۲ ـ يوم بكى أبوها صلّى الله عليه وآله وسلّم لظلامتها .. وبكت لفقده !
في أمالي الشيخ الطوسي ص ۱۸۸ : « عن عبد الله بن العبّاس قال : لما حضرت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الوفاة بكى حتّى بلَّتْ دموعه لحيته فقيل له : يا رسول الله ما يبكيك ؟ فقال : أبكي لذريّتي ، وما تصنع بهم شرار أمّتي من بعدي ! كأنّي بفاطمة ابنتي وقد ظلمت بعدي وهي تنادي يا أبتاه يا أبتاه ، فلا يعينها أحد من أمّتي ! فسمعت ذلك فاطمة فبكت ، فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : لم تبكين يا بنيّة ؟ فقالت : لست أبكي لما يصنع بي من بعدك ، ولكن أبكي لفراقك يا رسول الله ! فقال لها : أبشري يا بنت محمّد بسرعة اللحاق بي ، فإنّك أوّل من يلحق بي من أهل بيتي ».
من بعد حجّة الوداع ، لم يكن أحدٌ يعاني كما عانت فاطمة وعليٌّ والحسنان عليهم السلام. كان وداع النبي بالنسبة لهم وداعاً لعالم أعلى فيه كلّ شيء ، واستعداداً للدخول في عالم مليء بالآلام والأحزان ، ومقارعة العواصف والأفاعي !
كانوا يدركون أنّ كلّ تأكيدات النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم واحتياطاته لم تؤثر في قريش التي ركبت رأسها وأصرت على مؤامرتها ، وهيّأت الأجواء في قبائلها وقبائل العرب وحتّى في بعض أوساط الأنصار ، لمقولتها أنّ بني هاشم تكفيهم النبوّة ، وليس من العدل أن يجمعوا بين النبوّة والخلافة ، ويحرموا منها بطون قريش !!
لقد شاهدت فاطمة عليها السلام في حجّة الوداع صوراً من الصراع بين الهدى النبوي والضلال القرشي ، ورأت أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم خطب خمس خطب ، وأوضح للأمّة مراراً موقع عترته وأهل بيته من بعده ، بأساليبه المبتكرة وبلاغته النبويّة ، وأنّه كلّما وصل إلى تعيين الولاة بعده ، وأنّ الله غرسهم في هذا البيت من بني هاشم ، لغطّت قريش وشوش أتباعها المبثوثون في مجلسه ، وصاحوا وقاموا وقعدوا وكبروا ! ثمّ قالوا : إنّ النبي قال : الأئمّة من قريش ، كلّ قريش ، كلّ قريش !!
لقد أقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الحجّة لربّه بيّنةً صريحةً في مكّة وعرفات ومنى ، ثمّ لم يُبْقِ يوم الغدير لأحد عذراً ، على حدّ تعبير فاطمة عليها السلام !
لكن قريشاً كانت صماء ، وكأن حجّة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تعنيها بشيء ! فهذا سهيل بن عمر يمسك بزعامتها في مكّة ويتصرّف كأنّه رئيس دولة مقابل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويقول نحن ، ومحمّد ! ويرسل جابر بن النضر العبدري ليعترّض على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، لأنّه بزعمه لم يكتف بما فرضه على الناس من صلاة وصوم وزكاة وحجّ ، حتّى أخذ بضبع ابن عمّه قائلاً : من كنت مولاه فعليّ مولاه !
وهؤلاء طلقاء النبي من قريش صاروا ألوفاً في المدينة ، وهم ملتفون حول أبي بكر وعمر ، وعائشة وحفصة تواصلان تظاهرهما على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وتفشيان لهم سرّه ! وكلّما علَّمَ جبرئيل النبي خطةً لترتيب الوضع لوصيّه وعترته من بعده ، عملت قريش في إبطالها وتخريبها !!
ومن أواخر ما خرّبوه أنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عرض عليهم ما لم يعرضه نبي على أمّته قطّ وطلب منهم أن يلتزموا له بعهد يكتبه ليؤمِّن الأمّة من الضلال إلى يوم القيامة ، ويجعلها سيّدة العالم إلى يوم القيامة ! فبادروا إلى رفضه ، ودفعوا عمر لمواجهة النبي بكلّ صلافة : لاحاجة لنا بكتابك ، ومنعوه من كتابته !!
ثمّ أراد النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن تفرغ المدينة من دعاة الفتنة وأرسلهم جميعاً في جيش أسامة إلى فلسطين ، وفيهم سبع مئة رجل من قريش ! وأمره بالتحرّك ، ولعن من تخلّف عن جيش أسامة ! فافتعلوا المشاكل والأعذار حتّى سوفوا الوقت وأفشلوا برنامج أسامة ، وتسلّلوا من معسكره من الجرف لواذاً عائدين إلى المدينة !
كانت فاطمة عليها السلام تشاهد ذلك ، وتسمع كلام أبيها صلّى الله عليه وآله وسلّم عن عاصفة قريش التي تنتظر عترته ، وترى دموعه الغزار من أجلهم ، ومن أجلها خاصّة ! لكنّها كانت اليوم تبكي لأعظم من كلّ ذلك ، لفراق أبيها !
بعين الله ما سألقاه بعدك يا أبتي ! يُغصب زوجي حقّه ، ويَهجمون علينا ويُضرمون النار في دارنا ، وأُهانُ أنا وأضربُ ويُسقطُ جنيني ، ويُقاد زوجي بحمائل سيفه ! رضاً برضا الله ورضاك يا رسول الله ، فكلّ هذه المصائب دون مصيبة فراقك يا خير الرسل وخير الآباء !