مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
فلسفة عتاب الزهراء (ع) لأمير المؤمنين (ع)/ السيد الضياء تقرير محاضرة منبرية لسماحة السيّد الضياء (حفظه الله) بقلم الشيخ مصطفى شكرون (وفّقه الله).
+ = -

بسم الله الرحمن الرحيم

ورد عن الصدّيقة الطاهرة الزهراء (عليها السلام): ((يا بن أبي طالب، اشتملتَ شملة الجنين، وقعدتَ حجرة الظنين، نقضتَ قادمة الأجدل، فخانك ريش الأعزل، هذا ابن أبي فلان يبتزّني نُحَيْلَة أبي وبُلْغَة اِبْنَيَّ، لقد أجهد في خصامي، وألفيته ألد في كلامي، حتى حبستني قيلة نصرها، والمهاجرة وصلها، وغضّت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع ولا مانع، خرجتُ كاظمة، وعدتُ راغمة، أضرعتَ خدّك يوم أضعتَ حدّك، افترستَ الذئاب وافترشتَ التراب، ما كففتَ قائلًا ولا أغنيتَ طائلًا، ولا خيار لي، ليتني متُّ قبل هنيئتي ودون ذلّتي، عذيري الله منه عاديًا ومنك حاميًا))[1].

إنَّ هذا النصّ من أشدّ النصوص المؤلمة التي صدرت من لسان الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، والتي تُبيِّنُ مدى الظلامة الفادحة التي مُنِيَ بها أمير المؤمنين (عليه السلام) والصديقة الطاهرة (عليها السلام) بعد رسول الله الأعظم (صلى الله عليه وآله)، إلَّا أنَّ هذا النص الشريف قد أُثيرت حوله إشكاليةٌ سارعَ البعض من خلالها إلى تكذيبه وردّه، وادّعاء أنّه ممّا لا يمكن صدوره عن مثل الصديقة الطاهرة (عليها السلام).

وهذه الإشكالية المثارة تتكوّن من شقّين:

الشقّ الأوّل: إنَّ هذا النص لا يتناسب مع مقام الصديقة الطاهرة (عليها السلام) وأدبها وسلوكها من ناحية أنَّها افتتحته بمخاطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) مجرّدًا عن كلّ الأوصاف والألقاب، فلم تخاطبه حتى بكنيته قائلة: (يا أبا الحسن)، فضلًا عن أنَّها لم تصفه بوصف يليق به، كأن تقول له: (يا أمير المؤمنين)، بل قالت له: (يا بن أبي طالب)، وهذا النوع من الخطاب إنّما يُستخدم في مقام التوهين، فإنَّك حين تقول لشخص: (يا بن فلان) فكأنّك لا ترى له أدنى اعتبار، فكيف يُتصوَّر من الصديقة الطاهرة (عليها السلام) أن تجرّد أمير المؤمنين (عليه السلام) عن كل أوصافه وألقابه وتخاطبه بهذا اللحن من الخطاب الموهِن؟!

الشق الثاني: إنَّ هذا الخطاب لا يتناسب مع ما ثبت بضرورة المذهب من عصمة أمير المؤمنين والصدّيقة الطاهرة (عليهما السلام)؛ إذ لا يخلو الحال من أحد احتمالين:

الاحتمال الأول: أن يكون الإمام علي (عليه السلام) على صواب في موقفه، فيكون عتاب الزهراء (عليها السلام) له -رغم كونه مصيبًا- يكشف عن خلل في عصمتها.

الاحتمال الثاني: أن يكون الإمام علي (عليه السلام) قد أخطأ في موقفه، فيكون عتاب الزهراء (عليها السلام) في محلّه، ولكن ذلك يكشف عن خلل في عصمة أمير المؤمنين (عليه السلام).

فالقبول بهذه الرواية يجرّ إلى محذور الخدش إمّا في عصمة أمير المؤمنين (عليه السلام) أو في عصمة الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام).

