أثر القرآن الكريم في خطبة السيدة الزهراء (عليها السلام)
الدكتورة
خمائل شاكر الجمالي
جامعة بغداد / مركز إحياء التراث العلمي العربي
مقدمة :
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد الأمين وآله خير البرية الطيبين الطاهرين واصحابه الغر المنتجبين.
تتوالى الأيام وتنقضي الدهور وتبقى السيد الزهراء (عليها السلام) ذلك الكوكب الدري الذي لا يتغير بهاؤه ولا يخفت سناؤه تبقى الكلمة الطيبة التي أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء التي تؤدي أكلها كل حين بإذن ربها.
لم تولد الزهراء (عليها السلام) لتموت أو لتقف في متاحف الشمع أو لتكون نظرية في برزخ الإثبات أو لتسكن في أسطر مكتوبة في صفحات مطويات أو لتكون على طاولة نقاش يؤلهها زيد ويكفرها عمر فما للزهراء (عليها السلام) وبحوث الأقلام مثلما للزهراء (عليها السلام) والحياة الدنيا ومثلما للزهراء (عليها السلام) ، وفدك والنفس مضانها جدث تنقاح في ظلمة آثارها وتغيب آثارها وحفرة لو زبدت فسحتها أوسعت يد حافرها لا خفضها الحجر والمدر وسدر فرحها التراب المتراكم ذلك لأنها نموذج الحق وقمة الإيمان ورمز التحدي للظلم ومواجهة الجبروت.
ومن الملفت للنظر أن المؤمنين عاشوا حياة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في قعولهم في سلوكياتهم في عواطفهم في ضمائرهم من دون أن يتثاقلوا منها أو ليسأموا أو ينتابهم الملل وإنما تجد الأرواح تتجاذب نحوها تجاذب الفطيم إلى محالب أمه ذلك لأن عطرها عطر الجنة أو لأنها الحقيقة المجهولة أو لانها القبر المجهول أو السر المكتوم أو ام أبيها.
ولعل هذا الذي جعل السيدة الزهراء (عليها السلام) عنوان لتأليف مئات الكتب وآلاف البحوث وملايين الخواطر من قبل المثقفين وانصاف المثقفين .. وكيف لا ؟ والقرآن الكريم أول من شق الطريق للناس بالبحث عنها بالثناء عليها في آياته وبيناته فسلطت الضوء على أثر القرآن الكريم في خطبتها المعروفة بـ(الخطبة الفدكية) على ضوء مصادر الخطابة في العصر الإسلامي ؛ إذ لم تسم بالفدكية إلا وهي تحمل كثيراً من معاني التضحية والفداء الذي لازم الزهراء (عليها السلام) منذ أن فتحت عينيها على الحياة وهي في شعب أبي طالب ولم ينتهي دور فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مكة المكرمة وإنما امتد مع هجرتها إلى المدينة المنورة حتى آخر لحظة من حياتها الشريفة حتى لم تتوانَ في الدفاع عن إمام زمانها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقد نصرته بكل وجودها حتى استشهدت وهي تحمل معها إلى الآخر آثار الظلم الذي اصابها الضلع المكسور والجنين السقط وكلمات مازال صداها يفضح صوت التاريخ من خطبتها في أرض فدك نحلة أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومثلما كان للخطيب في العصر الإسلامي مصادر لابد أن يرجع إليها في خطبته كالقرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة المتمثلة بأحاديث الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم ) والشعر العربي.
فقد قسمت البحث إلى ثلاثة مباحث :
تناول المبحث الأول : جانب من حياة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومن ولادتها ونشأتها وتربيتها تلك الولادة التي تشرّف بها الكون وحفل بها تاريخ الإنسانية حتى أصبحت قدوة للناس وسيدة نساء العالمين.
