من سيرة الزهراء(ع)
اشتملت السيرة العطرة للسيدة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع) على مجموعة من المحطات الجديرة بالوقوف عندها، والتأمل فيها، لما تتضمنه من موجبات للملاحظة والدراسة فكثرة النصوص الصادرة عن النبي الكرم(ص)، والأئمة الأطهار(ع) من بعده في شأنها على سبيل المثال، يوجب ذلك، إذ يتعجب القارئ في سيرتها هذا الكم الهائل من النصوص، وبألسنة متعددة، وهذا وإن لم ينحصر فيها(ع)، فقد ورد مثله كثير في شأن أمير المؤمنين(ع)، وكذا في شأن الإمامين الهمامين الحسن والحسين(ع)، إلا أن ذلك فيهم(ع) مبرر، لما لهم من دور ريادي وقيادي في الأمة بعد رحلة النبي الأكرم(ص)، فإن أمير المؤمنين(ع) سوف يقوم بشأن الأمة ومسؤولياتها، ومن بعده سوف يكون منصب الإمامة تباعاً للإمامين الحسنين(ع).
وليس من الأدوار المناطة بالسيدة فاطمة(ع) ذلك، فإنها لن تكون إماماً للأمة، ولا قائداً تلقى على عاتقه القيام بشأنها، وهذا ما يوجب التعجب والاستغراب في كثرة التأكيد في هذا الجانب.
ولا ينحصر الأمر في خصوص هذه المحطة، بل يجد الباحث في سيرتها جوانب أخرى، حتى أنه لا يكاد يمر بمحطة من محطات حياتها، أو مفردة من مفرداتها، إلا ويجد اختلافاً بين المؤرخين والباحثين في ذلك.
الزهراء في النصوص الشريفة:
لقد صدر عن الرسول الأكرم محمد(ص) كم هائل من النصوص في شأن ابنته الزهراء(ع)، وقد أخذت ألسنة متعددة، وتضمنت إشارات مختلفة، فلم تكن على نسق واحد، أو تنحصر في مادة واحدة، نعم تشترك جميعاً في أن موضوعها هو السيدة الزهراء(ع)، فقد ورد عنه(ص) أنه قال: فاطمة يرضى الله لرضاها، ويغضب لغضبها، وجاء عنه(ص)أنه قال: فاطمة روحي التي بين جنبي، وقال(ص): فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين، والآخرين، وهكذا.
ومن المستبعد أن يكون الداعي لصدور هذه النصوص عنه(ص) في شأن ابنته، وقرة عينه الزهراء(ع) علاقته العاطفية بها، وما يربطه بها من وشيجة نسبية، فإن هذا يتنافى وكونه(ص)، لا ينطق عن الهوى، وأن كل ما يصدر عنه(ص) وحى يوحى إليه.
ومع نفي صدورها اعتماداً على البعد العاطفي، يكشف ذلك عن وجود دواعي وأهداف دعته(ص) لأن يتحدث بهذه النصوص، لما عرفت من أن ما يصدر عنه لابد وأن يكون لحكمة وغاية، لأنه يكشف عن إرادة الله سبحانه وتعالى.
ولم أجد في ما فحصت عاجلاً من سلط الضوء على هذه الناحية في سيرة السيدة الزهراء(ع)، وعمد إلى دراستها، نعم لا ينكر وجود بعض الدراسات أو التأملات حول هذه النصوص على جهة الانفراد، من خلال دراسة كل واحد منها على حدة، إلا أنه لم أطلع على من قام بدراستها بنحو المجموع، لكي يخرج من خلالها بنتيجة وحدوية، يمكن أن تكون الداعي لما صدر عنه(ص).
وربما منع من دراسة هذه النصوص على نحو المجموع، على أساس أنها قيلت في أوقات مختلفة، وفي ظروف متغايرة، ما يجعل لكل وقت قيلت فيه، أو حادثة استدعت صدور شيء منه(ص) دخالة في تحديد المقصود منها، فمثلاً عندما يلحظ الظروف الموضوعية التي دعته(ص) لأن يقول: فاطمة أم أبيها، فإن ذلك يساعد على الإحاطة بمقصوده(ص) من هذا الكلام، ولا يلزم من ذلك أن تدرس هذه المقولة منضمنة إلى المقولات الأخرى.
ونحن لا نمانع من أن يكون لكل واحدة من هذه المقولات دواعيها وأهدافها التي أوجبت صدورها من النبي(ص)، إلا أن الذي يركز عليه أنه لماذا كل هذا التركيز منه(ص) في هذا الشأن، والإبراز لشخص السيدة الزهراء(ع)، خصوصاً وقد عرفت أن ذلك لم يكن لغاية عاطفية، كما أنه لن يكون للسيدة الزهراء(ع) مسؤولية قيادية للأمة من بعد رحلة النبي(ص)[1].
تصور محتمل في النصوص:
إن من المحتمل جداً، واستناداً إلى قانون دخالة الزمان والمكان في تحديد المقصود من النصوص، الالتزام بكون النصوص المذكورة، مشيرة إلى أمرين على نحو الاستقلال:
الأمر الأول: التركيز على مكانة المرأة ودورها في الحياة الاسلامية.
الأمر الثاني: عرض النموذج الأكمل، والصورة التامة، من خلال السيدة الزهراء(ع).
أما بالنسبة للأمر الأول، فإنه يمكن أن يلحظ من خلال الالتفات إلى محورين:
1-واقع المرأة سواء في الحضارات السابقة كالحضارات الإغريقية، الرمانية، والفارسية وغيرها، أم في الواقع العربي قبل بعثة النبي(ص).
2-الالتفات إلى العملية التغيـيرية التي جاء بها النبي(ص) والثورة المعرفية التي تضمنتها دعوته المباركة، والتي جاءت لتطرح قانون المساواة بين جميع الأفراد في الحقوق، وأنه لا فرق في ذلك بين رجل وامرأة.
فإن مقتضى الأمرين المذكورين، يساعد على أن الغاية من هذه النصوص، هو عرض أطروحة الإسلام في رؤيته للمرأة.
