ولادة فاطمة “عليها السلام” .. دراسة نقدية حول تاريخ ولادة بضعة النبي “ص”
الاجتهاد: في يوم أحد، عندما سمعت فاطمة (عليها السلام) بأن وجه أبيها قد تعرض للجراح، وخضب بالدم ذهبت مع جمع من النساء إليه، ولمّا رأته وضعت يدها تحت رأسه وبكتْ، ثم أزالت الدم عن وجهه: ( ورأت فاطمة (عليها السلام) ما بوجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فاعتنقته، وبكت، وجعلت تمسح الدم عن وجهه {وأَتی علي (عليه السلام) بماء فجعلت تغسل وَجهَهُ ». فإذا كان المعراج قبل السنة الخامسة للبعثة، فليس بعيد أن تكون قد قامت فعلا بهذا العمل، ولكن لو كانت رواية “ثمانية عشر شهرأ” أو رواية “ستة أشهر” قبل الهجرة صحيحة، فيجب أن نقبل أن فاطمة (عليها السلام) في غزوة أحد كانت في الخامسة من عمرها، أو أقل من الخامسة، في حين أننا سوف نشاهد أن زواج فاطمة الزهراء (عليها السلام) کان في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة، وقبل معركة أحد، أي أنها كانت في التاسعة من عمرها أو أكثر.
يقول المؤرخ والباحث الشهير الدكتور السيد جعفر شهيدي في الفصل الثالث من كتابه ” حياة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام ما يلي:
كما نعلم، فاطمة (عليها السلام) هي بنت محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) رسول الله، ونبیه، نبي الإسلام، وأمها هي خديجة بنت خويلد.
ليس في أيدينا حول حياة خديجة قبل أن تتزوج من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) سوى إشارات قصيرة ومقتضبة. يشاهد اسمها واسم أبيها، واسم ابن عمها في المصادر الأصلية من الدرجة الأولى بين الحين والآخر، بمناسبة علاقتهم وارتباطهم ببعض الأحداث.
خویلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، من قبيلة معروفة، ومن ذوي المكانة في قريش، وكان خويلد زعيم طائفته في زمن الجاهلية، وفي حرب ” الفجار ” (1) الثانية، في اليوم المعروف باسم “شمطة”، والذي استعدت فيه قريش للحرب مع كنانة، كان خويلد رئيس طائفة أسد. (۲)
وقد ذكر أنه لما أراد “تبَّع” أخذ الحجر الأسود إلى اليمن وقف خویلد(۳) في وجهه، وهذا الوقوف يدل على مكانته الممتازة في ذلك العصر.
وكان ابن عم خديجة ورقة بن نوفل من كَهَنَة العرب، وكما ذكر فقد كان مطلعاً على كتب الأديان السابقة. ولما اضطرب الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم) عند نزول أوائل آیات الوحی أخذته خديجة إلى ورقة، وبعد أن سأله ورقة أسئلة عديدة، بشّر خديجة بأنه سيكون نبی هذه الأمة (4)
وكانت خديجة قبل ظهور الاسلام من نساء قريش المشهورات، والوجيهات إلى درجة أنهم كانوا يدعونها بـ” الطاهرة ” و” سيدة نساء قريش “. وقبل أن تتزوج من الرسول الأكرم كانت زوجة أبي هالة هند بن نباش بن زرارة(5)، وبعده كانت زوجة عتیق بن عائد من بني مخزوم(6). وقد رزقت من أبي هالة ولدين، ومن عتیق بنتاً، فكان هؤلاء أخوين لفاطمة (عليها السلام) واختاً لها من أمها.
بعد هذين الزواجين، ومع أنها كانت ذات جمال و ثراء وكان الكثيرون يرغبون في الزواج منها إلا أنها لم تقبل بالزواج من أحد، وشرعت بالتجارة في أموالها إلى أن طلب أبو طالب من ابن أخيه (محمد) أن يعمل عند خديجة كبقية أقاربه، وأن يذهب من قبلها إلى تجارة الشام، وهكذا كان أن رغبت في الزواج من محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعد هذا السفر التجاري.
وكما نعلم فإنها قبلته زوجاً لها. وكما اشتهر بين المؤرخين، ويؤيد ذلك السنة النبوية أيضاً كان عمرها حين زواجها من محمد(صلّى الله عليه وآله وسلم) أربعين سنة، ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار عدد الأولاد الذين رزقت بهم من الزوجين السابقين، يمكن القول أن اختيار المؤرخين للعدد أربعين هو من جهة أنه عدد کامل.