الجواب عن الإشكالية:

من أجل الإجابة عن هذه الإشكالية بشقَّيها، لا بدَّ أوّلًا من الوقوف عند معاني بعض المفردات الواردة في هذه الخطبة الشريفة، وسنقف هنا عند خمس عبارات:

أ/ اشتملت شِمْلة الجنين: إنَّ (الاشتمال) معناه: إدارة الكساء على الجسد كلّه، و(الشَملة) هي عبارة عن الكساء الذي يغطي الجسد بتمامه، وأمّا (الشِملة) فهي هيئة الاشتمال، فعندما يدير الإنسانُ الكساءَ على جسده كلّه يُعبَّر عن هذه الهيئة بالشِملة.

وحين تخاطب الصديقة الطاهرة (عليها السلام) أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلةً: (اشتملتَ شِمْلةَ الجنين) فهذه كناية عن أنَّ عليًّا (عليه السلام) قد حوصِر بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من جميع الجهات، فصار حاله كحال الجنين المحاط من سائر الجهات لا يستطيع بسطًا ولا قبضًا.

ب/ وقعدتَ حجرة الظنين: الحجرة -كما هو واضح- هي مكان القعود والتواري عن الأنظار، و(الظنين): هو الإنسان المتَّهم الذي يُظنَّ به ظنَّ السوء، وهذا يعني أنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد اعتزل الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما يعتزل الظنينُ الناسَ، وكأنَّه (عليه السلام) هو من كان في موضع الاتّهام بالسوء بينما الطرف الآخر هم الذين كانوا على حقٍّ.

ج/ نقضتَ قادمةَ الأجدل: القادمة مفرد (قوادم)، وهي عبارة عن أقوى الريش الذي به يقوى الطائر على الطيران، و(الأجدل) هو عبارة عن الصقر، وقد سُمِّي بذلك من الجدل بمعنى الاستحكام والقوّة. فهذه العبارة إشارة إلى ما فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) بصناديد العرب، حيث أبادهم وكسر شوكتهم.

د/ فخانكَ ريشُ الأعزل: الأعزل هو الطائر الذي لا طاقة له على الطيران، فتراه وحيدًا معتزلًا في ناحية أخرى عن بقيّة الطيور التي تقوى على الطيران.

فهنا تقول الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام): أنت يا عليُّ الذي نقضتَ بالأمس قادمة الأجدل، اليومَ قد خانكَ ريش الأعزل، حيث كاد بك عن طريق الخيانة هؤلاء العزلاء الضعاف الذين لا حول ولا قوة لهم.

هـ/ عذيري الله منه عاديًا ومنك حاميًا: عذير بمعنى عاذر، مثل سميع بمعنى سامع، فهي (عليها السلام) تقول: إنَّ العاذر لها هو الله (سبحانه وتعالى) في مخاطبتها لمن ابتّزها نحلتها واعتدى عليها، وذلك لكونه عاديًا، وأمّا عذرها في مخاطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) بهذا الخطاب فهو كونه (عليه السلام) حاميًا، فهي تخاطب خصمها بما خاطبته لأنّه عادٍ، وتخاطب عليًا (عليه السلام) بهذا الخطاب لأنّه المحامي والمسؤول.

عودًا على بدءٍ:

وبعد بيان هذه المفردات، نرجع للحديث عن فلسفة هذا الخطاب الفاطمي، فنقول: من المحتمل أنَّ الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) قد أرادت بهذه الخطبة تحقيق هدفين مهمَّين:

الهدف الأول: تقريع المتخاذلين.

فإنَّ التخاذل الذي قد حصل بعد شهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يندى له الجبين، وهو عارٌ في تاريخ المسلمين، ولذلك استحقّ أولئك المتخاذلون تقريعًا شديدًا من الزهراء (عليها السلام).