ولا يخفى أن هذا لا يمكن أن يقتصر فيه على خصوص البعد النظري، فإنه لا يكون كافياً في تحقيق المطلوب، بل يستوجب وجود صورة عملية أيضاً تضاف للجانب النظري أيضاً، من خلال إيجاد أنموذج متكامل يكشف عن تلك الرؤية، ويقدمها بصورتها الناصعة والجلية، فكانت السيدة الزهراء(ع) ذلك الأنموذج الكامل في كل أبعاده وحيثياتها.
وبالجملة، إن الغرض من النصوص المذكورة هو بيان مكانة المرأة في الإسلام ومنـزلتها، ويتمثل ذلك في مسارين رئيسين:
الأول: مكانة المرأة في الحياة الاجتماعية.
الثاني: دورها في الوسط الاجتماعي والحياتي.
ويتجلى هذان الأمران من خلال التكاملات التالية:
الأول: التكامل الوجودي:
إن المتصور أن المرأة لا يمكنها أن تبلغ مرحلة التكامل، كما يمكنها الرقي في مدارج الكمال، وأن ذلك أمر محصور على خصوص الرجل. وقد انطلق أصحاب هذا التصور من الرؤية الضيقة للمرأة والتي كانت تعطاها من خلال المنظار الجاهلي، والحضارات الأخرى، كما أشرنا إلى ذلك.
وهذا التصور هو الذي أراد النبي(ص) وتأكيداً لما تضمنته الآيات الشريفة، بيان مجانبته للصواب، وأنه لا فرق من هذه الناحية بين الرجل والمرأة، فكما أن الرجل يتمتع بالهوية الانسانية الكاملة في هويته وشخصيته وواجباته العامة، وأهدافه ومواهبه وإمكانياته، وحقوقه العامة، فكذلك المرأة تتمتع وتتصف بذلك، وهذا يعني مساواتها إياه في هذه الهوية، ما يعني أن المرأة كاملة الهوية في إنسانيتها كما هو حال الرجل في الإنسانية.
فتشترك المرأة والرجل في المسؤوليات الاجتماعية، ويتوزع الطرفان الأدوار المناطة بهما على السواء، نعم تختلف الأدوار المناطة بكل واحد منهما، بحيث يكون الدور المناط بأحدهما مختلفاً عن الدور المناط بالآخر، مع أنهما مشتركان في الواجبات المشتركة في حركة المجتمع، ويساعد على هذا اشتراكهما في التكاليف الشرعية، فليست الصلاة واجبة على الرجل دون المرأة، بل إنها واجبة عليها كوجوبها عليه، وكما أنها طريق الوصول إلى الله تعالى، فإنها طريق وصولها إليه سبحانه، كما أنه يمكنها كالرجل أن تجعل الصوم عنصر تحصيل التقوى، والقرب من الباري سبحانه، والحج يكون رحلة العشق الملكوتي في عالم الملكوت، للرجل، وللمرأة على حد سواء.
وقد أكد بعض الباحثين هذا المعنى، من خلال حصر الاستمرار للوجود المبارك للنبي الأكرم محمد(ص) من خلال أنثى، لأن نسل الشريف(ص)، إنما بقي من خلال الصديقة الطاهرة ابنته فاطمة الزهراء(ع)[2].
الثاني: التكامل العبادي:
إن المستفاد من النصوص الدينية إرادة الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يتحول في حركته إلى عبد صالح مخلص في عبوديته لله سبحانه، وأن يتصف بالدرجات الكمالية العالية من التقوى والصلاح والعلم والتواضع والصبر والإحسان والجود والبذل والعطاء، وغير ذلك من السمات النفسانية العالية التي تضمنتها تعاليم الإسلام.
ومن الواضح أن هذا ليس منحصراً في خصوص الرجل، بل إن المرأة شريكة له في ذلك، فإن لها القابلية والمؤهلات التامة في الرقي والكمال والوصول إلى الله تعالى، ويستكشف هذا المعنى من خلال حديث القرآن الكريم عن مريم العذراء(ع)، إذ يقول تعالى:- (يا مريم اقنتي لربك واركعي واسجدي واركعي مع الراكعين)[3]، فإن من المعلوم أن حال المرأة لا يختلف عن حال الرجل، في الركون للدنيا والاشتغال بما فيها من الملذات والشهوات، لو لم يكن خضوعها لذلك وانغماسها فيه أكبر وأكثر من الرجل.
وهذا يعني أن حصول حالة الانزلاق والانهيار بالبعد عن الله تعالى من قبلها يكون أكثر قابلية منه بالنسبة للرجل، إلا أننا إذا وجدنا المرأة تمتلك القدرة والقابلية على أن تحفظ لنفسها توازنها، وذلك من خلال حفظ التوازن بين إشباع هذه الحاجات والرغبات بما يحفظ للمجتمع حيويته وقدرته على الحركة، والحذر من السقوط في مستنقع هذه الشهوات والرغبات والاستغراق في الدنيا والزينة والملذات. فمن الطبيعي أن يكون هذا كاشفاً عن حالة التكامل الفردي الذي بلغته المرأة ووصلت إليه، وهذا ما يشير إليه تعالى في حديثه عن العذراء مريم(ع)، وهي التي تمكنت أن تحفظ حالة التوازن كما ذكرنا، ويبرز هذا بصورة أكثر وضوح في سيرة السيدة آسية زوجة فرعون، فمع أنه قد كان تحت أمرها ملك مصر، إلا أنها أعرضت عن ذلك كله رغبة أن يكون لها بيتاً في الجنة.
وهذا المعنى تجلى بصورة جلية واضحة لا توجب شكاً ولا ريباً في سيرة الطاهرة الزهراء(ع)، فقدمت من خلال سيرتها العطرة درساً عملياً في ما ينبغي أن يكون عليه التكامل الفردي للمرأة، إذ أن قراءة سيرتها وكيف كانت تتعامل مع خادمتها فضة، أو كيف أنها اكتفت بالتسبيحة المعروفة باسمها عن الخادم، وغير ذلك، يفيد ما ذكرنا، ويدل عليه، فتدبر[4].
