الزهراء عليها السلام قدوة النساء/الشيخ علي طه
الشيخ علي طه
إنَّ الحديث عن فاطمة الزهراء عليها السلام سيدة نساء العالمين، ذو شجون وتشعبات كثيرة، وقد يتهيب المرء الكلام عن هذه الشخصية الفريدة في صفاتها، ومكانتها، ودورها الكبير والمتميز في عالم النساء، وخصوصاً أنَّها عاشت في زمن كان يُنظر إلى المرأة نظرة دونية، إذ أنَّ تحقير المرأة في الجاهلية، كان أمراً عادياً، ومقبولاً، لا بل طبيعياً بحيث أنَّ وأد البنات كان من المسلَّمات التي لا يعترض عليها معترض، ويصوِّر القرآن الكريم، الحال بقوله تعالى: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ﴾(1).
ويأتي الإسلام ليرفع هذا الحيف عن المرأة، كإنسان وكدور، وليعلن المساواة الواقعية بين المرأة والرجل، على أساس الطبيعة البشرية، وليجعل جزاء الأعمال، للذكر والأنثى، على حد سواء، لا تفاضل بينهما، في الأصل، أو الجنس.. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾(2). إنَّ عملية التحول في وضعية المرأة، على يد رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، بلغت ذروتها، عندما اختار اللَّه تعالى، فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله، لتكون سيدة نساء العالمين، والقدوة والقائدة، لنساء زمانها، وكل زمان، لا بل القدوة للرجال وللنساء معاً، باعتبار أنها تمثّل الأنموذج الكامل للمرأة، في كل تفاصيل حياتها، منذ أنْ أبصرت النور، حتى آخر لحظات عمرها الشريف، وستبقى فاطمة الزهراء عليها السلام الكوكب المضيء في عالم الإنسانية، تشرق على بني الإنسان كالشمس، فتملأ العقول بالفكر الصافي، والقلوب بالعواطف النبيلة، والحياة بالدور النسائي المميَّز، بحيث لا تجد في شخصية فاطمة إلا أسمى الصفات، وفي أعلى الدرجات..
إنّها الزهراء .. “القدوة لكل النساء اللواتي ينهلن من معين الحقيقة والنور الإلهي” كما قال إمام الأمة الخميني قدس سره، وكان لا بد لهنَّ أن يتمثَّلنَ بسيرة فاطمة عليها السلام التي كتبها اللَّه مع الأبرار، الذين قال فيهم: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ..﴾(3). .. فكم هي محظوظة المرأة التي تكون الزهراء عليها السلام مثالها وقدوتها، فالزهراء عليها السلام نبراس لكل امرأة تريد سبيل الرشاد، وتطلب معالي المعرفة والأخلاق ومفاخر التربية والتهذيب، وكم هي تعيسة، وطريقها مظلم تلك المسلمة المقلِّدة والمنبهرة بالمرأة الغربية، فهي تعاني من فراغ فكري هائل، فكل ما لديها مجرد أوهام وتقاليد عمياء، حتى أمست أكثر مرونةً، وأسهل تقبلاً لكل ما يرد إليها من فساد الموضات الثقافية والاجتماعية الهابطة، وأصبحت الحرية الممنوحة لها أعظم معول هدَّام لمجتمعها.
وإذا أردنا الوقوف عند بعض التفاصيل المتعلقة بالزهراء عليها السلام، في كافة مراحل حياتها المباركة، فإننا سنجد، باعتبارها المثال الأعلى للمرأة، أنها كانت في مرحلة الطفولة… كأفضل ما تكون الفتاة، وذلك لأنها ابنة لأعظم شخصية على وجه الأرض، حتى يرث اللَّه الأرض ومن عليها، وهو الرسول الأعظم محمد صلى الله عليه وآله…، وعندما أصبحت فاطمة عليها السلام زوجة للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنها كانت الزوجة المثالية، إذ أعطت أبهى صورة عن الحياة الزوجية المنسجمة، الراقية.. وأما دورها كأم، فإنّه الدور الذي بلغ الذروة في عملية التربية، ذات المستوى الأعلى، كما يدعو إليها الإسلام من خلال الكتاب والسنَّة..