والمبحث الثاني : مصادر الخطابة في العصر الإسلامي
وكيف استطاع الخطيب الإسلامي أن يوظف القرآن الكريم في خطبته حتى يستطيع بمشافهته للجمهور من أن يقنعهم ويستميلهم من خلال ما تمليه عليه ثقافته من الرجوع لمصدره القرآن الكريم فإما أن يفتح خطبته بآية من الذكر الحكيم ويبني عليها كامل خطبته مستفيداً بذلك من موضوع الآية في عرض افكاره للناس أو من خلال الاقتباس من القرآن الكريم في ثنايا خطبته للتدليل على صحة رأي أو لتنفيذ رأي آخر ربما يكون الاقتباس من أجل نسج الفاظ القرآن الكريم بالفاظ الخطيب حتى يكون الكلام قطعة نثرية ونسيج رصين.
أما المبحث الثالث : توظيف القرآن الكريم في خطبة الزهراء (عليها السلام).
ومنها القرآن الكريم وكيف كان نصيب خطبتها (عليها السلام) من هذا المصدر في التدليل والتنفيذ من خلال عرضها لآيات المواريث التي نص عليها القرآن الكريم والتي تزيف الحديث المفترى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وبينت ايضاً اقتباسها من الفاظ القرآن مع الفاظها حتى اكسب الخطبة رصانة وقوة لا تدانيها خطبة خاطبة أو خطيب غيرها وقد عملت عرض لألفاظها وما يقابلها من آيات القرآن الكريم.
ومن ثم الخاتمة وأبرز النتائج التي توصلت إليها الباحثة ولا أدعي الكمال في بحثي هذا إنما ادليت بدلوي مع الدلاء رجاء للإثابة وطمعاً في الرضا وإفادة من خبرات العلماء الاعلام في هذا المجال.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين .
المبحث الأول
جانب من حياة السيدة الزهراء (عليها السلام)
1- ولادتها :
ولدت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في شهر جمادي الآخرة يوم العشرين منه سنة خمس واربعين من مولد النبي( صلى الله عليه وآله وسلم )، وكان ذلك بعد مبعثه بخمس سنين وهو المروي عن الإمام الصادق (عليه السلام). ([1])
وبعد أن اكل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) من ثمار الجنة وحملت خديجة بفاطمة اثر هذا الثمر فلما حضرت ولادتها وجهت إلى نساء قريش ونساء بني هاشم ليجئن ويلين مننها ما تلى النساء من النساء فأرسلن إليها عصيتينا ولم تقبلي قولنا وتزوجت محمد( صلى الله عليه وآله وسلم ) يتيم أبي طالب (عليه السلام) فقير لا مال له فلسنا نجيء ، ولا نلبي من أمرك شيئاً فاغتمت خديجة لذلك فبينما هي كذلك إذ دخل عليها أربعة نسوة طوال كأنهن من نساء بني هاشم ففزعت منهن فقالت لها أحداهن: لا تحزني يا خديجة فأنا رسل ربك إليك ونحن اخواتك أنا سارة وهذه مريم بنت عمران وهذه كلثم اخت موسى بن عمران بعثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء فجلست واحدة عن يمينها والأخرى عن شمالها والثالثة بين يديها والرابعة خلفها فوضعت خديجة فاطمة (عليها السلام) طاهرة مطهرة. ([2])
2-نشأتها مع أبيها :
كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) يعظم شأنها (عليها السلام) ويرفع مكانتها ويدلنا على ذلك الحديث المشهور عنه (صلى الله عليه وآله) عن انه كان يكنيها بـ(أم أبيها) ([3]) إذ أنه يحملها من محبته محلاً لا يقاربها فيه أحد فبهذا الإكرام والتبجيل نشأت تحت رعايته وعناية أمين وحي السماء وربيب الرفيق الأعلى الذي نعته بـ{وإنك لعلى خلق عظيم}([4]) فأنتج هذا تلك العبادة الروحانية التي أفضلت إلى أنه لم يكن في هذه الأمة اعبد من فاطمة كانت تقوم حتى تتورم قدمها فأي نشأة تلك وأي عبادة جعلت منها مثالاً يحتذى به عند نساء الإسلام التي كانت بحق أُم للأئمة الأطهار.
