السيدة الزهراء(ع)بين العالمية وحصار المظلوميّة/موقع ممهدات
ماذا يعني أن تكون فاطمة سيدة نساء العالمين؟
ومما يلفت الأنظار في هذا السياق، كلمة النبي(ص) الشهيرة والتي كرّس فيها ابنته الزهراء سيدةً لنساء العالمين، أو نساء المؤمنين أو نساء أهل الجنة، على اختلاف الرواية في ذلك. مع أنّه لا منافاة بين الروايات، فسيدة نساء المؤمنين هي سيدة نساء العالمين، وهي بطبيعة الحال ستكون سيدة نساء أهل الجنة. والحق يقال: إنّ هذا الوسام هو أعلى وسام يمنحه الرسول (ص) لامرأة، وتلك الكلمة هي أعظم كلمةٍ يقولها(ص) في حق امرأة من النساء، فسيادة نساء العالمين، ليست أمراً بسيطاً أو عادياً، ولا سيما عندما يطلقها النبي(ص) وهو الذي لا يلقي الكلام على عواهنه، ولاينطلق في ذلك من موقع عاطفة أو عصبية، ولا يعطي الألقاب جزافاً ولا يمنحها لغير أهلها..
إنّ تكريس فاطمة(ع) سيّدةً لنساء العالمين يعني أنّها اختزنت في شخصيتها من عناصر الكمال الروحي والأخلاقي ما جعلها قدوة وسيّدة نساء العالمين، وهذا الأمر يحمّل كافة المسلمين من أتباع رسول الله(ص) والأوفياء لنهجه مسؤوليّة كبيرة في العمل على اكتشاف فاطمة(ع) ومعالم القدوة في شخصيتها، ومن ثمّ التعريف بشخصيتها الرساليّة للعالمين جميعاً، وذلك من خلال الأساليب التي يفهمها الجيل المعاصر، وتؤثر فيه؛ لأنّنا على يقين بأنّ من تكون سيدة نساء العالمين بتعيين رسول الله(ص)، لا تكون مجرد امرأة عادية، بل لا بدّ من أن تكون امرأة ملهمة ومعلّمة ومؤدبة ومثلاً أعلى يحتذى به على مرّ العصور. والسؤال الذي يطرح نفسه: إذن لماذا لا نعرف الكثير عن فاطمة؟ ولماذا يجهل الكثيرون حقيقتها ومعالم شخصيتها؟ ولماذا لم يهتم كتبة التاريخ بالإضاءة بما فيه الكفاية على مواقفها وكلماتها وخصائص شخصيتها؟ ولماذا يحرص البعض -في المقابل- على أن يحوطها بمجموعة من الأسرار والغيبيات التي تبعدها عن حياة الناس وواقعهم، ويجعلها مجرد أيقونة يقدّسها وليس نموذجاً يحتذى، أو أن يحبسها في أسر المظلومية التي تعرضّت لها بعد رحيل والدها رسول الله(ص)؟! إننا لا ننكر أن فاطمة امرأة ذات قدسية خاصة، وأنّها تعرّضت للكثير من المظالم بعد رحيل والدها رسول الله(ص)، بيد أنّ ذلك لا يجب أن ينسينا سائر مواقفها والصفحات المشرقة في كتابها الكبير.
والواقع أنّ التعامل الغيبي مع شخصيّة فاطمة الزهراء(ع) سيشكّل عائقاً ليس أمام الاقتداء بها فحسب، بل وعائقاً أمام فهم شخصيتها وهو ما يعدّ إحدى مظاهر المظلومية التي لا تزال تتعرض لها ابنة محمد(ص) بأن تكون مجهولة إلى هذا الحدّ.
لكن ورغم الحصار الذي تعرضت له سيدة النساء(ع)، فقد بلغنا عنها(ع) شيءٌ من عطائها الفكري والرسالي، وهو وإن كان عطاءً يسيراً ولكنّه عظيم الفائدة، وكفيل بأن يملأ الخافقين بالهدى والنور، لو أحسنا تمثله وتظهيره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكارهون.
