مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
المثال الزهرائي في الأدب النسائي / قصص بنت الهدى أنموذجًا” (بحث مضموني دلالي)….الباحثة رجاء محمد بيطار/لبنان
+ = -

المثال الزهرائي في الأدب النسائي

قصص بنت الهدى أنموذجًا”

(بحث مضموني دلالي)

ضمن محور الأدب (القصة- الرواية- المسرحية)

بقلم: الباحثة رجاء محمد بيطار/لبنان

بحث مقدّم للاشتراك في المسابقة البحثية السنوية السادسة

((السيدة الزهراء “ع” مرجعية الفكر وواحة المعرفة))

مركز الدراسات الفاطمية في البصرة

المقدّمة:

قال الله تعالى في محكم كتابه: {لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم والآخر وذكر الله كثيرا}[1].

وقال عزّ وجلّ مخاطبًا نبيّه: {وإنك لعلى خُلُقٍ عظيم}[2].

وقال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في حقّ ابنته الزهراء سيدة نساء العالمين عليها السلام: “فاطمة بضعةٌ مني وهي قلبي وهي روحي التي بين جنبيّ”[3].

وقال أيضا: “فاطمة يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها”[4].

        هي آياتٌ بيّنات، وأحاديث شريفةٌ رسمت للبشر مسيرة الحياة، ولعلّ أهمّ ما ترتكز عليه هذه الآيات والأحاديث هو البحث عن القدوة الصالحة في الأقوال والأفعال، ولئن كان النبي صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام هم القدوة والمثال في كلّ ما يقوم به البشر من أعمال، فلمَ لا تكون فاطمة الزهراء عليها السلام هي القدوة للنساء والرجال؟! حيث أنها “بضعةٌ” من أبيها سيد البشر، وقلبه وروحه التي بين جنبيه، وأبوها هو “الأسوة الحسنة” للمؤمنين، أفلا تكون هي بدورها أسوةً كإياه، ونورها بعض نوره، ورضاها وغضبها من غضب الله ورضاه؟!

بلى… هي {ذرّيّةٌ بعضها من بعضٍ والله سميعٌ عليم}[5]، وقد اختصر النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم تلك الحقيقة في وصاياه لأمّته، وخلاصتها حديث الثقلين الذي توّج به وصيّته: “إني تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، من إن تمسّكتم بهما فلن تضلّوا بعدي أبدا”[6]… وإذا كان كتاب الله هو أحد الثقلين الحافظَين من الضلالة، وعترة النبيّ هي الثقل الآخر، فحريّ بهذه العترة الشريفة أن تكون هي القدوة والمثال لكل إنسان، يقيه سيره على خطاها من الضياع، ويحتمي بالاقتداء بها من كل فسادٍ في كلّ نواحي الحياة…

لقد سنّ الله عزّ وجلّ للإنسان اتّباع أوليائه، فقال عزّ من قائل: {إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون}[7]، حيث اتّفق العامة والخاصّة على نزولها في أمير المؤمنين عليه السلام، الذي تصدّق بخاتمه وهو راكع في القصة المشهورة، وأمير المؤمنين هو كفؤ فاطمة الزهراء عليهما السلام، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “لو لم يخلق الله علي بن أبي طالب ما كان لفاطمة كفؤ”[8].

ومَن أجدر مِن فاطمة عليها السلام لتكون مثالًا يُحتذى وهي سيدة نساء العالمين؟!

إن المثال الزهرائي، منذ وُلدت فاطمة عليها السلام وكانت سيرتها العطرة حتى يومنا هذا، كان ولا يزال علَمًا من أعلام الكمال، فالإسلام دين كلّ عصرٍ ومصر، وأهل البيت، وهم فاطمة وأبوها وبعلها وبنوها، هم القمة في الفضائل كلّها، ولذا فإن الاقتداء بهم هدفٌ بعيد المنال طالما سعت إليه الأجيال، التي ما فتئت تسبر غورهم وتبحث في أثرهم، لتستنير بأنوارهم الملكوتية التي تشعشع من خلال سِيَرهم، وتهتدي بقصصهم وتعتبر بعِبَرهم…

وانتقلت تلك الأحاديث من جيلٍ لجيل، في بطون الكتب ومن أفواه الرجال، وقيّض الله لدين نبيّه من يقوّم ويصحّح، ويختار وينقّح، حتى وصلت سير أهل البيت الأطهار إلينا محقّقةً ممحّصة، لمن أراد إليها سبيلا… وكانت سيرة الزهراء فاطمة عليها السلام في مقدّمتها، فهي أمّ الأئمة وحجة الله على الحجج، وهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، ولئن ضرب الله في كتابه العزيز مثلًا للذين آمنوا، {… امرأة فرعون إذ قالت ربّ ابنِ لي عندك بيتًا في الجنّة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين}[9] و{… مريم بنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين}[10]، فليست آسية ومريم إلا سيدتين من سيدات أهل الجنة حضرتا مولد الزهراء فيمن حضر[11]، وكانتا ممن تبرّك بها وتقرّب إلى الله بمحبّتها، أفلا يجدر إذًا بكلّ امرأةٍ من البشر أن تتّخذ من “النسلة الطاهرة الميمونة” “أم الأئمة الهداة الغرر”، قدوةً لها وأسوة، عساها تصل من خلالها إلى رضى الخالق جلّ وعلا؟!…

بلى، وكذلك كان، فلقد أجمع مؤرخو المسلمين وكتّابهم، رجالًا ونساءً عبر التاريخ، على أفضلية فاطمة عليها السلام، وعلى السعي الحثيث للاقتداء بها، وذلك عبر نشر ما أُثر عنها من خبر، وكان نصيب العصر الحديث من هذا السعي مقارباتٍ تتماشى مع روح العصر، وتستمدّ من تلك السيرة العظيمة المثال والأثر، وتقولب الفكرة السامية في قوالب الأدب ما بين شعرٍ ونثر، وتنشرها على أجنحة الأثير وبين صفحات الكتب، زاخرةً بالمعاني الراقية، ما بين قصةٍ ورواية، وغيرها من فنون الأدب الحديث الثرّ…

إن هذا البحث يتمحور حول هذه الصورة بالذات، صورة الزهراء عليها السلام، كما عكسها الأدب النسائي الحديث، الذي خطّته أقلامٌ نسوية، عرفت كيف ترصد الكوثر وتستقي منه الريّ الأكبر، وتسقي منه كلّ ظامئةٍ وظامئ، يبحثون في طيّات الحياة وسجلّاتها الحافلة وبحارها العميقة عن مرافئ وموانئ، ترسو عندها سفن البحث، وتجد فيها القلوب والنفوس والأرواح ضالتها المنشودة، في زمن اللهو والعبث، حيث تتهدّد الأخطار الخلق الإسلاميّ القويم، وتستهدف مغريات العصر جيل الشباب، وتكاد الحضارة الماديّة تطمس معالم الحقّ وتخلط الخطأ بالصواب…

إن المراد من هذا البحث هو رصد المثال الزهرائيّ في الأدب النسائيّ عمومًا، وفي قصص إحدى أكبر رائدات هذا الأدب، بمنحاه الملتزم، عنيت الشهيدة السعيدة السيدة آمنة الصدر الشهيرة بـ “بنت الهدى” على وجه الخصوص، عسانا من خلال ذلك الرصد للنماذج الإنسانيّة المتماهية مع شخص الزهراء العظيم في قصصها، أن نسلّط الضوء على نماذج واقعيّة للمرأة المسلمة الزهرائيّة، التي ترتقي نحو المثالية ولكنها تبقى بشرًا من لحمٍ ودم، تعيش وتتنفّس، وتبرهن للعالم أجمع أن الزهراء هي المثال النسوي الأكمل والأرفع لجنس حواء، فهي المرأة كما أراد الله أن تكون، تعيش حقوقها وواجباتها وتشارك الرجل مسؤولياته وتقدّم للمجتمع الإنسانيّ الكمال الذي يبحث عنه، والذي لم ولن يجده إلا في ظلّ الدين الحنيف الذي ختم الله عزّ وجلّ به الأديان، وفي فناء ذاك البيت الذي أذهب الله عن أهله الرجس وطهّرهم تطهيرا، ليكونوا للكون قدوةً ومثالًا.  

وإنّنا في بحثنا هذا سنتتبّع العلاقة بين الأدب الملتزم والمجتمع، عبر طرح ما ينبغي أن تقوم به الكاتبة الملتزمة المتصدّية لمعركة إثبات المثال الزهرائيّ، ثم سنقوم بتحليلٍ مضمونيٍّ دلاليٍّ للشخصيّات الأنثويّة التي ألبستها بنت الهدى  رحمها الله ذاك اللّبوس المتلفّع بأبراد الفضيلة، لنستكشف المثال الزهرائيّ الذي تتماهى معه، عبر صفاتٍ معيّنةٍ تبرز في تلك الشخصيّات، بحسب أحداث القصة ومجرياتها، وسيكون تركيزنا على اثنتين من أهمّ قصص بنت الهدى، هما “الفضيلة تنتصر” و”لقاء في المستشفى”، ومن ثمّ البحث في واقعيّة هذا المثال وإمكانية تطبيقه على أرض الواقع، بما يتّفق مع طبيعة الإنسان التي تتآخى فيها المادة مع الروح، فيكون لكلٍّ حقّه عليه، إذ لا يجدر به أن يهمل أحدهما على حساب الآخر، بل إن عليه أن ينظّم وينسّق، ويعطي كلًّا منهما ما له ويأخذ منه ما عليه.