3- زواجها:
روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال : (( لولا أن الله تعالى خلق أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يكن فاطمة (عليها السلام) كفوء على وجه الأرض آدم فمن دونه)) ([5]) ، هذه الرواية الشريفة تبين معنى جليلاً وهو أن الله تعالى لم يخلق للسيدة فاطمة (عليها السلام) كفوءاً إلا أمير المؤمنين (عليه السلام) ([6]) وكفى بها منقبة وأكرم بها فضيلة أن تكون سيدة نساء العالمين زوجة لأشرف مخلوق بعد أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) والذي هو نفس رسول الله بنص القرآن الكريم { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}([7]) وأخوه في الدنيا وخليفته بعد وفاته ولولا أمير المؤمنين وسيد الموحدين لما كان لفاطمة (عليها السلام) كفؤ من بني آدم فما دونه. ([8])
وهذا هو السر في رد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) كل من اتى لابنته فاطمة (عليها السلام) خاطباً فأنه رد ابا بكر عندما تقدم خاطباً لها ورد عمر بن الخطاب عندما تقدم خاطباً لها وهو يقول : ( إنني أنتظر في أمر فاطمة الوصي الإلهي ) ([9]) مع أنه (صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يرد احد خطب أخواتها وليس ذلك إلا لعلمه بأن خلفاءه على الأمة لابدّ أن يكونوا منها وأن أبا الأوصياء لا يكون إلا بانعقاد الكفؤ بالكفؤ لتولي أمر الأمة من بعده (صلى الله عليه وآله وسلم ). ([10])
4- مقامها :
لا يوجد مقام لنساء العالمين كمقام فاطمة الزهراء (عليها السلام) فهي ابنة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهي قطعة كبد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي قلب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي روح محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) فهل بلغ حب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) لأحد من البشر ما بلغ حبه لابنته فاطمة (عليها السلام). ([11])
المبحث الثاني
مصادر الخطابة في العصر الإسلامي
بعدما أذاب الإسلام العصبية القبلية وأصبحت السيادة للدين لا للنسب والإخاء للرحمن لا للعصب وأن التغيير في العقلية العربية كان يستلزم حتماً تغيير ما يصدر عنها من فكر أو تصور أو قول ، فالشاعر الذي كان يقطر لسانه سموم العداوة والبغضاء والفارس الذي كان يرتع بالدماء والاشلاء والخطيب الذي يهيج المنافرة والمفاخرة والهجاء والغني الذي يتاجر بقوت الفقراء كلهم وقفوا منصتين صامتين لدعوة الإسلام فلا يقولون لا يفعلون إلا بإذن من الصادق الأمين وهذا ما افصحت عنه السيدة الزهراء في خطبتها وهي تشير إلى عظمة الرسول القائد (صلى الله عليه وآله وسلم ) إذ قالت([12]): ((وكنتم على شفا حفرة([13]) من النار مذقة([14]) الشارب ونهزة([15]) الطامع وقبسة العجلان([16]) وموطن الاقدام وكنتم تشربون الطرق([17]) وتقتاتون القدة والورق اذلة خاسئين تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله بأبي محمد)).
فكان لزاماً على الأدب العربي ومنه الخطابة بأن يحط رحاله عند المصادر الإسلامية الجديدة التي اعتمدها قالب البناء الأدبي أو الخطابي هي([18]):
أولاً : القرآن الكريم
يعدّ أول كتاب دون في اللغة العربية فهو واضع النشر الفني الإسلامي ومنبع المعاني والأساليب والمعارف التي شرعت آنذاك بأسلوب بديع لا عهد للاذهان بمثله فهو آيات مفصلات متزاوجات يسكن عندها الصوت ويسكت لها الذهن لاستقلالها بالمعنى وانسجامها مع روح القارئ وعلى اعتباره كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير فقد اصبح مذهباً وقبلة للأدباء عامة والخطباء فهم خاصة فكان تأثيره القوي في نقله.([19])
قوة للخطيب وحلية للمنشئ والمتصفح لخطب العرب في العصر الإسلامي يجد أن الخطيب قد اعتمدّ القرآن كأحد أهم مصادره إلا أن هذا الاعتماد قد توزع بالشكل الآتي([20]):
أ- يفتتح الخطيب الإسلامي كلامه بآية من القرآن الكريم([21]) فيبني عليها خطبته اي أن الخطيب يأخذ من غرضها غرضاً له في عرض افكاره التي يريد بها إقناع الجمهور أن كان في ندب ورثاء أو موعظة واعتبار وغير ذلك ، ونجد هذا جلياً في كثير من خطب نهج البلاغة للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، لاسيما خطبته التي تسمى بـ(الصاعقة) ([22]) التي كانت موعظة واعتبار.