وفي مقابل هذا القول المشهور يروي ابن سعد بأسناده عن ابن عباس أن سن خديجة عند زواجها من محمد(صلّى الله عليه وآله وسلم) كان ثمان وعشرين سنة.(7)
وأبناء الرسول(صلّى الله عليه وآله وسلم) عدا إبراهيم الذي ولدته جارية محررة اسمها مارية القبطية هم: زينب، ورقية، و أم كلثوم، وفاطمة (عليها السلام)، والقاسم، و عبدالله؛ وجميعهم من خديجة . وقد توفي القاسم في الثانية من عمره، قبل البعثة النبوية، ومات عبدالله (8) في مكة قبل الهجرة أما البنات فقد هاجرن إلى المدينة، وفارقن الحياة جميعهن قبل فاطمة(عليها السلام).
کانت خديجة أول امرأة آمنت بالنبي(صلّى الله عليه وآله وسلم)، و عندما أظهر النبي دعوته ووقف أثرياء مكة في وجهه، وشرعوا بإيذائه وإيذاء أتباعه، كان أبوطالب يحمي ابن أخيه من أذى هؤلاء الأعداء الألداء، وكانت خديجة أيضاً تسانده وتبثه الهدوء والطمأنينة و تشد أزره في داخل البيت، ولهذا الخلق الإنساني الرفيع والخصلة الإسلامية الصادقة كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يذكرها بالخير دائماً ويقدرها(9)
ولدت فاطمة سيدة نساء الإسلام الكبرى من أبوين كهذين أي من محمد و خديجة!
متى وفي أي تاريخ ؟
إن يوم ولادتها، بل وحتى سنة ولادتها، ليس معلومان على وجه التحديد؟ أي أن المؤرخين لم يتفقوا على ذلك .
ومع أن تحدید و تعيين تاریخ ولادة ووفاة الشخصيات الكبيرة نساءاً كانوا أو رجالاً من الناحية التاريخية مهم، وحري بالبحث، وسوف نتعرض نحن لذلك. ولكن مع ذلك فإنه من حيث تحلیل ودراسة نفس الشخصيات ليس على درجة كبيرة من الأهمية لأن المهم من حياة الناس العظماء والاستثنائيين بالنسبة للأجيال التالية هو أن يعرفوا من كان هؤلاء؟ كيف تربوا ؟ كيف عاشوا؟ ماذا عملوا؟ ولماذا عملوا وما الذي عملوا؟ وماذا تركوا من أثر في محيطهم وبيئتهم وماذا خلفوا وراءهم؟
ربما يتساءل البعض أنه لماذا يجب البحث في هذا المجال ؟ فمن المعلوم أنهم ولدوا ذات يوم، وماتوا في يوم من الأيام؟ ربما يكون الحق إلى جانب هؤلاء، فمثل هذه الشخصيات لا تموت أبداً، وهي حية ما دام التاريخ حياً، لكن المؤرخ يعتبر أن تعيين وتحديد سنة الولادة والوفاة لمثل هذه الشخصيات جزءاً من عمله ومهنته.
من جهة التزاماً بالسنة والتقليد الذي يرى المؤرخون وكتاب السير والتراجم أنهم ملزمون باتباعها، ومن جهة لأن هذه التواریخ ترتبط بنحو من الأنحاء بكل تلك الأحداث التي حصلت في حياة أبطال التاريخ.
في هذا الكتاب، إذا كان هناك ضرورة لمثل هذا العمل، يجب أن أقول أنه مع كل الجهد الذي بذل إلا أنه – وللأسف الشديد – لا يمكن تقديم معلومات صحيحة ودقيقة عن التاريخ الدقيق لسنة ولادة بنت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم).
وليس هذا هو الشيء الوحيد – تاریخ ولادة بنت النبي – الذي اختلف فيه المؤرخون، فقد اختلفوا على تواريخ أئمة الدين المعصومين، بل وحتى على تاريخ ولادة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) ووفاته، وفي جميع هذه الحالات لم يتفقوا على قول واحد.
لماذا حصل هذا الاختلاف؟ أجبنا باختصار عن هذا التساؤل في الفصل الأول.