فإن قيل: إنَّ هذا الخطاب إنَّما هو موجَّه لأمير المؤمنين (عليه السلام)، فما علاقته بتقريع المتخاذلين؟

قلنا: لا ريب في أنَّ هذا الخطاب موجَّهٌ في ظاهره لأمير المؤمنين (عليه السلام)، ولكنّه ليس المراد به، وإنَّما المراد به هم المتخاذلون عن نصرته (عليه السلام)، فهو بلسان (إياكِ أعني واسمعي يا جارة)، وهذا النحو من الخطاب متعارفٌ في لسان النصوص، وله نكاتٌ عديدةٌ، فما هو الوجه في استخدامه هنا؟ وبعبارة أوضح: لماذا لم تخاطب الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) المتخاذلين مباشرةً بدل توجيه الكلام لأمير المؤمنين (عليه السلام) بنحو (إياكِ أعني واسمعي يا جارة)؟

والجواب عن هذا التساؤل المهمّ: لقد أرادت الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) أن تبيِّن عظمة الحدث، فوجَّهت الخطاب إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) حتّى تبيِّن للناس خطورة الحدث وأهمّيته، وأنّه قد بلغ من الشدّة والعظمة والخطورة مبلغًا عظيمًا جدًّا، بحيث يستحقّ أن يخاطَب به أعلى قامة في العالم الإسلامي.

ولهذا اللسان نظيرٌ في القرآن الكريم، وذلك في قصّة موسى الكليم (عليه السلام) مع قومه حين عبدوا العجل، حيث قال تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي}[2]، فكما أنَّ موسى (عليه السلام) قد أوصى لهارون (عليه السلام)، إلّا أنَّ الأمّة بعد أن غاب موسى (عليه السلام) عنها قد مالت عن هارون (عليه السلام) واتّبعت غيره، كذلك بعد شهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعرضت الأمّة عن وصيّه (عليه السلام) ومالت إلى غيره.

وكما أنَّ موسى (عليه السلام) حين رجع إلى قومه لم يوجِّه الخطاب إليهم مباشرة، بل عاتب أخاه هارون (عليه السلام) بلسان (إياكِ أعني واسمعي يا جارة)؛ من أجل أن يبيِّن للأمّة خطورة الحدث الذي جرى بحيث يستحقّ أن يخاطَب به أعلى قامة آنذاك، فكذلك الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) حين خُذِل وصيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عاتبت الأمّة بنفس اللسان لتبيِّن عظمة الحدث.

الهدف الثاني: الإشادة بموقف أمير المؤمنين (عليه السلام).

وهنا سنقرأ النص بقراءة مختلفة عن القراءة السابقة، فإنَّنا قد قرأناه في القراءة السابقة على أنّه عتاب، بينما هنا سنقرؤه على أنّه مدحٌ وثناءٌ لأمير المؤمنين (عليه السلام)، إذ إنَّ الموقف العلوي بعد شهادة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) من أعظم المواقف في التاريخ وأعجبها، بل هو ممّا يعجز عنه الملائكة المقرّبون والأنبياء والمرسلون.

وهذا الموقف العلويّ العظيم يتجلّى في الصبر على أمرين:

  • الأوّل: الصبر على غصب حقّه، وهذا يهون قياسًا بالآخر.
  • الثاني: الصبر على هتك حرمته.

والعجيب في هذا الموقف أنَّ عليًّا (عليه السلام) كان بإمكانه -وهو ذو النفس الأبيّة- أن يحول دون تحقّق الأمرين، فلا يُغْصَب له حقٌّ ولا تُهْتَك له حرمةٌ، ولكن بمجرد أن جاءت وصية السماء بأن يقبل هتك الحرمة وغصب الحق تقبّل ذلك وصبر عليه.

وهذا ليس مجرّد كلامٍ خطابيٍّ لا مستند له، بل هو ممّا ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، حيث روى الشيخ الكليني في الكافي الشريف روايةً مهمّةً عن الإمام الكاظم (عليه السلام): ((فلما نزل برسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمر نزلت الوصية من السماء كتابًا مسجّلًا، نزل به جبرئيل مع أمناء الله تبارك وتعالى من الملائكة، فقال جبرئيل: يا محمد مر بإخراج من عندك إلا وصيّك، ليقبضها منا وتشهدنا بدفعك إياها إليه ضامنًا لها، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بإخراج من كان في البيت ما خلا عليًّا (عليه السلام)، وفاطمة (عليها السلام) فيما بين الستر والباب.

