مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
الخطبة الفدكية (دراسة صوتية) /أ.م. سكنة جهينة فرج مركز دراسات البصرة والخليج العربي
+ = -

الخطبة الفدكية (دراسة صوتية)

أ.م. سكنة جهينة فرج مركز دراسات البصرة والخليج العربي

    تعددت الموضوعات التي طرقتها فاطمة الزهراء من خلال خطبها, ومن أهمها الخطبة الفدكية, وهي من أعظم خطبها قالتها في المسجد النبوي , ففي ذلك العصر أدركوا أهمية الخطابة وكانوا يستخدمون الخطابة لما فيها من حضور سهل, وإقناع للناس, وقوة اقناعية وبلاغية, وسرعة في الوصول, وفهم المتلقي وشعوره بأنه هو المعني بها, والخطابة فن نثري يمتاز بالقوة والليونة ولذلك نراه فنا يستخدم للتأثير والإقناع في مواقع الخطب الدينية والسياسية والوعظية, لأن الخطيب يحتاج فيها إلى قوة الإقناع , والتنوع الأسلوبي الذي يمكن أن يتحقق في الخطب بسهولة .

البديع في الخطبة  وأهميته :

 البديع اللفظي  :

    إن النصوص المبدعة هي استعمال فني للغة , وإظهار لإمكانياتها اللانهائية , ليأخذ النص قدرة كبيرة على الإيحاء لم تكن موجودة من قبل, وهذا الإيحاء قد يكون موسيقى أو أسلوباً أو صورة , أو أمراً خفياً , وعلى المستوى النصي الموسيقي , والانسجام اللفظي, اذ اننا نرى كثيرا من التشابهات اللفظية الجاذبة للسمع , والمعمقة للفكرة , ولاسيما أنها لم تات متكلفة , بل أتت معبرة عن قوة المعنى , ونرى هذا على امتداد الخطبة , كقول الزهراء الكريمة :

” وَالنُّجَبَةُ الَّتي انْتُجِبَتْ، وَالْخِيَرَةُ الَّتِي اخْتيرَتْ! قاتَلْتُمُ الْعَرَبَ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ، وَناطَحْتُمُ الاْمَمَ، وَكافَحْتُمً الْبُهَمَ، فَلا نَبْرَحُ أو تَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُمْ فَتَأْتَمِرُونَ حَتَّى دَارَتْ بِنا رَحَى الإْسْلامِ “. يُلاحظ هذا النغم الموسيقي الناتج من تماثل الأحرف ومن الجناس وهو ما نراه على امتداد الخطبة كلها , وهذا التناغم الموسيقي إنما يقوي الفكرة ويثبتها , وهو ما نراه منذ بداية الخطبة فنرى على سبيل المثال في مفتتح الخطبة :

“الْحَمْدُ للهِ عَلى ما أنْعَمَ، وَلَهُ الشُّكْرُ على ما أَلْهَمَ، وَالثَّناءُ بِما قَدَّمَ، مِنْ عُمومِ نِعَمٍ ابْتَدَأها، وَسُبُوغ آلاءٍ أسْداها، وَتَمامِ مِنَنٍ والاها، جَمَّ عَنِ الإحْصاءِ عدَدُها، وَنأى عَنِ الْجَزاءِ أَمَدُها”.

    فنجد هذا التوازن الموسيقي الكبير الموجود عن طريق السجع المتنوع الممتع( أنعم – ألهم – قدّم , ابتدأها – أسداها – والاها – عددها – أمدها), وعن طريق تناسب طول الجمل, وهناك نوع آخر من التوازن الموسيقي وهو التآلف الداخلي ضمن الجمل ( الإحصاء والجزاء ) على سبيل المثال, و( عموم وسبوغ ), فالتناسب في الصيغ والموقع في الجملة يحدد نمطا موسيقيا تنتظره الأذن وتستمتع به من ناحية , ويقوي شكل المعنى في الذهن من ناحية أخرى لأنه سرى في الأذن سريانا سهلا سريعا ممتعا, ومن ثم سهل على العقل تلقفه والتغني به وفهمه , ليدور في العقل أكثر ويحدث تساؤلا عن سر جماله, وهذه التساؤلات نفسها هي التي تنتج الإبداع الفني , ونجد هذا في كثير من الأمثلة في الخطبة الفدكية فتقول الزهراء في عمق موضوعها الأساس :

“وَأَطْلَعَ الشيْطانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرِزِهِ، هاتفاً بِكُمْ، فَأَلْفاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجيبينَ، وَلِلْغِرَّةِ فِيهِ مُلاحِظِينَ. ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفافاً، وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفاكَمْ غِضاباً، فَوَسَمْـتُمْ غَيْرَ اِبِلِكُمْ، وَأَوْرَدْتُمْ غَيْرَ شِرْبِكُمْ، هذا وَالْعَهْدُ قَريبٌ، وَالْكَلْمُ رَحِيبٌ، وَالْجُرْحُ لَمّا يَنْدَمِلْ، وَالرِّسُولُ لَمّا يُقْبَر”[1] .