الثالث: التكامل العملي:
ونقصد بذلك المسؤولية والدور الهادف، الذي تضطلع به المرأة، فكلنا يعلم أن المرأة أماً كانت أو زوجة، تشكل العنصر الأساس في تكوين الأسرة، بل تعتبر الركن الأهم في تكوينها من الناحية الداخلية والذاتية، وتمثل الأسرة اللبنة الأولى للمجتمع الصالح، وأنها سبيل حضارته وقوته وتكامله، فقد أدى ذلك إلى لزوم التركيز على دور المرأة والاعتناء بشخصيتها فيها، لذلك جاءت النصوص تؤكد وتركز على شخصية السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء(ع)، لما لها من دور مركزي في الحياة الأسرية، زوجة كانت أو أماً. خصوصاً وأنه قد توفرت لها ظروف الأسرة الكاملة التي لم تتوفر لغيرها من النساء اللاتي كملن، فلم يكتب للسيدة آسيا بنت مزاحم(ع) أن تكون أماً، كما أنها كانت زوجة لطاغية مستبد، وهذا منع حصول ظروف الأسرة الكاملة الصالحة لها، وبالتالي لم يكتب لها التعبير عن تلك العلاقة القوية في إحكام الأسرة وبنائها، وتوطيد علاقاتها.
ومع توفر جميع مقومات الأسرة الصالحة للسيدة خديجة(ع)، فإنها كانت زوجة لسيد الأنبياء والمرسلين(ص)، وأماً لسيدة نساء العالمين(ع)، لكن لم تقم بالأدوار الأخرى التي مارستها السيدة الزهراء(ع) في حياتها التي استطاعت أن تحفظ في شخصيتها عنصر الموازنة بين هذه الأدوار، مع ما لحفظ هذا العنصر في حياة المرأة من صعوبة بالغة، فقد تمكنت(ع) أن تبلغ أوج العبادة والارتباط بالله سبحانه وتعالى، ومارست جهاد النفس والقيام بالأعمال الصالحة، ثم الوصول إلى الكمالات العالية، ولم تقصّر في الرعاية المنزلية والمسؤولية الأسرية، وجعل الأسرة قوية صالحة، مضافاً لما توفرت عليه من التضحية والفداء في نصرة أمير المؤمنين(ع)، وترسيخ مبدأ الولاية والدفاع عن هذا الحق الذي أريد له أن يثبت في التاريخ ويستمر في العقيدة والهدف حتى وإن لم يحصل على موقعه المطلوب في الوم الأول[5].
ثم لا يذهب عليك أن ما ذكرناه من الاستفادة المجموعية من النصوص على وجه الاحتمال، لا يعني عدم دلالة كل واحد منها على نحو الاستقلال والانفراد على مقام من مقامات الصديقة، وتضمنه الإشارة لمنـزلة من منازلها، فلا تغفل.
يوم الشهادة:
ومن المفردات التي أختلف فيها في سيرة سيدتي ومولاتي الزهراء(ع)، اختلاف مؤرخي الفريقين في يوم شهادتها وفي الشهر الذي وقعت الشهادة فيه، مع اتفاقهم على السنة التي وقعت الشهادة فيها وأنها السنة الحادية عشرة بعد الهجرة النبوية، حتى بلغت الأقوال في ذلك ثمانية عشر قولاً:
منها: ما جاء في تاريخ اليعقوبي، ناسباً إياه إلى القيل من أن يوم شهادتها ورحلتها عن عالم الدنيا كان في شهر ربيع الأول[6].
ومنها: ما يفهم اختياره من جماعة، كالأربلي، وابن شهراشوب في أحد أقواله، والعقوبي، والقسطلاني، من أن شهر وفاتها كان شهر ربيع الآخر.[7].
ومنها: أن شهر رحلتها إلى عالم الملكوت، هو شهر جمادى الأولى، وذلك اعتماداً على ما تضمنته بعض الكلمات من تحديد المدة الزمنية التي بقيت فيها على قيد الحياة بعد رسول الله(ص)، سواء بسبعين يوماً، أم باثنين وسبعين يوماً، أم بخمس سبعين يوماً، وهكذا[8].
ومنها: ما صرح به المفيد، والطبري من أنها قبضت بعد أبيها(ص) في شهر جمادى الآخرة.
وقد أختار هذا القول جمع كبير من المؤرخين، كالمسعودي، والقسطلاني، واليهثمي، وابن قتيبة، وأبي الفرج الأصبهاني، وغيرهم، نعم قد وقع الاختلاف بينهم في تحديد اليوم الذي قبضت فيه، بسبب اختلافهم في تحديد مدة بقائها(ع) بعد أبيها، فقد حددها بعضهم بثلاثة أشهر، بينما حددها آخرون بمائة يوم، وقول ثالث بتحديدها بخمس وتسعين يوماً.
ومنها: أن وقت انتقالها إلى الرفيق الأعلى كان في شهر رجب الأصب، وقد روى اختيار هذا القول العلامة المجلسي(قده) عن مصباح الزائر، وأن ذلك كان في اليوم الحادي والعشرين منه[9].
ومنها: أن وقت عروجها الملكوتي كان في شهر شعبان المعظم، وهو قول لم يرد التصريح به على لسان أحد من المؤرخين، فلاحظ.
ومنها: ما صرح به المسعودي في أحد أقواله، وابن قتيبة من أن وقت وفاتها(ع) كانت في شهر رمضان الكريم[10].
ومنها: ما قيل من أن الشهر الذي قد توفيت فيه بضعة النبي محمد(ص) كان هو شهر شوال، لأنها قد ماتت بعد أبيها بثمانية أشهر[11].
ومن الطبيعي أنه بعد وجود هذا الاختلاف بين المؤرخين في تحديد الشهر الذي وقعت الوفاة فيه، أن يوجد اختلاف بينهم أيضاً في تحديد اليوم الذي كان فيه ذلك، ومع أننا قد ذكرنا طرفاً من ذلك حال عرض بعض الأقوال السابقة، إلا أنه ومن أجل استكمال البحث، نشير لما ظفرنا به أيضا:
فقيل: أن اليوم الذي انتقلت فيه الصديقة الطاهرة الزهراء(ع) إلى عالم الآخرة كان يوم الثالث عشر من شهر ربيع الثاني[12].
وقيل: أن ذلك كان في اليوم الثالث من شهر جمادى الآخرة[13].