2- إدارة الاختلاف في تفاصيل المظلومية
وحديث المظلومية هذا، يدفعني إلى القول: إنّ ثمّة قدراً جامعاً ومتفقاً عليه في موضوع مظلوميتها، من منعها فدكاً رمز الإمامة، إلى الهجوم على بيتها وهتك حرمة البيت الذي طالما وقف رسول الله على بابه مسلماً على أهله، وهو يردد قول الله تعالى: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ليطهركم تطهيراً} [الأحزاب-33]، إلى الظلامة الكبرى التي كانت تؤرق الزهراء(ع) وتدمي قلبها، وهي زحزحة الخلافة عن أهلها، وهو ما أظهرته(ع) في خطبتها الطويلة في قولها: “ويحهم أنى زحزحوها عن رواسي الرسالة وقواعد النبوة ومهبط الوحي الأمين والطبين بأمر الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين، وما نقموا من أبي حسن، نقموا والله منه نكير سيفه، وشدة وطأته، ونكال وقعته، وتنمره في ذات الله عز وجل”. لقد كانت الزهراء(ع) ترى أنّ المظلومية الكبرى هي مظلوميّة علي(ع) والتي هي مظلومية الإسلام والمسلمين؛ لأنّ إبعاد علي(ع) عن المكان اللائق به في إدارة شؤون الأمة كان له الكثير من التداعيات السلبية على حاضر الأمة ومستقبلها.
ولكنّ بعض القضايا وقعت محلاً للاختلاف، ولو من قبل بعض العلماء الذين لم يثبت عندهم بعضها أو ناقشوا فيها، أو رسموا بعض علامات الاستفهام حولها، من قبيل: ضربها الذي ناقش فيه الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(ره)، أو كسر ضلعها الذي ناقش فيه السيد فضل الله(ره). والسؤال هنا -وبصرف النظر عن موقفنا المؤيّد لحدوث هذه الأحداث أو المشكك في ذلك- كيف ندير الاختلاف حول هذه الأمور؟ هل نستخدم أساليب الحوار العلمي بعيداً عن التجريح والاتهامات المتبادلة؟ أم أننا نستخدم أساليب القسوة الكلامية التي تصل إلى حدّ السب واللعن والتضليل، وإسقاط كرامات الأحياء ونبش قبور الأموات، كما يحصل في أيامنا من خلال شتى المنابر الإعلامية، ولا سيّما وسائل التواصل الاجتماعي التي تشهد حفلات من الشتائم والسباب والعصبيات، وحملات التشهير المتبادلة بين طرفي النزاع، وهو أمر يبعث على إثارة الضغائن بين المؤمنين في الوقت الذي تحتاج فيه ساحتنا إلى لمّ الشمل؟!
الموضوعيّة والعاطفة
قد يكون بديهياً القول: إنّ علينا إدارة الاختلاف في هذه الأمور على أساس المنهج العلمي المتعارف عليه في شتى المباحث العلميّة، كلامية كانت أو فقهية أو تاريخية، أو غير ذلك، وهذا هو ما يجري عليه عامة العقلاء في إدارة نزاعاتهم واختلافاتهم.
لكنّ المؤسف أنّ ما حصل ويحصل أنّ العاطفة والعصبيّة هما اللتان تتحكمان في إدارة القضيّة، ويشارك في ذلك الخطاب الديني لبعض الوعاظ والخطباء، والذي يعمل على تجييش العواطف المذهبيّة لعامة الناس وإثارة انفعالاتهم، الأمر الذي قد يدفعهم -أعني عامة الناس- إلى التطاول على أصحاب الرأي الآخر.
والمفارقة أنّنا نخضع الكثير من القضايا العقديّة والتاريخيّة والفقهية للبحث والنقاش دون أن تثور ثائرة أحد، مع أنّ بعض تلك القضايا التي نتناولها بالبحث، ونضعها تحت السؤال، هي أكثر ثبوتاً ووضوحاً من ناحية الدليل وأكثر ارتباطاً بالعقيدة من القضايا التفصيلية المتصلة بمظلوميّة الزهراء(ع)، بل إنّ بعضها ربما يعدّه البعض من المشهورات أو الضرورات. ومع ذلك يتمّ إخضاعها للبحث دون أن يثير أحد اللغط في الأمر، أو يندفع إلى إثارة العامة أو إصدار الأحكام القاسية في حق منكرها.