ب- يأتي الخطيب بالآيات القرآنية([23]) في ثنايا خطبته تقوية للهجته وإثباتاً لدعوته أو للترغيب والترهيب يترك اثره في اذهان السامعين([24]) إذ لا يمكن التخلي عن ذلك في أمة تحتكم للقرآن الكريم([25]) ، وهذا نجده واضحاً في خطبة السيدة الزهراء ( عليها السلام ) كما سيأتي لاحقاً عند مطالبتها بأرض فدك([26]) وكذلك الذي يقرأ خطب الحجاج بن يوسف الثقفي([27]) يجد نفسه أمام سبك بباني من آيات القرآن الحكيم التي ينسجها في ثنايا خطبته وبكثرة استدلاله بتلك الآيات لتظن أنه على حق وأن أهل العراق على باطل مع أنه قتل منهم مائة وعشرون الف في سجونه خمسون الف رجل وثلاثون الف امرأة. ([28])
ج- مضافاً لما تقدم في النقطتين السابقتين فقد يستعمل الخطيب البارع من القرآن الكريم عدة اشياء منها مثلاً الموضوعات أو القصص أو الحكم أو الأمثال أو الألفاظ وغير ذلك والمطلع على خطب العرب الإسلامية يجد هذا واضحاً وجلياً أمام عينه وعن خطبة الزهراء (عليها السلام) أخذت الفاظ القرآن فيها مآخذها حتى أن القارئ لها يجد نفسه بين آيات من القرآن والالفاظ. ([29])
ثانياً : الحديث النبوي الشريف
يعد الحديث الشريف اغزر ينابيع التشريع في العبارات والمعاملات واقوم طريق يؤدي إلى فهم القارئ ويفصل اجماله والأحاديث التي صحت من الرسول الكريم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اتسمت بطابع البيان والعبقرية لتظلعه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من لغة القرآن وقدرته الفطرية على ابتكار الأساليب اللغوية العالية. ([30])
ثالثاً : الشعر العربي([31])
لم يكتف الخطباء بأن يخذوا من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة([32]) مصادر لخطبهم بل تعداه إلى الأخذ من الشعر العربي ايضاً وحسبنا من هذا أنه أصل الشعر ومادته ولن يكون شرطاً على الخطيب بأن يلجأ إلى الشعر([33]) كما كان عليه في القرآن والسنة ولكن العرب يعدون الشعر العربي موطن مفاخرتهم ومحلاً للافصاح عن بيانهم وبالتالي يكون لزاماً على بعض الخطباء بأن ينشروا أبياتاً من الشعر([34]) في ثنايا خطبتهم ويكون موقع تلك الأبيات مطابقاً لواقع الحال وكانك تقرأ مثلاً مقتبس من واقع الحياة ويكون البيت أو البيتين من الشعر. ([35])
المبحث الثالث
توظيف القرآن في خطبة السيدة الزهراء (عليها السلام)
تبين لنا فيما سبق أن الخطيب الإسلامي بات من الضروري في مكان أن يرجع إلى القرآن الكريم على اعتباره المصدر الأول الذي يملي عليه الرجوع إليه في أمة اصبحت تدين بدين الإسلام لها وترى منه هذا الكتاب مشتملاً على أصول الدين المشتمل على الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والائتمار بالمعروف والانتهاء عن المنكر وهي أمور تتصل بالعاطفة والوجدان فالدعوة اليها والحث عليها يقتضيان الأسلوب الخطابي القوي المؤثر الفعال وهذا ما دعت إليه السيدة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها التي ضمنتها القرآن الكريم وكان استعمالها القرآن الكريم لا يعدو أن يكون من خلال ما يأتي([36]):
الأول: استعمال آيات القرآن الكريم بصورة مباشرة الغرض منها هو التدليل :
فكثيراً ما يحتاج الخطيب البارع إلى التدليل([37]) على صحة رأيه بأدلة منطقية مبنية على مقدمات ثابتة يقينية وأي أدلة ثابتة يقينية ترقى إلى الأدلة القرآنية التي اعتمدتها الزهراء (عليها السلام).