وقيل: كما عن الطبري أن ذلك كان قبل نهاية شهر جمادى الآخرة بعشرة أيام[14].
وقد حدد المسعودي يوم وفاتها(ع) بأنه الثالث من شهر رمضان المبارك[15].
ولم يحدد العديد من المؤرخين يوماً معيناً لوفاتها(ع)، وإنما أكتفوا بالإشارة إلى مقدار العدد الذي بقيت فيه على قيد الحياة بعد أبيها(ص)، فذكر التحديد بثلاثين ليلة، وأربعين صباحاً، وسبعون ليلة، وسبعون يوماً، وأثنان وسبعون يوماً، وخمسة وسبعون يوماً، وخمسة وتسعون يوماً، ومائة يوم[16].
هذا ولا يخفاك أن الكثير من الأقوال المذكورة لا تخرج عن كونها مجرد أقوال تاريخية، وقد تقرر في محله أنه لا يعتبر في القضية التاريخية دائماً وجود رواية تثبتها، وتدل عليها، إلا أنه يعتبر فيها أن تكون من القضايا المشهورة، فما لم تكن كذلك، فإنها لن تصلح للإثبات والمدعى، وهذا الذي يفتقده الكثير من الأقوال المذكورة، إذ أن مقتضى وجود ما يقارب من ثمانية عشر قول أو زيادة، يمنع غالباً أن تكون هناك شهرة جلية واضحة لشيء من الأقوال، وعلى فرض التحقق، فإنه لن يتساوى الجميع فيها، ما يعني أن الشهرة حاصلة لبعضها دون البعض، وهذا يوجب حصر ما يحتاج تحديداً وعملاً بمؤداه في خصوص عدد معين، لن يبلغ هذا المقدار كما لا يخفى، وإن كان من المستحسن من أخوة الإيمان، إحياء هذه الذكرى طيلة العام، على كافة الأقوال والمحتملات.
وكيف ما كان، فإن الأقوال التي يوجد لها شاهد تاريخي لشهرة، أو شاهد روائي، لوجود نص عليها تنحصر في ثلاثة تقريباً:
الأول: أن شهر الشهادة والخروج من الدنيا كان في شهر ربيع الآخر، وقد كان ذلك بعد وفاة النبي(ص) بأربعين صباحاً.
الثاني: أن ذلك كان في شهر جمادى الأولى، وقد كان ذلك بعد وفاة رسول الله(ص) بخمس وسبعين صباحاً.
الثالث: أن ذلك كان شهر جمادى الآخر، وقد كان ذلك بعد مضي خمس وتسعين يوماً من وفاة رسول الله(ص).
والظاهر أن النصوص الروائية، تساند الأقوال الثلاثة، فقد أشار السيد المرتضى(قده) في كتابه عيون المعجزات[17]، إلى وجود رواية بأن مدة بقائها بعد أبيها رسول الله(ص) كانت أربعين يوماً، كما ذكر أنه قد روي أن مدة بقائها(ع) بعده(ص) كانت خمسة وسبعين يوماً، وأنه كان لها من العمر عند وفاتها ثمانية عشر سنة وشهران[18].
وفي معتبرة هشام بن سالم عن أبي عبد الله(ع) قال: سمعته يقول: عاشت فاطمة بعد رسول الله(ص) خمسة وسبعين يوماً لم تر كاشرة ولا ضاحكة تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين: الاثنين والخميس، فتقول: ههنا كان رسل الله(ص)، وههنا كان المشركون[19].
وعن أبي بصير بسند فيه محمد بن سنان، عن أبي عبد الله(ع) قال: قبضت فاطمة(ع) في جمادى الآخرة، يوم الثلاثاء لثلاث خلون منه سنة إحدى عشر من الهجرة[20].
وقد ذكر السيد الجليل ابن طاووس في الإقبال روايته عن جماعة أن يوم وفاتها(ع) صر يوم ثالث جمادى الآخرة[21].
ولا مجال لأن يستند إلى ما حكاه غواص بحار الأنوار(قده) في موسوعته الحديثية من أنه قد روي أن مدة بقائها بعد أبيها(ص)، كانت شهرين، وفي رواية ثلاثة أشهر، وفي رواية مائة يوم، وفي رواية ثمانية أشهر[22].
لأنه لم ينسب ذلك لمؤلف من المؤلفين، وإن أخذه من مصدر أسماه ببعض كتب المناقب القديمة، ما يفيد أنه قد وصل إليه بالوجادة، ولم يعرف مؤلفه، فأعمل فيه حدسه، وصنفه على وفق ذلك الحدس، فلاحظ. نعم قد ورد عن أبي جعفر الباقر(ع) أنها بقيت بعد أبيها(ص) ستة أشهر، وفي رواية أخرى أن مدة بقائها بعده(ص) كانت خمسة عشر يوماً[23]. وورد عنه أيضاً بسند يشتمل على الحسين بن علوان الكلبي، أن بدو مرضها كان بعد مضي خمسين ليلة من وفاة رسول الله(ص)، فعلمت أنها الوفاة[24].
إلا أنه ينافي الشهرة التاريخية الثابتة للأقوال الثلاثة السابقة، وبالتالي يصعب البناء على شيء منها، فتأمل[25].
هذا وللعلامة المجلسي(قده) مناقشة في أغلب الأقوال المذكورة في تحديد وقت وفاتها(ع)، من خلال تطبيق عمرها الشريف، بملاحظة وقت الولادة المباركة، ووقت الوفاة، ووقت وفاة النبي(ص) سواء على قول الخاصة، أم على قول العامة، لتكون النتيجة، عدم انسجام أكثر الأقوال المذكورة في تحديد وقت وفاتها، ومدة عمرها الشريف(ع)، قال(قده): لا يمكن التطبيق بين أكثر تواريخ الولادة والوفاة ومدة عمرها الشريف، ولا بين تواريخ الوفاة وبين ما مر في الخبر الصحيح أنها(ع) عاشت بعد أبيها خمسة وسبعين يوماً[26]، إذ لو كان وفاة الرسول(ص) في الثامن والعشرين من صفر كان على هذا وفاتها في أواسط جمادى الأولى، ولو كان في ثاني عشر ربيع الأول كما تروية العامة كان وفاتها في أواخر جمادى الأولى، وما رواه أبو الفرج عن الباقر(ع) من كون مكثها بعده(ص) ثلاثة أشهر يمكن تطبيقه على ما هو المشهور من كون وفاتها في ثالث جمادى الآخرة، ويدل عليه أيضاً ما مر من خبر أبي بصير عن أبي عبد الله(ع)[27]، برواية الطبري بأن يكون(ع) لم يتعرض للأيام الزائدة لقلتها والله يعلم[28].