ولم يكن دور فاطمة عليها السلام كزوجة وكأم على حساب دورها العام، وهو الدور الذي ارتقى إلى درجة الانفتاح على عمق ما رسمه القرآن الكريم للمرأة، من دور ريادي في الحياة والمجتمع، وهذا الدور ابتدأ من كونها معلِّمة للجيل النسائي في زمنها، وللأجيال الأخرى الآتية في مستقبل الزمان، ولم يقتصر هذا الدور على أمور اعتيادية، بل تجاوز كل ذلك، ليكون دورها دور المناصرة للأمة والعقيدة والمبدأ، وهي التي أعلنت رأيها صريحاً واتخذت الموقف الواضح، من أخطر الموضوعات التي تعلقت بمصير الأمة كلِّها، في تلك اللحظات التاريخية الهامة.. وحتى لا نبقى في عالم التعميم يحسن بنا أن نتحدث، ولو بشكل موجز عن الزهراء عليها السلام، في مراحل حياتها المختلفة..
* فاطمة عليها السلام في مرحلة الطفولة:
.. إنَّها منذ اليوم الأول لولادتها المباركة، كانت تتغذى من أنوار الهدى والطهر، من جهة الوالد والوالدة، فقد نمت، وترعرعت في حضن خير أم.. خديجة الكبرى، وكان نموها الروحي والفكري والعام من خلال إعداد الرسول صلى الله عليه وآله لها الإعداد الخاص، الذي شمل الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، فقد تخرجا من نفس المدرسة، والمعلم هو رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، نبي الرحمة والهداية. . وتشاء الأقدار، أن تنتقل أمها خديجة إلى الرفيق الأعلى، بعدما عاشت معها، فاطمة عليها السلام محنة الحصار، في شعب أبي طالب، لمدة ثلاث سنوات.. ويتوفى في نفس العام أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وآله وحاميه ويبقى محمد صلى الله عليه وآله وحده.. يواجه الهجمة الشرسة على عقيدة التوحيد من أهل الشرك، وعبدة الأصنام.. وتبقى معه فاطمة الصغيرة.. التي فقدت أمها..
وهنا يحسن القول، إنَّ عملية الإعداد النبوي لفاطمة عليها السلام، كانت وفق خطة هادفة لتنفيذ ما أراده اللَّه للزهراء عليها السلام من النهوض بأعظم دور، تؤديه أعظم امرأة، تربَّت على يد أعظم أبٍ، كما سبق القول.. لتملأ الدنيا بعطر شذى الرسالة، وترسم الدرب القويم للمرأة في زمنها، وكل زمن، وعلى المستوى العالمي. وإنَّ ما ذكرناه من أنَّ علياً عليه السلام وفاطمة قد تربيا، على يد الرسول صلى الله عليه وآله، لا يعدّ من باب المصادفة والاتفاق، بل هو جزء من الخطَّة الإلهية، لتهيئتهما للدور المشترك الأكبر، وخصوصاً على مستوى الأسرة، التي شكلاها فيما بعد، فكانت الأسرة النموذجية، التي لا مثيل لها، كما سنتحدَّث لاحقاً…
وبهذا، وصل علي عليه السلام وفاطمة الزهراء عليها السلام، إلى الدرجات العالية، فكان لهما الأثر الأفعل، في حياطة هذا الدين، فقد تحملا المسؤولية العظمى في عمليتي بناء الأسس لكيان أمة التوحيد والوحدة، والحفاظ على مستقبل الرسالة، وعلى المستقبل من خلال الرسالة.. فكانت الزهراء عليها السلام أم الأئمة عليهم السلام، وعلي عليه السلام أباهم، والقائد الإمام، والخط والنهج هو خط الأسوة الحسنة، رسول اللَّه ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾(4). وأما الهدف والوسيلة فهو الجهاد من أجل تنفيذ المشروع الإلهي في الأرض، وتطبيق نظرية الاستخلاف الرباني للإنسان، وعمارة الحياة، وتعبيد البشر لخالقهم.. بالاستضاءة بنور محمد صلى الله عليه وآله، كما في الحديث القدسي: “كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف، فأخذت قبضة من نوري، وقلت لها.. كوني محمداً”. ومن أهم مواد البرنامج التربوي الإعدادي الذي طبّقه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بحق ابنته فاطمة عليها السلام، هو التكريم والاحترام والتبجيل لهذه الشخصية، وقد روي أنَّه ما قبَّل إلا يدين اثنتين، يد عامل اخشوشنت يده، من جرَّاء العمل، فقال، بعد أن قبَّل يده: “هذه يد يحبها اللَّه ورسوله”، واليد الأخرى، هي يد ابنته فاطمة عليها السلام، عندما كانت تدخل عليه. ولقد روى البخاري في صحيحه، ومسلم، والترمذي، وأبو داود، وأحمد، وابن حجر في صواعقه، والكنجي في كفاية الطالب، في مناقب فاطمة.. أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وآله قال: “فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى اللَّه عزّ وجلّ”.
