فاطمة الزهراءالمرأة العاملةالاكتفاء الذاتي
حصل موقفان مختلفان وعجيبان إزاء المرأة؛ واحدٌ من عمق التاريخ، والآخر من الوقت الحاضر. المسافة بعيدة بين الموقفين، تقدر بأربعة عشر قرناً من الزمن، تختزل هموم المرأة، وكل الجدل الدائر حول مكانتها ودورها في المجتمع والحضارة.
الموقف الأول:
يدخل النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، على ابنته الزهراء وهو يحمل مغزلاً أعطاها إياه، موصياً على مداومة العمل بهذا المغزل، ثم قال لها: “يا فاطمة! ما من امرأة برمت مغزلها إلا كان له دويٌ تحت العرش”.
الموقف الثاني:
يدخل استاذ جامعي (دكتور) على طالباته، وخلال محاضرته يتطرق الى مسألة العمل بعد التخرج وينصحهنّ بأن “يتخذن من العلم سلاحاً في سوق العمل” عندما يتخرجن من الجامعة، وحتى لا يصبحن فريسة الاستغلال والتبعية المالية حتى للزوج!
هذا المغزل لم يكن رمزاً لفرصة عمل للمرأة فقط، وإنما كان له دور محوري في قصة “الإطعام” للمسكين واليتيم والأسير، ثلاثة أيام على التوالي، عندما أراد أمير المؤمنين إعداد وجبات إفطار لثلاثة أيام صوم نذر لشفاء الحسنين، عليهما السلام، ولعدم وجود المال الكافي، توجه الى يهودي في المدينة وعقد معه اتفاق عمل، بان يأخذ من اليهودي قطعة صوف يغزله له مقابل صاع من الشعير لتخبزه الزهراء، عليها السلام، ويكون إفطاراً لهم.
وهذه ليست المرة الاولى التي يمتنع أمير المؤمنين عن الاقتراض مهما كان الاضطرار، فكان يصبر، أو يغضّ النظر، او يبحث عن خيارات اخرى مثل هذا الخيار الذي يعد درساً بليغاً وحضارياً للاجيال على مر العصور.
فالخبز الذي أراد أهل البيت، ان يضعوه في أفواههم لم يأت من الاقتراض، حتى وإن كان من مسلم، إنما كان بكد يمين الزهراء وعرق جبينها، و تذكر بعض المصادر أن اليهود كانوا يتحكمون بحركة الاقتصاد في يثرب (المدينة) قبل دخول النبي اليها، حيث كانت بلدة ضعيفة تعاني مشاكل و ازمات عدّة، ومما كان تحت سيطرتهم؛ النسيج والملبوسات، فلم يرق ذلك للنبي، وهو يؤسس يومها للمجتمع الاسلامي والحضارة الاسلامية، فكان أن شجّع النساء، بدءاً من ابنته الصديقة الزهراء، على عمل الغزل في البيت تحقيقاً للاكتفاء الذاتي، و وضع حدٍ للتبعية الاقتصادية والسياسية ايضاً.
ليس المطلوب من نساء اليوم أن يجلسن أمام المغزل لغزل صوف الغنم، كما ليس مطلوباً من رجال اليوم أكل الملح مع خبز الشعير اليابس كما كان يفعل أمير المؤمنين، إنما الانطلاق في رحاب المعنى والدلالة، فالمرأة العالمة قادرة على توظيف قدراتها الذهنية في محيط البيت والانطلاق في مشاريع عمل وانتاج مواد وسلع يحتاجها الناس، توفر لهم فارق السعر مع المنتوجات المستوردة، كما توفر للبلد العملة الصعبة من الاستنزاف، كما يحصل اليوم.
هكذا تقدمت الدول “النامية” وأخرجت شعوبها من طوق “العالم الثالث”، مثل؛ الصين التي شجعت على الورش الصناعية والمراكز الانتاجية الصغيرة في كل مكان تحت شعار “الأسر المنتجة” وكان ضمن سلسلة برامج إصلاحية في سبعينات القرن الماضي حولت الصين من بلد متخلف وضعيف يعاني سكانه الجوع، الى بلد يتوقع الخبراء اليوم انه ربما يكون في الاعوام القادمة القوة الاقتصادية الأكبر في العالم بعد انحناء الولايات المتحدة لها.
