صَرخَةٌ فِي الغَافِلين
خِطبَةُ بَضعَةُ المُختَارِ فِي نِسَاءِ المُهَاجِرِينَ والأَنصَارِ
الشيخ الحسين أحمد كريمو / سورية
مقدمة عقدية
يتناقل الأدباء والعلماء كلمة صحيحة هي شطر بيت لأحمد شوقي المصري الذي قال:
قف دون رأيك في الحياة مجاهداً *** إن الحياة عقيدة وجهاد
نعم؛ إن الحياة عقيدة وجهاد، وهذا يعني؛ أنها علم وعمل، ومعرفة وطاعة، وهذا هو بالضبط معنى الإيمان، الذي يُمثل لب العقيدة، إذ أن العقيدة هي ما يعقد في القلب، وهي إيمان بالجنان وعمل بالأركان، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وعمل بالأركان)[1]، وفي رواية عن أبي الصلت الهروي، عن الرضا علي بن موسى، عن أبيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه، محمد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه أمير المؤمنين (صلوات الله عليهم) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الإيمان قول مقول، وعمل معمول، وعرفان العقول).
قال أبو الصلت: فحدثتُ بهذا الحديث في مجلس أحمد بن حنبل فقال لي أحمد: يا أبا الصلت لو قرئ بهذا الإسناد على المجانين لأفاقوا)[2]، وفي رواية أخرى مثلها وبحضور إسحق بن راهويه حيث أقبل على أبي الصلت، فقال له ونحن نسمع: يا أبا الصلت أي إسناد هذا؟ فقال: يا ابن راهويه هذا سعوط المجانين، هذا عطر الرجال ذوي الألباب).[3]
وفي حديث طويل وجميل قال أبو عمرو الزبيري: عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قُلْتُ لَهُ: أَيُّهَا اَلْعَالِمُ أَخْبِرْنِي أَيُّ اَلْأَعْمَالِ أَفْضَلُ عِنْدَ اَللَّهِ؟ قَالَ: مَا لاَ يَقْبَلُ اَللَّهُ شَيْئاً إِلاَّ بِهِ. قُلْتُ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: اَلْإِيمَانُ بِاللَّهِ اَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ أَعْلَى اَلْأَعْمَالِ دَرَجَةً، وَأَشْرَفُهَا مَنْزِلَةً، وَأَسْنَاهَا حَظّاً.
قَالَ قُلْتُ: أَ لاَ تُخْبِرُنِي عَنِ اَلْإِيمَانِ أَ قَوْلٌ هُوَ، وَعَمَلٌ، أَمْ قَوْلٌ بِلاَ عَمَلٍ؟
فَقَالَ: اَلْإِيمَانُ عَمَلٌ كُلُّهُ وَاَلْقَوْلُ بَعْضُ ذَلِكَ اَلْعَمَلِ بِفَرْضٍ مِنَ اَللَّهِ بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ وَاضِحٍ نُورُهُ ثَابِتَةٍ حُجَّتُهُ يَشْهَدُ لَهُ بِهِ اَلْكِتَابُ وَيَدْعُوهُ إِلَيْهِ، قَالَ قُلْتُ: صِفْهُ لِي جُعِلْتُ فِدَاكَ حَتَّى أَفْهَمَهُ.
قَالَ: اَلْإِيمَانُ حَالاَتٌ، وَدَرَجَاتٌ، وَطَبَقَاتٌ، وَمَنَازِلُ، فَمِنْهُ اَلتَّامُّ اَلْمُنْتَهَى تَمَامُهُ، وَمِنْهُ اَلنَّاقِصُ اَلْبَيِّنُ نُقْصَانُهُ، وَمِنْهُ اَلرَّاجِحُ اَلزَّائِدُ رُجْحَانُهُ. قُلْتُ: إِنَّ اَلْإِيمَانَ لَيَتِمُّ وَيَنْقُصُ وَيَزِيدُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: لِأَنَّ اَللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَرَضَ اَلْإِيمَانَ عَلَى جَوَارِحِ اِبْنِ آدَمَ وَقَسَّمَهُ عَلَيْهَا وَفَرَّقَهُ فِيهَا فَلَيْسَ مِنْ جَوَارِحِهِ جَارِحَةٌ إِلاَّ وَقَدْ وُكِّلَتْ مِنَ اَلْإِيمَانِ بِغَيْرِ مَا وُكِّلَتْ بِهِ أُخْتُهَا فَمِنْهَا قَلْبُهُ اَلَّذِي بِهِ يَعْقِلُ وَيَفْقَهُ وَيَفْهَمُ وَهُوَ أَمِيرُ بَدَنِهِ اَلَّذِي لاَ تَرِدُ اَلْجَوَارِحُ وَلاَ تَصْدُرُ إِلاَّ عَنْ رَأْيِهِ وَأَمْرِهِ…)، إلى أن يقول (ع): (فَأَمَّا مَا فَرَضَ عَلَى اَلْقَلْبِ مِنَ اَلْإِيمَانِ فَالْإِقْرَارُ، وَاَلْمَعْرِفَةُ، وَاَلْعَقْدُ، وَاَلرِّضَا، وَاَلتَّسْلِيمُ بِأَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ إِلَهاً وَاحِداً لَمْ يَتَّخِذْ «صٰاحِبَةً وَلاٰ وَلَداً» وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (ص) وَاَلْإِقْرَارُ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ كِتَابٍ فَذَلِكَ مَا فَرَضَ اَللَّهُ عَلَى اَلْقَلْبِ مِنَ اَلْإِقْرَارِ وَاَلْمَعْرِفَةِ وَهُوَ عَمَلُهُ وَهُوَ قَوْلُ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا)،[4] وقال: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)،[5] وقال: (الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ)،[6] وقال: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ)[7]، فَذَلِكَ مَا فَرَضَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى اَلْقَلْبِ مِنَ اَلْإِقْرَارِ وَاَلْمَعْرِفَةِ وَهُوَ عَمَلُهُ وَهُوَ رَأْسُ اَلْإِيمَانِ).[8]
وعن سلام الجعفي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الإيمان، فقال: (الإِيمَانُ أَنْ يُطَاعَ اللهُ فَلَا يُعصَى)[9]، فالطاعة هي لبُّ الإيمان، والعمل بالأركان هي لوازمه، فإيمان بلا طاعة هذا ليس إيماناً، وطاعة بلا إيمان هي عبادة للهوى والشيطان وستنتهي إلى ما انتهى إليه أصحاب الجباه السود من الطنطنة في الليل رياء وتطاولاً على عباد الله، من خوارج عصر أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي (ع) الذي كان الإيمان كله بنص من رسول الله (ص) في يوم الأحزاب،[10] فعندما رفع عمرو بن العاص المصاحف في معركة صفين جاؤوا إلى أمير المؤمنين وسيوفهم على عواتقهم يأمرونه بوقف الحرب، وعندما وقفت الحرب قالوا له: لقد كفرتَ.[11]
وكذلك حال الخوارج في العصور المتأخرة من أتباع المخذول أحمد بن تيمية، ومدرسته التي أحياها محمد بن عبد الوهاب الشيطان الذي نجم من قرن الشيطان في نجد مسليمة وسجاحه،[12] فكفَّروا الأمة كلها واستباحوا دمها ومالها وعرضها خدمة لأسيادهم من بني صهيون وأشباههم من شذاذ الآفاق من هذه القطعان التكفيرية المجرمة التي عاثت في البلاد والعباد فساداً.