وعن عائشة “أنَّ فاطمة كانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وآله قام إليها فقبَّلها(5) ورحَّب بها، كما كانت تصنع هي به صلى الله عليه وآله.. وما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة، إلا أن يكون الذي ولدها”. وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله إذا سافر يجعل آخر الناس عهداً به فاطمة، وإذا قدم من غزو أو سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين، ثم يأتي فاطمة، ثم يأتي أزواجه(6).. وكانت فاطمة عليها السلام، أحبّ النساء إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، وعلي عليه السلام أحبَّ الرجال إليه(7).
ولقد ذكر ابن أبي الحديد، المعتزلي، إكرام الرسول صلى الله عليه وآله لفاطمة، ذاك الإكرام، الذي فاق كل إكرام، وقال عنها: “إنَّها سيدة نساء العالمين.. وإنَّها عديلة مريم بنت عمران، وإنَّها إذا مرَّت في الموقف يوم الحشر نادى منادٍ من جهة العرش: يا أهل الموقف! غضوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله”. … ولقد مرَّت بفاطمة شدائد وصعوبات، مع صغر سنها، كانت بمثابة التأهيل الروحي والنفسي لها، لأنَّها ستتحمَّل، في المستقبل، من المصاعب ما تنوء به الجبال.. ولقد روي عن ابن مسعود قال: ما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله دعا على قريش غير يوم واحد، فإنَّه كان يصلي، ورهط من قريش جلوس، وسلى جزور قريب منه (السلى هو الجلد الرقيق الذي يخرج فيه ولد الماشية من بطن أمه ملفوفاً) فقالوا من يأخذ هذه السلى فيلقيه على ظهره، فقام رجل وألقاه على ظهره، فلم يزل ساجداً، حتى جاءت فاطمة عليها السلام فأخذته عن ظهره.. ونفضت التراب عن رأسه، وأتت بالماء.. وكان تأثر فاطمة عليها السلام للمشهد بالغاً.. فبكت.. فنظر إليها والدها بحنان: “لا تبكِ يا ابنتي فإنَّ اللَّه مانع أباك وناصره”.
* فاطمة عليها السلام الزوجة:
إنَّ الحياة الزوجية لفاطمة عليها السلام، مع زوجها الإمام علي عليه السلام تعتبر الأنموذج الأسري الكريم، الذي ينبغي على كافة النساء تمثُّله.. ولضيق المجال سنذكر عدّة محطات مختصرة، من حياة فاطمة عليها السلام في هذه المرحلة…
1 – معلوم أنَّ مهر فاطمة عليها السلام كان ثمن درع علي عليه السلام، الذي بلغ (480) درهماً، اشتري بها أمتعة لبيت فاطمة عليها السلام.. ومن يطّلع على جهاز هذا البيت يأخذه العجب لشدَّة تواضعه، وعندما عرض على الرسول صلى الله عليه وآله قال: “اللهم بارك لقوم جلّ آنيتهم الخزف”.