وكمثال على ذلك: يحدّثني بعض العلماء أنّه كان يدرس طلابه بعض الكتب الكلامية المقررة للتدريس، وعندما وصل البحث إلى علم الإمام، ذكر مسألة معينة، وقال: إنّ هذا مبني على علم الإمام بالموضوعات، ومجرد طرح هذا الأمر استفز طلابه، فاعترض بعضهم عليه بأنّ الإمام عالم بكل شيء، وكيف يطرح مثل هذا الأسئلة أو النقاشات حول علمهم؟! يقول: فقلت لهم: منذ فترة بحثنا وإياكم حول علم الله تعالى وطرحنا رأياً لبعض العلماء والفلاسفة، مفاده: أنّ علم الله ليس متعلقاً بالجزئيات. أليس كذلك؟ قالوا: بلى، وهناك لم أركم استغربتم ولا ثارت ثائرتكم!. وهذا الاستيحاش الذي أبداه بعض الطلبة يظهره ويبديه حتى بعض أهل العلم.
إنّ هذا مؤشر على أنّ القضايا المذهبية لا تقارب على أساس علمي، بمقدار ما تقارب على ضوء العاطفة المذهبية، هذه العاطفة التي نتفهمها ونتفهم منطلقاتها التاريخية، على اعتبار أنّها نشأت على خلفية مظلوميّة تاريخيّة لأهل البيت(ع). ولكنّ هذا الأمر لا يعدّ مبرراً وجيهاً لهذه الانفعالات التي تطعن في الآخر، لا في ميزان العلم ولا في ميزان الدين.
ومثال آخر: إنّ المشهور بين علماء الفريقين أنّ للنبي(ص) عدة بنات غير السيدة الزهراء(ع)، وهنّ زينب ورقيّة وأم كلثوم. ولكنّ بعض العلماء المعاصرين تبنّى رأياً مخالفاً للرأي المشهور والمعتضد بالدليل. وبالرغم من أنّ للمسألة بعداً مذهبياً معيناً، حيث إنّ الآخر يفسّرها بأنّها محاولة لنفي
مصاهرة الخليفة الثالث للنبي(ص)، ومع ذلك فلم يضايق أحداً من هذا الرأي ولم ينف حقّ العالم المذكور في أن يتبنى الرأي المشار إليه. والسؤال: لماذا عندما تصل القضية إلى مسألة المحسن الذي أسقطته الزهراء(ع)، تقوم القيامة إذا ما شكك أحدهم في وجوده أو في سقوطه بطريقة غير اعتيادية؟!
إنّ اللازم علينا، ولا سيما أهل العلم، أن نتعامل مع هذه الأمور بموضوعية تامة وأن نبعدها عن أجواء التشنج والإثارة المذهبية، مع تأكيدنا الجلي أنّ من حقّ من ثبتت لديه هذه المظالم أن يظهر ذلك، وأن يعلن موقفه في المسألة لكن بالطريقة التي لا تسيء إلى الآخرين ولا تسيء إلى الواقع الإسلامي برمته.
ويخطئ من يظنّ أنّ اعتماد أسوب القسوة في النقد والتجريح في صاحب الرأي الآخر، وكيل الاتهامات له سوف يحدّ من انتشار رأيه أو يحاصره في نطاق خاص، فهذ الأمر فضلاً عن أنّه ليس أسلوباً مقبولاً من الناحية الشرعية، فإنه لا يملك حظوظاً من الناحية العملية، فإنّ قمع الفكر الآخر يساهم في انتشاره.
وفي المقابل، فإنّ الطرف المشكك أو النافي لبعض هذه الأحداث أن يستخدم الأسلوب العلمي نفسه، فيبتعد عن الاستهزاء بالآخرين أو الاستخفاف بهم أو برأيهم أو يرميهم بأوصاف غير لائقة. إنّ علينا أن نأخذ بأسباب النقد ونعلمها للناس، ومن أهمّ هذه الأسس التركيز على نقد الفكرة بدل الطعن في صاحبها.
3- تفاصيل المظلومية أحداثٌ تاريخية لا عقدية
ثمّ إنّ علينا في الوقت عينه، وفي سياق وضع هذه الأمور في نصابها العلمي، وإبعادها عن التشنج أو التجاذب العاطفي اللاموضوعي، أن نحدد الإطار الذي تندرج فيه هذه القضايا والمظالم، فهل هي من سنخ قضايا العقيدة أم من سنخ القضايا التاريخية؟ وتحديد هذا الأمر له العديد من الفوائد وتترتب عليه نتائج عدة وأهمّها:
1- معرفة نوع الدليل الذي يقام في المسألة، لأنّ القضايا العقدية تتطلب أدلة يقينية، وهو ما لا يشترط في القضايا التاريخية وفقاً لما يراه المشهور.