لم يكن تسجيل الأحداث وكتابتها رائجاً وشائعاً، فكان الرواة يحفظون ما يسمعون وكان الناس يقبلون ما كان الرواة وشيوخ القوم يقولونه. كانت الأحداث المهمة أو الأحداث الجديدة تصبح مبدءاً للتاريخ، وكانوا يجعلون منها مبداً للتأریخ و تحديد يوم ولادة و وفاة الشخصيات الكبيرة. كما سمعنا نحن في حياتنا من المسنين والشيوخ: السنة التي حصل فيها السيل الفلاني، أو السنة التي تهدمت فيها المدينة الفلانية سنة الغلاء، وهكذا.
من المعلوم أن الناس المعاصرين لهذه الحادثة، والذين حفظوا هذا التاريخ في ذاکرتهم لمدة فإنهم حفظوا هذا التاريخ وحسبوه على أساس تلك الحادثة التي تصبح بعد مدة هي نفسها في عداد المجهولات.
ذكر المؤرخون أن النبي(صلّى الله عليه وآله وسلم) ، ولد في عام الفيل، وهو العام الذي جاء فيه أبرهة الحبشي إلى مكة بفيله لتخريب بيت الله و الكعبة، كان عام الفيل معروفاً ومعلوماً لأهل مكة. أما بالنسبة لنا نحن الذين نريد أن نعرف متى حصلت هذه الحادثة، فإنها بحد ذاتها مسألة معقدة. ثم لو أننا قبلنا وصدقنا صحة هذه الأحداث التي تصبح مبدأً للتاريخ وغضضنا الطرف عن نسيان تاريخها الدقيق بالنسبة لنفس الشهود العيان الذين شاهدوها،
فإن هذا التساؤل يطرح نفسه للبحث:
هل يمكن أن تبقى ذاكرة الرواة، مهما كانت قوية، مصونة عن الخطأ والغلط دائما؟ وعلى فرض أن المجموعة الأولى من الرواة لم تخطىء، طيلة قرن من الزمان يتناوب ثلاثة أجيال، يحل كل منهم محل الآخر، فمن الذي يضمن أن يكون كل واحد من سلسلة هؤلاء الرواة من حيث قوة الذاكرة في غاية الكمال ؟
فمدح اثنين أو عدد من الشهود الموثوقين لشخص ما بقوة الذاكرة ليس كافياً!؛ هذا المدح ربما يكون من وجهة نظر علم الرواية أو علم الدراية، أو من جهات عمل الفقيه أو الأصولي دليلاً للقبول في بعض الحالات التي يترتب عليها أثر أو حكم، ولكن في الحالات التي لا يترتب عليها أثر عملي، فإن هذه الضوابط والمعاییر لیست کافية.
هذان السببان اللذان ذکرناهما کافيان لحصول الاختلاف في ضبط الأحداث التاريخية، فكيف بإضافة أسباب أخرى عليهما، ومن باب الصدفة، وكما سنرى، فإن الوضع على هذه الشاكلة في صدد الشخصية التي نتناولها بالدراسة والبحث.
وفي حين أن عموم کتاب السيرة، ومؤرخو أهل السنة والجماعة يذكرون أن ولادة فاطمة (عليها السلام) کانت قبل البعثة بخمس سنوات، فإن كتاب التذكرة وعلماء الشيعة الكبار يعتقدون أنها ولدت في السنة الخامسة بعد البعثة.
وقد قبل التاريخ الأول جماعة منهم: ابن سعد في طبقاته(10)، والطبري في تاريخه(11)، والبلاذري في أنساب الأشراف(12)، وابن الأثير في كامله(13)، وأبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبين (14) ومحمد بن اسحاق(15)، وابن عبدالبر في الاستيعاب (16)، وجمع آخر، وذكروا عموماً أنه في السنة التي كانت فيها قريش تبني الكعبة.
روى البلاذري: دخل العباس بن عبد المطلب على علي وفاطمة (عليهما السلام ) و أحدهما يقول لصاحبه: أيّنا أكبر ؟ فقال العباس: ولدتَ يا علي قبل بناء قريش الكعبة بسنوات، وولدت ابنتي(17) و قریش تبنى الكعبة، …».(18)
وصرح الطبري وآخرون أن عمر الزهراء (ع) عند وفاتها كان في حدود التاسعة والعشرين(19)، لكن اليعقوبي الذي يتفرد في أغلب روایاته ذكر أن عمرها عند الوفاة كان ثلاثة وعشرين عاما (20)، وبناء على ما ذكره يكون عام ولادتها هو عام البعثة النبوية.