2 – ومع كل ذلك، فإنَّه كان لفاطمة عليها السلام رأي آخر، فقد روى أحمد بن يوسف الدمشقي، في كتابه “أخبار الدول وآثار الأول”.. أنَّها لما سمعت بأنَّ أباها جعل الدراهم مهراً لها، في زواجها من علي عليه السلام، قالت: “يا رسول اللَّه، إنَّ بنات الناس يتزوجن بالدراهم، فما الفرق بيني وبينهن؟ أسألك أن تردَّها، وتدعو اللَّه أن يجعل مهري الشفاعة في عصاة أمتك”.. فنزل جبريل ومعه بطاقة من حرير مكتوب فيها: “جعل اللَّه مهر فاطمة الزهراء شفاعة المذنبين من أمة أبيها”. فلما احتضرت، أوصت أن توضع تلك البطاقة على صدرها تحت الكفن فوضعت.. وقالت: “إذا حشرت يوم القيامة رفعت تلك البطاقة بيدي، وشفعت في عصاة أمة أبي”.
3 – لقد كانت فاطمة عليها السلام، الزوجة الوفية، كأوفى ما تكون الزوجات، وهي التي خاطبت زوجها علي عليه السلام، في آخر لحظات حياتها: “.. هل عهدتني خائنة أو خالفتك منذ عرفتك” وهو ذا الأمير عليه السلام يقول عنها: “فواللَّه ما أغضبتها ولا أكرهتها على أمر حتى قبضها اللَّه عزّ وجلّ إليه، ولا أغضبتني ولا عصت لي أمراً، ولقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان”.
4 – وفاطمة عليها السلام، ومن مثل فاطمة عليها السلام.. لقد عملت بوصية أبيها صلى الله عليه وآله بأن تكون خدمة المنزل بينها وبين خادمتها فضَّة، يوم عليها ويوم على فضَّة.. قال ابن أعبد: قال لي علي عليه السلام: “يا ابن أعبد ألا أخبرك عني وعن فاطمة، كانت ابنة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، وأكرم أهله عليه، وكانت زوجتي، فجرَّت الرحى حتى أثَّرت الرحى بيدها، واستقت بالقربة حتى أثَّرت القربة بنحرها، وقمَّت (كنست) البيت حتى اغبرَّت ثيابها، وأوقدت تحت القِدْر حتى دنست ثيابها، وأصابها من ذلك الضرر”. … وقصة تسبيح الزهراء عليها السلام معروفة، فقد علَّمها رسول اللَّه صلى الله عليه وآله التسبيح المسمَّى باسمها عند النوم وفي دبر كل صلاة، وقال لها إنَّه خير من الخادم في الدنيا، رغم ما كانت تلاقيه، في خدمة البيت.. ويقول الصادق عليه السلام: “تسبيح فاطمة في كل يوم، دبر كل صلاة، أحبُّ إليّ من صلاة ألف ركعةٍ في كل يوم”.
* فاطمة عليها السلام.. الأم:
أ – فاطمة أم أبيها: إنَّ فاطمة الزهراء، قبل أن تكون أماً لأطفالها، فقد كانت “أماً لأبيها”، كما قال عنها أبوها محمد صلى الله عليه وآله.. وذلك أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله قد مات أبوه وهو في بطن أمه، وماتت أمه وعمره ست سنوات، فكانت فاطمة أمُّه الثانية، التي احتضنت جهاده، وآلامه في سبيل اللَّه، وأفاضت عليه بحنانها، وخفَّفت عنه عناء ما عاناه من قومه الذين آذوه في مسيرة جهاده، حتى اندمجت روحها في روحه.. فكان “يعاملها معاملة الولد أمّه، وهي تعامله معاملة الأم ولدها”. ولما أمر اللَّه المؤمنين بتكنية زوجات النبي صلى الله عليه وآله بأنَّهنَّ أمهات المؤمنين، فإنَّ الرسول صلى الله عليه وآله قد منح فاطمة عليها السلام الوسام الأعلى، بأن وصفها بأنَّها “أم أبيها”… وهي بذلك أم الرسالة، كونها أم صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله فهي أصل شجرتها، كما قال الباقر عليه السلام: “الشجرة الطيبة رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، وفرعها علي عليه السلام، وعنصر الشجرة فاطمة عليها السلام، وثمرتها أولادها، وأغصانها وأوراقها شيعتها”(8).. ومحبّوها، والعارفون بحقها وفضلها.. وقد كانت أشبه الناس بأبيها عليها السلام، حتى قالت عائشة: “ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلاً وهدياً برسول اللَّه صلى الله عليه وآله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله”.. وتقول: “ما رأيت أحداً أشبه كلاماً وحديثاً من فاطمة برسول اللَّه صلى الله عليه وآله”.
ب – فاطمة عليها السلام خير أم لأولادها: لقد قامت الزهراء عليها السلام بتربية وتنشئة أطفالها، فغذَّتهم بجميل أخلاقها وشمائلها وصفاتها، وكانت أسرتها خير أسرة، وكان “الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة”، وكانت الزهراء عليها السلام القدوة في كل شيء، حتى قال والدها صلى الله عليه وآله عنها: “.. فداها أبوها، فداها أبوها، فداها أبوها، ما لآل محمد وللدنيا، إنهم خلقوا للآخرة”. ولقد قال النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: “أوتيت ثلاثاً لم يؤتاهن أحد، ولا أنا: أوتيت صهراً مثلي، ولم أوت أنا مثلي.. وأوتيت زوجةً صدِّيقة مثل ابنتي ولم أوتَ مثلها.. وأوتيت الحسن والحسين من صلبك، ولم أوت من صلبي مثلهما… ولكنكم مني وأنا منكم”.
* فاطمة عليها السلام أم الفضائل:
لقد كانت الزهراء عليها السلام.. المنفتحة على اللَّه سبحانه، والمنقطعة إليه، حتى قال ولدها الحسن عليه السلام: “رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعة وساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم بأسمائهم، وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه، لا تدعين لنفسك، كما تدعين لغيرك. فقالت: يا بني الجار ثم الدار“. وعن الحسن البصري، قال: “ما كانت امرأة في هذه الأمة، أعبد من فاطمة عليها السلام، كانت تقوم حتى تتورم قدماها”(9). …
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن فاطمة عليها السلام كانت المجاهدة.. والصابرة.. والمحتسبة.. وهي التي تحمَّلت صعوبات الهجرة، بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وآله إلى المدينة، عندما أمر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام، بأن ينام في فراشه، وأن يبقى في مكة، ليردَّ الأمانات إلى أصحابها، وليأتي بالفواطم.. وإحداهن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله.. ولقد خاض علي عليه السلام أول مواجهة “عسكرية” مع المشركين، دفاعاً عن النسوة، وتقريراً لحقّ الهجرة إلى اللَّه ورسوله، … وغزَّ علي عليه السلام السير حتى وصل قباء، وقد انتظره رسول اللَّه هناك أكثر من عشرين يوماً.. وبكى الرسول صلى الله عليه وآله رحمة به، لما بقدميه من الورم.. كل ذلك كان بمرأى ومسمع ومشاركة من فاطمة الزهراء عليها السلام.. وهي التي ضمَّدت جراح رسول اللَّه صلى الله عليه وآله بعد غزوة أحد.. فقد كانت تغسل الدم، وعلي عليه السلام يسكب الماء.. وما استمسك الدم حتى وضعت عليه رماداً.. ألصقته بالجرح. ومن يراجع أسماء فاطمة عليها السلام يدرك عظمة هذه المرأة، وأنها بحق، أم الفضائل الإنسانية.. فعن النبي صلى الله عليه وآله، كما في مسند الرضا عليه السلام أنه قال: “إنَّما سميت ابنتي فاطمة لأنَّ اللَّه فطمها وفطم من أحبَّها من النار، وسمَّاها البتول.. وقال لعائشة: “يا حميراء، إنَّ فاطمة عليها السلام ليست كنساء الآدميين، ولا تعتل كما تعتلون”. وعن أنس بن مالك يقول سألت أمي عن صفة فاطمة عليها السلام قالت: “كانت كأنها القمر ليلة البدر أو الشمس كفرت غماماً (سترت بالغمام)، أو خرجت من السحاب”.وسميت أيضاً، الصدِّيقة والمباركة والطاهرة والزكية والراضية والمرضية والمحدَّثة (أي أنَّ الملائكة كانت تحدِّثها، كما تحدثت مع مريم عليها السلام، وسارة زوجة إبراهيم عليهما السلام، ومع أم موسى عليهما السلام) وهي الزاهرة والزهراء.. كما قال صلى الله عليه وآله: “هي الحوراء الإنسية متى قامت في محرابها بين يدي ربِّها زهر نورها لملائكة السموات، كما يزهر نور الكواكب لأهل الأرض”.
