مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
تأملات… في حياة سيدة العصور / بقلم كمال السيد
+ = -

   اصطفى الله مريم ابنة عمران وقدمها سيدةً لنساء عصرها .. واصطفى فاطمة ابنة محمد (صلى الله عليه وآله)ليقدمها سيدة على مدى العصور والأجيال.

           منذ ميلادها وإلى آخر أنثى في تاريخ الإنسان تبقى فاطمة السيدة الأولى .. حورية الأرض لأهل الأرض والفتاة التي بلغت ذروة الكمال الإنساني في طريق بنات حواء ..

           كانت رمزاً للعفة والطهر والنقاء .. وشعاراً للرقة والعطف والحياء، ونموذجاً للأمومة والخصب والنماء .. وكانت معلماً للإنسانية جمعاء.

ليست البداية:

           يفكر في قومه حزيناً .. حزن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم آخر الأنبياء (عليهم السلام) في تاريخ الإنسانية.. يفكر يسبر الأعماق ويرحل عبر الآفاق ..

              غمر الصمت الأشياء .. تلاشت الأصوات ولم يعد يسمع شيئاً سوى كلمات السماء تنفذ في أعماقه نفوذ النور في المياه الرائقة ..

              كلمات مؤثرة عميقة جف لها ريقه تصبب جبينه فبدت كحبات من لؤلؤ منثور .. الكلمات تومض في أعماقه كالنجوم الزاهرة.

              (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ* فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(سورة الكوثر).

                وانقلب الرسول إلى بيته تملأ نفسه البشارة. كانت السيدة خديجة تنتظر عودة بعلها بشوق وأمل.. نظرت إليه بعينين تفيضان حباً، وقالت بصوت يشوبه اعتذار:

ـ إني وضعتها أنثى، وليس الذكر كالأنثى.

قال النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يحتضن هدية السماء:

ـ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ…أسميها فاطمة ليفطمها الله من الشرور.

           كلؤلؤة في حنايا صدفة بدت فاطمة .. بعينيها الواسعتين كنافذتين تطلان على عالم واسع .. عالم مموج بالصفاء والسلام.

أضاء الأمل منزلاً صغيراً من منازل مكة

            وتفتحت فاطمة للحياة، كما تتفتح الورود والرياحين ونمت في أحضان دافئة، دفء الأعشاش.. تنعم بقلبين ينبضان بالحب، وبنظرات حانية مفعمة بكل ما هو سامٍ ونبيل ..

         كبرت فاطمة وبدأت تعي ما يجري حولها، تنظر إلى وجه أمها يغمره حزن وأسى. وربما شعرت بالمرارة تعتصر قلب أبيها ..

تهفو نحو أمها .. وتقبل أباها .. فتعود البسمة إلى الوجهين الحزينين.

وتشرق الفرحة من جديد كما تشرق من بين الغيوم لتغمر الأرض بالدفء والنور والأمل .. وتمر الأيام… .

زمن الحصار:

              وتمر الأيام .. وتنمو فاطمة .. ويعصف القدر .. وتجد الطفلة نفسها بين ذراعي أمها في واد غير ذي زرع ـ حيث أيام الجوع والحصار والخوف والحرمان ..

              تصغي إلى أنين المظلومين .. كبرت فاطمة في الشِعْب، فُطمت اللبن، ودرجت فوق الرمال .. ومرّ عام .. ومرّ بعده عامان .. ويختطف الأجل أمها الحنون .. فقدت نبعاً ثرًا من الحب والحنان.

               فاطمة تبحث عن أمها الرؤوم .. تسأل أباها الحزين ـ أين أمي؟

ويجيب الأب المقهور وهو يحتضن ذكراه الغالية:

           ـ أمك في بيت من قصب لا تعب فيه ولا نصب. وتلوذ فاطمة بالصمت(1) .. تفكر .. عيناها تبحثان من نبع سماوي .. ولكن دون جدوى!

              كُبرت فاطمة في زمن الحرمان .. في زمان الحصار .. في زمن اليتم .. في زمن القهر ..

            من أجل هذا نشأت الطفلة نحيلة القوام كغصن كسير.. رسم القهر في عينيها الواسعتين لوحة حزينة مفعمة بالأسى يغمرها الصمت .. تفكر ..