فتوزعت الآيات القرآنية في خطبتها كالآتي :
أ- { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}([38]) وبعد مقدمتها افتتحت خطبتها بذكر ابيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي تدلل على أن الرسول من العرب يشق ويعز عليه وقوعهم في الشدة لأجله حريص على توفير وسائل السعادة لكم بالمؤمنين من هذه الأمة رؤوف رحيم كلمتان مترادفتان معناها العطف واللطف والحنان. ([39])
ب- { أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ }([40]) وجاءت هذه الآية بعد قولها ((ابتداءاً زعمتم خوف الفتنة)) وقد دللت باليقين القرآني أن الفتنة انتم وعملكم هو الفتنة المفسدة غصبتم الحقوق عن اهلها لأجل الوقاية من الفتنة حسب ادعائكم وأي محنة أعظم من تغيير مجرى الإسلام وتبديل احكامه وغصب حقوق أهل البيت (عليهم السلام) ومعاملتهم بتلك القسوة والخشونة. ([41])
ج- { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }([42]) وجاءت هذه الآية الخطيرة بعد أن حذرتهم من تركهم الحكم بالقرآن فيكون ذلك خروجهم عن ملة الإسلام الأمر الذي يؤدي إلى الخسران المبين في الآخرة.
ثانياً: استعمال آيات القرآن الكريم لغرض آخر وهو التفنيد . ([43])
ويكون عن طريق مناقشة آراء الخصم وادلته لابطالها سواء أكان التفنيد للآراء العامة التي دعا إليها الخصم ام النتائج التي استنبطها وكثيراً ما يضطر إلى تفنيذ ما قاله خصمه ليمحوا من النفوس اثره وهذا ما استعرضته السيدة الزهراء (عليها السلام) لكل آيات الإرث التي تفند الحديث الذي اختلقه نفر من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) ونسبوه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم ) فأبطلت ذلك الإدعاء بالأدلة القاطعة والحجيج الساطعة المأخوذة من القرآن والتي اعجزت ذلك النفر عن تفنيدها والتي جاءت بعد قولها : يا ابن ابي قحافة افي كتاب الله أ ن ترث اباك ولا أرث ابي ؟ لقد جئت شيئاً فرياً ؟ أفعل عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول { وورث سليمان داود } وخبر زكريا إذ قال {فهب لي من لدنك ولياً يرثني ويرث من آل يعقوب }.([44])
ثالثاً : استعمال آيات القرآن بصورة غير مباشرة اي استعمال ألفاظ القرآن الكريم([45]):
وهنا يأتي دور ثقافة الخطيب البارع بطرحه وحسن اداءه فكما أن اصحاب الاعمال يختلفون كثيراً في توظيف مواد عملهم بصورة صحيحة فبعضهم يوفق وبعضهم يخفق عن طريق التوقيت الجيد لنسيج الكلام بألفاظ القرآن الكريم أو الاستشهاد بالشعر العربي أو عن طريق وضع الأمثال لتقريب المعنى للسامع فاستعمال الفاظ القرآن الكريم خصوصاً في عصر صدر الإسلام في وسط امة تعنى بحفظ القرآن وتدارسه لما بعث السهولة والوضوح في كلام الخطباء إذ أن الكلمات السهلة احفل في كثير من الأحيان بالشعور والعاطفة في الكلمات الغريبة التي لا تحصل إلا بالمطالعة والمدارسة وبهذا المعنى يشير الجاحظ ((رأس الخطابة الطبع وعمودها الدربة وجناحها رواية الكلام وحليها الاعراب (الافصاح) وبهاؤها تسخير الالفاظ)). ([46])