نص الخطبة الصاعق
جاء في الرواية المشهورة: (حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْقَطَّانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الطَّيِّبِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ حُمَيْدٍ اللَّخْمِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُهَلَّبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أُمِّهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْحُسَيْنِ (عليه السَّلام)، قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّتْ عِلَّةُ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) اجْتَمَعَ عِنْدَهَا نِسَاءُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَقُلْنَ لَهَا يَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ كَيْفَ أَصْبَحْتِ مِنْ عِلَّتِكِ؟
فَقَالَتْ: (أَصْبَحْتُ وَاللَّهِ عَائِفَةً (تاركة) لِدُنْيَاكُمْ، قَالِيَةً (مبغضة) لِرِجَالِكُمْ، لَفَظْتُهُمْ (رميتُ بهم) قَبْلَ أَنْ عَجَمْتُهُمْ (مضغتهم)، وَشَنَأْتُهُمْ (أبغضتهم) بَعْدَ أَنْ سَبَرْتُهُمْ (اختبرتهم)، فَقُبْحاً لِفُلُولِ الْحَدِّ (ثلمة حدِّ السيف)، وَخَوَرِ (ضعف) الْقَنَاةِ، وَالَّلعِبِ بَعدَ الجِدّ، وَقَرعِ الصَّفَاةِ (الصخرة)، وَصَدعِ (كسر) القَنَاةِ، وَخَطَلِ الرَّأْيِ (فساده)، وَزَلَلِ الأَهوَاءِ (أخطاؤها وإنحرافها)؛ (لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ)،[13] لَا جَرَمَ لَقَدْ قَلَّدْتُهُمْ رِبْقَتَهَا (حبلها)، وَحَمَّلتُهم أوقتها (ثقلها)، وَشَنَنْتُ عَلَيْهِمْ عَارَهَا فَجَدْعاً، وَرَغمَاً، وَعَقْراً، وَسُحْقاً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
وَيْحَهُمْ أَنَّى زَحْزَحُوهَا عَنْ رَوَاسِي (جبال) الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ، وَمَهْبِطِ الْوَحْيِ الْأَمِينِ، وَالطَّبِينِ (الحاذق الخبير العارف) بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ (أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)،[14] وَمَا نَقَمُوا مِنْ أَبِي حَسَنٍ؟! نَقَمُوا – وَاللَّهِ – مِنْهُ:
وَاللَّهِ لَوْ تَكَافُّوا (كفَّ بعضهم البعض) عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَاعْتَلَقَهُ (أخذه وَعلق به)، وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً (سهلاً ليِّناً)، لَا يَكْلُمُ (يجرح) خِشَاشُهُ، وَلَا يُتَعْتَعُ (يقلق) رَاكِبُهُ، وَلَا يَكِلُّ سَائِرُهُ، وَلَا يَمَلُّ رَاكِبُهُ، وَلَأَوْرَدَهُمْ مَنْهَلًا (مورد الماء) نَمِيراً فَضْفَاضاً تَطْفَحُ ضِفَّتَاهُ، وَلا يَتَرَنَّق (يتعكَّر) جَانِبَاهُ، وَلَأَصْدَرَهُمْ بِطَاناً قَدْ تَخَيَّرَ لَهُمُ الرَّيَ غَيْرَ مُتَحَلٍّ مِنْهُ بِطَائِلٍ إِلَّا بِغَمْرِ الْمَاءِ، وَرَدْعِهِ سَوْرَةَ السَّاغِبِ (الجائع)، وَلَفُتِحَتْ عَلَيْهِمْ بَرَكَاتُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَسَيَأْخُذُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، (ونصح لهم سرّاً وإعلاناً، وَلَمْ يَكُنْ يَحْلَى (يُصيب) مِنَ الغِنَى بِطَائِل (مفيد)، وَلَا يَحظَى مِنَ الدُّنيَا بِنَائِل(عطاء)، غَيرَ رَيِّ النَّاهِل (العاطش)، وَشَبْعَةِ الكَافلِ ِ(المحتاج)، ولَبَانَ لَهُم الزَّاهِدَ مِنَ الرَّاغبِ،ِ وَالصَّادِقَ مِنَ الكَاذِبِ)..
أَلَا هَلُمَّ فَاسْمَعْ وَمَا عِشْتَ أَرَاكَ الدَّهْرُ الْعَجَبَ، وَإِنْ تَعْجَبْ وَقَدْ أَعْجَبَكَ الْحَادِثُ، إِلَى أَيِّ سِنَادٍ اسْتَنَدُوا وَبِأَيَّةِ عُرْوَةٍ تَمَسَّكُوا، اسْتَبْدَلُوا الذُّنَابَى وَاللَّهِ بِالْقَوَادِمِ، وَالْعَجُزَ بِالْكَاهِلِ، فَرَغْماً لِمَعَاطِسِ قَوْمٍ (يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)،[15] (أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِنْ لَا يَشْعُرُونَ)،[16] (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَىٰ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ).[17]
أَمَا لَعَمْرُ إِلَهِكَ لَقَدْ لَقِحَتْ (حملت) فَنَظِرَةٌ (مهلة) رَيْثَمَا تُنْتَجُ (تلد)؛ ثُمَّ احْتَلَبُوا طِلَاعَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً، وَزُعَافاً مُمْقِراً، هُنَالِكَ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ، وَيَعْرِفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أَسَّسَ الْأَوَّلُونَ، ثُمَّ طِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ أَنْفُساً، وَاطْمَئِنُّوا لِلْفِتْنَةِ جَأْشاً، وَأَبْشِرُوا:
يَدَعُ فَيْئَكُمْ زَهِيداً، وَزَرْعَكُمْ حَصِيداً، فَيَا حَسْرَتَى لَكُمْ، وَأَنَّى بِكُمْ، وَقَدْ عُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ (أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ)[18].[19]
قال سويد بن غفلة:[20] فأعادت النساء قولها على رجالهن، فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النساء؛ لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد (البيعة للأول)، ونُحْكِم العقد لما عَدَلنا إلى غيره!
فقالت: إِلَيكُم عِنِّي!، فَلَا عُذْرَ بَعدَ تَعذِيِركُم، وَلَا أَمْرَ بَعْدَ تَقصِيرِكُم).[21]
بلاغة الخطاب وقسوة الكلمات
لك أن تتأمل بهذه الخطبة القصيرة إلا أنها من أبلغ الخطب التي ذُكرت في التاريخ الإسلامي مما جاء على لسان النساء، ولا غرو ولا عجب فهي ابنة رسول الله (ص) أبلغ وأصدق مَنْ نطق وقرينة أمير البلاغة، وفارس الفصاحة والبيان، ابن عمِّها أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) الذي سنَّ الفصاحة لقريش كما شهد له بذلك أعدى أعداءه معاوية بن هند.[22]
فهي البَّضعة النبوية الطاهرة، ولذا عندما كانت تتحدث فكأنها تُفرغ عن لسان أبيها رسول الله (ص)، وإذا مشت فكأنما النبي يمشي، حتى أن الصحابة وكل مَنْ اجتمع في المسجد حين خطبتها الفدكية التي تقول: روى عبد الله بنُ الحسن (عليه السلام) بإسنادِه عن آبائه (عليهم السلام) أنَّه لَمّا أجْمَعَ أبو بكر عَلى مَنْعِ فاطمةَ (عليها السلام) فَدَكَ، وبَلَغَها ذلك، لاثَتْ خِمارَها على رأسِها، واشْتَمَلَتْ بِجِلْبابِها، وأَقْبَلَتْ في لُمَةٍ مِنْ حَفَدتِها ونساءِ قَوْمِها، تَطأ ذُيُولَها، ما تَخْرِمُ مِشْيَتُها مِشْيَةَ رَسولِ الله (صلى الله عليه وآله)، حَتّى دَخَلَتْ عَلى أَبي بَكْر وَهُو في حَشْدٍ مِنَ المهاجِرين والأَنصارِ وَغَيْرِهِمْ فَنيطَتْ دونَها مُلاءَةٌ، فَجَلَسَتْ، ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّةً أَجْهَشَ القومُ لها بِالْبُكاءِ، فَارْتَجَّ الْمَجلِسُ.. ثُمَّ أمْهَلَتْ هَنِيَّةً حَتَّى إذا سَكَنَ نَشيجُ القومِ، وهَدَأَتْ فَوْرَتُهُمْ، افْتَتَحَتِ الْكَلامَ بِحَمدِ اللهِ وَالثناءِ عليه والصلاةِ على رسولِ الله، فعادَ القومُ في بُكائِهِمْ).[23]
آه عليك سيدتي ومولاتي يا فاطمة؛ فنورك من نور القدير، وشخصك من شخص النبي (ص)..
وجسدك من جسده الطاهر فأنت بضعته الطاهرة المطهرة من كل رجس، كما وصفك الذي خلقك من نور ذاته، وأعطاك من قداسته ما قدَّسك، وبراك حين أراد للدنيا نوراً زاهراً، وجعلك نعمة كبرى لهذا الخلق المنكوس، والبشر المتعوس، فما عرفوك حق معرفتك، ولا قدَّروك حق قدرك، بل سعوا بكل جهدهم ومكرهم ودهائهم ليُطفؤوا نورك فباؤوا بالفشل، فلم يقنعوا من أنفسهم الأمارة إلا أن جاؤوا إلى بيتك ليُطفؤوا شُعلة الحياة في جسدك الطاهر المُعَنَّى، وقلبك الكبير الحزين..
ويكفينا أن نقرأ وصف تلك المرأة البدوية أم معبد الخزاعية التي مرَّ بها رسول الله (ص) في طريق هجرته إلى يثرب، وأحدث لها تلك المعجزة، وأراها الآيات، فلما رجع زوجها رآها على غير عادتها، ولديها من الحليب الطازج، فسألها ثم طلب منها قائلاً: صِفيه لي يا أم معبد.
قالت: “رأيتُ رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة (بطن)، ولم تزر به صلعة، وسيم، قسيم، في عينيه دَعَجٌ (شدَّة سواد العين)، وفي أشفاره وَطَفٌ (طول)، وفي صوته صَحَلٌ – أو قالت صَهَلٌ – (بحة خفيفة محببة)، وفي عنقه سَطَعٌ (طول)، وفي لحيته كثاثة، أزجٌّ أقرنٌ، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأحلاه من قريب، حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدَّرن، ربعة لا تشنؤه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر..)[24]
هذا وصف امرأة رأت رسول الله (ص) مرَّة، ثم تركها ومضى، فلك أن تتصور بضعته فاطمة الزهراء (ع) مع أنوثتها، وشبابها، ونعومتها، ونضارتها، ودلالها، ورفاهها، وربما كان في صوتها ذلك الصَّحَل (أو الصَّهَل) كصوت أبيها الرَّسول (ص) ولذا أجهش القوم بالبكاء، وارتفعت أصواتهم بالنحيب، ولذا أمهلتهم طويلاً كما يصف ابن أبي الحديد في شرحه.[25]
فذكَّرتهم برسول الله (ص) بكل ما فيه شخصاً وشاخصاً، صوتاً بحَّة، بلاغاً وبلاغةً، ولكن هل وصلت إلى نتيجة كما لو كان رسول الله (ص) بينهم، أو أنها بلَّغت ونصحت وأبانت وأوضحت ولكن القوم كانوا كبني إسرائيل تماماً الذي وصفهم الباري تعالى بقوله: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)[26]، عرفوا مَنْ هي فاطمة، وعرفوا مكانها، ومكانتها في الدِّين والدُّنيا ولكن جحدوا بكل ما عرفوا، فظلموها لحقوقها، وظلموا أنفسهم إذ أضاعوا كل تعبهم، وجهدهم، وجهادهم المرير ضد طغاة قريش، وبُغاة المشركين، وخاضوا أكثر من ثمانين غزوة وسرية وسلَّموها لقريش على طبق من ذهب، فوصلت إلى أبناء الشجرة الملعونة في القرآن من صبيان بني أمية، فأذاقوهم الأمرَّين لا سيما في امتهان وإذلال معاوية بن هند لهم، لا سيما الأنصار، ثم وقعة الحرَّة التي قتل فيها جيش يزيد عشرة آلاف منهم ثم فضح نساءهم، وبناتهم، فولدت ألف بنت باكر نغول لا يُعرف آباؤهم، كما في التاريخ.