انطلاقًا من هذا، سيقوم البحث على مبحثين وخاتمة، ونرجو أن نتمكّن من خلاله من الإجابة على الإشكاليات المطروحة، ألا وهي:

  • انطلاقًا من العلاقة الجدليّة بين الأدب والمجتمع، كيف يمكن للكاتبة الملتزمة أن تطرح الصورة الزهرائية في أدبها النّسائيّ، في مقابل الصورة الأخرى السلبية للمرأة المتديّنة، والتي قدّمها الأدب النسائيّ المعاصر بفكره المتأثّر بالحضارة الغربية؟
  • ب‌- بعد الاطّلاع الدقيق على الشخصيّات النسويّة التي جسّدتها بنت الهدى في قصصها الآنفة الذّكر، وبحسب معرفتنا بالسيرة الفاطمية، ما هي وجوه التماهي بين هذه الشخصيّات وبين المثال الزهرائيّ؟ وإلى أي مدى تمكّنت بنت الهدى في قصصها المذكورة من إثبات واقعية المثال الزهرائيّ للمرأة، وتماشيه مع كل عصر؟

المبحث الأول: الأدب النسائيّ والمجتمع، دور الكاتبة الملتزمة:

تمهيد:

لا يختلف دور الكاتبة الملتزمة نحو مجتمعها عن دور الكاتب، إلا بقدر ما تختلف المرأة عن الرجل في مسؤولياتهما المشتركة نحو مجتمعهما المحيط. وبما أن الأدب هو “صورةٌ للعصر والمجتمع، والعلاقة بين الأديب ومجتمعه علاقةٌ جدليّة، فالأديب يتأثّر بمجتمعه ويؤثّر فيه، وإن رؤية الأديب الفكرية وفلسفته عن الحياة والكون، إنما تتبلوران بتأثير المجتمع المحيط والتربية، والأديب يؤثّر في مجتمعه فيسهم في تطويره وإصلاحه، وقد تحمل كتاباته بذور الثورة والتغيير”[12]، فإن الكاتبة الملتزمة، كما الكاتب، تحمل على عاتقها همّ إصلاح المجتمع وإرشاده، كما أنها تعيش ظروفه فتطوّع قلمها لمقتضياتها، وتواجه بفكرها ونظرتها إلى الحياة، وبثقافتها وسعة اطّلاعها، وبحسن التزامها وارتقائها الروحيّ، ما يمكّنها من أن تكون أكثر تأثيرًا وأشدّ وأفضل وقعًا على مجتمعها ككلّ، بنسائه ورجاله، وشبابه وشيبه، وبالغيه وأطفاله.

المحور الأول: الأدب الملتزم، واقعٌ وضرورة:

        إن الأدب عمومًا يتنوّع بتنوّع الأدباء، ويطرح في المجتمع أفكارهم وفلسفاتهم وآراءهم، ولذا فقد واجه الأدب العربي المعاصر في القرنين الأخيرين، مع انفتاحه على الغرب واقتباسه لأساليبه وبعض قيمه، حالةً من التشرذم والضياع، فقد أراد الأديب والكاتب العربي أن يدخل فلك التطوّر ويجاري العصر، ولكنه في نفس الوقت كان مشدودًا إلى حضارةٍ عريقةٍ مرتبطةٍ بدينٍ سماويّ عميق المحتوى، يخيّم على وجوده فكرًا وممارسة، ألا وهو الإسلام، فكان أمامه خياران:

  •  أن يتنكّر لأصله ويستقبل الأفكار والفلسفات والمنطلقات الغربية الدخيلة، ويقولبها بقوالب عربية، وينتسب إليها ويذوب فيها…
  • ب‌- أن يتمسّك بكلّ ما هو عليه، غثّه وسمينه، ويعارض التطوّر جملةً وتفصيلًا، ويجترّ ماضيه محاربًا كل جديد، فيبقى دائرًا في فلك الماضي دون أن يعير الحاضر أي التفات.

لقد بدا لرواد الأدب العربي في تلك الآونة أن هذين الطريقين لا ثالث لهما، وأن هناك تعارضًا جذريًّا بين الدين والتطوّر الفكريّ، فالدين بنظرهم قائمٌ على موروثات لا يمكن مناقشتها، فكيف يمكن مطالبته بأن يتجدّد؟! ومن هنا فإن غالبية الأدباء والتيّارات الأدبية التي ينتمون إليها قد اتّبعت الخيار الأول، شجّعها على ذلك ودفعها إليه الاستعمار الغربي المستحدث وأزلامه من جهة، والاستشراق الذي دخل في صفوف العالم العربي والإسلاميّ كداعيةٍ للتواصل بين الحضارات من جهةٍ ثانية، فكان له وجهٌ آخر غير طلب المعرفة، هو الدسّ والتدليس في التاريخ، وطرحُ رؤىً فكريةٍ قد لا تتماشى في كثيرٍ من الأحيان مع رؤية الدين الإسلاميّ وأصوله… كما أن الترجمة والتعريب اللذَين قام بهما أدباء العرب الذين كانوا بغالبيّتهم مبهورين بحضارة الغرب، فأرادوا نقلها ونسخها والنسج على منوالها، كان لهما دورٌ كبيرٌ في دخول الفكر الغربيّ والإلحاديّ إلى الأدب العربي والمجتمع الإسلاميّ، فكانت النتيجة هي وصول المجتمع الإسلاميّ المغرّر به إلى شفير الهاوية، حيث غدت فكرة العلم لديه منافيةً للدين، وكادت تتأصّل هذه الفكرة وتتجذّر، لولا أن الواعين من أهل الدين، وبعض المفكّرين الإسلاميين، قد استطاعوا أن يروا الأمور بموضوعيّة وشموليةٍ تكفي ليستدركوا الكارثة ويخرجوا من الدوّامة بالحلّ الأمثل، الذي يكشف عن العيون ما غشّاها من غلائل الجهل والتعامي؛ إنها الدعوة إلى أدبٍ يماشي العصر ولكنه لا يتنافى مع الدين، بل هي عودةٌ إلى جذور الدين وتنقيته من الأعراف البالية التي كانت حتى ذلك الحين مختلطةً في أذهان العوام بالتديّن، ورسْمِ مسارٍ جديدٍ منفتحٍ يحافظ على أصول الدين وفروعه، ويتمسّك به تمسّك المبصر بالنور، ويكتشف معالمه الرفيعة التي طمستها سنون الانحطاط الفكريّ السابق، ويكشف للعالم أجمع عن عالمية الإسلام وقدرته على مخاطبة الإنسان في كلّ زمانٍ ومكان، ومواكبته للعلم ودعوته إليه وإلى التفكّر والتدبّر في خلق الله…

من هنا دخلت المرأة الكاتبة الملتزمة مسار الانفتاح الفكري المنضبط، في ركاب هذا الاتجاه الفكريّ المنفتح بالتزامه، لتقدّم للمرأة المسلمة أدبًا يرتقي بها وبمُثُلها، ويحميها من بهارج الحضارة الغربية وأضوائها الخادعة، التي أعمت قبلها الكثيرات…

لكن الحرب الفكريّة كانت شرسة، فقد جوبه الأدب النسائيّ الملتزم بفئةٍ من الكاتبات اللواتي أخذن على عاتقهن محاربة التديّن بجوهره ومظهره، بحجة تحسين وضع المرأة ورفع مستواها الفكري الذي هبطت به العادات التي ليست من الدين في شيء، وصار همّهنّ منصبًّا على إبعاد المرأة المسلمة عن كلّ ما آمنت به واعتنقته، سواءً في علاقتها مع نفسها كامرأة، أو مع أسرتها، أو مع مجتمعها، وبالأخص مع الجنس الآخر… لقد أردن أن يصوّرن للمرأة أن مبعث مشكلتها هي التديّن، وأن الرجل يحتجزها ويمنعها من ممارسة حياتها وحقوقها وحريّتها باسم الدين، وأن لا حلّ أمامها سوى التملّص من تلك “القيود” المفروضة، باتّباع النموذج الغربيّ للمرأة، وبالانفلات من كلّ ضوابطها الخلقية والسلوكية التي يكرّسها الدين الإسلاميّ، وكان “الحجاب الإسلاميّ” في مقدمة العناصر الأساسية التي تمّت محاربتها، وكانت مسؤولية الكاتبة الملتزمة أن تبرز خطأ هذا كلّه، وأن تستقطب المرأة المسلمة وتكشف لها عن وجه الحقيقة الناصع، وأن تجد الطريقة لتقنع الجميع، المعارض والمؤالف، والكاتبة المناهضة لها كما المرأة التي تستهدفها، أن وجه المرأة في الإسلام لم ولن يكون كما يدّعي المغرضون، وأن الشوائب التي شابت وضعها الحاليّ ليست من تشريعات الدين بل من سوء فهم البعض له، ومن الخطأ في الممارسات ليس إلا، ومن هنا كان الأدب النسائيّ الملتزم ضرورةً لا بدّ منها لطرح الفكر النسائيّ الملتزم في إطاره الصحيح، بلسان المرأة الملتزمة نفسها، التي هي محور المكيدة الحضارية ضد المجتمع الإسلاميّ، وذلك لتصحيح المسار المنحرف الذي دعا إليه الآخرون، عبر أدواتٍ عصريةٍ تحترم عقل الإنسان، ولكنها في الوقت عينه تحترم تاريخه ودينه ومقدّساته…

المحور الثاني: صفات الكاتبة الملتزمة، بين النظرية والتطبيق:

        مما لا شكّ فيه أن الكاتبة الملتزمة هي بالدرجة الأولى إنسانة، تخضع لحكم العقل والنفس والهوى، وتصوغ فكرها في قالب الإبداع الأدبيّ مرورًا بنفسها، بل هي تترجم قناعاتها أدبًا وتصبّه في عقول وقلوب قارئيها وقارئاتها، ولذا فقد كان لا بد لها لتصل إلى مقام الكاتبة المرشدة، الدالّة على طريق الهدى، من أن تبدأ بنفسها أوّلا، فتقوّم ما اعوجّ وتزكّي ما فسد، وترتقي بنفسها الميمّمة شطر قدوتها الزهرائية إلى مصافّ الناصحين، إذ لا يجدر بالناصح أن يكون قد أغفل نفسه، وإلا غدا “طبيبًا يداوي الناس وهو عليلُ”…

        فالطريق إذًا يبدأ بمن يشقّه ويعبّده، وليكون مستقيمًا واضحًا لا اعوجاج فيه ولا انحناء، فقد لزم أن يكون أول الممهّدين له مستقرًّا على تلك الحال، ومن هنا كان لا بدّ للكاتبة الملتزمة المتصدّية لتوعية جيلها وطرح النموذج الزهرائيّ على كل امرأة وفتاةٍ تسعى إلى الكمال، أن تبدأ بنفسها، فتستكمل ما نقص وترتقي بما انحدر، على كلّ صعيد، باتّباع ما أوصى به ديننا الحنيف على لسان النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)  وأهل بيته الطاهرين، وبما أنها أنثى، فإن القدوة المثلى لها لا بدّ أن تستقرّ في رحاب سيدة نساء العالمين عليها السلام، فمنها المنبع وإليها المرجع، وعلى خطاها يتحقّق التكامل لشخصية المرأة الإنسانة، ومن ثمّ شخصية المرأة التي انتهجت سبيل الكتابة لتؤدّي من خلالها مهمّتها الاجتماعية في المحافظة على تلك الأمانة، أمانة الزهراء، التي تتلخّص بالارتقاء ببنات حوّاء، عبر القول والعمل، سلوكًا وتطبيقًا واهتداء…