وهذا عرض الالفاظ القرآن وما يقابلها من الآية الواردة ((موصولة بناء الله الموقدة التي تطلع على الافئدة ويقابلها نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة)). ([47])
يتبين من ذلك المقدرة الخطابية التي بلغتها السيدة الزهراء (عليها السلام باستشهادها على كلامها بآية قرآنية. ([48])
نتائج البحث :
بعد هذا العرض الموجز من سيرة السيدة الزهراء (عليها السلام) والاستقراء في خطبتها (عليها السلام) خرجت الباحثة بعدة نتائج أهمها ما يأتي:
الخاتمة :
كانت خطبت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام ) خطبة ارتجاليّة منظّمة منسّقة تستفيض فيضها من آيات القرآن الكريم ، بعيدة عن الاضطراب في الكلام ، و منزّهة عن المغالطة والمراوغة والتهريج والتشنيع ، بل وعن كلّ ما لا يلائم عظمتها وشخصيّتها الفذّة ، ومكانتها السامية ، وتعدّ هذه الخطبة معجزة خالدة للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام ) ، وآية باهرة تدلّ على جانب عظيم من الشفافة الدينيّة وتوظيفها القرآن الكريم في خطبتها ، وما التي كانت تتمتّع بها الصدّيقة فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) من عظمة وبلاغة دينية . نجد مازال أثر هذه الخطبة باقي إلى الوقت الحاضر ؛ لما لها من أثر كبير في قلوب محبين الزهراء وأهل بيت محمد ( عليهم السلام أجمعين ) .
المصادر والمراجع
– القرآن الكريم
* الاربلي : أبو الحسن علي بن عيسى بن ابي الفتح (ت/ 693هـ/ 1293م).
1- كشف الغمة، ط2، بيروت- لبنان، دار الاضواء (1405هـ/1985م).
* البخاري ابو عبد الله محمد بن اسماعيل بن ابراهيم (ت: 256هـ/ 869م).
2- صحيح البخاري (لا.ط) دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع (1401هـ/ 1981م).
* الجاحظ، ابو عثمان عمر بن بحر (ت: 255هـ/ 868م).
3- البيان والتبيان، تح: عبد السلام محمد هارون (لا.ط)، دار الفكر.
* ابن أبي الحديد عز الدين ابي حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني (ت:656هـ/ 1258م).
4- شرح نهج البلاغة، تح: محمد ابو الفضل ابراهيم، ط2، قم- ايران، منشورات مكتبة المرعشي النجفي (1967م- 1387هـ).
* الشامي محمد بن يوسف الصالحي (ت: 942هـ/ 1535م).
5- سبل الهدى والارشاد في سيرة خير العباد، تح: الشيخ عادل احمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوضن ط1 ، بيروت- لبنان، دار الكتب العلمية (1414هـ/ 1993م).
* الصدوق محمد بن علي بن بابويه (ت: 380هـ/ 990م).
6- الامالي، تح: قسم الدراسات الاسلامية – مؤسسة البعثة (قم) ط1، طهران- شارع سمية (1417هـ).
7- علل الشرائع : محمد صادق بحر العلوم (لا.ط) النجف- منشورات المكتبة الحيدرية (1385هـ/ 1966م).
* الطبرسي، أبو منصور احمد بن علي بن أبي طالب (548هـ/ 1153م).
8- الاحتجاج ، تعليقات وملاحظات: محمد باقر الخرسان (لا.ط) النجف الاشرف، منشورات النعمان (1386هـ/1966م).
* ابن طيفور أبو الفضل ابن أبي طاهر (380هـ/ 990م).
9- بلاغات النساء (لا.ط) قم المقدسة مكتبة بصيرتي (د.ت).
* ابن العماد الحنبلي عبد الحي بن احمد (ت: 1089هـ/ 1678م).
10- شذرات الذهب في اخبار من ذهب ، بيروت ، دار الكتب العلمية.