2- أنّها لو كانت قضايا تاريخيّة وليست عقدية، وينطبق عليه معيار المسألة التاريخية، فهذا يعني أنّه لا يترتب على إنكارها سوى إنكار سائر القضايا التاريخية، وليس ما يترتب على إنكار القضايا العقدية.
ومن المعلوم، وباعتراف أشدّ المدافعين عن هذه المظالم التي تعرّضت لها السيدة الزهراء(ع)، أنّ هذه الأمور هي من سنخ القضايا التاريخية لا العقدية.
ربما يقال: إن هذه الأمور وإن كانت في حدّ نفسها من قضايا التاريخ، ولكنّ انكارها يجرّ إلى إنكار بعض قضايا العقيدة، فإنّ إنكارها يعني براءة فلان وفلان.
والجواب: إنّ هذا -فضلاً عن كونه قراءة في نوايا الآخرين وهو ليس من العلم ولا من الدين في شيء- لا يصادم مسألة عقدية، إذ إنّ الأساس هنا هو التبري ممن ظلم أهل البيت(ع)، وإنكار حادثة معيّنة لا يعني تولي هؤلاء ولا إعطاؤهم صك براءة، أفهل يخطر في بال أحد -مثلاً- أنّ من ينكر وجود ليلى (زوجة الإمام الحسين) في كربلاء إنّما يهدف في إنكاره إلى إعطاء صك براءة لعمر بن سعد وجيشه الذين روعوا عيال الحسين(ع)؟!
ثمّ حتى لو كانت المسائل المذكورة من سنخ القضايا العقدية، فالاختلاف في قضايا العقيدة لا يعني إصدار أحكام بالتضليل والتبديع وإسقاط الحرمات؛ لأنّ كثيراً من قضايا العقيدة ليست مسلمات، وإنّما هي مجرد أفكار نظريّة تختلف فيها وجهات وتتعدد الآراء.
إنّه لخطر كبير ربط المذهب بهذه التفاصيل التاريخية بالرغم من خطورتها، وكأنّ انهيار بعض الأفكار التاريخية أو التشكيك بهذه المسألة أو تلك من تفاصيل الأحداث التاريخية سيكون سبباً لانهيار المذهب أو زلزلة العقيدة! إنّ قوام المذهب في أسسه وقواعده الأصيلة وفي حجته القوية.
وفي الختام: روى الشريف الرضي في نهج البلاغة أنّ أمير المؤمنين(ع) وقف بعد دفنه للسيدة الزهراء(ع) عند قبر رسول الله(ص) كَالْمُنَاجِي له فقال: “السَّلَامُ علَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّه عَنِّي -وعَنِ ابْنَتِكَ النَّازِلَةِ فِي جِوَارِكَ، والسَّرِيعَةِ اللَّحَاقِ بِكَ، قَلَّ يَا رَسُولَ اللَّه عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي ورَقَّ عَنْهَا
تَجَلُّدِي، إِلَّا أَنَّ فِي التَّأَسِّي لِي بِعَظِيمِ فُرْقَتِكَ وفَادِحِ مُصِيبَتِكَ مَوْضِعَ تَعَزٍّ فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وفَاضَتْ بَيْنَ نَحْرِي وصَدْرِي نَفْسُكَ، فَـ {إِنَّا لِلَّه وإِنَّا إِلَيْه راجِعُونَ} [البقرة-156]، فَلَقَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ وأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ، إِلَى أَنْ يَخْتَارَ اللَّه لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ بِهَا مُقِيمٌ، وسَتُنَبِّئُكَ ابْنَتُكَ بِتَضَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى هَضْمِهَا- فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ واسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، هَذَا ولَمْ يَطُلِ الْعَهْدُ ولَمْ يَخْلُ مِنْكَ الذِّكْرُ، والسَّلَامُ عَلَيْكُمَا سَلَامَ مُوَدِّعٍ لَا قَالٍ ولَا سَئِمٍ، فَإِنْ أَنْصَرِفْ فَلَا عَنْ مَلَالَةٍ، وإِنْ أُقِمْ فَلَا عَنْ سُوءِ ظَنٍّ بِمَا وَعَدَ اللَّه الصَّابِرِينَ“.
المصدر: al-khechin.com