله عليه وآله وسلم، وحياتها الزوجية تبلورت بالزهد والقناعة، فلقد كان زوجها الإمام علي u أول الناس وأكثرهم اتباعاً للرسول في زهده.

    عن الإمام الصادق عن أبيه u عن جابر بن عبد الله الأنصاري t قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة العصر، فلما انفتل جلس في قبلته والناس حوله. فبينما هم كذلك إذ أقبل شيخ من العرب مهاجر، عليه سمل قد تهلل وأخلق، وهو لا يكاد يتمالك كِبَراً وضعفاً، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستحثه الخبر، فقال الشيخ: يا نبي الله أنا جائع الكبد فأطعمني، وعاري الجسد فاكسني وفقير فارشني. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ما أجد لك شيئاً، ولكن الدال على الخير كفاعله، انطلق إلى منزل مَن يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يؤثر الله على نفسه، انطلق إلى حجرة فاطمة. وكان بيتها ملاصق بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي يتفرد به لنفسه من أزواجه، وقال: يا بلال قم فقف به على منزل فاطمة. فانطلق الإعرابي مع بلال، فلما وقف على باب فاطمة نادى بأعلى صوته: السلام عليكم يا أهل بيت النبوة ومختلف الملائكة، ومهبط جبرئيل الروح الأمين بالتنزيل من عند رب العالمين. فقالت فاطمة: وعليك السلام، فمن أنت يا هذا؟ قال: شيخ من العرب، أقبلت على أبيك سيد البشر مهاجراً من شقة، وأنا – يا بنت محمد – عاري الجسد، جائع الكبد، فواسيني يرحمك الله. وكان لفاطمة وعلي – في تلك الحال – ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثاً ما طعموا فيها طعاماً، وقد علم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من شأنهما. فعمدت فاطمة إلى جلد كبش مدبوغ بالقرظ كان ينام عليه الحسن والحسين u، فقالت: خذ هذا يا أيها الطارق، فعسى الله أن يرتاح لك ما هو خير منه. فقال الأعرابي: يا بنت محمد شكوت إليك الجوع، فناولتني جلد كبش؟ ما أنا صانع به مع ما أجد من السغب؟ فعمدت فاطمة لما سمعت هذا من قوله إلى عقد كان في عنقها أهدته لها فاطمة بنت عمها حمزة بن عبد المطلب u، فقطعته من عنقها، ونبذته إلى الأعرابي فقالت: خذه وبِعهُ، فعسى الله أن يعوِّضك به ما هو خير منه. فأخذ الإعرابي العقد، وانطلق إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله أعطتني فاطمة هذا العقد فقالت: بِعه فعسى الله أن يصنع لك. فبكى النبي صلى الله عليه وآله وسلم  فقال: وكيف لا يصنع الله لك، وقد أعطته فاطمة بنت محمد سيدة بنات آدم. فقام عمار بن ياسر t فقال: يا رسول الله أتأذن لي بشراء هذا العقد؟ قال: اشتر يا عمار، فلو اشترك فيه الثقلان ما عذبّهم الله بالنار، فقال عمار: بكَمْ العقد يا أعرابي؟ قال: بشبعة من الخبز واللحم، وبردة يمانية استر بها عورتي وأصلي فيها لربي، ودينار يبلغني إلى أهلي. وكان عمار قد باع سهمه الذي نفله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من خيبر ولم يبق منه شيئاً فقال: لك عشرون ديناراً ومائتا درهم هجرية، وبُردة يمانية، وراحلتي تبلغك أهلك، وشبعك من خبز البر واللحم. فقال الإعرابي: ما أسخاك بالمال أيها الرجل؟ وانطلق عمار فوفّاه ما ضمن له. وعاد الأعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رسول الله: أشبعت واكتسيت! قال الأعرابي: نعم، واستغنيت بأبي أنت وأمي: قال: فأجزِ فاطمة بصنيعها؟ فقال الأعرابي: اللهم أنت إله ما استحدثناك، ولا إله لنا نعبده سواك، فأنت رازقنا على كل الجهات، اللهم أعط فاطمة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. اما عمار بن ياسر t فعمد إلى العقد فطيّبه بالمسك، ولفَّه في بردة يمانية، وكان له عبد اسمه سهم ابتاعه من ذلك السهم الذي أصابه بخيبر، فدفع العقد إلى المملوك، وقال له: خذ هذا العقد فأدفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنت له. فأخذ المملوك العقد فأتى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخبره بقول عمار فقال النبي: انطلق إلى فاطمة فادفع إليها العقد وأنت لها. فجاء المملوك بالعقد وأخبرها بقول رسول الله  صلى الله عليه وآله وسلم فأخذت فاطمة العقد، وأعتقت المملوك. فضحك المملوك فقالت: ما يضحكك يا غلام؟ فقال: أضحكني عِظَم بركة هذا العقد، أشبع جائعاً، وكسا عرياناً وأغنى فقيراً، وأعتق عبداً، ورجع إلى ربه أي إلى صاحبه.

