الباحثة: خُطَى الخزاعي
الحمدُ للهِ ربّ العالمين والصَّلَاة والسَّلَام على سيِّدِنَا مُحمَّد وآله الطَّيِّبين الطَّاهرين، واللعن الدَّائم على أَعدائِهم ومُبغضِيهم وغاصِبي حقّهم إلى قيامِ يومِ الدِّين.
عن فاطمة الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) ((نحن وسيلته في خلقه، ونحن خاصته، ومحل قدسه، ونحن حجته في غيبه، ونحن ورثة أنبيائه…))([1])
إنَّ مقام وراثة الأنبياء تابع في غالب تفصيله لمقام الأنبياء نفسه، فهناك اشتراك في الخصوصيات وتماثل في الأدوار، ولعل أهم خصوصية مشتركة بين المقامين أنَّ التعيين والاختيار فيهما لصاحب المقام ذي المؤهلات الخاصة يكون من لدن الله عزَّ وجلَّ، وليس لأحد الحق في ذلك، صيانةً لغرضه تعالى من النقض؛ لأنه بخلاف ذلك ستكون الشريعة عرضة للأهواء والآراء، وتصبح بتقادم الزمن مسرحًا للبدع والإختلاقات.
فالزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) أحد الذوات المقدسة التي أنيطت بها مَهمة وراثة الدين بمعنى حفظه وصيانته والتضحية من أجل ووصوله للناس كما أراده الله جلَّ وعلا، وقد سبقت التفعيل العملي لهذا الدور عملية توطئة وعناية الهية نبوية لهذه الذات المقدسة تكوينًا وتنشئةً، رافقها إعلام مكثف كاشف عن حيثيات تلك الأهلية التي استحقت بها ذلك المقام، فالأصل نور، كما ورد (عن الصادق جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده (عليهم السلام ) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (خُلق نور فاطمة عليها السلام قبل أن تخلق الأرض والسماء، فقال بعض الناس: يا نبي الله فليست هي إنسية ؟ فقال صلى الله عليه وآله: فاطمة حوراء إنسية قال: يا نبي الله وكيف هي حوراء إنسية ؟ قال: خلقها الله عز وجل من نوره قبل أن يخلق آدم إذ كانت الأرواح فلما خلق الله عز وجل آدم عرضت على آدم، قيل: يا نبي الله وأين كانت فاطمة ؟ قال: كانت في حقة تحت ساق العرش، قالوا: يا نبي الله، فما كان طعامها ؟ قال : التسبيح ، والتهليل ، والتحميد . فلما خلق الله عز وجل آدم أخرجني من صلبه أحب الله عز وجل أن يخرجها من صلبي جعلها تفاحة في الجنة وأتاني بها جبرئيل عليه السلام فقال لي: السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا محمد، قلت: وعليك السلام ورحمة الله حبيبي جبرئيل . فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام . قلت: منه السلام وإليه يعود السلام . قال: يا محمد إن هذه تفاحة أهداها الله عز وجل إليك من الجنة فأخذتها وضممتها إلى صدري . قال: يا محمد يقول الله جل جلاله: كلها . ففلقتها فرأيت نورا ساطعا ففزعت منه فقال: يا محمد مالك لا تأكل ؟ كلها ولا تخف، فإن ذلك النور المنصورة في السماء وهي في الأرض فاطمة، قلت: حبيبي جبرئيل، ولم سميت في السماء\ المنصورة \ وفي الأرض \ فاطمة \ ؟ قال: سميت في الأرض \ فاطمة \؛ لأنها فطمت شيعتها من النار وفطم أعداؤها عن حبها، وهي في السماء \ المنصورة \ وذلك قول الله عز وجل : (يومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء) يعني نصر فاطمة لمحبيها)([2]) ، وقد تكرر وصف الحوراء الإنسية في أكثر من خبر عن رسول الله منها (عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث طويل: ))فاطمة بضعة منّي وهي نور عيني وثمرة فؤادي وروحي التي بين جنبي وهي الحوراء الإنسيّة))([3]) وعن أسماء بنت عميس، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ((إنّ فاطمة خلقت حوريّة في صورة إنسيّة))([4]) ، ومن قبس من نورها (صلوات الله وسلامه عليها) أزهرت السموات والأرضون كما في الحديث (…ثم إن الله تعالى ابتلى الأرض بالظلمات فلم تستطع الملائكة ذلك فشكت إلى الله عز وجل، فقال عز وعلا لجبرئيل عليه السلام: خذ من نور فاطمة وضعه في قنديل وعلقه في قرط العرش، ففعل جبرئيل عليه السلام ذلك، فأزهرت السماوات