            تنطوي على نفسها في استغراق يشبه صلاة الأنبياء.. نشأت فاطمة في زمن الجدب .. فغدا عودها صلباً ضارباً في الأرض جذوراً بعيدة الغور ..

           بدت أكبر من سنّها، ونهضت لتملأ فراغاً هائلاً أحدثه رحيل الأم ذلك النبع الفياض من الحنان ..نهضت فاطمة سيدة صغيرة .. أما رؤوماً لأبيها الذي أضحى وحيداً.

             وتمر الأيام .. وذات مساء خرج المحاصرون في الشِعْب .. (شعب أبي طالب) إلى قلب مكة .. إلى ضجيج الحياة صخب الحوادث، لتبدأ فصول أخرى من تاريخ مثير يزخر بالأحداث.. منذ الساعة التي التقت فيها السماء بالأرض في غار صغير على سفوح جبل حراء…وتمرّ الأيام ..

ابنةٌ بارَّةٌ وأمٌ حَنون:

            شيئاً فشيئاً خفتت الأصوات، وآبت الطيور إلى أعشاشها، إنها ساعة الغروب .. بدا البيت مقفراً كصحراء جرداء ..

            كانت فاطمة مستغرقة في تفكير عميق تطوف في خيالها مريم، تلك الفتاة البتول التي انقطعت عن العالم القاسي في ماديته ولجأت إلى صومعتها تعبد الله وتتبتل إليه تبتيلا.

تنكشف آفاق السماوات والملكوت.

            جلست فاطمة تترقب عودة الأب .. هي الآن وحيدة .. لقد رحلت الأم الحنون ذلك النبع المتدفق حنانًا ولوعة…

            لك الله يا أماه! ما كادت أعوام الحصار تنجلي بكل قسوتها حتى رحلت ليبقى والدي وحيداً وهو أشد الناس حاجة إلى من يؤازره ويقف إلى جانبه ..

               ولكن يا أماه سأجهد نفسي لأملأ الفراغ الذي جثم على البيت بعد رحيلك وغيابك .. سأكون له بنتاً وأماً .. سأمسح دموعه بيدين تشبهان يديك وسأبتسم له كما كنت تضيئين قلبه بابتسامتك ..

               ولكن يا أماه! أنا ما أزال صغيرة .. ليتك صبرت قليلاً .. أبي كان قوياً بك .. وكان يتحدى العاصفة بعزم (أبي طالب) شيخ البطحاء، تكفله صغيراً وحماه كبيراً .. غير أنكما تركتماه وحيداً، واسترحتما من هموم الدنيا وعذاباتها .. وحق لكما أن تستريحا وقد عصفت بكما النوائب من كل مكان وسدّد لكما الدهر سهاماً مسمومة وحرابا ..

                أجل يا أماه! لقد اظلمت الدنيا ونشر المساء ستائره السوداء، وهذا عامنا عام الحزن ..

              ها أنا الآن أنتظر عودة أبي .. أبي الذي يريد تبديد الظلام بنور الإسلام .. لكن مكة تعج بمن يريد حياة الظلمات يحبّها كما الخفافيش لا تهوى النور ولا تحب النهار ..

                سمعت فاطمة خطىً هادئة كنبضات قلب يخفق أملاً، خطىً تعرفها فاطمة .. لهذا هبّت كفراشة تهوي إلى النور .. فتحت الباب لترى إحدى مآسي الأنبياء ..

              قال رسول السماء:

             والله ما نالت قريش مني، إلّا بعد أن مضى أبو طالب!(2).. يا لصبر الأنبياء .. شعرت فاطمة بالانكسار، كيف سوّلت لذلك السفيه أن يرمي التراب على وجه يسطع بنور السماوات؟!

مسح الأب دموع ابنته قال وعيناه تشعان بالأمل:

ـ لا تبك يا فاطمة! إن الله ناصر أباك.

انحسرت الغيوم عن السماء فبدت صافية مشرقة وعادت البسمة إلى الوجه الملائكي … وتمر الأيام ..