الأنصار الذين أصابتهم اللعنة، والسَّخط لأنهم تقاعسوا عن نصرة الحق العلوي، ولم يستجيبوا للصرخة الفاطمية التي خصَّتهم بها فقالت: (أيْهاً بَنِي قَيْلَةَ! أَ أُهْضَمُ تُراثَ أبِيَهْ وَأنْتُمْ بِمَرْأى مِنّي وَمَسْمَعٍ، ومُبْتَدأٍ وَمَجْمَعٍ؟! تَلْبَسُكُمُ الدَّعْوَةُ، وتَشْمُلُكُمُ الْخَبْرَةُ، وَأنْتُمْ ذَوُو الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَالأَداةِ وَالْقُوَّةِ، وَعِنْدَكُمُ السِّلاحُ وَالْجُنَّةُ؛ تُوافيكُمُ الدَّعْوَةُ فَلا تُجِيبُونَ، وَتَأْتيكُمُ الصَّرْخَةُ فَلا تُغيثُونَ)،[27]
فمن بلاغة ندائها في خطبتها الفدكية أنها نادت – روحي فداها – الناس أولاً، ثم المسلمين ثانياً، ثم خصَّت الأنصار جميعاً ونادتهم بأمهم (قيلة) لعلَّهم يستجيبون، ومدحتهم، وذكَّرتهم بأنهم أصحاب العدد والعُدَّة، وأنهم بأسيافهم قام الإسلام مع قادتهم من أهل البيت (ع) الذين حاربوا العرب حتى دانت للحق، حين قالت (ع): (قاتَلْتُمُ الْعَرَبَ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ، وَناطَحْتُمُ الأُمَمَ، وَكافَحْتُمً الْبُهَمَ، فَلا نَبْرَحُ أو تَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُمْ فَتَأْتَمِرُونَ حَتَّى دَارَتْ بِنا رَحَى الإْسْلامِ، وَدَرَّ حَلَبُ الأَيّامِ، وَخَضَعَتْ نُعَرَةُ الشِّرْكِ، وَسَكَنَتْ فَوْرَةُ الإْفْكِ، وَخَمَدَتْ نيرانُ الْكُفْرِ، وهَدَأتْ دَعْوَةُ الْهَرْجِ، وَاسْتَوْسَقَ نِظامُ الدِّينِ)؛ ورغم كل هذا المديح والإطراء لهم لم يتحرَّكوا لنُصرتها، ولم يستجيبوا لدعوتها، بل أرسلوا نساءهم لاسترضائها، لعلمهم اليقيني بأن (رضا الله من رضاها، وسخطه من سخطها)[28]، فلقد سمعوا ذلك من رسول الله (ص) وربما مراراً كثيرة، وعرفوا أنها غاضبة عليهم ساخطة على تقاعسهم عنها، لا سيما بعد أن سمعوا ما جرى بينها وبين القوم الذين تصدوا لغصب حقها عندما استأذنا أمير المؤمنين (ع) بزيارتها حيث أبت أن تستقبلها، ولما دخلا البيت أدارت وجهها إلى الحائط ولم ترد عليهما السلام وإليك الصورة كاملة لتعرف كم كانت غاضبة على القوم، وكم هي ساخطة عليهما..
غضب فاطمة غضب الرَّب سبحانه
تقول رواية الدينوري في الإمامة والسياسة: (فقال عمر لأبي بكر، انطلق بنا إلى فاطمة، فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا علياً فكلماه، فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها، حوَّلت وجهها إلى الحائط، فسلما عليها، فلم ترد عليهما السلام، فتكلم أبو بكر فقال: “يا حبيبة رسول الله والله إن قرابة رسول الله أحب إلى من قرابتي، وإنك لاحب إلي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني مت، ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله إلا أني سمعت أباك رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (لا نورث، ما تركنا فهو صدقة).
فقالت: أ رأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تعرفانه وتفعلان به؟
قالا: نعم؛ فقالت: (نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: (رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمَنْ أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومَنْ أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومَنْ أسخط فاطمة فقد أسخطني)؟ قالا: نعم سمعناه من رسول الله (صلى الله عليه وآله).
قالت: (فإني أُشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيتُ النبي لأشكونكما إليه)، فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب أبو بكر يبكي، حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول: (والله لأدعونَّ الله عليك في كل صلاة أصليها)، (الله أكبر أي جناية فعلاها حتى وصل بمعدن الرحمة إلى هذا الحدِّ من الغضب؟)
ثم خرج باكياً فاجتمع إليه الناس، فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته، مسروراً بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي (فلست بخيركم وعليٌّ فيكم).
قالوا: يا خليفة رسول الله، إن هذا الأمر لا يستقيم، وأنت أعلمنا بذلك، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين، فقال: والله لو لا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولى في عنق مسلم بيعة، بعدما سمعت ورأيت من فاطمة)[29].
والله لا ينقضي عجبي من هذا الذي يعرف الحق ويُقرُّ به، يسمع سخط ودعاء سيدة النساء عليه في كل صلاة تُصليها، فيخرج ويعترف لهم بخطئه ويطلب منهم أن يُقيلوه بيعته، أو من أولئك الذين يرون خليفتهم يعترف بأنه ليس بخيرهم، وأن سيدتهم وبنت نبيهم فاطمة الزهراء (ع) ساخطة غاضبة عليه، فيقبل منهم نفاقهم، ويقبلون منه كذبه، فمَنْ كان يضحك على الآخر منهم لستُ أدري فعلاً؟!
صرخة في الغافلين
هنا النكتة اللطيفة والتي يجب أن نتوجه إليها في موقف سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) في خطبتها هذه التي جاءت عفو الخاطر حين جاءها نساء المهاجرين والأنصار وهي على فراش المرض الذي قُبضت فيه، ولم تقم منه بل إلتحقت بأبيها مضروبة المتن، مكسورة الضلع، ملطومة الخد، مسقطة الجنين، مكلومة (مجروحة) القلب، محزونة مما جرى عليها في أمتها.
وأتعجب هنا من السيد المحقق كاظم القزويني (رحمه الله) من قوله: ” لا نعلم – بالضبط – السبب الحقيقي والدافع الأصلي الذي دعا بنساء المهاجرين والأنصار لعيادة السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فهل كان هذا بإيعاز من رجالهن فما الذي دعا أولئك الرجال لإرسال نسائهن إلى دار السيدة فاطمة؟
أو هل حصل الوعي عند النساء وشعرن بالتقصير بل الخذلان لبنت رسول الله، فانتشر هذا الشعور بين النساء فأنتج ذلك حضورهن للعيادة للمجاملة أو إرضاء لضمائرهن المتألمة لما حدث وجرى على سيدة النساء؟
أو كانت هناك أسباب سياسية فرضت عليهن ذلك فحضرن لتلطيف الجو وتخفيف توتر العلاقات بين السيدة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبين السلطة الحاكمة في ذلك اليوم؟
خاصة وأن الموقف الاعتزالي الذي اختارته السيدة فاطمة لنفسها، وانسحابها عن ذلك المجتمع لم يكن خالياً عن التأثير، بل كان جالباً لانتباه الناس، وبالأخص حين حمل الإمام أمير المؤمنين السيدة فاطمة يطوف بها على بيوت المهاجرين والأنصار تستنجد بهم وتستنهضهم فلم تجد منهم الإسعاف بل وجدت منهم التخاذل، وقد مرّت عليك نتيجة الحوار الذي جرى بين السيدة فاطمة الزهراء وبين معاذ بن جبل، وعرفت موقف ابنه من ذلك الرد السيئ.
وعلى كل تقدير فلا يعلم – أيضاً – عدد النساء اللاتي حضرن عند السيدة فاطمة الزهراء وهي طريحة الفراش، ولكن المستفاد أن العدد لم يكن قليلاً بل كان العدد كثيراً يعبأ به.