السبع والأرضين السبع فسبحت الملائكة وقدست، فقال الله: وعزتي وجلالي وجودي ومجدي وارتفاعي في أعلا مكاني، لأجعلن ثواب تسبيحكم وتقديمكم لفاطمة وبعلها وبنيها ومحبيها إلى يوم القيامة، فمن أجل ذلك سميت \ الزهراء \ عليها السلام)([5])، فمنذ نشأتها الأولى حُفت بالتكريم الإلهي، ولثقل ما تحمله من حقيقة لم يتحملها صلب سوى صلب أفضل مخلوق لله تعالى رسوله محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فتكون في حياته مع كفئها وابنيها شاهدة على أحقية دين الله تعالى، وارثين له بعد رحيله (صلى الله عليه وآله وسلم) مصدقًا ذلك التطبيق النبوي للقصد القرآني في أكثر من مورد على مرأى ومسمع من الجميع ، ومن تلك الموارد ما قام به النبي (صلى الله عليه وآله) مجسدًا آية المباهلة في قوله تعالى:( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)[آل عمران :61 ] (عن ابن مردويه، عن ابن عبّاس، قال: لمّا قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله) هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة، قالوا له: حتّى نرجع وننظر في أمرنا ونأتيك غداً، فخلا بعضهم إلى بعض، فقالوا للعاقب وكان ديّانهم: يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال: والله، لقد عرفتم يا معشر النصارى أنّ محمّداً نبي مرسل، ولقد جاءكم بالفضل من عند ربّكم، والله ما لاعن قوم قط نبيّاً فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكن، وإنْ أبيتم إلاّ الف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله )، وقد غدا رسول الله محتضناً للحسن وآخذاً بيد الحسين ، وفاطمة تمشي خلفه، وعليّ خلفها، وهو يقول لهم: \إذا أنا دعوت فأمّنوا\ . فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى، إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً لأزاله من مكانه، فلا تبتهلوا فتهلكوا، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة…، وبلفظ آخر فأخذ بيد عليّ وفاطمة والحسن والحسين ، ثمّ أرسل إليهما، فأبيا أن يجيبان وأقرّا له بالخراج . قال: فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): \والّذي بعثني بالحق نبيّاً\ لو قالا: لا، لأمطر عليهما الوادي ناراً\, فقال جابر: فنزلت فيهم (نَدْعُ أَبْنَآءَنَا) أي: الحسن والحسين، ( وَنِسَآءَنَا ) فاطمة، (وَأَنفُسَنَا) النبيّ وعليّ …)([6])، فالزهراء (صلوات الله وسلامه عليها) فرد بظاهرها، أمة بحقيقتها معبرًا بذلك القرآن الكريم عن تلك الحقيقة بلفظة (نسائنا)، ولو كان في نساء المسلمين فضلًا عن أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تستحق أن يباهل بها، وأن تكون من الشهداء على الدين لأخرجها على الفور، فهو لا ينطق عن الهوى، فالتطبيق النبوي للآية كاشف عن مقام الوراثة له وشخوص هذا المقام، ومن موارد هذا الكشف أيضًا، وجوب مودتهم ، فأوجب (صلى الله عليه وآله وسلم) مودتها وبعلها وابنيها على الناس وجعلها أتعاب دعوته مؤتمرًا بوحي الله تعالى (عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : ( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) [الشورى : 42 ] قالوا: يا رسول الله أي قرابتك (هؤلاء) الذين افترض الله علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وولدهم)([7])، ومنها أيضًا الحصر النبوي للمعنى القرآني في تفسير (أهل البيت) في قوله تعالى:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب:33] (عن عمر بن أبي سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وآله قال: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وآله في بيت أم سلمة،… فدعا ( النبي ) فاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره فقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فقالت أم سلمة : وأنا معهم يا رسول الله ؟ قال: أنت على مكانك وأنت إلى خير([8])، وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر ببيت فاطمة بعد أن بنى بها علي [رضي الله عنه] بستة أشهر يقول الصلاة ((إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا))([9])، مكذبًا ادعاء القوم بأنها تعني غيرهم أو تشملهم مع غيرهم بهذه الفعل الجامع لهم المانع لغيرهم، فكانت الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها ) مرتكزًا ومحورًا في كل هذه التشخيصات النبوية لدورها الواصل بين النبوة والإمامة وكما أشارت بعض أخبار عالم الأنوار بأن نورها كان مزيجًا من نور محمد وعلي (صلوات الله عليهم أجمعين)، فبها تجلت الخصائص النبوية للعيان بشهادة المخالف (عن عائشة: ما رأيت أحدا أشبه سمتا ودلا وهديا برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، قالت : وكانت إذا دخلت على النبي قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي صلى الله عليه وآله إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها)([10])، ومنها تستمر وراثة الدين والنبي والوصي(صلوات الله وسلامه عليهما وآلهما) بذريتها حاكيةً ذلك أقوال النبي في أكثر من موقف ومناسبة (كقوله: كل بني آدم ينتمون إلى عصبته إلا ولد فاطمة فأنا وليهم وأنا عصبتهم ،… وقوله: كل بني أنثى فان عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة فاني أنا عصبتهم وأنا أبوهم،… وقوله: كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي) ([11])، ومن الأخبار النبوية الكاشفة عن حيثية أخرى خاصة بها باتجاه مقام الوراثة، وهي السيادة المطلقة للنساء، (عن أبي سعيد الخدري مرفوعا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): سيدة نساء أهل الجنة فاطمة)([12])، وفي طوله ما ورد في رواية (… إسحاق بن جعفر بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي قال : سمعت أبا عبد الله \ ع \ يقول إنما سميت فاطمة عليها السلام محدثه لان الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها، فقالت لهم ذات ليلة : أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا : إن مريم كانت سيدة نساء عالمها، وان الله عز وجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين) ([13]) ،وفعّلت الزهراء (صلوات الله وسلامه عليها ) دورها في وراثة دين الله، فوقفت تذب عنه معرّية أكبر جريمة ارتكبت بحق الأديان، كاشفة النقاب عن وجوه المجرمين (روى الجوهري عن داود بن المبارك قال: أتانا عبد اللَّه بن موسى بن عبد اللَّه بن الحسن بن عليّ بن أبي طالب ونحن راجعون من الحجّ في جماعة فسألناه عن مسائل وكنت أحد من سأل، فسألته عن أبي بكر وعمر فقال: أجيبك بما أجاب به عبد اللَّه بن الحسن فإنّه سئل عنهما فقال: كانت فاطمة صدّيقة ابنة نبيّ مرسل فماتت وهي غضباء على قوم فنحن غضاب لغضبها)([14])، لترحل عن هذه الدنيا بعدما أدت ما حُمّلت ممتحنة شهيدة مظلومة، فالسلام عليها مذ كانت نورًا في سرادقات عرش الله، وسلام عليها يوم سادت نساء الكون قاطبة، وسلام عليها يوم تُبعث في المحشر وهي تضع أحدى يديها على جنب مكسور وتحمل بالأخرى قميصًا وكفين ورحمة الله وبركاته .
الهوامش:
[1] شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني(المتوفى 679)، تحقيق : عني بتصحيحه عدة من الأفاضل وقوبل بعدة نسخ موثوق بها،(ط1): 5/ 105
[2] معاني الأخبار، الشيخ الصدوق (المتوفى 381ه)، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري :396
[3] الخصائص الفاطمية، الشيخ محمد باقر الكجوري (المتوفى 1255)، ترجمة وتحقيق، سيد علي جمال أشرف (ط1)، 1380 ش: 1/ 179 .
[4] الخصائص الفاطمية: 1/ 179 .
[5] نوادر المعجزات، محمد بن جرير الطبري ( الشيعي ) (المتوفى ق4)، تحقيق : مؤسسة الإمام المهدي (ع)، (ط1)، 1410 :81-82 .