* فاطمة عليها السلام المعلِّمة والمرشدة:
ولقد جاءها من يسألها علماً، فقال: “يا بنت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله عندك شيء تطرفينيه (تعطيني إياه)، فقالت: يا جارية (تقصد فضَّة) هاتي تلك الحريرة أو (الجريدة التي كانت تكتب عليها)، فطلبتها فلم تجدها، فقالت: “ويلكِ اطلبيها، فإنَّها تعدل عندي حسناً وحسيناً، هذا تراث رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، فطلبتها فإذا هي قد قممتها في قمامتها، فإذا فيها، قال النبي صلى الله عليه وآله: “ليس من المؤمنين من لم يأمن جاره بوائقه (أذاه..) ومن كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليقل خيراً، أو يسكت.. إنَّ اللَّه تعالى يحبّ الخيِّر الحليم المتعفِّف، ويبغض الفاحش الظِّنِّين البذَّاء السئَّال الملحف (الذي يلحف في السؤال) .. إنَّ الحياء من الإيمان والإيمان في الجنَّة، إنَّ الفحش من البذاء، والبذاء في النار”.
* فاطمة عليها السلام الخطيبة المفوَّهة:
لقد خطبت فاطمة في المسجد النبوي، بخطبة كانت أروع ما تكون الخطب عمقاً، وأجمل ما تكون مبنى ومعنى، كيف لا وهي ابنة أفصح الفصحاء.. محمد صلى الله عليه وآله، ولقد كشفت في هذه الخطبة عن معرفة، وقدرة فائقة على سبر أغوار حكم جملة من التشريعات، فبيَّنت من مقاصدها ما بينت، بكلمات قليلات، ذات مداليل عميقة جداً.. ودافعت الزهراء عليها السلام عمَّا تؤمن به، كأفضل ما يكون الدفاع.. وقالت كلمتها للتاريخ.. ولا يزال التاريخ يردد هذه الكلمات.
* فاطمة عليها السلام… السياسية البارعة:
.. لقد ناقشت فاطمة عليها السلام السلطة، وحدها، لأن الظرف السياسي، ومصلحة الإسلام كانت تقتضي ذلك.. فقدَّمت الحجج والبراهين، مستخدمة أسلوب العقل والمنطق، والحجج الموشَّحة بالعاطفة الحزينة على فراق رسول اللَّه صلى الله عليه وآله، والحاملة لروح الثورة، والمطالبة بالحق.. والمعارضة معارضة أرادتها مستمرة حتى بعد وفاتها… وذلك عندما أوصت أن تدفن سراً… هذه نفحات من عطاءات فاطمة عليها السلام، التي لا تنضب، تلقي أضواء على شخصيتها القائدة، الرائدة، لتعطي الدليل على أنَّها القدوة في روحيتها، وعظمتها، ونور عصمتها.. وأنَّها خير ابنة لخير أب، كما قال أمير الشعراء، شوقي:
ما تمنى غيرها نسلاً ومنيلد الزهراء يزهَدْ في سواها
.. وكانت أيضاً خير زوجة لبعلها.. وخير أم لأبيها ولبنيها.. وخير قدوة للنساء.. لأنها سيدة النساء، في شمائلها وخصالها ونور بهجتها..
خجلاً من نور بهجتهاوحياء من شمائلها تتوارى الشمس بالشفقِيتغطى الغصن بالورقِ
.. إنها فاطمة عليها السلام التي قال فيها والدها صلى الله عليه وآله: “فاطمة بضعة مني وروحي التي بين جنبي”.
“… اللهم صلِّ على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها بعدد ما أحاط به علمك”.