في مقابل هذا الرأي المشهور ذکر علماء ومحدثو الشيعة من أمثال الكليني في الكافي(21)، وابن شهر آشوب في المناقب(22)، وعلي بن عيسى الإربلي في كشف الغمة(23)، والمجلسي في البحار نقلا عن دلائل الإمامة، وكتب أخرى (24).
ذكر هؤلاء جميعا أن فاطمة الزهراء (ع) ولدت بعد خمس سنوات من بعثة محمد(صلّى الله عليه وآله وسلم) بالنبوة. والوحيد الذي يخالف هذا المشهور (الشيعي) هو الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد(25) حيث أنه ذكر أن فاطمة (عليها السلام) عند زواجها من على (عليه السلام) أمير المؤمنين كانت في الثالثة عشرة من عمرها، وإذا كان زواجها بعد الهجرة بخمسة أشهر، فسوف تكون ولادتها في السنة الأولى للبعثة، وهذا الرأي يوافق ما ذكره اليعقوبي، ومع هذه الاختلافات الكثيرة في نقل الروايات، فإنه من الصعب جدا قبول سند وترك آخر.
كما ذكرنا في المقدمة، في مثل هذه الحالة يجب الأخذ بعين الإعتبار القرائن الخارجية، لعله يمكن بواسطتها، وعن طريق إضافتها إلى إحدی کفتي الروايات و ترجیح كفة على الأخرى في نهاية الأمر.
هناك قرينة مهمة وقوية في عموم روایات علماء ومحدثي الشيعة، تدل على أن ولادة بنت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) کانت بعد البعثة. وهذه القرينة هي علاقة ولادة الزهراء (عليها السلام) بمعراج الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلم):
جاء في روايات المعراج أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) أتي في ليلة المعراج بتفاحة من الجنة. وتكونت نطفة الزهراء منها: «إن جبر ئیل (عليه السلام) أتاني بتفاحة من تفاح الجنة فأكلتها، فَتَحَوَّلَت ماءً في صلبي، ثم واقعتُ خديجة فحملت بفاطمة عليها السلام (26)
فلو أن المؤرخين حددوا و عینوا تاريخ المعراج بشكل دقيق وأنه في أي عام مثلاً، لم يكن لدينا أية مشكلة، ولكن هذا التساؤل يطرح نفسه أمامنا أيضاً، وهو: متى كان معراج الرسول وفي أي عام؟
جواب هذا السؤال أيضاً ليس معلوماً على نحو الدقة، فقد اعتبر ابن سعد في رواية أنه قبل الهجرة إلى المدينة بثمانية عشر شهراً، وفي رواية أخرى أنه قبل الهجرة بسنة واحدة(27). في حين ذكر ابن الأثير أنه قبل الهجرة بثلاث سنوات، وفي رواية أخرى قبل الهجرة بسنة واحدة(28)
في حين ذكر علماء الشيعة روایات عديدة بعضها يقول أن المعراج کان بعد البعثة بسنتين، وبعضها الآخر يقول أن المعراج کان قبل الهجرة بستة أشهر، ولما واجهوا هذا الاختلاف في الروايات، قالوا أن هذا الاختلاف بسبب عروج النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى السماء عدة مرات. (29) ولكن القرينة التي تؤيد قول مؤرخي ومحدثي أهل السنة والجماعة، هي أنهم ذكروا أن فاطمة (ع) ولدت في السنة التي كانت قريش تبني فيها الكعبة.