ويتضح من خلال كلامه(قده) حصر تحديد وفاتها في خصوص القولين الثاني والثالث، لأن لكل واحد منهما رواية، وإن كانت رواية القول الثالث غير نقية سنداً، والتحديد باليوم الثالث من جمادى الثانية، على أساس أنه(ع) لم يلتـزم بذكر جميع المدة الزمنية التي بقيتها، بل قد أسقط بعض الأيام الزائدة على الثلاثة أشهر لقلتها، وعدم الاعتناء بها عادة.
وهذا يستوجب أن يكون التحديد متوافقاً مع مختار الطبري في كتابه دلائل الإمامة.
والتأويل المذكورة لخبر أبي بصير غريب جداً، فإنه لا معنى لحمله على ما ذكر، بل الأولى أن يحمل على أن وقت إخباره(ع) بأن وقت شهادتها(ع) كان في الثالث من جمادى الآخرة كان قد مضى على وفاة رسول الله(ص) خمسة وتسعين يوماً، بحيث يكون ذلك متناسباً مع اليوم المذكور، بأن تكون الأشهر الأربعة تامة، فيتم صفر ومن بعده ربعين، وأخيراً جمادى الأولى ثلاثين يوماً، ومع ضم يومين من صفر لثلاثة أيام من شهر جمادى الثانية، يكون المجموع خمسة وأربعين يوماً، فلاحظ.
تنبيه وتوجيه:
ثم إن ما ينبغي توجه المؤمنين زاد الله في توفيقاتهم إليه، هو التعامل مع ذكرى شهادة السيدة الزهراء(ع) وفقاً للتحديد العددي، وليس التحديد الوقتي، فيعمد إلى تحديد يوم الشهادة من خلال حساب العدد المقدر لمدة بقائها(ع) بعد أبيها(ص)، فلو كان البناء على أنها قد عاشت بعد أبيها(ص) خمسة وسبعين يوماً، فلن يكون ذلك ثابتاً في كل عام في الثالث عشر من شهر جمادى الأولى، بل من الطبيعي أن يختلف ذلك من سنة لأخرى، لأنه ليس من اللازم أن يكون ابتداء الشهور في كل سنة متفقاً مع السنة التي سبقتها، كما أن بعض الأشهر تنقص، وبعضها يزيد، وهذا يجعل تحديد ذلك بيوم معين يخالف ما تضمنه النص، وحتى لا يوسم المؤمنون بأنهم من أصحاب الاجتهاد مقابل النص، يلزمهم البناء على تحديد ذلك من خلال العدد، وهكذا في بقية الروايات.
تجهيز الصديقة:
ومن المسائل التي وقع الاختلاف فيها بين المؤرخين في سيرتها(ع)، مسألة غسلها بعد شهادتها، وهل أنها غسلت أو أنها لم تغسل، فقد وقع الاختلاف بين الأعلام في ذلك على قولين:
الأول: الالتـزام بعدم تغسليها بعد وفاتها، وأنه قد اكتفي أمير المؤمنين(ع) بما صدر منها من اغتسال قبل حلول الوفاة بها.
الثاني: الالتـزام بأنها قد غسلت بعد وفاتها، مثلها مثل بقية المعصومين(ع)، عندما تنزل بهم الوفاة، فكما أنهم(ع) قد غسلوا ما عدا الإمام الحسين(ع)، فإنها غسلت أيضاً.
هذا وقد اختلف القائلون بالقول الثاني على أقوال أيضاً، فقد اختلفوا في المباشر لعملية تغسليها:
منها: القول بحصول الغسل لها من دون تحديد للمباشرة لعملية التغسيل، فقد غسلت بأمر من الجليل سبحانه وتعالى وقد كان غسلها بماء الجنة، إلا أنه لا يعلم المباشر لعملية التغسيل، ومن تولى ذلك، فهل أن المباشر له هم النسوة اللاتي حضرن ولادتها، وهن سارة وآسية، أم غيرهن.
ومنها: إن الذي تولى عملية تغسيلها وباشر ذلك هم الملائكة، وقد ذكر ذلك ابن الجوزي في تذكرة الخواص.
ولا يستغرب هذا القول فإنه قد ثبت أن الملائكة تولت تغسيل حنظلة حتى عرف بغسيل الملائكة، ولا ريب أن مولاتي الزهراء(ع) أعلى شأناً وأرفع منـزلة منه.
ومنها: أن الذي تولى غسلها وباشر أمرها هي أسماء بنت عميس، نعم اختلف في أن ذلك هل كان بوصية منها(ع)، أن ذلك كان بإيعاز من أمير المؤمنين(ع)، وقد ورد بكل واحد منهما نص.
ومنها: أن عملية تغسيلها كانت مشتركة بين أمير المؤمنين(ع)، وأسماء بنت عميس.
ومنها: أن الذي تلى عملية التغسيل وباشر ذلك هو خصوص الإمام علي(ع)، ولم يقم بذلك أحد غيره.
ولا يخفى أن منشأ تعدد الأقوال يعود لاختلاف النصوص، إذ لكل واحد من القولين الأساس في عملية التغسيل ما يسنده، كما أن لكل واحد من الأقوال في المتولي لعملية التغسيل ما يدل عليه، وعليه نحتاج ملاحظة النصوص المذكورة، حتى نرى ما يمكن الركون إليه، ومن ثم البناء على أي من القولين ، ومن ثمّ أي من الأقوال، وعليه سيكون البحث ضمن مرحلتين:
الأولى: الكلام حول تغسيلها وعدمه.
الثانية: بعد التسليم بثبوت عملية التغسيل، يلزم الحديث حول تحديد المتولي لعملية الغسل.