أما على صعيد الأدب، فإن على الكاتبة الملتزمة أن تعمل على الرقيّ بمستوى شخصيّتها الأدبية، لتواكب تكاملها الإنسانيّ، ففي ميدان الأدب تتكامل النفس بلغة الجمال، ويغدو الإبداع وسيلةً للتعبير عن الفكر المنطلق من شخصيةٍ ما، تعكس ذاتها في ما تكتب…

        لعل هذه النقطة بالذات، هي ما رفع بعض الكاتبات الملتزمات ووضع أخريات، ففاقد الشيء لا يعطيه، ومن أرادت أن تحقّق هدفًا ساميًا للنساء بطرح نهج الزهراء عليها السلام، لا بد وأن تكون بحدّ ذاتها زهرائية، وإلا لم تنجح… ولعلّ من أهمّ ما يحدو بتلك الكاتبة الزهرائية للنجاح في مسعاها أيضًا، هو أمرٌ لا يد لها فيه، إلا بمقدار تفانيها في حب الزهراء وذوبانها في شخصيّتها الملكوتية؛ إنه التوفيق والتسديد الإلهي الذي يحبو به الله من قدّم ذاته لرضاه، فأخلص النيّة، وكان منه العمل ومن الله القبول، وتحقيق الهدف المأمول…

        إن السعي نحو الهدف الأمثل يستلزم من الساعي أن يتقن العمل، وقد قال الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم): “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه”[13]، ولذا فقد كان لزامًا على الكاتبة الملتزمة أن تستكمل كل لوازم الكتابة، بالتفقّه في اللغة والتعرّف على أسرارها والدخول إلى عالم الأدب بشتى أنواعه، ومعرفة عناصره والاطلاع على مختلف ضروبه عن كثب، ولعل من أهمّ الميادين التي يمكن للكاتبة الملتزمة أن تقدّم فيها النموذج الزهرائيّ المتكامل، هما ميدانَي القصة والرواية، فكلاهما يتوسّلان القصّ والسّرد ويحبكان الأحداث حول شخصيّات حياتيّةٍ معيّنة، للوصول إلى أهدافٍ ذات مغزى، يمكن للكاتبة أن تصوغ منها ما تشاء من عِبَر نبيلة…

        فالقصة إذًا بمفهومها العام هي المسرح الأمثل لخوض التجربة الإنسانيّة كما هي وكما ينبغي أن تكون، و”الأدب هو تعبيرٌ عن تجربةٍ شعوريّةٍ في صورةٍ موحية”[14]، ولذا فقد انطلقت بعض الأديبات الملتزمات نحو هذا العالم الزاخر، محمّلاتٍ بالرغبة في إثبات تجربتهنّ الغنيّة المضمّخة بعبير التقوى، في مقابل تلك التجارب الشعوريّة السطحيّة التي خطّتها أقلام الكاتبات “المستغربات”، اللواتي كان همّهنّ اتّباع سنّة الغرب وتقليده، وإثبات الفشل الأنثويّ الشرقيّ، والتعبّد في محراب اللذّات فحسب…

كما أن الدعامة الأخرى التي تمكّن الكاتبة الملتزمة من خوض هذه المعركة الأدبية بكفاءة ونجاح، هي سعة الاطّلاع حول ما تكتبه وتعالجه من مواضيع تاريخيّةٍ ودينيّةٍ واجتماعيّةٍ وأدبية، إذ لا يمكن لمن تريد أن تطرح النموذج الزهرائي في كتاباتها أن لا تكون قد اطّلعت بشكلٍ كافٍ ووافٍ على سيرة الصدّيقة الطاهرة، بكلّ أبعادها وتفاصيلها، فالكتابة القصصية لا تتوقّف عند ظواهر الشخصيّة فحسب، ولا عند صفاتها الخارجية، بل هي تغوص في العمق لتتقمّص الدور وتتحدّث بلسان الفرد، وكلّما كانت الكاتبة أكثر اطلاعًا وتعمّقًا في معرفتها بسيدة النّساء، أتى الحديث عنها والتماهي مع صفاتها بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر، أكثر عمقًا ودلالةً وتأثيرا.

        المحور الثالث: موقع بنت الهدى في ريادة الأدب النسائيّ الملتزم:

في خضمّ هذا التجاذب والتنازع الفكريّ والأدبيّ، في الأدب عمومًا وفي الأدب النسائيّ خصوصًا، خرجت علينا بنت الهدى بفكرها الذي هذّبته تربيةٌ دينيّةٌ راقية وفهمٌ عميقٌ للحياة والكون، لتترجم هذا الرقيّ أدبًا يخطّ للمرأة المسلمة نهج حياة… لقد كرّست قلمها لتخدم دينها ومبادئها القويمة، ولتنسج من قصصها المفعمة بالحياة والأحداث الواقعية، مشاكل وحلولًا تطرح نماذج إنسانيّة لنساءٍ عشن في هذا الزمن، وعرفن كيف يكتشفن أنفسهن ويجدن طريقهن القويم، رغم المتاهات…

“إن ولوج بنت الهدى عالم الكتابة والإعلام، لم يكن لإرضاء رغبةٍ ذاتيّةٍ بالظهور والشهرة، أو انشغالٍ في الكتابة للكتابة فقط، ولكنها وجدت الساحة الإعلامية تفتقر إلى قلمٍ نسويٍّ يتصدّى لكمٍّ هائلٍ من الكتابات المقابلة والمضادّة، التي تدفع المرأة باتجاه النفور من قيمها والابتعاد عن تعاليم دينها…”[15]، ومن هنا فإن اختيار قصصها بالذات لتكون شواهد ونماذج على هذه الدراسة، هي عودةٌ إلى جذور القصة الملتزمة بأشكالها الأولى، التي خرجت من رحم المعاناة ضد الغرب المتسلّط والظلم والاستعمار وأزلامه وصوره المنمّقة الخادعة، وضدّ الشرق المغلوب على أمره، الذي كان حتى ذلك الحين منضويًا تحت نير الانحطاط الفكريّ المتجسّد بخلط القيم الدينية والحقائق الإلهية بالعرف الأعمى والعادات المتوارثة دونما منطق دينيّ أو عقليّ، فكان عليها مواجهة الجميع بسلاح الكلمة الطيبة، المستمدّة من فكر الإسلام النقيّ الخالي من شوائب التخلّف والرجعيّة، فكانت بحقٍّ “رائدة القصة الإسلامية في العراق… حيث لوّنت نتاجها الإعلامي بشتى المهارات الإبداعية، فكتبت المقالات الصحفية والقصائد الشعرية والقصة أيضا…”[16]

إن ما أعطى أدب بنت الهدى وقصصها نكهته المميّزة وأثره الفعّال، فضلًا عن إتقان الصياغة الأدبية وواقعيّة المثال، هو تماهيها هي نفسها مع ما كتبته، فقد كانت صادقةً في تجسيدها للشخصيات النسائية، وكانت تعيش المثال الزهرائيّ الذي حاولت أن تصوّره بدقّة، فأتت قصصها على نفس مستوى التصديق الذي تحمله… كما أنها في جملة خوضها لعالم القصة كانت قد خاضت أيضًا عالم البحث التاريخيّ، فكتبت كتابها “المرأة مع النبيّ” الذي تناولت فيه بالبحث والتحليل والأسلوب الأدبي الجميل، شخصيّات النساء اللواتي كان لهنّ دورٌ في حياة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وكان للزهراء عليها السلام مساحةٌ وافيةٌ من الكتاب، تحدّثت فيها بنت الهدى عن طفولتها وصباها وشخصيّتها الاستثنائية وقدسيّتها وصفاتها الكاملة التي جعلت منها “أم أبيها” وبضعته وريحانته، فلنا أن نجزم بأنها كانت متعمّقةً في معرفتها بسيدة نساء العالمين، سواء على المستوى التاريخيّ أو الفرديّ، فهي كانت تقرأ فيها صورة المرأة المسلمة النموذجية، “فهي مثال المرأة المسلمة المترفّعة عن الموادّ الدنيويّة، والصاعدة بروحها وروحيّاتها إلى أفق الكمال وسماء العصمة والفضيلة”[17].

إننا في المبحث الثاني من هذا البحث سنتطرّق إلى معالجة الأمثلة النسائيّة المطروحة في قصّتَي: “الفضيلة تنتصر” و”لقاء في المستشفى”، ومقارنتها بالمثال الزهرائيّ، وذلك عبر الصفات الكاملة التي تتّصف بها الزهراء عليها السلام، ومنها تلك التي طرحتها بنت الهدى نفسها في كتابها “نساء مع النبي”، فهو يلخّص فهمها لهذا المثال الإنسانيّ الاستثنائيّ، ولنا أن نجد عوامل التماهي معه في هذا المجال.

خلاصة المبحث الأول:

إن الأدب النسويّ الملتزم هو ذاك الشقّ الحيويّ من الأدب الإنسانيّ، الذي كتبته أقلام النساء الملتزمات وقلوبهنّ المفعمة بالعاطفة والمحبة لمجتمعهن ودينهن، وعقولهن المنفتحة على معاني الحق والحرية والكرامة، التي عنونتها بعض الرائدات في أدب المرأة المعاصر، وقد كان للأديبة الشهيدة بنت الهدى، بقصصها الشّائقة، قصب السبق في هذا المضمار، فهي قد انتهجت سبيل الهداية الذاتية ورفعت لواء الهداية الاجتماعية، فقرنت بين سيرتها وسيرة بطلاتها، ووضعت نصب عينيها ذاك المثال النسويّ الأرفع، الذي ارتضاه الله عزّ وجلّ لعباده؛ إنها الزهراء عليها السلام، بكل ما في سيرتها الملكوتية من خيرٍ وصلاح، في كلّ حقلٍ من حقول الحياة وعلى كلّ اتجاه، وإن المبحث الآتي سيتضمّن جولةً بحثيةً لرصد هذا المثال الذي جسّدته الشهيدة بنت الهدى في قصتَيها “الفضيلة تنتصر” و”لقاء في المستشفى”، ومدى انطباقه على الواقع والحياة الاجتماعية.