جاءت قصة تجديد بناء الكعبة في جميع التواریخ، و يعرفها جميع المطلعين والعارفين بتاريخ حياة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم)، و خلاصتها أن الكعبة قد تهدمت على أثر مجيء سيل، وأعيد بناؤها من جديد، وما أن وصلت مرحلة البناء إلى مرحلة وضع “الحجر الأسود” في مكانه، حتى حصلت منافسة شديدة بين زعماء قريش على وضع الحجر في مكانه، حيث رغب رئیس کل طائفة في أن يحصل على هذا الفخر والشرف، واشتد النزاع بينهم إلى درجة الاشتباك والقتال،
ولكنهم في نهاية الأمر توافقوا على أن يقبلوا بتحكيم أول شخص يدخل من الباب، وكان محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) أول شخص يدخل الباب، وأعلنوا جميعهم مرة أخرى قبولهم بهذا الحل، لأن محمد أمين، وقبلوا جميعاً تحكيمه، و عندما أخبروه بالقصة، قال لهم: ابسطوا رداءاً أو قماشاً، ثم وضع الحجر الأسود في وسط الرداء، وقال لرؤساء الطوائف الأربعة المتنازعين على ذلك: ليمسك كل منكم بزاوية من الرداء، ثم ارفعوه، و بعد ذلك قام بنفسه برفع الحجر من وسط الرداء، ووضعه في مكانه المناسب.
وبهذا العمل حال دون حصول اقتتال واسع تراق فيه دماء كثيرة. فلو أن قصة حكومة محمد(صلّى الله عليه وآله وسلم) و تحکیمه و نصب الحجر الأسود کانت بهذه المقدمات والشكل المذكور فمن المقطوع به والمسلم هو حصولها قبل البعثة، لأن قريشاً في السنة الخامسة للبعثة كانت في حالة خصام وعداء مع محمد، وما كانت لتعهد إليه بأمر التحكيم والحكم.
والقرائن الخارجية الأخرى باختصار هي كالتالي:
1 – في أحد الأيام ألقي بأمر من أبي جهل فضلات جزور على كتف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) (بينما كان ساجداً ) أو عندما علمت فاطمة (ع) بالأمر أسرعت إلى المسجد الحرام، ورفعت تلك الأوساخ عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) و نظفت ثيابه.
قال أبو جهل: أيكم يأتي جزوراً لبني فلان قد نحرت اليومَ بأسفل مكة: فيجيء بفرثها، فيلقيه على محمد؟ …… فَألقاه على ما بين كتفيه (أي كتفي رسول الله) … فجاءت فاطمة عليها السلام، فَأماطت ذلك عَنهُ».(30)
وهذه التصرفات الشائنة مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) يیدو بحسب الظاهر أنها قد حصلت قبل السنة العاشرة للبعثة، بل قبل هجرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) إلى الطائف، وأيضا قبل الحصار في شعب أبي طالب، وإذا اعتبرنا أن ولادة فاطمة (ع) في السنة الخامسة للبعثة، فسيكون عمرها عند حصول هذه الحادثة بين الثالثة والخامسة، وليس أكثر، ومن المستبعد أن تذهب بنت صغيرة بهذا السن إلى المسجد ، وأن تقوم بعمل كهذا.
2– في يوم أحد، عندما سمعت فاطمة (عليها السلام) بأن وجه أبيها قد تعرض للجراح، وخضب بالدم ذهبت مع جمع من النساء إليه، ولمّا رأته وضعت يدها تحت رأسه وبكتْ، ثم أزالت الدم عن وجهه: ( ورأت فاطمة (عليها السلام) ما بوجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) فاعتنقته، وبكت، وجعلت تمسح الدم عن وجهه {وأَتی علي (عليه السلام) بماء فجعلت تغسل وَجهَهُ ». (31)
فإذا كان المعراج قبل السنة الخامسة للبعثة، فليس بعيد أن تكون قد قامت فعلا بهذا العمل، ولكن لو كانت رواية “ثمانية عشر شهرأ” أو رواية “ستة أشهر” قبل الهجرة صحيحة، فيجب أن نقبل أن فاطمة (عليها السلام) في غزوة أحد كانت في الخامسة من عمرها، أو أقل من الخامسة، في حين أننا سوف نشاهد أن زواج فاطمة الزهراء (عليها السلام) کان في ذي الحجة من السنة الثانية للهجرة، وقبل معركة أحد، أي أنها كانت في التاسعة من عمرها أو أكثر.
3– الروايات الشيعية -كما سنذكر لاحقاً – قالت أن فاطمة (عليها السلام) ولدت بعد البعثة بخمس سنوات في السنة التي كانت قريش تبني فيها الكعبة، ومن المقطوع به أن تحكيم النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) في عمل زعماء مكة كان قبل البعثة، لأن قريشاً لم تكن ترتاح لمحمد(صلّى الله عليه وآله وسلم) في السنة الخامسة للبعثة والسنوات التي قبلها وبعدها، فضلاً عن أن تنعته بأنه أمين، وأن تقبل بتحكيمه، وحكمه في مثل ذلك العمل المهم.