بيد أن شرطاً مهماً في نجاح هذه المسيرة وهو؛ القبول بالأجور المنخفضة، وهو من جملة أسرار نجاح الصين ودول نامية اخرى، فيما نلاحظ اقتصاديات دول اخرى تمتلك كل مقومات التقدم والتطور مثل الموارد المالية، والعقول، واليد العاملة، بيد أنها تتعثر في خطواتها وتفشل في تحقيق أي انجاز في مجال الاكتفاء الذاتي، فضلاً عن التأثير على الاسواق العالمية، بل ونجدها تعاني الطبقية الفاحشة، والفقر، والتضخم، والبطال، والسبب الرئيس يعود الى جموح المنتجين نحو الربح الكبير، وعدم رضاهم بالأجور القليلة، وهذا نراه بشكل مؤسف في القطاع الزراعي، كما نراه في القطاع الصناعي، بينما اذا ادخلنا مفردة صغيرة في هذه المعادلة المعقدة لدى الكثير، نجد كل شيء يكون في نصابه، والمفردة هي: “القناعة” الواردة في النصوص الدينية، وهذا ما يدعونا اليه أهل البيت، عليهم السلام، في اكثر من مناسبة.
ان النظام الاقتصادي في الاسلام لم يكلف المرأة عناء المساهمة في تحريك عجلة الاقتصاد، بقدر ما أوجب على الرجل ذلك، فجاءت الدعوات للعمل والمثابرة والمنافسة والكدح على العيال، والاحاديث المروية عن المعصومين، عليهم السلام، كثيرة جداً، إنما خلق لها فرص عمل مفيدة ومؤثرة للغاية، ليس فقط على حياتها وحياة أسرتها، وإنما على حياة مجتمعها وأمتها ايضاً عندما تكون ذات تأثير في تحقيق الاكتفاء الذاتي، ولو في بعض السلع والمواد الاساسية، مثل المواد الغذائية او الملبوسات، والمفروشات وغيرها. يكفي أن نلقي نظرة خاطفة على السوق العراقية –مثلاً- نرى أن النسبة الاكبر من إنفاق العوائل العراقية في الاسواق، على المواد الغذائية والملبوسات أكثر بكثير من السلع الاخرى.
الاكتفاء الذاتي الذي صنعه لنا مغزل فاطمة، هذه الآلة الصغيرة والبارعة، لا توفر لنا المال فقط، وإنما توفر لنا ما هو أهم وأعظم بكثير لفتيات ونساء اليوم، وهو؛ العزّ والكرامة التي تتعرض يومياً للاهتزاز في الوقت الحاضر عندما تكون هذه الجواهر الثمينة على أبواب الدوائر الحكومية او المؤسسات والشركات على أمل الحصول على فرصة عمل تضمن لها مرتباً شهرياً تعتقد أنه يساعد على حمل أعباء النفقات الثقيلة على الرجل، بصفته أباً، أو أخاً، أو زوجاً، وكذا الأمر ينسحب على السيدات الأرامل وما يعانين من ضغوط المعيشة. كل هذا يمثل واقعاً مريراً لا يجادل فيه أحد، ولكن! هل علينا تجرّع المُر، والقبول بالواقع السيئ؟!
ثمة سؤال محوري لابد من الاجابة عليه لتخفيف وطأة السؤال الآنف الذكر، وهو تحمّل المؤسسات الاجتماعية الخيرية، الى جانب مؤسسات الدولة، مسؤولية الحثّ بهذا الاتجاه، وإطلاق مشروع “الأسر المنتجة”، كما تتحمل هذه الأسر في مجتمعاتنا المسؤولية ايضاً في خلق واقع اجتماعي جديد لهنّ يقترب شيئاً ما الى حياة أهل البيت، وتحديداً الصديقة الزهراء، عليها السلام، وكيف أنها كافحت الحاجة والعوز بسلاح القناعة والمثابرة والعمل، فهي لم تتعرض للمجاعة، ولا للمهانة –حاشاها- إنما عاشت مكرمة معززة، وحتى اللحظات الاخيرة من حياتها الشريفة كانت تتطلع الى حياة أفضل وأطهر لجميع الفتيات والنساء على مر الاجيال.