المبحث الثاني: المثال الزهرائيّ في قصص بنت الهدى:

        تمهيد:

“هذه قارئي العزيز ليست قصة، فلستُ قصّاصةً ولا كاتبةً للقصّة… بل هي لا تعدو أن تكون صورةً من صور المجتمع الذي نعيشه… حيث تتصارع قوى الخير والشرّ وتلتحم العقيدة بجيشها الفكريّ والروحيّ في معركةٍ مع حضارات الاستعمار وأخلاق المستعمرين”[18]

        هكذا تبدأ بنت الهدى رحلتها مع القصة الملتزمة، وبهذه الكلمات تقدّم روايتها الأولى، “الفضيلة تنتصر”، وهي الرواية والقصة الأولى والوحيدة التي وضعت لها مقدّمة تخاطب من خلالها قارئيها، لتكشف لهم عن رؤيتها الحياتيّة، وعن هدفها الأساس لدخولها إلى عالم القصة الواسع، ولعلها قد قصدت بتلك المقدّمة الفريدة الوحيدة، أن تجعلها مقدّمةً لكلّ قصصها الأخرى، فما قالته فيها ينسحب وينطبق على كلّ نتاجها القصصيّ اللاحق، ، فهي في كلّ حرفٍ خطّته ضمن هذا الفنّ الأدبيّ الرفيع، كانت ترمي إلى “إبراز المحتوى العقائديّ للصراع الدائر بين دعوتي الفضيلة والرذيلة، وجوهر التناقض الذي تعاني منه حياة كلّ مسلمٍ ومسلمةٍ في هذا العصر…”[19]

        إن بنت الهدى في قصّتَيها موضع البحث، تقوم بعرض شخصيّاتٍ مختلفة من نساء ورجال، يتموضعون ويتراوحون بين تيّاري الفضيلة والرذيلة، فتبرز بحبكتها القصصية وأحداثها الانسيابيّة معالم شخصيّاتهم، وإننا باعتبار موضوع البحث، سنقوم باختيار الشخصيّات النسائيّة ذات العمق الدينيّ تحديدًا، لنقوم بمناقشة صفاتها بالمقارنة مع المثال الزهرائيّ، ثم رصد مدى واقعية هذه الصفات وتماشيها مع روح الحياة…

        كما أن صفات الزهراء عمومًا، وتلك التي أوردتها بنت الهدى في كتابها “المرأة مع النبي” على وجه الخصوص، يمكن أن يتمّ استخدامها مرجعًا للمقارنة، فهي قائمة على فهم بنت الهدى لشخصية الزهراء العظمى، ولنا أن نتوقّع أن أي مثالٍ زهرائيٍّ تطرحه في قصصها سيدور في هذا الفلك نفسه…

المحور الأول: صورة السيدة الزهراء عليها السلام في كتاب “المرأة مع النبي”:

        إن حديث بنت الهدى عن الزهراء عليها السلام يأتي في سياقٍ تالٍ لحديثها عن أمها خديجة بنت خويلد (رض)، وهي قد حاولت تلخيص حياة الزهراء وصفاتها القدسية في صفحاتٍ قليلة من الكتاب، كانت بمثابة مخطّطٍ للشخصية الإنسانية النسوية الكاملة التي طمحت ودعت إليها بنت الهدى على مدار حياتها، ومن خلال ما كتبته من قصص وروايات…

        ومع أن الصفحات ليست كثيرة، فهي اقتصرت على زبدة القول وخلاصة الحياة الزهرائية السامية، إلا أنها ترمز وتشتمل على الخصال التكاملية الآتية:

  • قوة الشخصية والنباهة: فهي سلام الله عليها تواكب أباها منذ الصغر، وتدافع عنه وتقف إلى جانبه في كل ما يعانيه من مصاعب جمّة في سبيل نشر الدعوة الإسلاميّة: “لم تمنعها حداثة السنّ عن التعرّف إلى جميع مشاكل أبيها وآلامه…”[20].
  • ب‌- صلابة الموقف والصبر: “لم تضعف ولم تهن ولم تتردد ولم تتراجع…”[21].
  • ت‌- الشجاعة والجرأة: “واكبت سيره بكلّ شجاعةٍ وإقدام”[22].
  • ث‌- الزهد في متاع الدنيا والبساطة في العيش: “كانت بسيطةً في أسلوب حياتها، لا تكاد تختلف عن أي امرأةٍ فقيرة، فبيتها متواضعٌ للغاية”[23].
  • ج‌-   الترفّع “عن المواد الدنيوية”: فهي المؤمنة “الصاعدة بروحها وروحياتها إلى أفق الكمال وسماء العصمة والفضيلة”[24]
  • الحياء العذريّ: فهي عندما يسألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن رأيها في الزواج من علي عليه السلام “تسكت ولا تتمكن أن تجيب، فحياؤها العذريّ يمنعها من التصريح بما تريد”[25].
  • عدم الاهتمام بسفاسف الأمور: “لم تكن تهتمّ بما يملك عريسها من مال وما يهيّء لها من أثاث ورياش…”[26].
  • حبّ الإمام لشخصه الشريف وما يمثّله في سياق حفظ الدين، ومساندته ودعمه في الجهاد: “قبلت بالزواج حبًّا بعليّ وشخصه لا غير… قرنت حياتها بحياة علي فتمكنت أن تسنده بجهادها الإسلاميّ”[27].
  • الحنان الغامر والمحبة الكاملة: “أم أبيها… قامت منه مقام البنت والأم… كانت آخر من يراه عند سفره وأول من يلقاه عند رجوعه من السفر”[28].
  • الكمال الإنساني: “الحوراء الإنسية… كانت عنده في منزلةٍ ما فوقها منزلة”[29].

لعمري لقد أجملت بنت الهدى ولخّصت فضائل سيدة نساء العالمين بهذه الصفحات القليلة التي خصّصتها حول حياتها في كتابها المذكور، على أن هذه الفضائل، وهي غيضٌ من فيض كوثرها المرصود، ستكون هي الركيزة التي سنتّكئ عليها للانطلاق نحو المثال الزهرائيّ في قصتَيها الآنفتَي الذكر، فما لا يُدرك كلّه يُكتفى ببعضه، وفي حلاوة الشهد دلالةٌ على طعم العسل.

المحور الثاني: المثال الزهرائيّ في قصة “الفضيلة تنتصر”:

إن قصة “الفضيلة تنتصر”، هي باكورة أعمال بنت الهدى القصصية، وهي أطول رواياتها، المتّسمة عمومًا بالقصر، وقد طرحت من خلالها قصة الصراع بين الغرب ومغرياته والمخدوعين به، وبين الشرق وأصالته والمتمسّكين بقيمه الإسلامية الرفيعة… إن الكاتبة تدخل القارئ في سياق أحداثٍ محبوكةٍ بمهارة، ما بين سردٍ وحوار، كما لا تخلو قصّتها من حوارٍ داخليّ وحديث نفسٍ ومدٍّ وجزر، وحوارٍ خارجيٍّ تخيّم عليه أحيانًا الروح العلمية، فالقصّة إذًا تتراوح بين الذاتية والموضوعية، بحسب الموقف، ولكنها في النهاية لا تخلو من العنصر الإرشاديّ المخيّم على قصص بنت الهدى…

  • ملخّص قصة “الفضيلة تنتصر”:

تروي هذه القصة حكاية الفتاتين نقاء وسعاد، اللتين تربطهما صلة قرابةٍ في النسب دون الخُلق، فهما بنتا خالة، ولكنهما على طرفي نقيضٍ في كلّ شيء، أما نقاء فهي الفتاة البريئة الطاهرة، الملتزمة دينيًّا قولًا وعملا، والمرتبطة برباط الحب الطاهر والزواج الراقي من ابراهيم الذي يماثلها أدبًا والتزامًا، وأما سعاد فهي المرأة اللعوب التي لم يمنعها الزواج من رجلٍ فارغٍ كمحمود، علّمته بنفسها ألفباء الرذيلة وارتكاب المعاصي والموبقات، من المضيّ في مسيرتها الفاسدة ومن الغرق في الرذائل على أنواعها… وتلتقي الفتاتان بعد مدةٍ من افتراق، لتكتشف سعاد أن من تزوّجته نقاء ليس إلا حبّها الأول، الذي حاولت إغواءه يومًا فلم تنجح، بل كان له من دينه وإرادته الصلبة آنذاك، ما حماه من شرّها وشرّ مثيلاتها، حتى اختار فيما بعد من توافقه الفكر والروح، وكان ارتباطه بنقاء تتويجًا لفكرهما المنسجم وقناعتهما الصادقة وإيمانهما العميق… على أن سعادًا تحقد على نقاء، وتعدّ ارتباط ابراهيم بها تحدّيًا لها ولما تعيشه من ضياعٍ وتفلّت، فتصمّم على أن تثبت لإبراهيم أن “نقاء لا تختلف عن سعاد لو أتيحت لها الفرصة”[30]، فتحاول أن ترمي بنقاء في الهوة التي سقطت هي فيها أيام شبابها وطيشها، إذ لم يكن لديها وازعٌ من تربيةٍ وأخلاق، وتختار وسيلتها للإيقاع بنقاء؛ إنه زوجها محمود، الذي كانت تعلم أنه لم يكن يتورّع بدوره عن خيانتها مع هذه وتلك من الغانيات، فأرادت من خلال دفعه نحو نقاء أن تنتقم “من ابراهيم ومن مثله ومفاهيمه” إذ أنه “لن يخضع كبرياء تلك الفاتنة غير أموال محمود، فليس من الممكن أن توجد امرأةٌ لا يغشي عينيها بريق الذهب…” أما “شخص محمود فلا يعني عندي شيئًا على الإطلاق”… “وبعد أن تتحقّق غايتي الانتقامية سوف أستطيع بسهولةٍ أن أرده إليّ متى شئت…”[31]… وتتابع بنت الهدى قصّتها لتري القارئ كيف أن محمودًا الذي حاول التعرّض لنقاء بهدف التغرير بها، قد انقلب حاله بعدما توجّهت إليه بالوعظ والإرشاد، وتحوّل إلى إنسانٍ تائب، ليتملّص بعد ذلك من حبائل سعاد، فينقلب السحر على الساحر، وتذهب جهود سعاد أدراج الرياح، ويزداد ثبات نقاء على مبدئها، ولا تجني سعاد من مكيدتها إلا الخسران المبين.