4– نعلم أن سن خديجة عند زواجها من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) – بحسب ما ذكر – كان أربعين سنة فإذا قلنا أن فاطمة ولدت في السنة الخامسة للبعثة، فيجب القول أن خديجة وقتها كانت في الستين من عمرها، وهذا وإن لم يكن محالاً، ولكنه مستبعد، فمن جهة جاء المجلسي برواية نقلاً عن أمالي الصدوق بهذا المضمون:
«أن خديجة عليها السلام لَمّا تزوَّج بها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) هجرتها نسوةُ مكة، فكُن لا يدخُلنَ عليها، ولا يُسلمن عليها، ولا يتركن امرأة تدخل عليها… إلى أن حضرت ولادتها (أي ولادة الزهراء) فوجَّهت إلى نساء قريش، وبني هاشم: أن تعالين لتلين مني ما تلي النساء من النساء، فأرسلن إليها: أنت عصيتنا ولم تقبلي قولنا وتزوجت يتيم أبي طالب».(32)
فإذا قبلنا الرواية بهذا الشكل الموجود، واعتبرنا أن ولادة بضعة النبي في السنة الخامسة للبعثة، فإن الفترة الزمنية الفاصلة بين زواج خديجة من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) و ولادة الزهراء (عليها السلام) سوف تكون عشرين عاماً.
في هذه المدة الزمنية الفاصلة والممتدة لعشرين عاماً، فإن جمعاً من هؤلاء النساء اللوامات قدمتن، وصارت النساء الشابات كبيرات في السن، ووصلت البنيات الصغار إلى مرحلة الشباب، وأخذت القصة لوناً و منحىً آخر، ولم يعد محمد(صلّى الله عليه وآله وسلم) في هذا التاريخ يتيم أبي طالب، بل صار نبياً له أنصار يفدونه بأرواحهم و مهجهم، و يتمنى رجال قريش أن يمد لهم يد المساعدة، ويعدون مساعدته غنيمة لا تفوت ليجعلوا منها بحسب ظنهم مقدمة للمساومة والمسالمة.
من الممكن أن لا تقبل نساء قريش اللواتي أزواجهن أعداء محمد (صلّى الله عليه وآله وسلم) رجاء خديجة والتماسها في ذلك الوقت. ولكن هل يمكن أن ترفض نساء بني هاشم؟ وما هي حاجة خديجة لمساعدة نساء قريش الكافرات والمشركات؟
ألا يمكن للنساء المسلمات مساعدة خديجة في هذا العمل البسيط والصغير .
هنا يجب القول أنه لا يمكن الاعتماد والوثوق برواية الرواة الذين يعتمدون فقط على ذاكرتهم فقط.
أورد صاحب کشف الغمة رواية أخرى، ولدت فاطمة (عليها السلام) بعد البعثة النبوية بخمس سنوات، وهي السنة التي كانت فيها قريش تبني الكعبة…(33)، ولكن يبدو أن الراوي الأول أو أحد رواة هذا الحديث أخطأ في روايته وحفظ كلمة بعد البعثة بدلاً من «قبل البعثة» لأنه كما قلنا فإن إعادة بناء الكعبة كانت قبل البعثة بخمس سنوات.
ولو فرضنا أن تجدید بناء الكعبة قد حصل عدة مرات بعد ذلك التاريخ (كما احتمله بعض المتأخرين) فمن المسلَّم والمقطوع أن قصة اختلاف القبائل ونزاعها لن تحدث مرة أخرى، ولو أنها حصلت وحدثت مرة أخرى، كما ذكرنا أيضاً في السابق، ما كانت قريش لتدعو محمد و تعهد إليه بأمر التحكيم بين المتنازعين. وإذا لم يحصل أي من هذه الحوادث في بناء الكعبة للمرة الثانية، فلن يكون لإعادة البناء أي أهمية بحيث أنه يصيح مبدء للتأريخ.
وعلى أية حال، فإن المسلم والمقطوع به هو ترافق و تقارن ولادة السيدة الزهراء (عليها السلام) مع إعادة بناء الكعبة من جديد في عدد من الروايات الشيعية والسنية.