    إن الطول المتناسب بين كل منظومة موسيقية خاصة تتكون من جمل عدة هو ما كفل هذا الصوت الموسيقي القوي المتناغم , مثل : ( وَالْعَهْدُ قَريبٌ، وَالْكَلْمُ رَحِيبٌ), لتبدأ بعدها منظومة أخرى تتكرر حسب حاجة المعنى والسياق , وهذا النوع يثبت المعنى ويقويه , ورغم الجناس الذي توفر بقوة في النص إلا أن هناك تناسبا موسيقيا آخر في طبيعة نطق الكلمات في مواضع محددة من الجمل , وهذا يتأتى من طبيعة الصوغ الصرفي للكلمات ( خفافا , غضابا ) في قولها : ( اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفافاً، وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفاكَمْ غِضاباً ) , ومن طبيعة النطق المتشابهة في عدد الأحرف والحركات مثل ( العهدُ والكلمُ )  في قولها : ( وَالْعَهْدُ قَريبٌ، وَالْكَلْمُ رَحِيبٌ) .

    وفي قولها: ( فَأَلْفاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجيبينَ، وَلِلْغِرَّةِ فِيهِ مُلاحِظِينَ. ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفافاً، وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفاكَمْ غِضاباً، فَوَسَمْـتُمْ ) تأتي الفاء هنا في المثال السابق المعروض لتؤدي معنى السرعة في الاستجابة للشيطان والضلال , وهذا ما دعّم المعنى ( فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يقبر بعد وهم ضلوا وفتنوا ) , وهذه الفاء نفسها بتكرارها تنتج دفعاً موسيقياً مؤدياً لمعنى السرعة , كما أن التقابل الموسيقي الواضح مابين الجمل والمتكرر بشكل كبير من مثل :

اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفافاً

وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفاكَمْ غِضاباً

    فكل كلمة تقابل موسيقية وفي الصياغة الكلمة التي تحتها كما نرى , ليكون النص الخطابي الذي بين أيدينا نصا ذا تركيبة موسيقية معقدة ومترابطة ومتنوعة , وفي السياق الخطابي يبدو هذا التوازن الموسيقي معبرا عن سلاسة المعنى, وقوته, وحضور الذهن, ومن ثم فهو أكثر إقناعا للسامع , وأكثر إظهارا للمعنى وقوته, وهذا ما يجعل النص ذو طابع صدقي قوي من ناحية , وممتع للسمع من ناحية فنية أخرى , كقول الزهراء :

” وَخَرِسَتْ شَقاشِقُ الشَّياطينِ، وَطاحَ وَشيظُ النِّفاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشِّقاقِ”

    يُلاحظ الدقة الموسيقية حتى في اختيار الأحرف , وهو ما يصعّد النَّفَسَ مع ارتفاع وتصعّد المعنى كما نرى في كلمة ( شقاشق ), و( شيظ), كما أن تكرر فونيم الشين مع القاف يوحي بالشدة والعنف وهو ما يدعم معنى عظمة مافعله محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشدة قوة فعل الشياطين والكفر والشقاق بين البشر قبل مجيئه , وقوة فعله ومكانته التي خصه بها الله تعالى , وهي ابنته , ومن جهة أخرى تشير إلى عظمة فعلهم في مخالفة أوامره وهو من فعل كل هذا , وعظمة خطئهم .

    ونرى بعدا عن التكلف وشيئا من العفوية في خطبة الزهراء , وهي سمة عامة للخطابة آنذاك كما تذكر الكتب فخطبهم في هذا الباب اتسمت بالسلاسة والبعد عن التغريب اللغوي والتفكك , كما امتلأت بالصور الفنية والتعبيرات البلاغية , والتأثير الإسلامي ظهر واضحا في رقة الصور , والكلمات , والخلط بين المادي والروحي “.”

[1]  – طه , نعمان حمد , خطباء البلاغة العربية حتى القرن الثاني الهجري , ص 405 .