  • الصفات الزهرائية في شخصية نقاء في “الفضيلة تنتصر”:

لا يكلّفنا البحث عن المثال الزهرائي في قصة “الفضيلة تنتصر” كثير عناء، فبنت الهدى عرضت لنا شخصيّة الفتاة الفاضلة التقيّة “نقاء” في مقابل نقيضتها سعاد، ولم يأتِ عرضها مباشرًا دائمًا ، بل إن الكاتبة تخرج علينا في هذه القصة بشخصيّتين رئيستين، هما نقاء وسعاد، وتمضيان جنبًا إلى جنب كمحرّكتين لأحداث القصة، كلٌّ باتّجاهها، وإن شخصية نقاء، التي تجسّد من خلالها بنت الهدى مثالًا زهرائيًّا وقدوةً فاطمية، هي تلك الإنسانة التي تعيش تديّنها والتزامها بوعيٍ وانفتاح، ومن هنا فإن تسليط الضوء على صفاتها الخُلقية، يمكّننا من معرفة مدى تماهيها مع شخص الزهراء القدسيّ، كما يفيدنا سبر تصرّفاتها العملية في إثبات واقعيّة هذا التماهي…

تصف بنت الهدى بطلة قصّتها بصفاتٍ متعدّدة منها ما يُفهم من سياق القصة وأحداثها، ومنها ما تصرّح به تصريحا:

  • البساطة في المظهر، التي أضاءت عليها بنت الهدى من قبل في شخصيّة الزهراء عليها السلام، ووصفت بها نقاء هنا في مستهلّ القصة؛ “تبدو وكأنها في السادسة عشرة مع أنها تناهز العشرين… شعرها الذهبيّ مرسلٌ على كتفيها في بساطةٍ محبّبة…”[32]… وقد مرّ الحديث عن هذه الصفة في شخصية الزهراء عليها السلام في أجلى معانيها، حيث قالت بنت الهدى فيها: “كانت بسيطة في أسلوب حياتها… فهي مثالٌ المرأة المسلمة المترفعة عن المواد الدنيوية…”[33]، والشواهد كثيرة من حياة الزهراء عليها السلام، فهي كانت تعيش بساطة الحياة والزهد مع أمير المؤمنين عليه السلام بكل أبعاده…
  • التهذيب والحياء العذريّ الذي ذكرته بنت الهدى سابقًا في صفات الزهراء، وقد وصفت به نقاء هنا من خلال سردها لردة فعلها على حديث سعاد المنافي للأدب؛ “لاحت على ملامحها علامات الاستياء، فلم يكن كلام صاحبتها بالكلام المهذّب، ولم تكن قد اعتادت على الخوض في مثله”[34].
  • حسن اختيار الزوج الملتزم بناءً على التوافق الدينيّ وعراقة أصله ومنبته ورقيّ أخلاقه الإسلامية الرفيعة، تمامًا كما اختارت الزهراء عليها السلام الإمام عليًّا عليه السلام وفضّلته على كلّ من خطبها من ذوي المال والجاه، بغضّ النظر عن كون اختيارهما جاء من رب السماء الذي أمر به خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم…، وقد أوردت بنت الهدى ذلك في صفات نقاء؛ “… فتاةٌ مهذّبة نشأت في أحضان أسرةٍ مستقيمةٍ محافظة حريصةٍ على الآداب الدينية، وقد عقد قرانها على شابٍّ عريق الأصل رفيع المنبت…وقد ضاعف اتصال نقاء بعريسها من ثبات روحياتها العالية ومن حرصها البالغ على مثل الإسلام وآدابه…”[35].
  • صلابة العقيدة: فقد برزت هذه الصفة في نقاء عدة مرات، وبالأخص عند حوارها مع سعاد التي كانت تتوسّل كافة الوسائل لتوقع بينها وبين خطيبها ابراهيم وتزرع بينهما بذور الخلاف، عبر التشكيك في صدق نواياه وإخلاصه الكامل لها، وهذه الصفة كانت بنت الهدى قد نوّهت بها ضمن صفات الزهراء، وقد تجسّدت في قول نقاء لسعاد: ” أنا لا أجهل شيئًا من الحياة، وإني واثقةٌ من صواب نهجي الذي أنا عليه، وإن عقيدتي هذه سوف تحقق لي ولزوجي السعادة الكاملة في كل حالٍ من الأحوال”[36]
  • الجرأة والصراحة: وقد بدت واضحةً في سلوك نقاء تجاه محمود حينما أراد معاكستها، وفي دفاعها عن عقيدتها وطرحها لأفكارها، المناهضة لتلك البهارج التي كانت سعاد تلوّح بها أمامها، وهي تستفزّها بمهاجمة عقائدها، وكلاهما يظنّ أنه يحرفها عن مسارها، ولكنها كانت تردّ بكلّ وضوحٍ واستقامةٍ وقوة، ولا تقدّم أيّ تنازل… وبدا ذلك في أكثر من موضع، كقولها لسعاد: “إنك أنت المخدوعة يا سعاد، وهذا ما يؤسف له حقًّا، أن تحطّمي حياتك نتيجةً للسير وراء الدعايات المضللة والأفكار المسمومة، أما أنا فكوني واثقة من أني أعني ما أقول”[37]، وقولها لمحمود: “أنا لا أتحدّث بأي أسلوبٍ غريب، وليس في كلماتي أي معنى جديد، وإنما أنت هو الذي يتحدّث بأسلوبٍ غريبٍ عن الرجولة، بعيدٍ عن العزة والكرامة…”[38]، وغير هذين الموضعين كثيرٌ من المواقف التي برزت فيها جرأة نقاء في قول الحقّ مهما كانت ردة فعل الآخر، وذلك دفاعًا عن دينها وعقيدتها…

  وقد عرفنا أضعاف هذه الجرأة ومثالها الكامل على نحوٍ استثنائيٍّ في شخصية الزهراء القدوة، وذلك من خلال سيرتها العطرة، حيث واجهت الكافرين من قريش قبل الهجرة وهي صبيّة صغيرة، وواجهت المنافقين الغاصبين لحقّها بعد وفاة أبيها الرسول الأعظم، وخطبت فيهم الخطبة الفدكية الشهيرة، التي خلّدها التاريخ وأخذ من معينها العبر ولا يزال… وقد أوردت بنت الهدى شاهدًا على تلك الجرأة الزهرائية في كتاب “المرأة مع النبي”، حيث نقلت حادثة وضع الجزور على ظهر النبي (ص)، قبل الهجرة، وهو يصلي بجوار الكعبة، فلم يتجرّأ أحدٌ على التدخّل سوى فاطمة عليها السلام التي “جاءت وطرحته عنه ثم أقبلت عليهم تؤنبهم على ذلك”[39].

  • الالتزام الصادق بمظهر الإسلام وجوهره، والموازنة بينهما: حيث نلاحظ الكثير من المواقف التي سردتها بنت الهدى في القصة، والتي تنمّ عن التزام نقاء الصادق والعميق بحجابها الكامل، قلبًا وقالبًا، في مظهرها كما في سلوكها وتصرّفاتها، فهي تعكس الشخصية الزهرائية المتكاملة، فهي تدافع عن الحجاب الإسلاميّ في حوارها مع سعاد، بقولها: “أنا لست سجينةً بين جدران، … أنا حرةٌ في جميع تصرفاتي وتنقلاتي إلى حيث ما أردت، وإلى أي مكانٍ قصدت، ولكن في نطاق العفة والحشمة…”[40]، كما أنها تجسّده بتصرّفاتها المتّزنة التي تصدّ بها محمود، الذي حاول التعرّض لها أكثر من مرة، فجابهته بجدّيّة، ولم ترضخ بالقول ولا بالحركة أو النظرة، مما جعله يدرك أنه قد وقع في خطأ فادح…

أما حجاب الزهراء فلا يماثله حجاب، فهو قدوةٌ لكلّ مسلمة، ولسنا بحاجةٍ إلى شاهدٍ تاريخيّ أو عقليّ من السيرة الزهرائية على هذا القول، ولا حتى من كتاب بنت الهدى “المرأة مع النبي”، حيث أن الحجاب المفروض على نساء المسلمين عامة، كان في أوجه وصورته الكاملة متجسّدًا في سيدتهن الطاهرة أم الأئمة المعصومين، التي مثّلت كل معاني الطهارة والفضيلة والحشمة الأنثوية… امتثالًا لأمر الله عزّ وجلّ في آية الحجاب: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليُعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعًا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون}[41]

  • التفاهم والانسجام والثقة المتبادلة بين الزوجين: إن هذا التفاهم القائم على الحب والوئام والتقارب الفكري والروحي، هو ما نادت به بنت الهدى في قصصها عمومًا، وفي هذه القصة على وجه الخصوص، حيث يظهر واضحًا في علاقة نقاء بإبراهيم، وتفتقده تمامًا علاقة سعاد بمحمود، وقد برز هذا السمو في العلاقة بين نقاء وإبراهيم في أكثر من موقف، حيث نرى إبراهيم يخاطب نقاء بعد حوارٍ وديٍّ مفعمٍ بالمحبة والتفاهم، أجاب فيه عن بعض تساؤلاتها حول المرأة ودورها في الإسلام، فيقول لها في النهاية:
  • –       … كوني واثقة يا حبيبتي من أن حياتك الزوجية سوف تغدو حافلة بجميع أنواع المسرات مفعمة بألوان المحبة والنجاح…

فتجيبه نقاء:

  • أنا واثقة من ذلك يا إبراهيم، وقد اطمأننت إلى ذلك منذ اليوم الأول لخطوبتنا، وعرفت أنك رجل مثالي، وأنك أقدر ما تكون على إسعاد زوجك في الحياة…
  • وأنا واثقٌ أيضا أن روحك الطاهرة بصفائها ونقائها تتسع لكل المفاهيم الخيّرة والمثل العليا…[42]

إن هذه الثقة التي يوليها إبراهيم لزوجته هي ثقةٌ موضوعةٌ في حيز التنفيذ، وليست كلامًا فقط، والدليل هو حثّه لها على مساعدة محمود بإسداء النصح والإرشاد له، مع المحافظة على الحشمة التي يعلم أنها تمتلكها،  وذلك بردّه على مصارحتها له حول ما جرى مع محمود، “وجاءها الجواب من إبراهيم وكان يمتدح فيه موقفها الشريف الواضح، وقد كتب لها قائلًا:

  • امضي في جهادك يا عزيزتي مكلّلةً بالغار، مجلّلة بأبراد العفة والفضيلة.”[43]

إن هذه الصفات السامية التي تكتنف العلاقة الزوجية، هي في رقيّها ارتقائها تنتسب للزهراء عليها السلام، فعلاقتها بإمام المتّقين لا يختلف فيها اثنان، من حيث تكاملها الإنسانيّ، ونماذج ذاك التكامل لا يمكن حصرها، ويمكننا كنموذج عليها أن نورد حديث أبي جعفرٍ عليه السلام إذ يقول: “إن فاطمة ضمنت لعليّ عليه السلام عمل البيت والعجين والخبز وقمّ البيت، وضمن لها علي عليه السلام ما كان خلف الباب: نقل الحطب وأن يجيء بالطعام…”[44]، وهذا التوازن في توزيع المهام يدلّ على التفاهم الحاصل بينهما، كما أن شهادة أمير المؤمنين عليه السلام بحقها في قوله: “… ولا أغضبتني ولا عصت لي أمرا”[45]، وقوله أيضا: “وقد كنت أنظر إليها فتنكشف عني الهموم والأحزان”[46]، وإن إحصاء المواقف الدالة على هذا التوازن والتفاهم والانسجام غير ممكن، ولكنه ما اتصل بنا علمه وضاق المجال عن الإحاطة به…