فانتهزت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) الفرصة، واستغلّت اجتماع النساء عندها لأن تضع النقاط على الحروف، وتكتب في سجل التاريخ الأعمال البشعة التي قام بها بعض المسلمين تجاه عترة نبيهم وذريته الطاهرة”.[30]
هل هو سؤال جدي أو سؤال العارف بالأسباب الحقيقية التي دفعت بالنساء لزيارة السيدة فاطمة الزهراء (ع) في تلك الظروف الحرجة التي وصلوا إليها من السلطة القرشية الواثبة على حق أهل البيت (ع) وسيدهم وقائدهم أمير المؤمنين الإمام علي (ع) وزوجته فاطمة (ع) التي واجهت السلطة بكل قوة وجرأة لأنها صاحبة الحق المغتصب والإرث النبوي المصادر؟
فالدوافع واضحة بما يُعدده سماحته بعدة نقاط ولكن الأهم من ذلك كله أرادت – روحي فداها – أن تصرخ في وجوههن ليصحوا من غفلتهن، ويصرخن في وجوه رجالهن، لأن الدائرة ستدور عليهم ثم عليهن، لأنهن الأضعف والأشرف، وهذا الذي جرى في وقعة الحرَّة حيث قُتل الرجال وفضحت النساء، ولكن هل أفاق النائمون، أو انتبه الغافلون، أو قام المجاهدون؟
فهي صرخة عالية في الغافلين من أهل هذا الدِّين الحنيف، والرسالة العظيمة وجَّهتها سيدتنا فاطمة الزهراء (ع) تُحذِّرُنا من السُّكوت للباطل، والرُّكون لدولة الجَّور، والمداهنة للحاكم الظالم، لأن ذلك خروج عن دائرة الحق والعدل وسينال البلاء كل المجتمع إذا ما فعلوا ذلك..
فهي صرخة حق، وعدل، وقسط، ومساواة، صرختها سيدة النساء بوجوه النِّساء بعد أن أقامت الحجة على الرِّجال وصرخت بوجوههم، وبوجه الحاكم الظالم، والمتسلط الجائر، في مسجد أبيها رسول الأمة ومؤسس الحكم على العدل وناشر القسط فيها، حيث جعل المسجد مقراً للحكومة العادلة ومنطلقاً لبسط القسط في المجتمع، وليعرفوا حق المسجد، وواجبهم تجاه النبي القائد (ص) ووصيه أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي (ع) الذي بايعوه جميعاً في غدير خم.
فصرخت؛ وا علياه، وا إمامتاه
فالصرخة القوية التي نادت بها سيدة النساء (ع) كأنها صرخت بالمهاجرين، والأنصار، والتاريخ، والأجيال، والإنسانية بأعلى صوتها المبحوح: وا علياه، وا إمامتاه، وا حقاه، وا مظلوماه، وا إسلاماه، وا إيماناه، وا قرآناه، وا فقهاه، وا أحكاماه، وا حلالاه، وا حراماه، وا دنياه، وا أُخراه.
ألم تُسمع صرختها بوجوه النساء حين قالت (ع): (وَيْحَهُمْ أَنَّى زَحْزَحُوهَا عَنْ رَوَاسِي الرِّسَالَةِ، وَقَوَاعِدِ النُّبُوَّةِ، وَمَهْبِطِ الْوَحْيِ الْأَمِينِ، وَالطَّبِينِ بِأَمْرِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ (أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) وَمَا نَقَمُوا مِنْ أَبِي حَسَنٍ؟)، ما الذي نقمتموه من سيدكم ومولاكم وإمامكم أيها المسلمون، وهو الذي أرسى فيكم الدِّين والعقيدة إن كنتم مسلمين، فهو كالجبال الرَّاسية التي تُثبت الأرض من أن تمور وتهتز وتضطَّرب فيَهلك مَنْ عليها، فكل شيء بلا قاعدة، لا يبقى ولا يرسخ في هذه الحياة.
وأهل البيت الأطهار (ع) هم قواعد الرِّسالة، وأساسات الدِّين، وفي بيوتهم كان مهبط رسول الوحي جبرائيل (ع)، فعن ابن عمر، قال: (كَانَ عَلَى الحَسَنِ وَالحُسَين (عَليهِمَا السَّلام) تَعوِيذَانِ حَشوَهُمَا مِنْ زَغَبِ جَنَاحِ جِبرَائِيل (عليه السلام)[31]، ويروي ابن سنان، عن رجل من أهل الكوفة أن الحسن بن علي (عليهما السلام) كلَّم رجلاً فقال: من أي بلد أنت؟ قال: من الكوفة قال: لو كنتَ بالمدينة لأريتك منازل جبرئيل (عليه السلام) من ديارنا)[32].
وعن الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) قال: يا حسين بيوتنا مهبط الملائكة، ومنزل الوحي، وضرب بيده إلى مساور (مخدات) في البيت، فقال: يا حسين، مساور واللّه طال ما إتّكت عليها الملائكة، وربّما التقطنا من زغبها).[33]
ويروي الأصبغ بن نباته قال: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فَجَاءَهُ اِبْنُ اَلْكَوَّاءِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اَللَّهِ تَعَالَى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[34]
فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ: نَحْنُ اَلْبُيُوتُ اَلَّتِي أَمَرَ اَللَّهُ أَنْ يُؤْتَى [تُؤْتَى] مِنْ أَبْوَابِهَا، وَنَحْنُ بَابُ اَللَّهِ وَبَيْتُهُ [وَبُيُوتُهُ] اَلَّذِي [اَلَّتِي] يُؤْتَى مِنْهُ، فَمَنْ يأتينا[يَأْتِنَا]، وَآمَنَ بِوَلاَيَتِنَا فَقَدْ أَتَى اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا، وَمَنْ خَالَفَنَا، وَفَضَّلَ عَلَيْنَا غَيْرَنَا، فَقَدْ أَتَى اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا.
فَقَالَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ؛ (وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ).[35]
فقال علي (عليه السلام): نَحْنُ اَلْأَعْرَافُ؛ نَعْرِفُ أَنْصَارَنَا بِأَسْمَائِهِمْ، وَنَحْنُ اَلْأَعْرَافُ اَلَّذِينَ لاَ يُعْرَفُ اَللَّهُ إِلاَّ بِسَبِيلِ مَعْرِفَتِنَا، وَنَحْنُ اَلْأَعْرَافُ نُوقَفُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ بَيْنَ اَلْجَنَّةِ وَاَلنَّارِ فَلاَ يَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَنَا وَعَرَفْنَاهُ، وَلاَ يَدْخُلُ اَلنَّارَ إِلاَّ مَنْ أَنْكَرَنَا وَأَنْكَرْنَاهُ، رِزْقٌ مِنَ اَللَّهِ لَوْ شَاءَ عَرَّفَ اَلنَّاسَ نَفْسَهُ حَتَّى يَعْرِفُوا حَدَّهُ، وَيَأْتُوهُ مِنْ بَابِهِ، وَلَكِنَّا جُعِلْنَا أَبْوَابَهُ وَصِرَاطَهُ وَسَبِيلهُ وَبَابَهُ اَلَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ قَالَ: فَمَنْ عَدَلَ عَنْ وَلاَيَتِنَا وَفَضَّلَ عَلَيْنَا غَيْرَنَا فَإِنَّهُمْ (عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ)[36] فَلاَ سَوَاءٌ مَا اِعْتَصَمَ بِهِ اَلْمُعْتَصِمُونُ، وَلاَ سَوَاءٌ مَا اِعْتَصَمَ بِهِ اَلنَّاسُ، وَلاَ سَوَاءٌ حَيْثُ ذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ فَإِنَّمَا ذَهَبَ اَلنَّاسُ إِلَى عُيُونٍ كَدِرَةٍ يَفْرُغُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَذَهَبَ مَنْ ذَهَبَ إِلَيْنَا إِلَى عُيُونٍ صَافِيَةٍ تَجْرِي عَلَيْهِمْ بِإِذْنِ اَللَّهِ تَعَالَى لاَ اِنْقِطَاعَ لَهَا وَلاَ نَفَادَ).[37]
فالحق والصدق بأهل البيت (ع) ولا ينتقصهم أحد إلا انتقص الحق، وانتقص نفسه، وعقله، ودينه، قال الإمام الحسن المجتبى (ع) لأهل الكوفة في حياة والده (ع): (أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّ اَللَّهَ اِخْتَارَنَا لِنَفْسِهِ، وَاِرْتَضَانَا لِدِينِهِ، وَإِصْطَفَانَا عَلَى خَلْقِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابَهُ، وَوَحْيَهُ، وَأَيْمُ اَللَّهِ لاَ يَنْقُصُنَا أَحَدٌ مِنْ حَقِّنَا شَيْئاً إِلاَّ اِنْتَقَصَهُ اَللَّهُ مِنْ حَقِّهِ، فِي عَاجِلِ دُنْيَاهُ، وَآخِرَتِهِ، وَلاَ يَكُونُ عَلَيْنَا دَوْلَةٌ إِلاَّ كَانَتْ لَنَا اَلْعَاقِبَةُ).[38]
وفي الرواية النبوية الشريفة؛ قَالَ رسول الله (صلى الله عليه وآله): (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ مُسْلِماً).. فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْإِسْلَامُ؟ فَقَالَ: (الْإِسْلَامُ عُرْيَانٌ، وَلِبَاسُهُ التَّقْوَى، وَشِعَارُهُ الْهُدَى، وَدِثَارُهُ الْحَيَاءُ، وَمِلَاكُهُ الْوَرَعُ، وَكَمَالُهُ الدِّينُ، وَثَمَرَتُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ.. وَلِكُلِّ شَيءٍ أَسَاسٌ، وَأَسَاسُ الْإِسْلَامِ حُبُّنَا أَهْلَ الْبَيْتِ).[39]
فأساس الدِّين الإسلامي حب أهل البيت الأطهار (ع)، فما حال أولئك الأنصار الذين نقضوا أساس الدِّين الذي حاربوا العرب والعجم، والأسود والأحمر لترسيخه في مدينتهم المباركة، والعجيب أنهم فعلوا ذلك لصالح رجال قريش التي حاربوها طيلة العقد النبوي، وبأشدِّ وأشرس الحروب الثلاثة التي خاضها رسول الله (ص) ضد القرشيين وقتلوا منهم خيرة رجالهم، فكيف رضوا بأن يكونوا أذناباً بعد أن جعلهم رسول الله (ص) رؤوساً وقوادم؟