الهجرة:

              لا أحد يعلم مكان النبي المهاجر إلا فتىً في الثالثة والعشرين من عمره، عاد لتوّه من غار في جبل ثور .. عاد عليٌ ينفض عن نفسه غبار الطريق ويفكّر في وصايا ابن عمه .. بقي عليه أن يؤدي الأمانات إلى أهلها، ويحمل الفواطم والمستضعفين من الذي آمنوا بآخر رسالات السماء ..

              ابتاع عليٌ إبلاً، وأسرّ إلى والدته فاطمة أن تستعد للهجرة، وتخبر فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة بنت الحمزة وفاطمة بنت الزبير ..

          وتحت جنح الليل تحركت قافلة الفواطم يقودها علي ماشياً ومعه الدليل أبو واقد .. والتحقت بالركب الفاطمي أم أيمن حاضنة النبي (صلى الله عليه وآله)، وفي نفس الليلة تسلل المستضعفون إلى وادي (ذي طوى) حيث واعدهم عليٌ هناك.

            كان أبو واقد يشعر بالخوف من انتقام قريش لذلك راح يسوق الإبل سوقاً عنيفاً .. قال علي يهدّئ من مخاوفه:

           ـ ارفق بالنسوة يا أبا واقد!

            بالقرب من وادي «ضجنان» ظهر ثمانية فرسان ملثمون قد أثاروا بخيولهم زوبعة من الغبار! عيونهم تبرق بالشر؟ صاح علي بأبي واقد وأيمن ابن أم أيمن:

            ـ انتحيا بالإبل واعقلاها!

واقترب أحد فرسان الدورية من علي (عليه السلام) وخاطبه بعنف:

ـ أظننت يا غدار أنك ناج بالنسوة؟! ارجع لا أباً لك، قال عليٌ (عليه السلام) بثبات:

           ـ فإن لم أفعل؟

           ـ لترجعن راغماً.

            وأراد الفارس الوثني أن يثير النوق، فاعترضه علي (عليه السلام)، ولأول مرّة برق سيف علي في سماء الفروسية كالصاعقة، وصعق الرجل الوثني، فتسمّر رفاقه هلعاً لهول المشهد..

وعندما استعد علي للهجوم، صاح أحد الفرسان:

         احبس نفسك عنا يا ابن أبي طالب!(3)

وانطلقت سفن الصحراء تواصل السير شمالاً ..

           السماء مرصعة بملايين النجوم .. تومض في أغوارها السحيقة كلآلئ منثورة .. حط المهاجرون عصا الرّحال في وادي ضجنان .. بركت النوق فوق الرمال تلتقط أنفاسها وتشمّ رائحة وطن قريب .. عينا فاطمة تسافران بين النجوم تستكشفان آفاق السماء .. أزهر وجهها كما الكوكب الدرّي.. واستغرقت فاطمة في الصلاة:

          ـ أنت وحدك الباقي .. كل شيء أخذ طريقه نحو المغيب .. النجوم..القمر .. الأرواح البيضاء تتجه إليك لا تبالي بأشواك الطريق أنت وحدك الحق .. دعني ألج ملكوتك وأسبّحك وأطوف مع ذرات الوجود حول عرشك ..
أنت وحدك نبع الحياة، وسواك سراب يحسبه الظمآن ماءً.

            في (قبا) حيث توقف النبي (صلى الله عليه وآله) ينتظر الرسول القافلة، هبط جبريل .. وفاح عبير الوحي .. ملأ فضاء قباء، حيث بنى الرسول أول مسجد في تاريخ الإسلام: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ* رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ* رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ* فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللهِ وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)(آل عمران:191 ـ195).

وصلت القافلة بسلام وخفّ النبي للقاء ابنته بشوق وحب، قائلاً: فاطمة أم أبيها.

الوطن الدافئ:

دخلت القافلة المدينة، وتصدح في الفضاء أناشيد الفرح:

              طلع البدر علينا من ثنيات الوداع 

           

             وجب الشكر علينا ما دعا لله داع

             أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع

             جئت شرّفت المدينة مرحباً يا خير داع

            وتمتزج كلمات الفرح مع زغاريد النسوة والفتيات وقد ارتدت يثرب حلّة جديدة..

