فاطمة(ع) من البكائين الخمسة:
لقد بكت فاطمة(ع) على أبيها حتى عدت من البكائين الخمسة، إلى جانب آدم ويعقوب ويوسف وحفيدها الإمام السجاد(ع).
تقول فضة – خادمة الزهراء(ع)- : جلسَت سبعة أيام لا يهدأ لها أنين، ولا يسكن منها الحنين، كل يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأول، فلما كان اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن، فلم تطق صبرًا إذ خرجت وصرخت، فكأنها من فم رسول الله(ص)تنطق، فتبادرت النساء، و ضج الناس بالبكاء والنحيب.
ثم أقبلت تعثر في أذيالها، وهي لا تبصر شيئًا من عبرتها، ومن تواتر دمعتها، حتى دنت من قبر أبيها محمد(ص)، فلما نظرت إلى الحجرة، قصرت خطاها، ودام نحيبها وبكاها، إلى أغمي عليها …فلما أفاقت من غشوتها، قامت وهي تقول: رفعت قوتي، وخانني جلدي، وشمت بي عدوي، والكمد قاتلي، يا أبتاه بقيت والهة وحيدة، وحيرانة فريدة، فقد إنخمد صوتي، وانقطع ظهري، وتنغص عيشي، وتكدر دهري فما أجد يا أبتاه بعدك أنيسًا لوحشتي، ولا رادًّا لدمعتي، ولا معينًا لضعفي، فقد فني بعدك محكم التنزيل، ومهبط جبرائيل ومحل ميكائيل، انقلبت بعدك يا أبتاه الأسباب، وتغلقت دوني الأبواب، فأنا للدنيا بعدك قالية، وعليك ما ترددت أنفاسي باكية، لا ينفد شوقي إليك ولا حزني عليك…
ثم راحت الزهراء(ع) تخاطب الرسول(ص)،مظهرة له ما لقيت بعده من الظلم فقالت: يا أبتاه أمسينا بعدك من المستضعفين، يا أبتاه أصبحت الناس عنا معرضين، ولقد كنا بك معظمين في الناس غير مستضعفين.
فكان بكاؤها(ع) صرخة تدوي لتعلن استلاب الحق وصولة الباطل وتراجع الأمة عن النهج القويم،إذ قالت معددة مآثر الإمام علي(ع): أُثكل أبو الحسن المؤتمن أبو ولديك، الحسن والحسين، وأخوك ووليك وحبيبك، ومن ربيته صغيرًا، و واخيته كبيرًا، وأحلى أحبابك وأصحابك إليك، من كان منهم سابقًا ومهاجرًا وناصرًا، والثكل شاملنا والبكاء قاتلنا والأسى لازمنا.
وتواصل فضة حديثها قائلة:
ثم رجعت إلى منزلها وأخذت بالبكاء والعويل ليلها ونهارها، وهي لا ترقأ دمعتها ولا تهدأ زفرتها.
واجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين(ع) فقالوا له – وكأنهم استكثروا حق الزهراء(ع) في إعلان ظلامتها- : يا أبا الحسن إن فاطمة تبكي الليل والنهار فلا أحد منا يتهنأ بالنوم في الليل على فرشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنا نخبرك أن تسألها إما أن تبكي ليلاً أو نهارًا، فقال(ع) حبًا وكرامةً.
فأقبل أمير المؤمنين(ع) حتى دخل على فاطمة(ع) وهي لا تفيق من البكاء ولا ينفع معها العزاء، فلما رأته سكنت هنيئة له، فقال لها: يا بنت رسول الله(ص) إن شيوخ المدينة يسألوني أن أسألك إما أن تبكين أباك ليلاً وإما نهارًا.
فقالت: يا أبا الحسن ما أقل مكثي بينهم، وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم،فو الله لا أسكت ليلاً ولا نهارًا أو ألحق بأبي رسول الله(ص).
فقال لها علي(ع): افعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك.
ثم بنى لها أمير المؤمنين(ع) بيتًا في البقيع خارج المدينة يسمى (بيت الأحزان)، وكانت الزهراء(ع) إذا أصبحت قدمت الحسن والحسين أمامها، وخرجت إلى البقيع باكية حتى يجنها الليل، فيأتي أمير المؤمنين(ع) ليأخذها إلى منزلها.
وهكذا بقيت الزهراء(ع) حليفة الحزن ولقد بلّغت بحزنها وبكائها رسالة أبيها إلى الناس، لو أنهم وعوا وأدركوا، ولكن لا حياة لمن تنادي!