ما الذي فعله أبو الحسن علي (ع)؟
ثم تتوجه إليهنَّ بكل غضبها، وسخطها، ومرضها، وعتابها، ولومها على المهاجرين والأنصار فقالت مستنكرة، وهي العارفة، ولذا سألت، ثم أجابت بأبلغ الكلمات، وأجمل العبارات، فبلَّغت الرِّسالة التي أرادت، وفعلت كلماتها فعلها بأولئك النسوة اللائي أتين إليها ليسترضينها، ويطيِّبن خاطرها لعلَّها ترضى عنهنَّ وعن رجالهن أيضاً، فاسمعها حيث قالت (ع): (وَمَا نَقَمُوا مِنْ أَبِي حَسَنٍ؟!)، هل فعل أمير المؤمنين (ع) طيلة حياته التي عاشها بينهم، قبل الرِّسالة وبعدها، ما يستأهل منهم النَّقمة، أو أنه كان أطهر من ماء السماء، وأحيى من مخدرات الخِباء، وأقوى من الجبال عند مقارعة الرجال، فهل وجدوا منه خطلة، أو ذلة، أو هفوة، أو سقطة – لا سمح الله – في القول أو العمل طيلة هذه السنوات التي عاشها بينهم ومعهم، وهي بعمر السيد المسيح (ع)؟
نعم؛ لقد نقموا وأنكروا منه أشياء خمسة عدَّدتها سيِّدة النِّساء (ع) مقسمة باليَمين المؤكَّد أن هذا هو الذي نقموه من أبي الحسن علي (ع)، حيث قالت (ع): (نَقَمُوا – وَاللَّهِ – مِنْهُ:
هذه الأمور الخمسة التي أنكروها على الإمام علي (ع) هي التي بَنَت الإسلام بينهم، ورسَّخته في مجتمعهم، ومدينتهم، فالرسول الأعظم (ص) قال: (مَا قَامَ وَلَا استَقَامَ دِينِي إِلا بِشَيئَين: مَالُ خَدِيجَة (في مكة)، وَسَيفُ عَلِيّ بنَ أَبِي طَالِب (في المدينة))[40]، والإمام الحسن (ع) قال: (اِسْتَوَى اَلْإِسْلاَمُ بِسَيْفِ عَلِيٍّ (عليه السلام)[41]، فلولا نكير سيفه، وقوة بطشته في الحروب والغزوات التي خاضوها لما صمد الإسلام ولا قام عوده أبداً، ولا استقام في الأنام، فهو فتى الإسلام الذي لا فتى إلا هو كما كان يُنادي جبرائيل (ع) بين السَّماء والأرض في بدر وأحد:
لا فتى إلا علي *** ولا سيف إلا ذو الفقار
وليس جبرائيل (ع) فقط بل في يوم خيبر: إن الملائكة تنادي في صوامع جوامع السماوات: (لا فتى إلا علي، لا سيف إلا ذو الفقار)[42]، فجبرائيل الرُّوح الأمين على وحي الله يَمدح، ويُثني، ويُنادي في السماوات والأراضين: (لا فتى إلا علي)، ويأتيك ذاك القرشي ليقول: ما أصنع بكم إن كانت قريش لا تحبّكم! وقد قتلتم منهم يوم بدرٍ سبعين، كأنّ وجوههم شنوف الذهب، تشرب آنُفُهم قبل شِفاههم!)[43]، دلالة على التكبُّر والتجبُّر من أولئك الطغاة الذين قتلهم سيف أمير المؤمنين علي (ع) في يوم بدر، وكذلك رجال بني عبد الدار التسعة يوم أحد، وعمرو بن عبد ود العامري يوم الأحزاب، ومرحب وأخاه وابنه يوم خيبر، وأبو جرول يوم حُنين حين هربوا جميعاً.
أو يأتيك صاحبه الذي نصبه في مكانه بالحيلة والمكر والخديعة التي سمُّوها شورى سداسية، ليقول لعبد الله بن عباس معترفاً بأنه منع رسول الله (ص) من كتابة الوصية لأمير المؤمنين (ع) في آخر أيام حياته في يوم الرزية التي أبكت ابن عباس طويلاً، حيث يقول: (ولقد أراد (صلى اللّه عليه وآله) في مرضه أن يُصرّح باسمه، فمنعتُ من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام.. لا وربّ هذه البُنيّة (الكعبة) لا تجتمع عليه قريش أبداً، ولو وليَّها لانتقضت عليه العرب مِن أقطارها، فعلم رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) أنّي علمت ما في نفسه فأمسك!).[44]
ولك أن تتصوَّر هذا التَّبرير، والتَّزوير للحقائق، وليت سائل يسأله: ومتى رضيت قريش بالإسلام، وبرسوله الأكرم (ص)، وبأمير المؤمنين علي (ع)، وبالتوحيد أصلاً وفرعاً؟ وهل دخلت قريش في الدِّين إلا مرغمة صاغرة بسيف علي (ع) الذي قهرها حتى قالت: لا إله إلا الله؟، فلو أن الأمر والدِّين والإسلام بيد قريش لدفنتهم جميعاً قبل عقود من الزمن، وكما حاول معاوية وبني أمية أن يدفنوه حتى بعد أن وصلوا إلى السُّلطة والحكم لأنهم ما آمنوا ولكن استسلموا وأضمروا الكفر.
وكم كان يشكوا أمير المؤمنين (ع) من قريش الظَّالمة، فقد قال عنها: (أللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ (أستعين بك) عَلَى قُرَيْش، فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَأَكْفَأُوا إِنَائِي (قلبوه)، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي، وَقَالُوا: أَلاَ إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ، وَفِي الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ، فَاصْبِرْ مَغْمُوماً، أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً، فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ (معين)، وَلاَ ذَابٌّ (مدافع) وَلاَ مُسَاعِدٌ، إِلاَّ أَهْلَ بَيْتِي، فَضَنِنْتُ (بخلتُ) بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ (الموت)، فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذى (ما يقع في العين)، وَجَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا (ما يعترض في الحلق)، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الغَيْظِ عَلى أَمَرَّ مِنَ العَلْقَمِ، وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ خَزِّ الشِّفَارِ(جمع شفرة للسيف أو السكين)).[45]
فكم كانت معاناة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) سيد قريش وبيضة البلد، وشرفها، وفخرها، وفتى العروبة والإسلام من أولئك القرشيين الفظاظ الغلاظ، الذين وصلوا إلى ما وصلوا إليه بسيفه، وجهاده، وراحوا يُحاسبونه ويُخاصمونه على قتاله ونضاله، بعد أن أقصوه عن كل الحياة السياسية والاجتماعية لهم إلا عندما تقرصهم الحقائق، وتنقصهم الوقائع، فيأتوا إليه مذعنين، طالبين منه أن يدافع عن الدِّين القويم لأنهم جهَّال فيه، وهو الخبير النطاسي (الطَّبين) في شؤون الدُّنيا والدِّين كما قالت سيدة نساء العالمين (ع).
فهم يعلمون علم اليقين أن أعلمهم، وأقضاهم، وأحكمهم، وأفقههم، وأفرضهم علي (ع) كما قال عنه رسول الله (ص)، وهو كالكعبة المشرَّفة بينهم، قال رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله): (مثل عليّ فيكم – أو قال: في هذه الأُمّة – كمثل الكعبة المستورة، النظر إليها عبادة، والحجّ إليها فريضة).[46]
وعنه (صلى اللّه عليه وآله) لعليّ(عليه السلام): (أنت بمنزلة الكعبة تُؤتى ولا تأتي، فإن أتاك هؤلاء القوم فسلّموها إليك – يعني الخلافة – فاقبل منهم، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتى يأتوك).[47]
وقد أخبره رسول الله (ص) بمكرهم، وغدرهم، وانقلابهم على أعقابهم، قال (ص): (يا علي، مثلك في الأمة مثل الكعبة، نصبها الله للناس عَلَمَاً، وإنما تُؤتى من كل فجٍّ عميق، ونأي سحيق، ولا تأتي، وإنما أنتَ علمُ الهدى، ونور الدِّين، وهو نور الله يا أخي؛ والذي بعثني بالحق لقد قدَّمتُ إليهم بالوعيد بعد أن أخبرتهم رجلاً رجلاً ما افترض الله عليهم من حقك، وألزمهم من طاعتك، وكلٌّ أجاب وسلَّم إليك الأمر (الخلافة)، وإني لأعلم خلاف قولهم، فإذا قُبضتُ وفرغتَ من جميع ما أوصيتُك به، وغيَّبتني في قبري فالزم بيتك، واجمع القرآن على تأليفه، والفرائض والأحكام على تنزيله، ثم امضِ على غير لائمة على ما أمرتك به، وعليك بالصبر على ما ينزل به وبها حتى تقدموا عليَّ).[48]
ويؤيِّد ذلك كله ما رواه الحكم بن مروان أن عمر بن الخطاب نزلت قضية في زمان خلافته فقام لها وقعد وأرتج (أغلق) لها ونظر من حوله فقال: معاشر الناس والمهاجرين والأنصار ما تقولون في هذا الأمر؟ فقالوا: أنت أمير (المواطنين) وخليفة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والأمر بيدك، فغضب من ذلك، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)،[49] ثم قال: والله لنعلمنَّ مَنْ صاحبها ومَنْ هو أعلم بها، فقالوا: يا أمير (المواطنين) كأنك أردتَ ابن أبي طالب؟
قال: أنَّى نعدلُ عنه وهل لقحت حرَّة بمثله؟ قالوا: نأتِ به يا أمير (المواطنين)؟ قال: هيهات؛ هناك شيخ من هاشم، ونسب من رسول الله (صلى الله عليه واله) ولا يأتي، فقوموا بنا إليه.