            وتنمو فاطمة.. وتنمو في أعماقها أمنيات الأنبياء .. ها هي الآن في بيت من بيوت المدينة هو بيت أبي أيوب (خالد الأنصاري)(4)، وتجد أم أيوب في بنت رسول الله (ص) مثالاً للفتاة كأجمل وأبهى ما يكون، وجدت فيها سيدة صغيرة تفوق بكثير سنها طيبةً ونقاءً، وسموّا ورفعةً وجلالًا، ومجدًا أخلاقيًا مكللًا بنور السماء. عينان واسعتان تتألق فيهما نجوم ونجوم .. وشبه عظيم بين الأب وابنته في الشكل والصورة والمثال .. في المنطق والكلام وفي تلك الحالة من الطمأنينة والسكينة والسلام.

            وتتألق فاطمة بمجدها الأخلاقي .. بيوت المدينة تتغنى باسمها وتتحدث عن عينين واسعتين وعن وجه مشرق أبهى من القمر، وعن لمسة حزن تتكسر في عينيها الواسعتين .. وعن إطراقة صمت عميق تشبه استغراقاً في صلاة لا نهاية لها ..

             وعن حياء أنثوي يتورد فوق وجه مشرق زاهر بالنور.

            ويتقدم الخاطبون يتطلّعون إلى لؤلؤة المجد .. ترى من سيحظى بابنة الرسول (صلى الله عليه وآله) التي قال عنها: إنها حوراء إنسية ..

            كان النبي (صلى الله عليه وآله) جالساً في بيت أم سلمة وقد امتلأت الحجرة الطينية بشذى العبير، عبير جنات الفردوس ..

ارتفعت طرقات على الباب .. وهتفت أم سلمة: من الطارق؟

قال النبي (صلى الله عليه وآله):

افتحي له .. هذا رجل يحبه الله ورسوله!

فتحت أم سلمة الباب .. وتريث عليّ ريثما تعود أم المؤمنين إلى خدرها…

           السلام على رسول الله.

             وعليك السلام.

             جلس عليٌ مطرقاً .. تلألأت حبات عرق فوق جبهته الشماء… كلمات تطوف في أعماقه، كلمات وقف الحياء سداً أمامها!

             أدرك النبي (صلى الله عليه وآله) ما يموج في قلب عليٍ فقال والبسمة تشرق فوق وجهه:

            ـ كأنك أتيت لحاجة! فقل حاجتك.

            قال علي (عليه السلام):

            ـ يا رسول الله! إن الله هداني بك وعلى يديك، وقد أحببت أن يكون لي بيت وزوجة أسكن إليها، وقد أتيت خاطباً ابنتك فاطمة!

           كانت أم سلمة تنظر إلى وجه النبي (صلى الله عليه وآله) فرأت بسمة ترتسم على شفتيه وهو يقول:

           ـ يا علي! قد ذكرها قبلك رجال، فذكرت لها ذلك فرأيت الكراهة في وجهها، ولكن على رِسلك حتى أدخل عليها.

              نهض النبي (صلى الله عليه وآله) ونهض علي (عليه السلام) إجلالاً له.

        يا فاطمة!

        لبيك يا رسول الله:

            إن علي بن أبي طالب قد عرفت قرابته وفضله وإسلامه، وإني سألت ربي أن يزوجك خير خلقه وأحبهم إليه، وقد ذكر من أمرك شيئاً فما ترين؟ أطرقت فاطمة وكانت علامة رضا تطوف فوق وجه أزهر، تغالب مسحة من حياء، فاصطبغت وجناتها بحمرة خفيفة كشمس صباح ربيعي.

              هتف النبي (صلى الله عليه وآله) مستبشراً:

             ـ الله أكبر! سكوتها رضاها(5).

            وهكذا تدفق نبع السعادة في ذلك البيت الذي أذن الله أن يرفع .. وانتشر الخبر في بيوت النبي (صلى الله عليه وآله) كفراشة تدور في حقل من الزهور.

سيدة العصور:

             فيما كانت المدينة تترقب الاحتفال بالزواج الخالد، بدأت احتفالات السماء وقد هبط جبريل يحمل إرادة السماء، وقضى أن يجتمع علي وفاطمة (عليها السلام) تحت سقف واحد، لتتحقق سورة الكوثر ويعم الخير جميع البشر، ولم يكن جهاز فاطمة سوى قطيفة مخملية وقربة ووسادة من أدم حشوها ليف، ورحى وجرتين وآنية من خرف.