  • العدالة الاجتماعية والإحسان والإيثار: إن هذه الصفات التي لطالما كانت تتألق في مدرسة الزهراء عليها السلام، قد برزت علينا من خلال قصة “الفضيلة تنتصر” عبر شخصية نقاء، في مواقف متعددة، لعلّ أبرزها موقفها من تلك المتسوّلة التي كادت تسلبها قرطها الماسي فقرًا وعوزًا، فما كان من نقاء إلا أن سترت عليها فقرها وجنوحها بتصدّقها عليها بالقرط الثاني…. إن هذه الحادثة بالذات قد شكّلت منعطفًا أساسيًّا في القصة، وجعلت محمودًا يراجع حساباته، “فقد قلبت هذه الحادثة مفاهيمه، وفتحت أمامه آفاقًا جديدة لم يكن يعرفها أو يعترف بوجودها أيضا… وشعر أن في الحياة معانيَ سامية كانت خافية عليه…”[47] مما جعله يهتدي إلى “بصيص النور الذي أشرق على جنبات روحي”[48]… إن هذه الحادثة بالذات تعيد إلى أذهاننا قصة نذر الزهراء عليها السلام وتصدّقها بقوت عيالها لثلاثة أيامٍ متتابعة، على مسكينٍ ويتيمٍ وأسير، حتى نزلت فيها وفيهم تلك الآية الكريمة: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرا}[49]، كما تذكّرنا بقصة تصدّقها بثوب عرسها على السائل[50] عملًا بقول الله عزّ وجلّ: {لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون}[51]

        إن شخصية نقاء في قصة “الفضيلة تنتصر” تمثّل الفتاة الزهرائية التي لا تألو جهدًا بالاقتداء بمولاتها سيدة النساء، وتجسّد من خلال كل حركةٍ ونأمةٍ تقوم بها، صفةً زهرائيةً جديدة، تتّصل بصفات الزهراء المثالية، التي تتحرّك على أرض الواقع، وترسم صورة المرأة المسلمة الواعية المنفتحة، المواكبة لعصرها من ناحية، والمتمسّكة بمبادئها من ناحيةٍ أخرى، فإن ما سردته بنت الهدى من أحداثٍ عبّرت عن صفات المسلمة الزهرائية، هي بمثابةٍ دليلٍ عمليّ ملموس، على أن شخصية الزهراء ليست مثالًا خياليًا لا يمكن تطبيقه على أرض الواقع والحاضر العملي، بل إن مجرد تواجدها يومًا هي نفسها في زمنٍ من أزمنة التاريخ، يؤكد على واقعية المثال، بينما يبرهن إسقاط هذه الصورة على صور الحياة العصرية دونما مفارقةٍ وتباعد، بل بائتلافٍ وانسجام، يؤكد على واقعيتها واختراقها لحاجز الزمان والمكان، فهي قدوة قابلة للتطبيق في كل عصرٍ ومصر…

المحور الثالث: المثال الزهرائيّ في قصة “لقاء في المستشفى”:

        تأتي قصة “لقاء في المستشفى” لتشكّل حلقةً من سلسلةٍ متّصلة لقصص الشهيدة الراحلة، التي رسمت من خلالها صورًا من واقع الحياة، وأرادت بها إبراز صراع الحق ضد الباطل في هذا الزمن الصعب، وهي كما في سائر قصصها، تتوسّل القصة طريقةً للإرشاد، وتضمّن أحداثها المبتكرة المشوّقة جملةً من الحوارات العقائدية والفلسفية والعلمية التي تطرحها بأسلوبٍ مبسّطٍ سهل الفهم، تنأى به عن تعقيدات الفلاسفة وتفاصيل العلماء، فتقدّم زبدة العلم والفلسفة على طبقٍ من أدبٍ جميلٍ وحوارٍ شيّقٍ وأحداثٍ تحبس الأنفاس.

  • ملخّص قصة “لقاء في المستشفى“:

تحكي هذه القصة حكاية الفتاتين ورقاء ومعاد، اللتين تلتقيان على غير ميعادٍ في المستشفى التي تعمل فيها معاد كطبيبةٍ متدرّبة، بينما تأتيها ورقاء برفقة جدتها لعارضٍ صحيّ ألمّ بها، ويجمعهما في البداية مظهرهما الملتزم المتقارب وحجابهما، الذي تحسبه معاد دليل قناعةٍ دينية عند ورقاء، ثم تجده بعد ذلك فارغًا ضعيفًا يحتاج إلى دعمٍ وتقويةٍ، وفي الوقت الذي تتطوّع فيه معاد لمساعدة ورقاء بالسهر على جدّتها في المستشفى، تتعمّق علاقتهما أكثر، وتبدأ تلك الجلسات الحواريّة العميقة الشيّقة التي تأخذ فيها معاد دور المرشدة لصديقتها، والمساندة لها أيضًا في وحدتها، فهي لا أهل لها سوى هذه الجدة… وتتطوّر الأحداث حينما تكتشف ورقاء أن الدكتورة معاد، التي طلبت يدها لأخيها الدكتور سناد، هي في الحقيقة ابنة قاتل أبيها!!… وتضطر للابتعاد عنها بعدما وجدت فيها الأخت الكبرى التي تفتقدها، وذلك بضغطٍ من جدّتها، التي تمثّل في القصة عنصر الأهل التقليديين الذين لا همّ لهم لحلّ مشاكل الفتاة إلا البحث لها عن زوجٍ مناسب، ويبرز على مسرح القصة الشاب الثري ماهر، ابن عم ورقاء، الذي يتقدّم لخطبتها وتوافق الجدة عليه دون علم ورقاء، ولكن ورقاء ترفض، فماهر ليس فقط بعيدٌ عنها فكريًّا بأفكاره السطحية، بل هو غير ملتزمٍ دينيًّا أيضا، وهي بناءً على التزامها الذي استكملت فصوله برعاية معاد، لا يمكن أن ترتبط بشخصٍ غير ملتزم… وينتهي الصراع بعد اشتداده ليبلغ الذروة، باكتشاف ورقاء أن والد معاد وسناد المتوفى، ليس هو من يحملان اسمه على هويتهما، والذي تعتقد جدتها أنه قاتل أبيها، بل إن هذا هو زوج أمهما الذي اضطهدهما صغيرين، ثم نسبهما إليه ليستولي على حقوقهما… ومع انتفاء سبب رفض الجدة خطبة سناد لورقاء، تنتهي القصة نهايةً سعيدة تجمع بين قلبين وفكرين متجاورين، وتبقى معاد راعية ذاك الارتباط، وأختًا ومرشدةً لورقاء، تفتح عينيها وروحها على كل جميلٍ وأصيلٍ، وتوضح لها سبل الرشاد…

  • الصفات الزهرائية في شخصيّتي معاد وورقاء في “لقاء في المستشفى”:

إنه بخلاف قصة “الفضيلة تنتصر”، فإن شخصية المرأة الزهرائية هنا لا تقتصر على فردٍ واحدٍ في القصة، ولا تتألّق في شخصيّةٍ واحدةٍ متكاملة، بينما تكون الشخصية النسائية الأخرى نقيضًا لها، كالأبيض والأسود، كحال نقاء وسعاد، بل إن المجال يتّسع في قصة “لقاء في المستشفى” لنمطٍ مختلفٍ من الفتيات، ولونٍ متوسّطٍ يأخذ من الأبيض إشراقه ومن الأسود غموضه، ففي الوقت الذي تظهر فيه صورة معاد بأنقى ألوان البياض الناصع المبهر، تبدو لنا شخصية ورقاء رمادية، فهي ليست ممثّلةً لعنصر الفضيلة بحلّتها الأبهى، ولا هي واقعةٌ في خضم الرذائل، بل إن حالها يشبه حال شريحةٍ كبيرة من شباب هذا الجيل، الذين يعيشون الاضطراب والشكوك والمدّ والجزر، ولكن ما هي فيه من عدم استقرارٍ لم يدفعها للتنكّر لمبادئها، بل هي حملت تساؤلاتها في فكرها بانتظار من يكشف لها عن وجه الحقيقة، واستمرّت تعيش تديّنها بسطحيّةٍ اكتفت بها حتى حين، وحينما تقابل ورقاء معاد، الشخصية الزهرائية المرشدة، تكون لها بمثابة منقذةٍ تنتشلها من ظلمات الشك والضياع إلى نور اليقين والبرهان… وبما أن الصفات الزهرائية هنا تتركّز أكثر في شخصية معاد، ولكنها لا تنتفي كلّيًّا عن شخصية ورقاء، فإننا سنقوم بمقاربة هذه الصفات بعنوانٍ عام، ثم ننتقل بعد ذلك لتخصيصها وتحليلها بحسب ما تنقله لنا القصة من أحداث…

ولكي لا نقع في التكرار، باعتبار أن الصفات التي أوردناها سابقًا في قصة “الفضيلة تنتصر” يمكن أن تبرز هنا أيضا، فإننا سنقتصر في هذه القصة على الصفات الأخرى التي لم يرد ذكرها سابقًا، لا لعدم وجودها في الشخصية السابقة، بل لأن ظهورها هنا كان أكثر وضوحًا، ويمكن التدليل عليه بشواهد مناسبة.