قال: فقام عمر ومَنْ معه، (فوجدوه) وهو (يقرأ القرآن) ويقول: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى)[50]، ودموعه تجري على خدَّيه قال: فأخمش (خدش) (وربما أجهش)، القوم لبكائه، ثم سكت فسكتوا، وسأله عمر عن مسألته فأصدر لها جواباً، فقال: أم والله يا أبا الحسن لقد أرادك الله للحق ولكن أبى قومك!
فقال له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): (يا أبا حفص عليك من هنا ومن هنا (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا)[51]، قال: فضرب عمر بإحدى يديه على الأخرى وخرج مربد اللون (متغيِّر) كأنما ينظر في سواد).[52]
وفي رواية عجيبة عَنِ اَلْقَاضِي اَلْكَبِيرِ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ اَلْمَغَازِلِيِّ – يَرْفَعُهُ – إِلَى حَارِثَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: شَهِدْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ اَلْخَطَّابِ حِجَّتَهُ فِي خِلاَفَتِهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: (اَللَّهُمَّ قَدْ تَعْلَمُ جِيئَتِي لِبَيْتِكَ وَكُنْتُ مُطَّلِعاً مِنْ سِتْرِكَ) فَلَمَّا رَآنِي (أَمْسَكَ) فَحَفِظْتُ اَلْكَلاَمَ فَلَمَّا اِنْقَضَى اَلْحَجُّ، وَاِنْصَرَفْتُ إِلَى اَلْمَدِينَةِ، تَعَمَّدْتُ اَلْخَلْوَةَ مَعَهُ، فَرَأَيْتُهُ يَوْماً عَلَى رَاحِلَتِهِ وَحْدَهُ.
فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ، بِالَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ إِلاَّ أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ. فَقَالَ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ، (فَقُلْتُ لَهُ): سَمِعْتُكَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا تَقُولُ: كَذَا وَكَذَا، فَكَأَنَّنِي أَلْقَمْتُهُ حَجَراً فَقُلْتُ لَهُ: لاَ تَغْضَبْ فَوَ اَلَّذِي أَنْقَذَنِي مِنَ اَلضَّلاَلَةِ وَأَدْخَلَنِي فِي هِدَايَةِ اَلْإِسْلاَمِ، مَا أَرَدْتُ بِسُؤَالِي إِلاَّ (وَجْهَ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
فَعِنْدَ ذَلِكَ ضَحِكَ وَقَالَ: يَا حَارِثَةُ دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): وَقَدِ اِشْتَدَّ وَجَعُهُ، وَأَحْبَبْتُ اَلْخَلْوَةَ عِنْدَهُ، وَكَانَ عِنْدَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) وَاَلْفَضْلُ بْنُ اَلْعَبَّاسِ، فَجَلَسْتُ حَتَّى نَهَضَ اَلْفَضْلُ بْنُ اَلْعَبَّاسِ، وَبَقِيتُ أَنَا وَعَلِيٌّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)، فَبَيَّنْتُ لِرَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مَا أَرَدْتُ (فَالْتَفَتَ إِلَيَّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ)، وَقَالَ: (يَا عُمَرُ، جِئْتَ لِتَسْأَلَنِي إِلَى مَنْ يَصِيرُ هَذَا اَلْأَمْرُ (مِنْ) بَعْدِي؟)
فَقُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، فَقَالَ: (يَا عُمَرُ، هَذَا عَلِيٌّ وَصِيِّي وَخَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي).
(فَقُلْتُ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (هَذَا خَازِنُ سِرِّي فَمَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَاهُ فَقَدْ عَصَانِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اَللَّهَ، وَمَنْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَقَدْ كَذَّبَ بِنُبُوَّتِي).
ثُمَّ أَدْنَاهُ وَقَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: اَللَّهُ وَلِيُّكَ، اَللَّهُ نَاصِرُكَ، وَالَى اَللَّهُ مَنْ وَالاَكَ، وَعَادَى اَللَّهُ مَنْ عَادَاكَ، وَأَنْتَ وَصِيِّي وَخَلِيفَتِي فِي أُمَّتِي، وَأَعْلَى بُكَاءَهُ، وَاِنْهَمَلَتْ عَيْنَاهُ بِالدُّمُوعِ حَتَّى سَالَتْ عَلَى خَدَّيْهِ، وَخَدُّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) (عَلَى خَدِّهِ).
فَوَ اَلَّذِي مَنَّ عَلَيَّ بِالْإِسْلاَمِ لَقَدْ تَمَنَّيْتُ فِي تِلْكَ اَلسَّاعَةِ أَنْ أَكُونَ مَحَلَّ عَلِيٍّ، ثُمَّ اِلْتَفَتَ (إِلَيَّ) وَقَالَ: (يَا عُمَرُ، إِذَا نَكَثَ اَلنَّاكِثُونَ، وَأَقْسَطَ اَلْقَاسِطُونَ، وَمَرَقَ اَلْمَارِقُونَ، قَامَ هَذَا مَقَامِي حَتَّى يَفْتَحَ اَللَّهُ عَلَيْهِ بِخَيْرٍ، وَهُوَ خَيْرُ اَلْفَاتِحِينَ)، قَالَ حَارِثَةُ: فَتَعَاظَمَنِي (كَبُر عليَّ) ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ، فَقُلْتُ: وَيْحَكَ يَا عُمَرُ، وَكَيْفَ تَقَدَّمْتُمُوهُ وَقَدْ (سَمِعْتَ) ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ؟!
فَقَالَ: يَا حَارِثَةُ، أَمْراً كَانَ، قُلْتُ لَهُ: أَمْرٌ مِنَ اَللَّهِ، أَمْ مِنْ رَسُولِ اَللَّهِ، أَمْ مِنْ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)؟ فَقَالَ: لاَ، بَلِ اَلْمُلْكُ عَقِيمٌ؟! وَاَلْحَقُّ؟! لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ)).[53]
هذا هو مرُّ الحق، ولكن الحق مرٌّ إلا على مَنْ امتحن الله قلبه للإيمان، والإيمان كله هو شخص أمير المؤمنين الإمام علي (ع) كما قال رسول الله (ص) في يوم الخندق حين برز إلى فارس يَليل، عمرو بن عبد ودِّ العامري الذي كان يُعدُّ بألف، ونادى بهم رسول الله (ص) وندبهم وشجعهم على قتاله وهو يضمن لهم على الله الجنة، ولكن القوم كأنَّ على رؤوسهم الطَّير إلا أصغرهم سناً، فتى الفتيان علي بن أبي طالب (ع) في كل مرة يُجيب صوت رسول الله (ص) ونداءه: (أنا يا رسول الله)، فعمَّمه بعمامته، وأعطاه سيفه، وشيَّعه وهو يضرع إلى الله بحفظه.
ومن كلماته (ص) التي حفظها التاريخ يومها: (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه)[54]، و(لَمبارزةُ عليّ بن أبي طالب لعمرو بن عبد ودّ يوم الخندق أفضل من أعمال أُمّتي إلى يوم القيامة)[55]، و(لَضربةُ عليّ لعمروٍ يوم الخندق تعدلُ عبادة الثقلين)[56]، هذا فقط موقف وضربة واحدة من أمير المؤمنين (ع) تعدل عمل الثقلين من الإنس والجن إلى قيام يوم الدِّين، ويتحدَّثون عن فضائل رجال قريش الذين ليس لهم في الفضل ذكر، ولا في الخير شكر، فكل ما لديهم وما عملوه وحتى لو كان خالصاً مخلصاً لوجه الله تعالى لما كان يعدل ضربة واحدة من سيف علي (ع) فكيف وقد بنا الإسلام، وأسس أساس الإيمان، وصلى مع رسول الله (ص) وهم يعبدون اللات والعزى ويسجدون لهُبل، وأصنامهم دهرهم، ويدفنون ويئدون بناتهم وهن حيَّات.