أما المرحلة الأولى، فالنصوص طائفتان:
الطائفة الأولى: ما تضمنت عدم حصول التغسيل لها بعد الوفاة، والاكتفاء بغسلها قبل ذلك، فقد روي مرفوعاً إلى سلمى أم بني رافع، قالت: كنت عند فاطمة بنت محمد(ص) في شكواها التي ماتت فيها، قالت: فلما كان في بعض الأيام وهي أخف ما نراها فغدا علي بن أبي طالب في حاجته وهو يرى يومئذ أنها أمثل ما كانت، فقالت: يا أمه(يا أمة الله)اسكبي لي غسلاً ففعلت فاغتسلت كأشد ما رأيتها ثم قالت لي: أعطيني ثيابي الجدد فأعطيتها فلبست ثم قالت: ضعي فراشي واستقبليني، ثم قالت: إني قد فرغت من نفسي فلا اكشفن إني مقبوضة الآن ثم توسدت يدها اليمنى واستقبلت القبلة فقبضت.
فجاء علي(ع) ونحن نصيح فسأل عنها، فأخبرته، فقال: إذاً والله لا تكشف فاحتملت في ثيابها فغيبت[29].
وقد نقل الشيخ الطوسي(ره) الحديث المذكور في أماليه، مع اختلاف في أن راويه ليس أم بني رافع، بل زوجة أبي رافع، فلاحظ.
ولم يقتصر نقل الحديث على مصادرنا، بل قد ذكر في مسند أحمد بن حنبل أيضاً عن أم سلمى.
ودلالته على المدعى واضحة، فإن المستفاد من تغيـيبها في ثيابها، يعني دفنها من دون إجراء الغسل عليها، كما لا يخفى.
وقد اشتمل الحديث المذكور على ما يخالف الضرورة الفقهية الثابتة عند المسلمين، من لزوم تغسيل كل مسلم مات، خرج منها بعض الموارد التي لا يعدّ مقامنا منها، وهذا يوجب سقوطه عن دائرة الحجية، أو البناء على كونه متضمناً حكماً خاصاً بالسيدة الزهراء(ع)، وهو الذي أصر عليه السيد عبد الرزاق المقرم(قده)[30].
إلا أن حال الخبر المذكور يمنع من البناء على تضمنه حكماً خاصاً، فإنه يفتقر إلى موجبات الحجية كونه مرفوعاً كما عرفت، وليس هو من الأحاديث المشتهرة بين الأصحاب، الموجب للبناء عليه نتيجة ذلك. كما أن متنه اشتمل على ما يمنع من القبول به، وهو تولي سلمى زوجة أبي رافع، أو أم بني رافع تمريضها، فإن ذلك لم ينقل في شيء من المصادر التاريخية، وإنما المنقول وجود أسماء بنت عيس معها في الدار دون غيرها.
على أنه لو سلم أن وجودها كان في تلك اللحظات، وليس على نحو الاستمرار، فإن مجهولية المذكورة، والاختلاف حتى في من هي يمنع من الركون لمثل هذا الخبر.
ولو رفعنا اليد عن جميع ما قدم، فإن هناك رواية أخرى ترويها سلمى المذكورة على خلاف ما تضمنه الخبر المذكور، فعن سلمى امرأة أبي رافع قالت: مرضت فاطمة، فلما كان اليوم الذي ماتت فيه قالت: هيئي لي ماء، فصببت لها، فاغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل، ثم قالت: ائتيني بثياب جدد، فلبستها، ثم أتت البيت الذي كانت فيه، فقالت: افرشي لي في ووسطه، ثم اضطجعت واستقبلت القبلة، ووضعت يدها تحت خدها وقالت: إني مقبوضة الآن فلا اكشفن فإني قد اغتسلت، قالت: وماتت فلما جاء علي أخرته، فقال: لا كشف فحملها يغسلها(ع)[31]. وهو واضح في صدور الغسل من أمير المؤمنين(ع).
وقد فسر غواص بحار الأنوار العلامة المجلسي(ره) منعها(ع) من كشفها أي كشف العورة والجسد للتنظيف، لا أنها تنه عن الغسل[32].
ثم إنه لو لم يقبل بشيء مما ذكر، فلا ريب أن مثل هذا الخبر الوحيد والذي ينحصر القول بعدم التغسيل ظاهراً فيه، لا يصلح لمقاومة العديد من النصوص التي تضمنت حصول التغسيل إليها، فلاحظ.
الطائفة الثانية: ما تضمنت تغسيلها(ع)، وهي نصوص عديدة نشير لواحد منها، لأن جملة منها ستأتي عند الحديث عن المرحلة الثانية، فقد سئل أبو عبد الله الصادق(ع) عن فاطمة من غسلها؟ فقال: غسلها أمير المؤمنين(ع)، لأنها كانت صديقة ولم يكن ليغسلها إلا صديق[33].
وأما المرحلة الثانية، وهي تحديد المتولي لعملية التغسيل بعد الفراغ عن وقوع التغسيل إليها، فقد عرفت تعدد الأقوال في ذلك، وأن ذلك يعود لاختلاف النصوص:
منها: ما تضمن أن تغسيلها كان بأمر من الباري سبحانه وتعالى دون تحديد لمن المتصدي لذلك، فقد روى السيد هاشم البحراني(ره) أن فاطمة لما حضرتها الوفاة، قالت لأسماء بنت عميس: إذا أنا مت فانظري في الدار، فإذا رأيت سجفاً من سندس من الجنة قد ضرب فسطاطاً في جانب الدار فاجعليني من وراء السجف، وخليني وبين نفسي. قال أسماء: فلما توفيت وظهر السجف حملتها ووضعتها وراءه، فغسلت وكفنت وحنطت بالحنوط، وكان كافوراً أنزله جبرئيل من الجنة في ثلاث صرر، وقال: يا رسول الله إن الله تعالى يقرئك السلام، ويقول لك: هذا حنوطك وحنوط ابنتك وحنوط أخيك علي مقسوم أثلاثاً، وكانت أكفانها ماؤها وأوانيها من الجنة، وأنها أكرم على الله من أن يتولى ذلك أحد منها غيرها[34].