وكما ذكرنا سابقاً فإن البحث في هذه الروايات ليس له أي فائدة! إلا من جهة تبيين وتوضيح التاريخ، فسواء ولدت بضعة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) بعد البعثة بخمس سنوات، أو قبل البعثة بخمس سنوات، وسواء أنها تزوجت في التاسعة من عمرها أم في الثانية عشرة، وسواء أنها انتقلت إلى جوار ربها في الثامنة عشرة، أم في الثامنة والعشرين،
فعلى كل الأحوال هي بضعة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلم) والنموذج الكامل والسامي للمرأة التي تربت وتخلقت بالأخلاق الإسلامية السامية، والشيء الذي يجب على كل امرأة مسلمة ورجل مسلم أن يتعلمه من حياة بضعة النبي هو تقواها، وورعها، وصبرها، وفضيلتها، وإيمانها بالله، وخوفها من ربها، وغير ذلك من الخصال الإنسانية السامية التي كانت تتمتع و تتحلى بها، وسوف نتعرض لها في مكانها المناسب.
وقد تعرضنا للتفصيل في هذا البحث رعايةً لسيرة وعرف المؤرخين والمحدثين.
الهوامش
١– يقال لهذه الحرب “فجار”؛ لأنها حصلت في الأشهر الحُرُم، وقيل أنها سميت بهذا الاسم لعد بعض المحرمات حلالاً في تلك الحرب.
راجع: مجمع الأمثال للميداني، فصل أيام العرب؛ وأقرب الموارد؛ وسيرة ابن هشام، ج ۱، ص ۲۰۱. ( ط بيروت – لبنان، دار إحياء التراث العربي، ج ۱، ص ۱۹۸) (ولفظه ” وإنما سمي يوم الفجار بما استحل فيه من المحارم بينهم ».)
٢– ابن الأثير، ج ۱، ص ۵۹۳؛ وراجع أنساب الأشراف للبلاذري، ص ۱۰۲، من طبعة دار المعارف؛ ولكن ابن سعد قال حول يوم زواج النبي(صلّى الله عليه وآله وسلم) من خديجة … فهذا كُلُّه عندنا غلط ووهم، والثبت عندنا المحفوظ عن أهل العلم أنَّ أباها خویلد بن أسد مات قبل الفجار؛ (طبقات، ج ۱، القسم الأول، ص ۱۸۵).
ولكن الميداني ذكر أن يوم شمطة هو يوم الحرب بين بني هاشم وبني عبد شمس، (مجمع الأمثال) ولكن مع الأخذ بعين الاعتبار أن طرفي القتال في حرب الفجار هما قریش من جهة وكنائة من جهة أخرى، فإن ما ذكره الميداني يكون عارية عن الدقة والصحة؛ كما أن قصة سُكر خويلد في يوم العقد على خديجة، وقبوله للزواج في أثناء ذلك، والتي تشاهد في بعض المصادر، لا أساس لها من الصحة ! والذي يُستفاد من أكثر المصادر السنية، وبعض المصادر الشيعية هو أن هذا الزواج تمَّ بحضور ورقة بن نوفل، وعمرو بن أسد عم خديجة، والظاهر أن أباها خويلداً لم يكن على قيد الحياة حينها.
٣– العقاد: فاطمة الزهراء، ص ۱۰، ولم يذكر العقاد سنده. (المجموعة الكاملة لعباس محمود العقاد ج۲، العبقريات الإسلامية – ۲- دار الكتاب اللبناني – بيروت ، ص 295: «.. فأبوها خویلد هو الذي نازع تبعاً الآخر حين أراد أن يحتمل الركن الأسود مَعَهُ إلى اليمن ».] وتبّع: هو لقب عام لملوك اليمن، وإذا كانت هذه القصة صحيحة، فإن هذا الشخص يجب أن يكون تبّع الأصغر (حسان)، لكن المؤرخين خلطوا حوادث أزمان عدد من ملوك اليمن مع بعضها البعض. (راجع: تاريخ اليعقوبي: حبيب السير، ومجمل التواريخ والقصص؛ و تاریخ گزیده)، ولكن بحسب تتبع المؤلف فإن هذا الملك (تبّع) عظّم الكعبة، وقام بتغطيتها بالستائر على أثر حلُم رآه في نومه.