ولذا جاء التشخيص الحقيقي والواقعي من سيدة النساء (ع) حيث قالت للنساء يومها: (وَاللَّهِ لَوْ تَكَافُّوا، عَنْ زِمَامٍ نَبَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لَاعْتَلَقَهُ، وَلَسَارَ بِهِمْ سَيْراً سُجُحاً، لَا يَكْلُمُ (يجرح) خِشَاشُهُ، وَلَا يُتَعْتَعُ (يقلق) رَاكِبُهُ)، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها، وعظم في نفوسهم الملك، وصار شعارهم: (الملك عقيم)، فحكموا أياماً ولكن ضلُّوا وأضلُّوا الأمة دهوراً وها هي إلى اليوم تغوص في متاهة الضَّلال، وحيرته، ولا أحد منهم يعرف سبل النجاة، إلا مَنْ سار وراء أمير المؤمنين علي (ع) وانتهج نهجه، وركب في سفينته، سفينة الولاية المنقذة لمحمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، وهذا ما أوصى به رسول الله (ص) الصحابي الجليل عمار بن ياسر الشهيد ابن شهيدين في الإسلام، حيث قال له: (تَقْتُلُكَ اَلْفِئَةُ اَلْبَاغِيَةُ وَأَنْتَ إِذْ ذَاكَ مَعَ اَلْحَقِّ وَاَلْحَقُّ مَعَكَ، يَا عَمَّارُ إِنْ رَأَيْتَ عَلِيّاً قَدْ سَلَكَ وَادِياً وَسَلَكَ اَلنَّاسُ كُلُّهُمْ وَادِياً، فَاسْلُكْ مَعَ عَلِيٍّ فَإِنَّهُ لَنْ يُدْلِيَكَ فِي رَدًى، وَلَنْ يُخْرِجَكَ مِنْ هُدًى، يَا عَمَّارُ مَنْ تَقَلَّدَ سَيْفاً وَأَعَانَ بِهِ عَلِيّاً عَلَى عَدُوِّهِ قَلَّدَهُ اَللَّهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وِشَاحَيْنِ مِنْ دُرٍّ، وَمَنْ تَقَلَّدَ سَيْفاً أَعَانَ بِهِ عَدُوَّ عَلِيٍّ قَلَّدَهُ اَللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وِشَاحَيْنِ مِنْ نَارٍ).[57]
فكم كانت صرخة عظيمة، ورؤية حكيمة لو فقهوا منها ذلك حيث قالت لهم وبكل صراحة ووضوح: (أَمَا لَعَمْرُ إِلَهِكَ لَقَدْ لَقِحَتْ (حملت) فَنَظِرَةٌ (مهلة) رَيْثَمَا تُنْتَجُ (تلد)؛ ثُمَّ احْتَلَبُوا طِلَاعَ الْقَعْبِ دَماً عَبِيطاً، وَزُعَافاً مُمْقِراً مُبِيدَاً، هُنَالِكَ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ، وَيَعْرِفُ التَّالُونَ غِبَّ مَا أَسَّسَ الْأَوَّلُونَ، ثُمَّ طِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ أَنْفُساً، وَاطْمَئِنُّوا لِلْفِتْنَةِ جَأْشاً، وَأَبْشِرُوا:
1- بِسَيْفٍ صَارِمٍ،
2- وَهَرْجٍ شَامِلٍ،
3- وَاسْتِبْدَادٍ مِنَ الظَّالِمِينَ؛
يَدَعُ فَيْئَكُمْ زَهِيداً، وَزَرْعَكُمْ حَصِيداً، فَيَا حَسْرَتَى لَكُمْ، وَأَنَّى بِكُمْ، وَقَدْ عُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ)، نعم؛ لقد لقحت السقيفة بالفتن، وما عليهم إلا الانتظار مهلة الحمل حتى يروا ما ستلد تلك الفتنة عندهم، وحقاً لقد أنتجت الخلاف، والشِّقاق، والتفرقة في هذه الأمة، ولذا شبَّهتها سيدة النساء بناقة تحلب دماً طرياً، وسمَّاً مميتاً مفنياً لهم وهو الذي جرى عليهم في قابل الأيام في أتون حكم بني أمية وصبيان النار المروانية الذين حوَّلوا الحكم إلى عضوض فعضَّ الأنصار حتى كاد أن يفنيهم.
هل تنبَّه الغافلون؟
لقد صرخة سيدة النساء (ع) صرختها في وجوه النساء، فهل استجاب لصرختها أحد؟ هذا ما بيَّنه قول سُويد بن غفلة في نهاية الرِّواية: فأعادت النساء قولها على رجالهنَّ، فجاء إليها قوم من وجوه المهاجرين والأنصار معتذرين، وقالوا: يا سيدة النِّساء؛ لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر من قبل أن نبرم العهد (البيعة للأول)، ونُحْكِم العقد لما عَدَلنا إلى غيره!
فقالت: إِلَيكُم عِنِّي!، فَلَا عُذْرَ بَعدَ تَعذِيِركُم، وَلَا أَمْرَ بَعْدَ تَقصِيرِكُم).[58]
أي عذر أقبح من ذنب هذا الذي ادَّعاه القوم للسيدة الزهراء (ع) جواباً لها على صرختها بهم؟!
ألم يُبايعوا أمير المؤمنين الإمام علي (ع) مراراً منذ العقبة الأولى والثانية، وأخيراً قبل ثلاثة أشهر فقط في يوم غدير خم؟! ألم يبايعوا جميعاً وفي أولهم هؤلاء الذين انقلبوا على أعقابهم؟
ألم يسمعوا الرجل يقول يومها: (بخ بخ (أو هنيأ) لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولا كل مؤمن ومؤمنة؟)[59]، ألم يروهما أنهما أول مَنْ بايعاه في يوم الغدير خوفاً من طير الأبابيل أن يلحقهم بحجارته كما فعل بذاك الفهري العبدري حين رفض البيعة لأمير المؤمنين (ع) وطلب العذاب من السماء فجاءه الحجر السجيلي وأرداه قتيلاً قبل أن يصل إلى راحلته، وأمام أعينهم جميعاً؟[60]
خُلاصة وتنبيهات
البحث طويل ومحزن ومؤسف جداً ولكن المجال ضيِّق ومحدود ولو أن في المسابقة مساحة أكبر لطال بنا الحديث إلى مجلد كبير في شرح هذه الخطبة الشريفة، وبيان جوانب هذه الصَّرخة الفاطمية بالصحابة جميعاً وجهتها للنِّساء بعد أن أقامت الحجَّة على الرِّجال في المسجد النبوي الشريف، فأرادت – روحي فداها – أن تؤكد للمسلمين أنهم ارتكبوا خطأ فاحشاً وكبيرة عظيمة سيجنون مآسيها في أنفسهم وأهليهم بعد حين، ولكن لم يفقهوا، ولم يفهموا كُنه صرختها المدوِّية، بل وجاؤوا بعذر أقبح من ذنب بأنهم سبقت لهم للرجل البيعة فلا يستطيعون النكث بها؛ وعليه:
السلام على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسِّر المستودع فيها أبد الآبدين ودهر الداهرين.
***** ***** *****
المصادر المعتمدة
[1] – (بحار الأنوار العلامة المجلسي: ج ٦٦ ص ٦٧ عن عيون الأخبار ج 1 ص 227)
[2] – (بحار الأنوار العلامة المجلسي: ج ٦٦ ص 68 عن مجالس المفيد: 169، وأمالي الطوسي ج 1 ص 35)
[3] – (بحار الأنوار العلامة المجلسي: ج ٦٦ ص 68 عن أمالي الطوسي ج 2 ص 64،)
[4] – (النحل: ١٠٦)
[5] – (الرعد: 28)
[6] – (المائدة: 41)
[7] – (البقرة: ٢٨٤)
[8] – (الكافي الشيخ الكليني: ج ٢ ص 35)
[9] – (الكافي الشيخ الكليني: ج ٢ ص ٣٣)
[10] – قال رسول اللَّه (صلى اللّه عليه وآله) عند مبارزة الإمام عليّ(عليه السلام) عمرو بن عبد ود العامري في يوم الأحزاب: (برز الإيمان كلّه إلى الشرك كلّه)، كنز الفوائد: 1/297، الطرائف: 35، إرشاد القلوب: 244، تأويل الآيات الظاهرة: 2/451/11 عن حذيفة، عوالي اللآلي: 4/88/113؛ شرح نهج البلاغة: 19/61.
[11] – كتابنا الإمام علي (ع) وحروب التأويل ج2 ص362 (الإمام (ع) في حصار أصحاب الجباه السود).
[12] – راجع قصتهما في تاريخ الطبري: ج ٢ ص ٤٩٩، والكامل في التاريخ لعز الدِّین ابن الأثير: ج 2 ص 211.
[13] – المائدة: 80
[14] – الحج: 11
[15] – الكهف: 104
[16] – البقرة: 12
[17] – يونس: 35
[18] – هود: 28
[19] – معاني الأخبار: 354، للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن حسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق، المولود سنة: 305 هجرية بقم، و المتوفى سنة: 381 هجرية، طبعة مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، الطبعة الأولى، سنة: 1403 هجرية، قم / إيران.
[20] – قال العلامة في الخلاصة: سويد بن غفلة الجعفي، قال البرقي: إنه من أولياء أمير المؤمنين (عليه السلام)، وفي أسد الغابة: “أدرك الجاهلية كبيراً وأسلم في حياة رسول (صلى الله عليه وآله) ولم يره، وأدى صدقته إلى مصدق النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قدم المدينة فوصل يوم دفن النبي (صلى الله عليه وآله) وكان مولده عام الفيل وسكن الكوفة..”، وفي التهذيب: “أدرك الجاهلية وقد قيل إنه صلى مع النبي (صلى الله عليه وآله) ولا يصح، وقَدِمَ المدينة حين نفضت الأيدي من دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهذا أصح.. إلى أن قال: قال ابن معين والعجلي: ثقة.. وقال أبو نعيم: مات سنة ثمانين، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام وغير واحد: مات سنة إحدى وثمانين، وقال عمرو بن علي وغيره: مات سنة 88
[21] – يذكر السيد كاظم القزويني في كتابه فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد: ص537 عشرة مصادر لها سنية وشيعية.