أقول: ودلالة الخبر المذكور على المدعى تامة، ذلك أن المستفاد منه وقوع التغسيل عليها دونما إشارة للمتصدي لذلك. إلا أن الكلام في ما تضمنه ذيل الخبر المذكور، وهو قوله: وأنها أكرم على الله…ألخ…، فإن كان من مقول المروي عنه الخبر، لزم من ذلك التنافي، فإن صدر الخبر يفيد عدم تحديد للمتصدي لعملية التغسيل، حتى أنه يحتمل أن يكون المباشر لغسلها نسوة الجنة اللاتي حضرن وقت ولادتها، فيكون بينهم سارة، وآسيا، ومريم أخت موسى(ع)، بينما المستفاد من ذيله أن المتولي لعملية التغسيل هي(ع) بنفسها.
نعم من المحتمل جداً أن يكون الخبر المذكور تعرض لدمج كما هو في بعض النصوص، فدمج بين مقول الراوي، ومقول المروي عنه، بل بين مقول المروي عنه، ومقول مؤلف الكتاب، ولا يبعد أن يكون المقام من هذا القبيل، فيكون الذيل بمثابة الإيضاح للمتصدي لعملية التغسيل، وأن القائل يستقرب أن يكون ذلك بنفسها(ع)، فتأمل.
وكيف ما كان، فإن قبل ما احتملنا، أمكن النظر في الخبر المذكور، وإلا كان ذلك موجباً لرفع اليد عنه، فتدبر.
ولا يذهب عليك، أن السيد البحراني(ره) لم ينقل الخبر المذكور مسنداً، وإنما أرسله، ولا يخفى أنه يلزم احراز صدوره، ذلك أنه إما أن يكون مشتملاً على حكم عقدي، لأنه يفيد حكماً خاصاً للطاهرة الزهراء(ع)، في أنه لم يكن المتصدي لمباشرة غسلها من أفراد البشر، أو يكون مشتملاً على حكم فرعي فقهي، وهو أنه ليس الزوج أولى بزوجته من بقية الناس، فيمكن أن يتصدى لذلك أحد غيره. وكيف ما كان، سواء كان المستفاد من الخبر المذكور حكماً عقدياً، أم كان المستفاد منه حكماً فرعياً فقهياً، فإنه قد اعتبر في كليهما إحراز ذلك، وهذا ما لا يتوفر في المقام، ما يجعل الركون له صعب جداً.
ومنها: ما تضمن أن المباشر لعملية تغسيلها وتجهيزها هم الملائكة، فقد روى السبط ابن الجوزي في كتابه تذكرة الخواص، قال: وروي أن الملائكة غسلتها[35].
وقد يساند هذا ما أشرت له سابقاً من قيام الملائكة بتغسيل حنظلة، حتى عرف بغسيل الملائكة، وهو دونها في الفضل والمنـزلة.
ويأتي شيء من التعقيب على الخبر السابق في المقام أيضاً، وكفى أن يلتفت إلى أن حاكي الخبر لم يلتـزم به ظاهراً، فإنه بعد نقله له، قال: والأصح أن علياً غسلها، وكانت أسماء تصب عليه[36].
ومنها: ما تضمن أن المتصدي لذلك كان أسماء بنت عميس، وهي قسمان:
1-ما تضمن أن ذلك كان بوصية من السيدة الزهراء(ع)، فقد ورد في حديث، أنها قالت(ع) لأسماء: فإذا مت فاغسليني أنت ولا يدخلن علي أحد[37].
وهل أن المستفاد منه أن تكون عملية التغسيل منحصرة فيها، فلا يكون معها أحد من النساء، أو أن المقصود من ذلك أن تتم عملية التغسيل لها بإشراف أسماء، وإن كان المباشر لذلك نسوة أخريات؟ احتمالان، لا يبعد أظهرية أولهما على الآخر، فإن التعبير بـ(اغسليني) لو لم يكن صريحاً فلا أقل من ظهوره في المباشرة، فلاحظ.
2- ما تضمن أن ذلك كان عن أمر من أمير المؤمنين(ع)، فقد ورد-في حديث- أنه(ع) قال: يا أسماء غسليها وحنطيها وكفينها، قال: غسلوها وكفنوها وحنطوها وصلوا عليها ليلاً ودفنوها بالبقيع وماتت بعد العصر[38]. ودلالته تعتمد على أن يكون قوله: غسليها…ألخ…يفيد حصر عملية التغسيل فيها، لا أنه يشير إلى مشاركتها في عملية التغسيل، فتدبر.
هذا وقد يقال، بأنه لا منافاة بين الطائفتين، على أساس أن ما صدر من أمير المؤمنين(ع) لم يكن عنه مستقلاً، وإنما كان إمضاء وتنفيذاً لما كانت ترغبه الزهراء(ع)، فلا منافاة بينهما.
والإنصاف، أنه جمع تبرعي، ولس عرفياً، ضرورة أن الظاهر مما تضمنته الطائفة الثانية أن ذلك كان ابتداء من أمير المؤمنين(ع)، من دون أن يكون هناك إخبار من أسماء بذلك، وهذا بخلاف ما في الطائفة الاولى من أن التجهيز كان بوصية منها(ع)، ومن دون أن يكون لأمير المؤمنين(ع) علم بذلك، فتدبر.
على أن خبر وصية أسماء، قد تضمن أنها صورت للسيدة الزهراء(ع) صورة نعش كان يعمل في الحبشة، حتى تحمل عليه، وهذا يعارضه نصوص تضمنت أنها(ع) هي التي صورت لها كيفية النعش الذي تود أن تحمل عليه لأن الملائكة قد صورت لها صورته، والمعارضة المذكورة موجبة للتوقف في القبول به، فتدبر.
ومنها: ما تضمن اشتراك أمير المؤمنين(ع)، وأسماء في عملية التغسيل، فقد ورد عن أسماء بنت عميس أنها قلت: أوصت إلي فاطمة أن لا يغسلها إذا ماتت إلا أنا وعلي فأعنت علياً على غسلها.
وفي كتاب البلاذري أن أمير المؤمنين(ع) غسلها من معقد الإزار وإن أسماء بنت عميس غسلتها من أسفل ذلك[39].