    ان زهد الزهراء (ع) لم يكن زهداً جامداً ومعطلاً من أجل الفوز في الجنان فحسب، بل هو زهد رسالي، لمواساة الناس في ضنك العيش، والتكافل الاجتماعي معهم، وإشباع حاجاتهم بفضول المال، والإيثار على نفسها. فالزهراء تمثل دور القدوة والأسوة لباقي الناس، فانّ مقامها كبنت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وزوجة وصيه، وأم الأئمة الأطهار (ع)، يستدعي أن تكون في قمة الزهد وفي أعلى درجاته، فهي لم تكن امرأة اعتيادية حتى تزهد لنيل الثواب الأخروي فحسب، بل هي امرأة رسالية، ينبغي أن تكون قدوة وأسوة لسائر النساء، فمسؤوليتها مسؤولية استثنائية وهي محط أنظار الناس، فكانت كما أرادها الله تعالى في قمة الزهد الذي يتناسب مع موقعها الاجتماعي.

     وفي كتاب البحار عن تفسير فرات بن إبراهيم عن أبي سعيد الخدري قال: أصبح علي بن أبي طالبu ذات يوم ساغباً وقال: يا فاطمة هل عندك شيء تغذّينيه؟ قالت: لا، والذي أكرم أبي بالنبوة، وأكرمك بالوصية ما أصبح الغداة شيء، وما كان شيء أطعمناه مذ يومين إلاَّ شيء كنت أؤثرك به على نفسي، وعلى ابني هذين؟ الحسن والحسين. فقال علي: يا فاطمة؟ ألا كنتِ أعلَمتِني فأبغيكم شيئاً: فقالت: يا أبا الحسن إني لأستحيي من إلهي أن أكلّف نفسك ما لا تقدر عليه. فخرج علي من عند فاطمة u واثقاً بالله بحسن الظن، فاستقرض ديناراً فبينما الدينار في يد علي u يريد أن يبتاع لعياله ما يصلحهم، فتعرَّض له المقداد بن الأسود، في يوم شديد الحر، قد لوّحته الشمس من فوقه، وآذته من تحته فلما رآه علي u  أنكر شأنه فقال: يا مقداد ما أزعجك هذه الساعة من رحلك؟ قال: يا أبا الحسن خلّ سبيلي ولا تسألني عما ورائي!! فقال: يا أخي إنه لا يسعني أن تتجاوزني حتى أعلم علمك. فقال: يا أبا الحسن رغبة إلى الله وإليك أن تخلّي سبيلي، ولا تكشفني عن حالي!!! فقال له: يا أخي إنه لا يسعك أن تكتمني حالك. فقال: يا أبا الحسن! أمَّا إذا أبيتَ! فو الذي أكرم محمد بالنبوة وأكرمك بالوصية ما أزعجني من رحلي إلاَّ الجهد وقد تركت عيالي يتضورون جوعاً، فلما سمعت بكاء العيال لم تحملني الأرض، فخرجت مهموماً، راكباً رأسي، هذه حالي وقصتي!! فانهمرت عينا علي u  بالبكاء حتى بلّت دمعته لحيته فقال له: أحلفُ بالذي حلفتَ: ما أزعجني إلاَّ الذي أزعجك من رحلك، فقد استقرضت ديناراً، فقد آثرتك على نفسي. فدفع الدينار إليه ورجع حتى دخل مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فصلى فيه الظهر والعصر والمغرب، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المغرب مرَّ بعلي u وهو في الصف الأول فغمزه برجله، فقام علي متعقباً خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لحقه على باب من أبواب المسجد، فسلَّم عليه فردَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم السلام، فقال: يا أبا الحسن هل عندك شيء نتعشاه فنميل معك؟ فمكث مطرقاً لا يحير جواباً، حياءً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان النبي يعلم ما كان من أمر الدينار، ومن أين أخذه وأين وجّهه، وقد كان أوحى الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يتعشى تلك الليلة عند علي u. فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سكوته فقال: يا أبا الحسن ما لَك لا تقول: لا. فانصرف؟ أو تقول: نعم. فأمضي معك؟ فقال – حياءً وتكرماً – : فاذهب بنا!! فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يد علي u فانطلقا حتى دخلا على فاطمة u وهي في مصلاّها قد قضت صلاتها، وخلفها جفنة تفور دخاناً. فلما سمعت كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرجت من مصلاّها فسلّمت عليه وكانت أعزّ الناس عليه، فردّ عليها السلام، ومسح بيده على رأسها وقال لها: يا بنتاه كيف أمسيت؟ قالت: بخير. قال: عشّينا، رحمك الله، وقد فعل. فأخذت الجفنة فوضعتها بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي u فقال علي لها: يا فاطمة أنِّي لك هذا الطعام الذي لم أنظر إلى مثل لونه قط، ولم أشمّ ريحه قط، وما آكل أطيب منه؟؟ فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كفّه الطيبة المباركة بين كتفي علي u فغمزها، ثم قال: يا علي! هذا بدل دينارك، وهذا جزاء دينارك من عند الله، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب. ثم استعبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باكياً، ثم قال: الحمد لله الذي أبى لكم أن تخرجا من الدنيا حتى يجزيكما ويجريك – يا علي – مجرى زكريا، ويجري فاطمة مجرى مريم بنت عمران، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً.