مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
الخطبة الفدكية.. لؤلؤة في صدفة التاريخ / رقية تاج
+ = -

يُقال “إننا في العلم كأطفال على شاطئ بحر زاخر.. يَقذف إليهم الموج حين يموج بقطع من الصدف فيحسبونها كل مافي البحر، وفي البحر ماتعلم”. هذا ونحن

يُقال “إننا في العلم كأطفال على شاطئ بحر زاخر.. يَقذف إليهم الموج حين يموج بقطع من الصدف فيحسبونها كل مافي البحر، وفي البحر ماتعلم”.

هذا ونحن نقف على الشاطئ، لو أننا نمخر عباب البحر، ليت شعري ماذا كنّا سنجد من كنوز ولآلئ!.

لو اننا تجشمنا عناء السباحة في المياه ذات الامواج الخطرة، لو اننا قرأنا بطون الكتب وأبحرنا بين طياتها المليئة بأخبار السابقين، لوجدنا لؤلؤة مخفيّة، ولاعجب؛ فسبائك الذهب والمجوهرات تُحصّن في أماكن خفية لايصل إليها أحد!.

خرجت تلك اللؤلؤة من ماء الكوثر، هي من إبنة أفصح من نطق بالضاد، ومن بيمنه رُزق الورى، هي كلمات قالتها من على معرفتها دارت القرون الاولى، هي خطبة الزهراء الفدكية، فلماذا تُهمل ياترى ولماذا يُسدل عليها الغطاء؟!

لأن المعرفة والحقيقة خطرة، تُرعب الاعداء والطواغيت منذ فجر الخليقة، وعلى مدى التاريخ اُغتيل العلماء في كل المجالات، فالطاغية صدام قَتل وعذّب وشرّد العلماء والأدباء، واميركا وحلفاؤها وهم الوجه الاخر لهذا المجرم فكلاهما عملة واحدة قد اغتالت العديد من الأطباء والمهندسين، وقبلهم الحجاج والمتوكل واذنابهم لاحقوا ونكلّوا كل من مدح ورثى أبو تراب وملأوا فم من يهجو آل بيت الرسول ذهباً!.

والسبب ليس البغض والحسد والحقد على محمد واهل بيته الكرام فقط وإن كان سبباً أساسياً، وإنما هو الخوف، الرعب، من نهجهم وقيمهم، وكلماتهم التي بالتأكيد سوف تهز عروشهم وتُفشل خططهم وتعارض مصالحهم.

في يومٍ من الايام يذكر أحد الكتّاب وعلى سبيل الطرفة، أنه سافر الى أحد البلدان وفي جمارك المطار أوقفته الشرطة، وأشهروا المسدس في وجهه، مع أنه لم يكن يملك من الممنوعات شيئا، ولكنه يقول أن رأسه يحوي الكثير منها!.

 بالفعل، الفكر قد يُعتبر جريمة والمبادئ قد تكون ألغاما تضاهي خطورة المخدرات والأسلحة!.

لاريب أن في الخطبة الفدكية الكثير من الخفايا والأسرار والحقائق الخطيرة، ستجد سحر البيان وفصل الخطاب بلاشك، ولكن في كل مقطع من مقاطعها منهج ومدرسة، ستجد بين سطورها مفاهيم وقضايا عقائدية وحقائق تاريخية تعضدها آيات الذكر الحكيم وجملة القرائن والأدلة وهذا هو منهج العقلاء ودعائم مدرسة أهل البيت تقوم دائما على البرهان والمنطق.

وإنّ الزهراء لم تخاطب القوم والسلطة الحاكمة انتقاما ممن وقف ضدها وضد بعلها علي (ع) بل انتصاراً للحق، وتلوح لنا هنا درّة من درر أمير المؤمنين (ع) حيث يقول: لنا حق، فإن أعطيناه، وإلا ركبنا أعجاز الابل، وإن طال السرى.

وإذا قرأت بتمعن خطبة فدك، تجد أن السيدة الزهراء بدأت بذكاء خطابها تدرجاً حتى تصل الى مبتغاها وإلى صلب الموضوع، وقبل ذلك تقول الروايات أنها “أنّت أنة أجهش لها القوم بالبكاء”، وفن الاقناع كما نعلم هو فن مخاطبة القلب والعقل، والعاطفة لها دور في تثبيت العقيدة..

استهلّت الزهراء خطبتها بالحمد والثناء على الله، (الحمد لله على ماأنعم، وله الشكر على ماألهم، والثناء بماقدّم، من عموم نعم ابتداها. وسبوغ آلاء أسداها. وتمام مننٍ والاها. جم عن الاحصاء عددها….).