             وفي السماء كان جهاز سيدة النساء أن نثرت أشجار الفردوس الحلي والحلل تتساقط فوق أرض الجنان .. تغمر الحوريات ويتزيّن بها سكان العالم العلوي .. وأحدقت الملائكة، وزخرفت الجنان وغرّدت الطيور، ونثرت شجرة طوبى اللؤلؤ والدرّ الأبيض والزبرجد والياقوت الأحمر ..

            وقال النبي (صلى الله عليه وآله) وهو ينضحها بالماء:

           اللهم إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم(6).

           تمايلت سعف النخيل طرباً .. وتألفت في السماء ملايين النجوم وظهر القمر يزدهي بهالته .. وتألقت فاطمة فبدت بين النسوة كوكباً درّياً، حتى إذا استوت فوق الناقة، انطلق صوت الدفوف، وبدأ موكب الزفاف يسير الهوينى ..

فاطمة تحفها بنات عبد المطلب ونسوة المهاجرين والأنصار.. أخذ عمار بزمام الناقة وكان الرسول ومعه حمزة والرجال يمشون خلفها..

وملأت الزغاريد الفضاء وصدحت أنشودة الفرح على لسان أم سلمة:

          سِرْنَ بعون الله جاراتي                   واشكُرنه في كلّ حالاتِ

          واذكُرنَ ما أنعمه ربّ العُلى              من كشفِ مكروه وآفاتِ

           فقد هُدينا بعد كفر وقد                   أنعشنا ربّ السّماواتِ

          وَسِرْنَ مَعْ خير نساء الورى                تُفدى بعمّات وخالاتِ

          يا بنت مَن فضّله ذو العُلى              بالوحي منه والرّسالاتِ(7)

             أحبت فاطمة علياً، أحبت فكره وخياله، رأت في ظلاله كل ما كانت تنشده المرأة في الرجل .. ووجد عليٌ في فاطمة ما كان يبحث عنه في نفسه .. وكان اللقاء على كلمة السماء ليكون اتحادهما ميلاداً للإنسان الاجتماعي والأسرة.

            وفي بيت الله ومسجد رسول الله أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) يدي فاطمة ووضعهما في يدي علي وقال بخشوع:

          اللهم إنهما أحب خلقك إليّ، فأحبهما وإني أعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم(8).

          وشهد البيت الصغير ميلاد حب عميق عمق البحر.

            طاهراً كقطرات الندى، متدفقاً كالنبع.. لم تجد فاطمة في بيتها الجديد فراشاً وثيرًا، أو ذهباً وحريراً، لكنها وجدت قلباً ينبض بالحب والخير .. وجدت إنساناً يزخر وجوده بقيم تتألق سمّواً وتشع رحمة.

             أجل وجدت فاطمة (عليها السلام) كل ما كانت تنشده في أعماقها ..

           ووجد علي (عليه السلام) في فاطمة (عليها السلام) ذلك القبس الدافئ من الحنان .. وجد فيها ذلك الكائن الرقيق الذي يتدفق بالعاطفة .. وجد فيها الدرب ففاطمة رقة وشوق وحنان ..وتمر الأيام..

 إلّا الحب!

             كانت فاطمة تشبه أباها في كل شيء، في حديثها وصمتها وحتى مشيها، وفي ذلك النور الذي يشع من وجهها ومحياها، تعمل بصمت أو ترتل آيات القرآن .. تتشربها .. تتنفس كلماتها ومعانيها وتعيش في ظلالها ..

            رتبت ثيابها وكانت قليلة، وضعتها فوق خشبة كان بعلها قد ثبتها في زاوية الحجرة، نشرت خمارها وقطيفة سوداء وقميصاً، رتبت الفراش ثم راحت تكنس البيت، وتصاعد غبار خفيف، كانت ذراته تتألق في ضوء الشمس.