وقد قالوا أنه أول شخص قام بتغطية الكعبة وإكسائها. وكأن هذه القصة التي جاءت في سيرة ابن هشام نقلاً عن محمد بن اسحاق، ونقل الياقوتي قسماً منها في ذیل کلمه كعبة لا أساس لها من الصحة، والله العالم (راجع: سفينة البحار، ج ۲، ص 643).
4- انساب الأشراف، ص 106؛ ومصادر أخرى.
5- الكتاب السابق، ص ۳۹۰.
6- ابن سعد، طبقات، ج ۸، وقد ذكرت بعض المصادر أن زواجها من عتیق کان قبل زواجها من أبي هالة، (مقاتل الطالبيين، ص 48؛ کشف الغمة، ج ۱، ص ۵۱۱) وفي مقابل هذا الرأي المشهور، ذکر ابن شهر آشوب في المناقب، والسيد المرتضى في الشافي؛ كانت خديجة عند زواجها من النبي عذراء، وأن التي تزوجت أبا هالة هي أختها، وقد قال ابن شهرآشوب أن أحد مصادره هو کتاب أحمد البلاذري (المناقب، ج ۱، ص ۱۵۹) وأحمد البلاذري هذا بحسب الأصول يجب أن يكون أحمد بن يحيى مؤلف كتاب أنساب الأشراف، وإذا كان الأمر بهذا الشكل فقد ذكر البلاذري نقلاً عن الإمام الحسین (عليه السلام) : “سألت خالي هند بن أبي هالة ” ( وذكر في توضيح ذلك أن خديجة بنت خویلد كانت في البداية زوجة أبي هالة الأسدي (أنساب الأشراف، ص ۳۹۰]: وجاء أيضا في ص 406، من نفس الكتاب: “قبل أن تصبح خديجة زوجة النّبي كانت زوجة أبي هالة هند بن نباش)
7- الطبقات، ج ۸، ص ۱۰، ولفظه: «عن ابن عباس قال: كانت خديجه يوم تزوَّجها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) ابنة ثمانٍ وعشرين سنة » ؛ وراجع أيضاً كشف الغمة، ج ۱، ص 513.
8- ذكر بعض کتاب السيرة ومن جملتهم ابن هشام أن أولاد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) الذكور من خديجة هم: ……. بنیه: القاسم، ثم الطيّب، ثم الطاهر. (السيرة، ج ۱، ص206)، وذكر صاحب العقد الفرید أنهم: القاسم والطيب (ج ۸، ص ۹): والبلاذري في (أنساب الأشراف، ص 405) أن الطيب والطاهر هما لقبا عبدالله، لُقِّبَ بهما لأنه ولد في الإسلام، وحدث الخلط بسبب عدهم اللقب اسماً.
9- البخاري، ج ۵، صص 47-48؛ وراجع أعلام النساء، ج ۱، ص ۳۳۰.
10- طبقات، ج ۸، ص ۱۱
11- ج ۱۳، ص ۲4۳۶؛ وانظر أيضا، ج 4، ص ۱۸6۹
12- ص ۰۲
13 – ج ۲، ص 341.
14 -ص 48
15- طبقأ لنقل المجلسي في البحار، ص ۲۱4.
16 – ص ۷۵۰
17- أي فاطمة بنت رسول الله.
18 – انساب الأشراف، ج ۱، ص 403
19- ج 4، ص ۶۵۸ –
20- ج 4 ، 458.
21- ج ۲، ص 95.
22- أصول الكافي، ج ۱، ص 458
23- ج ۱، ص 449
24 – ج ۱، ص 44۹.
25 – ج 43، ص ۷ وما بعدها.
26- ص 561.
27- بحار الأنوار، ج 43، ص 5 نقلا عن علل الشرائع
28- طبقات، ج ۱، ص ۱4۳
29- الكامل، ج ۲ ص ۵۱
30 – منتهى الآمال، ج ۲، ص ۳۷.
31- أنساب الأشراف، ص ۱۲5، ومصادر أخرى.
32- أنساب الأشراف، ص ۱۲5؛ مغازي، ص ۲4۹
33- ج 43، صص 2- 3.
34- ج 1 ، ص 449؛ بحار الأنوار، ج 43، ص 7.
المصدر: كتاب:حياة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام /ص 23 / تأليف : الدكتور جعفر شهيدي / منشورات: دار الهادي