ثم تحدثت عن التوحيد الاستدلالي، وكلماتها تلك هي عقيدة كل مؤمن موالي وهو منهج الامامية وقد ضربت عليها السلام بعرض الحائط معتقدات وأفكار طوائف ظهرت فيما بعد لم تكن لتنتشر إن لم يفسح لهم الحكام الغاصبين المجال، اولئك الذين جسمّوا الله جلّ عن ذلك وعلا، ويقولون بإمكان رؤيته في الدنيا واخرى تقول يُنظر في الاخرة جلّ وعلا، وتجرّأت بعض المذاهب على تحديده أو وصفه صفات مادية أو معنوية وهو منزّه عنها، وأيضا بيّنت الصدّيقة اشكالية خلق الخَلق، وهي بذلك توضح المسائل الاصولية، والاختلافات الفرعية قد تأتي على أثر خلاف جذري ومنه يبدأ التفسخ العقائدي، فتقول: (….الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته، ابتدع الأشياء لامن شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها، كوّنها بقدرته، وذرأها بمشيئته….).

ثم انتقلت صلوات الله عليها إلى النبوّة، وعرجت الى أسرار عالم الذر، وعلم الله السرمدي، فقالت روحي فداها واصفةً رسول الله (ص) وكيف اجتباه الله عزو وجل: (اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسماه قبل ان اجتباه، واصطفاه قبل ان ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الاهاويل مصونة، وبنهاية العدم مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله تعالى بمآيل الامور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الامور).

ومن أجمل مقاطع الخطبة وأعمقها معنى هي كلماتها عن علل الشرائع وفلسفة الاسلام، فتقول: (فجعل الله الايمان تطهيراً لكم من الشرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق، والصيام تثبيتاً للاخلاص، والحج تشييداً للدين، والعدل تنسيقا للقلوب، وطاعتنا نظاما للملة، وإمامتنا أمانا من الفرقة، والجهاد عزاً للاسلام، والصبر معونة على استيجاب الاجر، والامر بالمعروف مصلحة للعامة…).

وهنا بيّنت بدقة الهدف الاسمى أو الفائدة الاخلاقية لكل ركن وعمل في الشريعة الاسلامية.

وبعدها تحدثت عن انجازات الرسول (ص) والعهد الجاهلي والقرآن، ثم بدأت كلماتها عن هدفها الاساسي وهو المطالبة بحقها وبدأت تحتج وتتظلم، ماأثار حنق أعداءها، فقالت: ( يابن ابي قحافة، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولاأرث أبي؟! لقد جئت شيئا فريا، أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟!..)،  الى اخر الخطبة التي تُحرق القلب ولم تبقِ لذي مقالٍ مقال، والتي من أهم جوانبها أنها بيّنت الحد الفاصل بين الدين وتصرفات الحاكم الظالم الجائرة الذي يتنكر لقوانين وسنن السماء، وبين الفكرة والتطبيق وهي مشكلة المشاكل وسبب الكثير من الانحرافات والابتعاد عن الدين في يومنا هذا.

بلاشك من الصعب جداً أن نحيط بكل جوانب حياة الزهراء ومنها هذه الخطبة الخالدة، وكما يقول السيد محمد كاظم القزويني في كتابه؛ الزهراء من المهد الى اللحد، (لو كانت الزهراء تعيش لأكثر مماعاشت مع فسح المجال أمامها، لملأت الدنيا علماً وثقافة ومعرفة.. فقد وجدت الزهراء المجال في حياتها ساعتين فقط؛ ساعة خطبت فيها في مسجد ابيها رسول الله (ص) وساعة خطبت في بيتها للنساء اللاتي حضرن لعيادتها).

نعم، مولاتتا الزهراء استشهدت بعمر الزهور وليس لها قبر ولا مزار ولاقبّة ومنارات، لكنها أبقت لنا تراثاً ثمينا وثروة علمية ودينية ومنها الخطبة الفدكية التي ستبقى حيّة مضيئة في قلوبنا، هي بالحقيقة أبجدية وحروفها تبني أمّة بل أمم..

هي لؤلؤة حاولت أيدي الظلامة اخفاءها ولكنها وصلت إلينا سالمة ونقيّة..

يقول بعض الصيادين، “أن حبة اللؤلؤ ماهي إلا دموع الملائكة”. واللؤلؤ كما يصفوه يحتمي تحت شفتين من المحار، وعندما تخرج حبة اللؤلؤ من أحشائه يموت المحار بعدها بعد أن يذرف دموعا ساهمت بتشكيل هذا الحجر الكريم!.

فعلاً، كان الثمن دموع ودماء سالت على مدى السنوات لتصل إلينا كلمات سيدة النساء فاطمة وستبقى تُسال حتى يُرجع حقها صاحب الثار..

إنها بحق خطبة نور مزقت ظلمة الجهل. وبإنتظار الثمار العملية لهذه الخطبة من أمة محمد وموالي فاطمة ولو في بعض بنودها!.