             مسحت كيزان الخزف وأعادت ترتيبها .. حاولت أن تجرّ الرحى إلى مكان آخر، فوجدتها مشدودة إلى الأرض فتركتها في مكانها، ومن كيس في زاوية البيت استخرجت حفنات من الشعير ثم جلست إلى الرحى .. الرحى تدور فيتساقط الدقيق تباعاً، فتجمعه في إناء خزفي صغير أضافت إليه قليلاً من الماء القراح، وراحت تعجن الخليط حتى إذا تجانس، غطت الإناء وتركته ريثما يصير خميراً.

            جلست فاطمة (عليها السلام) وأشعلت النار في الموقد، تصاعد دخان أزرق وتوهج جمر فسفوري الحمرة، كانت عيدان الحطب تتكسر، وكانت فاطمة تصغي مستغرقة في تأملاتها .. سرت في أطرافها قشعريرة وتجمعت في عينيها دموع الشوق إلى عالم لا نهائي .. قلبها ينبض أملاً بما وعد الله المؤمنين ..

            عاد عليٌ (عليه السلام) وقد بدا مهموماً بعض الشيء.. وعندما وقعت عيناه على فاطمة شقت الابتسامة وجهه، شعر بأن الهموم تنزاح عن كاهله كما تنزاح السحب وتذوب الغيوم ..

             لشدّ ما يحب زوجه بروحها التي تكاد تغادر إهاب البدن إلى حيث ترفرف الملائكة ..

وجاء النبي (صلى الله عليه وآله) يزور هذه الأسرة الطاهرة. قال لابنته:

            يا بنية نعم الزوج زوجك .. ولا تعصي له أمراً ..

            ثم شد على يد علي (عليه السلام)، وقال:

            الطف بزوجك وارفق بها، فإن فاطمة بضعة مني، يؤلمني ما يؤلمها ويسرّني ما يسرّها!(9)

         شيء ما ولد في قلب علي (عليه السلام) تجذّر في أعماقه شيء يشبه العهد والميثاق، ألّا يغضب فاطمة أو يجبرها على أمر ما إلى الأبد ..

           وفي قلب فاطمة (عليها السلام) ولد الحب، تفجر نبعه، وعندما يحب المرء ينسى كل شيء سوى الطاعة للحبيب .. وعندما تحب المرأة ترى في طاعة بعلها عبادة خالصة تثري الروح وتسمو بالأخلاق وتنمي إنسانيتها ..

              ويضيء منزل علي وفاطمة (عليها السلام) تضيئه شموع الروح، ووجه الزهراء البتول حورية الأرض التي تملأ البيت الصغير بدفء الكلمات، وشذى من عبير الجنات، جنات الفردوس، واستغرقت الزهراء في حياتها الجديدة وكم كانت فرحتها عند كفل زوجها ما وراء الباب، فمملكة المرأة بيتها، وسلوتها أعمال المنزل، وجهادها حسن التبعل .. فكانت مثال الزوجة الطيبة الرقيقة .. تمتثل لإرادة بعلها ولم تعص له أمراً.

             إن المرأة إذا أرادت أن تطوع زوجها، عليها أن تطيعه، فمن طبيعة الرجل أنه يحترم إرادة زوجته المطيعة!
             

وكانت أسعد اللحظات في حياة علي (عليه السلام) تلك التي يقضيها مع زوجه البتول.

             كانت الزهراء (عليه السلام) تستيقظ فجراً، بل وقبيل الفجر فتصلّي وتستغرق في العبادة حدّ الذهول .. وفي غبش الفجر تدير الرحى لتطحن، وتشعل الموقد، ولم يكن الزوج ليدع زوجه تشقى، فكان يحتطب ويستقي، وكان أيضاً يكنس المنزل .. .

             وهكذا تدور الأيام ….

 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الأمالي/ الشيخ الطوسي/ص175.
(2) ينظر: الكامل في التاريخ/ابن الأثير/ج2ص91.
(3) ينظر: الأمالي/للشيخ الطوسي/ص470.
(4) مرقده موجود في القسطنطينية/في تركيا.
(5) ينظر: إحقاق الحق/التستري/ج4ص475.
(6) مناقب علي بن أبي طالب/ابن المغازلي/ص274.
(7) مناقب آل أبي طالب/ابن شهراشوب/ج3ص130.
(8) ينظر: ن.م/ص131.
(9) البحار/المجلسي/ج43ص133.

اءات السيرةواحة الأدب