* الكليني ابو جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق (329هـ/ 940م).
11- الكافي، تح: علي اكبر، ط5، طهران- دار الكتب الإسلامية (1363 ش).
* المجلسي محمد باقر بن محمد تقي الاصفهاني (1111هـ/ 1699م).
12- بحار الانوار، تح : عبد الرحيم الرباني الشيرازي، ط3، مصححة ، بيروت- لبنان، دار احياء التراث العربي (1403هـ/ 1983م).
* المقريزي تقي الدين احمد بن علي بن عبد القادر بن محمد (ت: 845هـ/ 1441م).
13- امتاع الاسماع بما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) من الأحوال والاموال والحفدة والمتاع، تح: محمد عبد الحميد النميسي، ط1، بيروت- لبنان، دار الكتب العلمية (1420هـ/ 1999م).
* ياقوت الحموي عبد الله (ت: 626هـ/ 1228م).
14- معجم البلدان (لا.ط) بيروت- دار الفكر (د.ت).
* الاميني عبد الحسين
15- الغدير في الكتاب والسنة والأدب (لا.ط) بيروت- لبنان، دار الكتاب العربي (1397هـ/ 1977م).
* البدوي إبراهيم
16- فن الخطاب ة، ط3، بيروت- لبنان، دار المحجة البيضاء (1429هـ/ 2008م).
* الحوفي احمد محمد
17- فن الخطابة، مصر- القاهرة (1392هـ/ 1972م).
* الزيات احمد محمد
18- تاريخ الادب العربي، ط13، مصر- شارع الفجالة (لا.ت)
* الصدر محمد باقر
19- فدك في التاريخ، ط1، مركز الغدير للدراسات الاسلامية (1415هـ/ 1994م).
* القزويني محمد كاظم
20- الخطبة الفدكية لفاطمة الزهراء (عليها السلام)، ط1، مطبعة النجف الاشرف (1413هـ).
* الكجوري محمد باقر
21- الخصائص الفاطمية ترجمة وتحقيق: علي جمال اشرف، ط1، قم، دار النشر الشريف الرضي (1380 ش).
* الميانجي علي
22- مواقف الشيعة، ط1، قم- مؤسسة النشر الاسلامي (1416هــ).
([1]) المجلسي، محمد باقر محمد تقي الاصفهاني (1111هـ/ 1699م)، بحار الانور، تح: عبد الرحيم الرباني الشيرازي، ط3 مصححة، بيروت- لبنان، دار احياء التراث العربي، (1403هـ- 1983م)، ج43، ص6.
([2]) الصدوق، محمد بن علي بن بابويه (ت: 380هـ/ 990م)، الامالي، تح: قسم الدراسات الاسلامية- مؤسسة البعثة (قم)، طهران- شارع سمية (1417هـ)، ص546.
([5]) ينظر المجلسي، (مصدر سابق)، ج43، ص76؛ الكحوري ومحمد باقر، الخصائص الفاطمية، ترجمة وتحقيق: علي جمال، ط1، قم- دار نشر الشريف الرضي، (1380 ش)، ص540.
([6]) الكليني، ابو جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق (329هـ/ 940م)، الكافي، تح: علي اكبر، ط5، طهران، دار الكتب الاسلامية (1363ش)، ج1، ص46.
([7]) سورة آل عمران، الآية 61.
([8]) المجلسي، بحار الانوار، ج43، ص92.
([9]) البخاري، ابو عبد الله محمد بن اسماعيل بن ابراهيم.
([10]) المجلسي، (مصدر سابق)، ج29، ص157.
([11]) الصدوق، محمد بن علي بن بابويه (ت: 380هـ/ 990م)، علل الشرائع، محمد صادق بحر العلوم، (لا.ط)، النجف الأشرف- منشورات المكتبة الحيدرية.
([12]) الصدر، محمد باقر، فدك في التاريخ، ط1، مركز الغدير للدراسات الاسلامية، (1415هـ- 1964م)، ص123.
([13]) شفا حفرة: جانبها المشرف عليها.