فقال جبرئيل: يا محمد ربك يقرئك السلام ويقول: هذا كتاب ما كنت عهدت إليك وشرطت عليك وشهدت به عليك وأشهدت به عليك ملائكتي وكفى بي يا محمد شهيدًا، قال: فارتعدت مفاصل النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال: يا جبرئيل ربي هو السلام ومنه السلام وإليه يعود السلام، صدق عز وجل وبر، هات الكتاب، فدفعه إليه وأمره بدفعه إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: اقرأه، فقرأه حرفًا حرفًا، فقال: يا علي هذا عهد ربي تبارك وتعالى إليّ…

وكان فيما اشترط عليه النبي (صلى الله عليه وآله) بأمر جبرئيل (عليه السلام) فيما أمر الله عز وجل أن قال له: يا علي تفي بما فيها من موالاة من والى الله ورسوله، والبراءة والعداوة لمن عادى الله ورسوله والبراءة منهم، على الصبر منك، وعلى كظم الغيظ، وعلى ذهاب حقّك، وغصب خمسك، وانتهاك حرمتك؟ فقال: نعم يا رسول الله.

فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لقد سمعت جبرئيل (عليه السلام) يقول للنبي (صلى الله عليه وآله): يا محمد عرّفه أنه ينتهك الحرمة، وهي حرمة الله وحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلى أن تُخضَّب لحيته من رأسه بدم عبيط. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): فصعقت حين فهمت الكلمة من الأمين جبرئيل (عليه السلام) حتى سقطت على وجهي وقلت: نعم قبلتُ ورضيتُ وإن انتهكت الحرمة))[3].

وهذا الموقف العلوي يحيّر الأذهان، فإنَّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان بمقدوره أن يدفع ذلك عن نفسه، ولكنّه اختار أن يصبر لأنَّ مصلحة الدين كانت في ذلك، كما ورد عنه (عليه السلام): ((وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين وأن يعود الكفر ويبور الدين لكنّا على غير ما كنا))[4]، أي: لو لم تكن مصلحة الدين في الصبر لكان الموقف العلويّ موقفًا آخرًا.

ومن هنا فإنَّ الصدّيقة الطاهرة (عليها السلام) أرادت أن تشيد بموقف أمير المؤمنين (عليه السلام)، وتبيِّن كيف أنّه قد نفّذ هذه الوصيّة الإلهية بكل صبر وصلابة وصمود، فخاطبته قائلة: (يا بن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين)، أي: نفّذت الوصية تمام التنفيذ، فصرتَ في تنفيذها كالجنين الذي لا يقبض ولا يبسط، حيث لم تحرِّك ساكنًا، (وقعدت حجرة الظنين) فصرتَ من شدّة صبرك على هتك حرمتك وغصب حقّك كأنّك أنت المتَّهم، (نقضت قادمة الأجدل فخانك ريش الأعزل) أي: التزمت بالوصية إلى الحدّ الذي تمكّن فيه حتى ريش الأعزل من خيانتك.

ومن هنا يتّضح وجه مخاطبته بـ(يا بن أبي طالب)، فقد أرادت (عليها السلام) أن تقول: أنت ابن أبيك، فكما أنَّ أباك صبر وكتم إيمانه لأنَّ الدين كان يتطلّب كتمان الإيمان، وصبر على ذلك رغم اتّهامه بالكفر، فأنت أيضًا لما تطلّب الدين منك الصبر صبرت وتحمّلت رغم هتك حرمتك وغصب حقك، فأنت ابن أبيك، لم تشذ عن نهجه وصبره.

فهذا الخطاب إنَّما هو في مقام الإشادة بموقف أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنَّه لمّا تطلّب منه الدينُ الجهادَ افترس الذئاب، ولما تطلّب منه الدينُ المسالمةَ افترش التراب، وهكذا كان (عليه السلام) لا يعمل إلا بما يمليه عليه دينه، وإن تطلّب منه ذلك أن يصبر على ما تنوء بحمله الجبال.


الهوامش:

[1] بحار الأنوار: ج29، ص234.

[2] سورة الأعراف: الآية 150.

[3] الكافي: ج1، ص281.

[4] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج1، ص307.