[22] – روى العلاّمة ابن أبي الحديد: لمّا قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيى الناس، والظاهر أنّ معاوية ساءله: من أين أتيت؟ قال ذلك في جوابه ـ ويقصد بأعيى الناس الإمام عليّ(عليه السلام) ـ : قال له معاوية: ويحك!! كيف يكون أعيى الناس؟! يابن اللخناء، ألعليّ تقول هذا؟! فوالله ما سنّ الفصاحة لقريش غيره. شرح نهج البلاغة: ١/٢٢.
[23] – فاطمة الزهراء (ع) من المهد إلى اللحد السيد كاظم القزويني: ص 332، حيث يذكر عشر مصادر للخطبة، ص327 منهم عبد الحميد ابن أبي الحديد المتوفى سنة 656 في كتابه (شرح نهج البلاغة) ج 16 ص211-213 و ص249و252. ورواها أبو بكر الجوهري المتوفى سنة 323 في كتابة (السقيفة وفدك) بعدة طرق. ورواها ابن طيفور المتوفى سنة 280 في كتابه (بلاغات النساء) بعدة طرق. ورواها بان الأثير المتوفى سنة 606 في كتابه (منال الطالب في شرح طوائل الراغب) الصفحات 501-507. ورواها الخوارزمي المتوفى سنة 568 عن الحافظ ابن مردويه في (مقتل الحسين) ج1 ص77. ورواها الأستاذ عمر رضا كحالة في كتابه (أعلام النساء) ج3 ص1208
[24] – بحار الأنوار الشيخ المجلسي: ج 19 ص 99، سُبل الهدى والرشاد: ج3 ص245، السيرة النبوية لابن كثير: ج2 ص261، الصحيح من السيرة السيد جعفر مرتضى العاملي: ج4 ص69، وغيرها كثير..
[25] – شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج16 ص211
[26] – (سورة النمل: 14)
[27] – الخطبة الفدكية؛ فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد السيد كاظم القزويني: ص 433 بحار الأنوار: ج 29 ص228
[28] – (قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي مَنْ آذَاهَا فَقَدْ آذَانِي يَرْضَى اَللَّهُ لِرِضَاهَا، وَيَغْضَبُ لِغَضَبِهَا، وَهِيَ سَيِّدَةُ نِسَاءِ اَلْعَالَمِينَ). (إرشاد القلوب الديلمي: ج۲ ص۲۳۱)
[29] – الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري المتوفى 276: ج1 ص23، أعلام النساء، كحالة: 4 / 123 ـ 124، البلاذري في أنساب الأشراف: 10/79 (ط دار الفكر)، والجاحظ في الرسائل (السياسية)، ص 467 (ط مكتبة دار الهلال)، والجوهري في السقيفة وفدك وعنه شرح نهج البلاغة: 16/264، بحار الأنوار: ج 43 ص204.
[30] – فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد السيد كاظم القزويني: ص 494
[31] – الخصال الشيخ الصدوق: ص ٦٧
[32] – بحار الأنوار: ج 43 ص355
[33] – مدينة المعاجز، السيد هاشم البحراني: ج6 ص71 الطبع والنشر مؤسّسة المعارف الإسلاميّة ايران – قم المقدّسة ص- ب- 768/ 37185 تلفون 32009، وبحار الأنوار: ج 26 ص352.
[34] – (البقرة: 189)
[35] – (الأعراف: 46)
[36] – (المؤمنون: 74)
[37] – بحار الأنوار: ج 24 ص249، وتفسير فرات الكوفي: ج۱ ص142
[38] – بحار الأنوار: ج 43 ص355، و تفسير نور الثقلين للحويزي: ج۱ ص۳۳۱
[39] – بحار الأنوار (الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار (عليهم السلام): ج74 / 158، للعلامة الشيخ محمد باقر المجلسي، المولود بإصفهان سنة: 1037، والمتوفى بها سنة: 1110 هجرية، طبعة مؤسسة الوفاء، بيروت / لبنان، سنة: 1414 هجرية.
[40] – شجرة طوبى؛ الشيخ محمد مهدي الحائري: ج ٢ ص ٢٣٣
[41] – تفسیر البرهان السيد هاشم البحراني: ج۵ ص96، وتأويل الآيات: ج۱ ص۵۸۱
[42] – بحار الأنوار: ج 21 ص40
[43] – شرح نهج البلاغة: 9/22، عن ابن عبّاس: وقع بين عليّ وعثمان كلام، فقال عثمان: ما أصنع بكم إن كانت قريش لا تحبّكم!..)، الشَنْف: الذي يُلبس في أعلى الاُذن، والذي في أسفلها القُرط، وقيل: الشَّنْفُ والقرط سواء (لسان العرب: 9/183)، الآنُف – كالآناف والاُنوف: جميع الأنف (اُنظر لسان العرب: 9/12)، نثر الدرّ: 2/68.
[44] – شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 12/21؛ كشف اليقين: 463/562، كشف الغمّة: 2/46.
[45] – نهج البلاغة: خ217
[46] – تاريخ دمشق: 42/356/8948، المناقب لابن المغازلي: 107/149، كفاية الطالب: 161؛ المناقب لابن شهرآشوب: 3/202.
[47] – أُسد الغابة لابن الأثير الجزري: 4/106/3789؛ المسترشد: 387/130، المناقب لابن شهرآشوب: 3/242
[48] – بحار الأنوار: ج 22 ص484، ومستدرك سفينة البحار الشيخ علي النمازي الشاهرودي: ج ٩ ص ١٢٤
[49] – (الأحزاب: 70)
[50] – (القيامة: 38)
[51] – (النبأ: 17)
[52] – بحار الأنوار: ج 40 ص 123، عن الفضائل: 143، وروضة الكافي: 21.
[53] – بحار الأنوار: ج 40 ص 123، عن الفضائل: 143، وروضة الكافي: 21.
[54] – شرح نهج البلاغة: 19/61 ، وكنز الفوائد: 1/297، الطرائف: 35، إرشاد القلوب: 244، تأويل الآيات الظاهرة: 2/451/11 عن حذيفة، عوالي اللآلي: 4/88/113.
[55] – المستدرك على الصحيحين: 3/34/4327، تاريخ بغداد: 13/19/6978، شواهد التنزيل: 2/14/636، المناقب للخوارزمي: 107/112، الفردوس: 3/455/5406، ينابيع المودّة: 1/412/5؛ وإرشاد القلوب: 245.
[56] – عوالي اللآلي: 4/86/102.
[57] – بحار الأنوار العلامة المجلسي: ج ٣٨ ص ٣٩، عن الطرائف: 24 و 25.
[58] – يذكر السيد كاظم القزويني في كتابه فاطمة الزهراء من المهد إلى اللحد: ص537.
[59] – فعن البراء بن عازب وزيد بن أرقم: أنَّ رسولَ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآله) لما نزل بغديرِ خُمّ؛ أخذ بيدِ عليٍّ فقال: ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟!، قالوا: بلى، قال: ألستُم تعلمون أني أولى بكلِّ مؤمنٍ من نفسه؟!، قالوا: بلى، قال: اللهمَّ ! من كنتُ مولاه؛ فعليٌّ مولاه، اللهمَّ! والِ من والاه، وعادِ من عاداه، فلقيه عمرُ بعد ذلك، فقال له: هنيئًا يا ابنَ أبي طالبٍ! أصبحتَ وأمسيتَ مولى كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ). (تخريج مشكاة المصابيح الألباني: ح6049 المرفوع من الحديث صحيح)، وأحمد بن حنبل في مسنده: ج 4 ص 281 وكذلك فضائل الصحابة: ج 2 ص 449 بسند صحيح عن البراء كما يقول الأرناؤوط.
[60] – فقد روى الثعلبي، والنقاش، وسفيان بن عينيه، والرازي، والقزويني، والنيسابوري، والطبرسي، والطوسي في تفاسيرهم، أنه لما بلغ رسول(ص) بغدير خم ما بلغ، وشاع ذلك في البلاد، أتى الحارث بن النعمان الفهري وفي رواية أبي عبيد: جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، فقال: يا محمد! أمرتنا عن الله بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وبالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، فقبلنا منك، ثم لم ترض بذلك حتى رفعت بضبع ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه! فهذا شيء منك أم من الله؟! فقال رسول الله (ص): والذي لا إله إلا هو إن هذا من الله. فولى جابر يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.. فما وصل إليها حتى رماه الله بحجر، فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله ، وأنزل الله تعالى: (سأل سائل بعذاب واقع..) (المعارج) . يقول السيد جعفر مرتضى: وقد أحصى علماؤنا كصاحب العبقات، وصاحب الغدير، وصاحب إحقاق الحق، وصاحب نفحات الأزهار، وغيرهم.. عدداً من أئمة السنيين وعلمائهم الذين أوردوا هذا الحديث في مصنفاتهم ، فزادت على الثلاثين.. نذكر منهم:
1 – الحافظ أبو عبيد الهروي المتوفى بمكة 223 في تفسيره ( غريب القرآن )
2 – أبو بكر النقاش الموصلي البغدادي المتوفى 351 في تفسيره ( شفاء الصدور )
3 – أبو إسحاق الثعلبي النيسابوري التوفي 427 في تفسيره ( الكشف والبيان )
4 – الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب ( أداء حق الموالاة )
5 – أبو بكر يحيى القرطبي المتوفى 567 في تفسيره.