ومن هذه الصفات التي ترتقي بالشخصية النسوية إلى مصافّ القدوة الزهرائية، نميّز الآتي:

  • حبّ العطاء والإيثار: تبرز هذه الصفة في شخصية معاد بشكلٍ واضح، فهي في بداية القصة تؤدي دورها الإنسانيّ كطبيبة، تستيقظ على “رنين الهاتف، وكأن جسمها كان يعاني صراعًا بين سلطان النوم ونداء الواجب…”[52]، وتسعف جدة ورقاء في وقتٍ متأخر من الليل، كما تحنو على الفتاة الوحيدة، فتقوم بالسهر على جدتها بدلًا عنها دونما منة، قائلة: “إنني اعتدت على هذه الأتعاب فلم أعد أحس بثقلها عليّ، ثم إنني نمت ساعتين في بداية الليل، ولهذا فأنت أحوج مني إلى الرقاد…”[53]، كما أنها تتطوّع بإسعافها هي نفسها حين تلجأ إليها الجدة، فتأتي مع أخيها لتفقّدها ونقلها إلى المستشفى… وغير ذلك من مواقف إنسانية تنمّ عن رقيّها الخلقيّ وقدرتها على العطاء… إن هذه الصفة هي زهرائية بامتياز، فهي تتجسّد في شخص الزهراء عليها السلام في مواقف كثيرة، منها موقفها من خادمتها فضة، التي وهبها لها النبي (ص) فكانت تشاطرها الخدمة قائلة: “يا رسول الله، عليّ يوم وعليها يوم…”[54]، ورُوي عن سلمان المحمدي أن فاطمة عليها السلام كانت جالسةً قدامها رحى تطحن بها الشعير وعلى عمود الرحى دم سائل، والحسين في ناحية الدار يبكي من الجوع، فقلت: يا بنت رسول الله دبرت كفاك وهذه فضة، فقالت: أوصاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن تكون الخدمة لها يومًا فكان أمس يوم خدمتها…”[55]… إن هذه الأحداث وغيرها من حياة الزهراء تقدّم لنا أمثلةً نموذجية للإيثار والمحبة والعطاء التي كانت تتحلى بها سيدة النساء، بل كانت في القمة منها، وليس النموذج الزهرائي الذي حاولت بنت الهدى طرحه إلا شعاعًا من شمسها الباهرة…
  • ب‌- سعة الاطّلاع والتبحّر في شتى المجالات: تظهر هذه الصفة واضحة في شخصية معاد، الطبيبة المتديّنة الملتزمة، التي تحاور الفتاة المتحيّرة ورقاء، وتجيبها على أسئلتها العلمية والفلسفية، مضيئةً على شبهاتٍ كثيرةٍ يقع فيها السائلون، ويدّعيها أهل العلم الماديّ محاولين من خلالها معارضة أهل الإيمان، بادّعاء التناقض بين العلم والدين… ولئن كانت هذه الحوارات العلمية قد زُجّت في سياق الحوار السرديّ الذي يتناول أحداث القصة، فهي قد أدّت المطلوب من التوجيه والإرشاد، وعكست للقارئ صورة المرأة الزهرائية النيّرة الفكر المطّلعة على شتى العلوم الدنيوية… فهي تارةً تحدّثها عن جسم الإنسان وما يحتويه من دقائق صنع الباري[56]، وتارةً تحدّثها في مسائل فلسفيةٍ عقلية، كاستحالة اجتماع النقيضين، والفرق بين التصوّر والتصديق[57]، وغير ذلك… إن صفة الموسوعية واتساع المدارك والآفاق العلمية هي من خصائص المرأة الزهرائية في هذه القصة، فهي تتّخذ من معلوماتها جسرًا تصل من خلاله إلى فكر وقلب محاورتها، بحيث تردّ على تساؤلاتها وتقدّم إليها الأدلة والبراهين على الإيمان بالله ورسله وكتبه…

إن ما طرحته بنت الهدى من خلال شخصية معاد هي صفةٌ زهرائية متألّقة، ونحن إذ نتذكّر ما أطلعتنا عليه المصادر التاريخية من معرفة الزهراء واتساع علومها، نرى أنها كانت مرجعًا لنساء المدينة في كلّ ما استعصى عليهن من أمور الدين، بل إنها كانت تروي عن لسان أبيها النبي، الذي شهد لها أنها بضعته وروحه التي بين جنبيه، وما الخطبة الفدكية التي دبّجتها بعد وفاة النبيّ (ص) إلا الدليل الأبين على اتساع علمها وفصاحتها وبلاغتها الاستثنائية… وهي ناحيةٌ من العلوم اتّصفت بها الزهراء (ص)، وتميّزت بها عن سائر النساء، وليس غريبًا على من كملت مناقبها الملكوتية أن تكتمل علومها اللدنية، وهي العالمة بعلوم النبي والآخذة من علوم الوصي، وهي المحدّثة العالمة غير المعلّمة…

  • مزج العلم بالدين: وقد بيّنت بنت الهدى من خلال شخصية معاد كيف تتمكّن المتعلّمة بالعلوم الدنيوية أن تكون متفقّهة في شؤون دينها، وأن تتّخذ من علومها سلّمًا ترتقي به نحو قمة الهداية، وذلك في زمنٍ حاول بعض أهل العلم  ممن انحرفوا عن جادة الإيمان، أن يوحوا إلى العامة من الناس أن الدين والعلم لا يلتقيان، بل أن أحدهما نقيض الآخر، وهنا كان لا بدّ من توكيد هذه الصلة الوثيقة بين العلم والدين، عن طريق مثل هذه الحواريات العلمية الفلسفية الدينية التي تضمنتها قصص بنت الهدى، وبالأخصّ هذه القصة… وإن هذه الصفة كغيرها من الصفات الواردة هنا هي صفةٌ زهرائية، فإن كمال العلم وامتزاجه بالدين ينتسب إلى الزهراء دون شك، فهي أكمل النساء خلقًا وخُلقا ومنطقا… وهي التي استطاعت أن تفيد بعلومها واطلاعها وفقهها كل نساء عصرها وما بعده، حيث عجّت حياتها القصيرة زمنًا الطويلة بعبرها وآيات رشدها وتألّق فكرها ونضج رأيها رغم صغر سنّها الذي لم يتجاوز حين استشهادها العقد الثاني من العمر، على اختلاف الروايات…
  • ث‌- برّ الوالدين وطاعتهما وعدم إغضابهما إلا في ما يتعلّق بمرضاة الربّ: تبرز هذه الصفة على نحوٍ واضحٍ في شخصية ورقاء، التي تعُدّ جدّتها أمًّا لها، فهي “ليس لديها بنتٌ سواي وليس لدي أم سواها”[58]، وهي متعلّقةٌ بها ولا ترضى أن تتركها وحيدة في المستشفى حتى ولو كانت شديدة الإرهاق؛ “نعم إنني متعبة، ولكن جدتي… كيف أتركها وحيدة؟”[59]، كما أنها تطيعها في رفض خطبة سناد، مع أنها لا ترى فيه أيّ عيب في شخصه، وذلك لظنها بأن أباه قتل أباها… على أنها تعارضها في مسألة خطبة ماهر، وتبقى ثابتةً على موقفها رغم الضغوط القاهرة… وذلك لأن في قبولها بماهر خطرًا على دينها وعقيدتها فهو غير ملتزمٍ دينيًّا… إن ورقاء تعرف كيف تفصل بين حبها وطاعتها لجدّتها، وبين تعلّقها بدينها وبارئها، فهي “الآن قد عرفت عن دينها أكثر مما كانت تعرف، فقد أصبح من المستحيل أن ترضاه… وصممت أن تخوضها معركةً مع الجدة مهما كلفها ذلك من صعاب”.[60] إن هذه الصفة هي حتمًا زهرائية، فبرّ الوالدين من أهم صفات المؤمن، فما بالنا بسيدة المؤمنين والمؤمنات، ومواقف برّها مع والدها النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تعدّ ولا تحصى، سواءً قبل زواجها وانتقالها إلى بيت الإمامة، أم بعد ذلك، ولعلّ حديث الكساء اليمانيّ المعروف يضيء لنا على ذلك البرّ الكامل والحنان الشامل الذي كانت الزهراء تخص به أباها، والذي يتجسد في قولها: “فأتيته بالكساء اليمانيّ وغطّيته به، وصرت أنظر إليه وإذا وجهه يتلألأ كأنه البدر في ليلة تمامه وكماله”[61]… أما عنايتها به ورمي الجزور عن ظهره قبيل الهجرة، ومسح الدماء عن وجهه الشريف حينما جرح في معركة أحد[62]، واهتمامها الخاص به واهتمامه الاستثنائي بها حتى كان يقوم من مجلسه ويقعدها[63]… ولئن كانت هذه الأمور شواهد على فضلها وتميّزها عند الله عزّ وجلّ، فإنها أيضا شواهد على ذلك البرّ الذي لا مثيل له، والذي يشكّل مثالًا رفيعًا من أمثلة البرّ في طاعة الوالدين وطاعة الله جلّ وعلا.
  • ج‌-   الوعي التامّ لأبعاد الحياة الزوجيّة ومتتبّعات اختيار الزوج: وقد برزت هذه الصفة في ورقاء أيضًا حينما راحت تحاور ماهرًا لتعلمه بالفارق الذي يفصلهما وبأنهما لا يصلحان كزوجين: “إن الحياة الزوجية ليست شركة مادية أو ندوة اجتماعية، وإنما هي وحدة روحٍ وفكرٍ ومصير، وهذا ما لا يمكن أن يتحقّق مع اختلاف السلوك وتباين وجهات النظر، وما دمنا لا نستطيع أن نلتقي فكريًّا فلن نستطيع أن نلتقي عاطفيًّا”… ومن الطبيعيّ التسليم بأن هذا الوعي صفة زهرائية لا شكّ فيها، فالزهراء القدوة كانت الزوجة المثالية لأمير المؤمنين عليه السلام، ولعلّ من أبرز مواقفها في هذا السبيل، عدا ما تقدّم لنا ذكره في موقعٍ سابق، قولها له في معرض مراعاة الظرف المالي مثلا: “يا أبا الحسن إني لأستحي من إلهي أن تكلّف نفسك ما لا تقدر عليه”[64]، ويضيق المجال ويقصر المقال عن الإلمام بكلّ ما اتّصفت به سلام الله عليها من كمالات روحية ونفسية في علاقتها بزوجها الإمام عليه السلام…
  • التعطّش للعلم والسعي إليه: وهي صفةٌ تبرز أيضًا عند ورقاء، التي كانت تمضي في دينها على غير هدى، حتى أتتها معاد، فكشفت عن ناظريها ما تلبّد من غيومٍ ربداء، ورفعت مستوى وعيها الدينيّ، فصارت تسعى إليها لتنهل من معين الهدى، حتى أنها حينما اضطرّت لرفض خطبة سناد، كان أسفها على قطع علاقتها بمعاد أشدّ من أسفها عليه: “أقطع علاقتي مع معاد؟ وكيف لي ذلك وقد أصبحت بالنسبة لي ضرورة من ضروريات الحياة؟”[65]… إن تعلّق ورقاء بمعاد هو تعلّقٌ بحاجتها للتعلّم منها والاستزادة من الوعي الدينيّ والفكريّ الذي كانت هي مصدره… ومما لا شكّ فيه أن الزهراء عليها السلام في عليائها كانت مثالًا يقتدى في الوعي والاستزادة من شتى العلوم، فهي كانت تنهل من علم أبيها النبيّ وزوجها الوصيّ ما جعل والدها يدعوها بالحوراء الإنسية، وأم أبيها، والبضعة، وغيرها من ألقابٍ تدلّ على سموّ مقامها، الذي حصّلته بتلك العلوم العلوية…