([14]) المذقة: بضم الميمن شربة من اللبن الممزوج بالماء.
([15]) النهزة: بضم النون، الفرحة.
([16]) قبسة العجلان: الشعلة من النار يأخذها الرجل العاجل.
([17]) الطرق: بفتح الطاء وسكون الراء، الماء الذي خوضته الابل وبولت فيه.
([18]) الاربلي، ابو الحسن علي بن ابي الفتح (ت: 6943هـ/ 1293م).
([19]) ينظر الزيات، احمد حسن، تاريخ الادب العربي، ط13، مصر، شارع الفجالة، (لا. ب)، ص86.
([20]) الزيات، (مصدر سابق)، ص86.
([21]) الحوفي، احمد محمد، فن الخطابة، مصر- القاهرة (1392هـ- 1972م)، ص242.
([22]) سميت بذلك لانها تحقر المتكبرين والقمع في اللغة هو التحقير.
([23]) سورة الحجر، الآيات (30، 29، 28).
([24]) ينظر، أحمد بن ابي الحديد،/ عز الدين ابي حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني المعتزلي (ت: 656هـ- 1258م).
([25]) البدوي، ابراهيم، فن الخطابة، ط3، بيروت- لبنان، دار المحجة البيضا، (1429هـ- 2008م)، ص231.
([26]) فدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وهي ما افاءها الله على رسوله صلى الله عليه وآلأه في سنة سبع خلت.
([27]) الحجاج الثقفي: هو الحجاج بن يوسف الثقفي الطائفي، مات سنة (95هـ/ 713م)، ابن العماد الحنبلي.
([28]) الاميني، عبد الحسين، الغدير الكتاب والسنة والادب، (لا.ط) بيروت- لبنان، دار الكتاب العربي (1397هـ- 1977م)، ج10، ص52.
([29]) ينظر: الحوفي، فن الخطابة، ص242 وما بعدها.
([30]) الميانجي، علي، مواقف الشيعة، ط1، قم، مؤسسة النشر الاسلامي (1416هـ)، ج1 ، ص401.
([31]) الشامي، محمد بن يوسف الصالحي (ت: 942هـ/ 1535م) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد.
([32]) المقريزي، تقي الدين احمد بن علي بن عبد القادر بن محمد (845هـ/ 1441م) امتناع الاسماع بما للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الاحوال والاموال والحفدة والمتاع، تح: محمد عبد الحميد النميسي، ط1، بيروت- لبنان، دار الكتب العلمية (1420هـ/ 1999م)، ج2، ص262.
([33]) الزيات، تاريخ الادب العربي، ص29.
([34]) البدري، فن الخطابة، ص229.
([35]) الطبرسي، ابو منصور بن علي بن ابي طالب (548هـ/ 1153م) الاحتجاج/ تعليقات وملاحظات: محمد باقر الخرسان، (لا.ط)، النجف الاشرف، منشورات النعمان، (1386هـ/ 1966م)، ص123.
([36]) ينظر، الزيات، احمد حسن، تاريخ الادب العربي، ص88.
([37]) التدليل: وهو من العرض الذي يعد احد اجزاء الخطبة، الحوفي، فن الخطابة، ص129.
([38]) سورة التوبة، الآية 128.
([39]) ينظر الحوفي، فن الخطابة، ص129.
([41]) القزويني، محمد كاظم، الخطبة الفدكية لفاطمة الزهراء (عليها السلام)، الطبعة الاولى، مطبعة النجف الاشرف، (1413هـ) ص75.
([42]) سورة آل عمران، الآية 85.
([43]) التنفيد، وهو من العرض، ويعد من اجزاء الخطبة. ينظر: الحوفي، فن الخطابة، ص127.
([44]) القزويني، الخطبة الفدكية، ص95.
([45]) الحوفي، فن الخطابة، ص179.
([46]) الجاحظ، ابو عثمان عمرو بن بحر البصري المعتزلي، توفي سنة (225هـ/ 868م)، البيان والتبيان، تح: عبد السلام محمد هارون (لا.ط)، دار الفكر، ج1، ص44.