خلاصة المبحث الثاني:

إن قصص بنت الهدى عمومًا اتّصفت بالدعوة إلى الحقّ والبحث عن الحقيقة، كما أسلفنا، ولذا فقد كان من الطبيعيّ أن تكون بطلات قصصها فتياتٍ يترسّمن خطى سيدة الحقّ وأيقونة الحقيقة، وأن تكون صفاتهن الموسومة صفاتٍ زهرائية رفيعة، فهنّ يحذين حذو الزهراء عليها السلام وينتهجن نهجها، وينطلقن في الحياة من خلال تلك القدوة والمثال، فيعشن السعادة النفسية والعائلية والروحية…

ولئن استطعنا من خلال دراسة بعض النماذج النسوية في قصتين من قصص بنت الهدى، أن نسلّط الضوء على  المثال الزهرائي الذي وضعته السيدة الشهيدة نصب عينيها ورفعت من مقام بطلاتها بالتماهي معه، واستطاعت أن تبيّن مدى واقعيّته وحيويّته، فإن المجال مفتوحٌ أمام رصد بطلات قصصها الأخرى، اللواتي يتماهين أيضًا مع هذا المثال، بصفاتٍ جمّةٍ لا يحيطها الإحصاء، وإن كلّ خطوةٍ يخطوها الباحث في هذا المجال تفتح آفاقًا جديدةً وتبرز صفاتٍ أخرى فريدة، تتصف بها النساء الزهرائيات في هذه القصص، مما يجعلنا ندرك أمرين:

  • أن بنت الهدى عاشت الزهراء عمليًّا، وأرادت أن تنقل هذه المعرفة عبر أدبها وقصصها إلى سائر النساء.
  • أن قصص بنت الهدى كانت في مقدمة القصص النسائية الملتزمة التي برهنت على أن الاقتداء بالمثال الزهرائي في الحياة ممكن بل وضروريّ، مهما كان العصر الذي تنتمي إليه المرأة، فكما أن الإسلام هو خاتم الأديان وأكملها، ومحمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الرسل وأفضلهم، فإن فاطمة الزهراء عليها السلام هي سيدة النساء وقدوتهن، فمن الطبيعيّ أن تعيش وتتخلّد هذه القدوة ما عاش الإسلام مستمرًّا بوجود البشر على هذه الأرض، وآمن البشر بمحمد، وتماهت النساء مع الزهراء.

الخاتمة:

يضيق المجال عن إحصاء الصفات الملكوتية للمثال الزهرائي، ويقصر المقال عن الكتابة الدائرة في فلك هذا المثال، ولكن الإنسان منذ كان، ميّالٌ إلى البحث عن الكمال، ولما كان الأدب عمومًا ناطقًا بلسان حال المجتمع، فهو يولد من رحمه ثم هو بعد ذلك يلده ويربيه، أي أنه ابن المجتمع وأبوه، فقد كان من الطبيعيّ أن يترصّد ما كان خالدًا في تاريخه ليستقي من خلوده ما يرفع من قدره ويخلّده، ولعل  أرفع النماذج وأكثرها خلودًا في تاريخ الأدب الإنساني على الإطلاق، هو نموذج العترة النبوية الطاهرة لنبي الهدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك أنهم أرفع نماذج الإنسان، فحريٌّ بالأدب المتمحور حولهم أن يكون أرفع نماذج الأدب المعبّر عن هذا الإنسان…

وإن الأدب النسائي الذي تبدعه المرأة لينطق باسم المرأة، والأدب النسائيّ الملتزم الذي تتوسّله الكاتبة الملتزمة لترسم للنساء نماذج من حياتهن ولحياتهن، قد اختطّ لنفسه مسارًا في تاريخ الأدب الحديث، واستطاعت بنت الهدى ومن سرن على خطاها من كاتبات هذا العصر، أن يكشفن للعالم أجمع من خلال أدبهن، عن نموذج نسائي فريد، يصلح للخلود بل يخلّد المرأة الإنسان؛ إنه المثال الزهرائي الذي بدأ مع فاطمة الزهراء عليها السلام، وهي امرأة استثنائية  تقدّمت بنات جنسها بكمالها، وخطت لهن صراط الكمال، فأعلنّ على الملأ عبر الكلمة والقصة والأدب الرفيع، أنهن قد وجدن بغيتهنّ، وصار لزامًا عليهن، أن تكون رسالتهن في الحياة، أن يقدمن لمجتمعهن وللعالم، نساء زهرائيات، وكلما أتقنّ الاقتداء بهذا المثال الأرقى في حياتهن، والتعبير بالأدب الجميل عما يدور في قلوبهن وأذهانهن، كان المثال الزهرائي في أدبهن أكثر نصوعًا ووضوحًا وبهاء، وكنّ حقًّا جديرات بحمل لواء الزهراء.

 إن المثال الزهرائيّ الذي  تمّ تجسيده في الأدب النسائي، قد تنفّس بين السطور أدبًا حيًّا راقيًا يتألّق باحترام المرأة والارتقاء بخصالها الحميدة وسعيها نحو الكمال، فكان هذا المثال كلمة الزهراء الناطقة في فم كل فتاةٍ تقتدي بها، وووجودها الزاخر في شخصية كلّ امرأةٍ تتماهى معها، وصوتها الملائكيّ المسبّح في آذان الزمان عبر العصور، لا يعترف بالفناء، بل هو خالدٌ متجدّدٌ كما ضياء الشمس وروح الحياة، يحافظ على جوهره القدسيّ، ويعيش في كلّ عصرٍ بمعطياته، فالحق والباطل لا يتغيّران، والفضيلة والرذيلة لا تتحوّران، وكلّ شيءٍ خلقه الخالق الديّان يمضي  بميزان، وميزان خُلُق النساء في كلّ مكانٍ وزمان هي فاطمة الزهراء.


[1]  سورة الأحزاب، الآية 21

[2]  سورة القلم، الآية 4

[3]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، الجزء 43، الصفحة 54

[4]  المصدر السابق، الجزء 43، الصفحة 22

[5]  سورة آل عمران، الآية 34

[6]  وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، الجزء 27، الصفحة 34

[7]  سورة المائدة، الآية 55

[8]  مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، الجزء الثاني، الصفحة 29

[9]  سورة التحريم، الآية 11

[10]  سورة التحريم، الآية 12

[11]  الأمالي، الشيخ  الصدوق، 690، ح 947: النسوة الأربع اللواتي حضرن مولد الزهراء مع خديجة بنت خويلد (رض) لمّا قاطعتها نساء قريش، هنّ سارة  زوجة إبراهيم وآسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران وكلثم أخت موسى…

[12]  مناهج النقد الأدبي الحديث (رؤية إسلامية)، د. وليد قصّاب، ص36 و37

[13]  ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج3، ص2132

[14]  النقد الأدبي أصوله ومناهجه، سيد قطب، ص 11

[15]  ريادة النجف الأشرف للإعلام الإسلاميّ المعاصر في العراق 1958- 1968، د. بيان العريض، ص314

[16]  المصدر السابق، ص 328

[17]  “المرأة مع النبي”، المجموعة القصصية الكاملة لبنت الهدى، المجلّد الثالث، الصفحة 274

[18]  مقدمة رواية “الفضيلة تنتصر”، المجموعة القصصية الكاملة لبنت الهدى، المجلّد الأول، الصفحة 11

[19]  مقدمة رواية “الفضيلة تنتصر”، الصفحة 11 و12

[20]  المرأة مع النبي، المجموعة القصصية الكاملة لبنت الهدى، المجلد الثاني، طبعة دار التعارف، بيروت، ص272

[21] المرأة مع النبي، ص272

[22]  المصدر السابق، ص273

[23]  المصدر السابق، ص274

[24]  المرأة مع النبي، ص274

[25]  المصدر السابق، ص277

[26]  المصدر السابق، ص279

[27]  المصدر السابق، ص279 و280

[28]  المصدر السابق، ص272 و274

[29]  المصدر السابق، ص274

[30]  الفضيلة تنتصر، المجموعة القصصية الكاملة، المجلد الأول، الصفحة 26

[31]  المصدر السابق، الصفحة 107

[32]  الفضيلة تنتصر، ص13

[33]  المرأة مع النبي، ص274

[34]  الفضيلة تنتصر، ص13

[35]  الفضيلة تنتصر، ص 14

[36]  المصدر السابق، ص46

[37]  المصدر السابق، ص92

[38]  المصدر السابق، ص139

[39]  المرأة مع النبي، ص273

[40]  الفضيلة تنتصر، ص90

[41]  سورة النور، الآية 31

[42]  الفضيلة تنتصر، ص37

[43]  المصدر السابق، ص165

[44]  تفسير العياشي، 171:1/ 41 المكتبة العلمية طهران

[45]  كشف الغمة، ج2، ص97

[46]  بحار الأنوار، ج43، ص134، ومسند الإمام علي، ج8، ص29

[47]  الفضيلة تنتصر، ص151

[48]  المصدر السابق، ص154

[49]  سورة الإنسان، الآية8

[50]  الخصائص الفاطمية، محمد باقر الكجوري، ج2، ص384

[51]  سورة آل عمران، الآية 92

[52]  لقاء في المستشفى، المجموعة القصصية الكاملة لبنت الهدى، المجلد الثاني، ص87

[53]  المصدر السابق، ص90

[54]  مقتل الحسين عليه السلام، الخوارزمي، 1: 69

[55]  دلائل الإمامة: 140: 48

[56]  لقاء في المستشفى، ص 113، 114، 115

[57]  المصدر السابق، ص 147، 151

[58]  المصدر السابق، ص 89

[59]  لقاء في المستشفى، ص89

[60] المصدر السابق، ص 166

[61]  مفاتيح الجنان، الشيخ عباس القمي، الباب الثالث، الفصل الثالث

[62]  الأسرار الفاطمية، الشيخ محمد باقر المسعودي، ص359

[63]  إعلام الورى بأعلام الهدى، الشيخ الطبرسي، ص150 والبحار للمجلسي، ج43، ص40

[64]  كشف الغمة في معرفة الأئمة، أبو الحسن الإربلي، ج2، ص97

[65]  لقاء في المستشفى، ص132