ولا يذهب عليك أن هذه الطائفة تعارض الطائفة السابقة، ذلك أن المستفاد من الطائفة المتقدمة أن المباشرة لعملية التغسيل منفرداً هي أسماء، بينما مدلول هذه الطائفة أن ذلك كان شراكة بينها وبين أمير المؤمنين(ع).
ولا مجال للتوفيق بينهما من خلال جعل ما تضمنته الطائفة الأولى مشيراً إلى أحد عنصري التغسيل، وهذه الطائفة تشير إليهما معاً، فإنه خلاف الظاهر من الطائفة السابقة، إذ أن المستفاد منها حصر عملية التغسيل والمباشرة في خصوص أسماء، فلاحظ.
ومقتضى ذلك، اللجوء لما يوجب ترجح إحدى الطائفتين على الأخرى، والظاهر أنه لو كان المقام مورد ترجيح لكان الترجيح للطائفة محل البحث على سابقتها، ولا أقل لشهرتها، فتدبر.
ومنها: أن المتصدي للقيام بعملية تغسيلها هو أمير المؤمنين(ع)، وأنه لم يشركه في ذلك أحد، ففي خبر المفضل قال: قلت لأبي عبد الله(ع): جعلت فداك من غسل فاطمة؟ قال: ذاك أمير المؤمنين(ع)، قال: فكأني استعظمت ذلك من قوله، فقال: كأنك ضقت مما أخبرتك به؟ قلت: قد كان ذلك جعلت فداك، قال: لا تضيقن فإنها صديقة لا يغسلها إلا صديق، أما علمت أن مريم لم يغسلها إلا عيسى(ع)[40].
وفي خبر الحسين بن علوان عن جعفر عن أبيه(ع) أن علياً(ع) غسل امرأته فاطمة(ع) بنت رسول الله(ص)[41].
والإنصاف، أن شيئاً من النصوص المذكورة، وأضرابها لا يصلح أن يخرج شاهداً على المدعى، وهذا يوجب التوقف في تحديد المتصدي لعملية مباشرة جهازها(ع). نعم يمكن الاستناد للعمومات التي تضمنت أن المعصوم، لا يقوم بجهازه إلا معصوم مثله، ولا يفرق في ذلك بين الرجل والمرأة، فيكون مقتضاها البناء على أن المتصدي لمباشرة شأنها هو أمير المؤمنين(ع). وهل كانت معه أسماء تسكب عليه الماء، ليس في الدليل المذكور ما يساعد على وجود أحد غير المعصوم، إلا أنه لو بني على وجودها لم يكن في ذلك ضير، فتأمل جيداً.
مكان الدفن:
وكما أختلف في تحديد يوم شهادتها(ع)، وأنها كانت في أشهر من شهور السنة، وقع الخلاف بين المؤرخين أيضاً في تحديد موضع قبرها الشريف، حتى قيل أن ذلك من غوامض السر الذي بقي حتى ظهور صاحب الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، ولم يتبين لأحد تعيـين قبرها بالضبط، ما عدا الذي حضر دفنها، وأهل البيت خاصة.
وكيف ما كان، فقد ذكر في موضع قبرها الشريف، أقوال ثلاثة:
الأول: أنه قد تم دفنها(ع) في بيتها، فيكون موضع القبر الشريف فيه(ع)، وهذا هو القول المشهور[42].
وقد ألتـزم بهذا القول، شيخنا الصدوق(ره)، قال: والصحيح عندي في موضع قبر فاطمة ما حدثنا به أبي[43]، ثم ذكر الحديث الآتي من أن دفنها وموضع قبرها في بيتها.
وقال في الفقيه: اختلفت الروايات في موضع قبر فاطمة سيدة نساء العالمين(ع)، فمنهم من روى أنها دفنت في البقيع، ومنهم من روى أنها دفنت بين القبر والمنبر، وأن النبي(ص) إنما قال: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، لأن قبرها بين القبر والمنبر، ومنهم من روى أنها دفنت في بيتها، فلما زادت بنو أمية في المسجد صارت في المسجد، وهذا هو الصحيح عندي[44].
ومن المحتمل جداً أن يكون تحديد قبرها الشريف(ع) وفقاً لما جاء في الفقيه أنه في المسجد، وبالتحديد في الروضة المباركة، وأن ذلك قد وقع نتيجة التوسعة التي حصلت للمسجد النبوي، لا أن الإمام أمير المؤمنين(ع)، قد دفنها منذ البداية فيها، وهذا يعني أن أصل موضع قبرها(ع) لم يكن في الروضة، وإنما كان في بيتها، ثم أصبح في الروضة، لأن بيتها قد أدخل فيها، فلاحظ.
والقول بأن موضع قبرها الشريف(ع) في بيتها، هو مختار غير واحد من أعيان وأعلام الطائفة، فمضافاً، للصدوق(ره)، قال به الكليني لنقله الخبر المتضمن لوجود قبرها الشريف في بيتها، والشيخ الطوسي، والعلامة الحلي، والأربلي، والمجلسي(قده)، وغيرهم.
قال شيخنا المجلسي، غواص بحار الأنوار(قده): قد بينا في كتاب المزار أن الأصح، أنها مدفونة في بيتها[45].
على أن هناك جملة من الأعلام لم يجزموا بعدم وقوع الدفن في بيت الزهراء(ع)، بل جعلوا ذلك أحد محتملين، كالشيخ الطبرسي(ره)، فقد قال: والأصح والأقرب أنها مدفونة في الروضة أو في بيتها، فمن استعمل الاحتياط إذا أراد زيارتها، زارها في المواضع الثلاثة، كان أولى وأصوب، والله أعلم[46].
وقد حكى ذلك أيضاً ابن شهراشوب عن الشيخ(ره)، قال: قال أبو جعفر الطوسي: الأصوب أنها مدفونة في دارها، أو في الروضة.
يؤيد قوله قول النبي(ص): إن بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، وفي البخاري: بين بيتي ومنبري، وفي الموطأ والحلية والترمذي ومسند أحمد ابن حنبل: ما بين بيتي ومنبري.
وقال(ص): منبري على ترعة من ترع الجنة، وقالوا: حد الروضة ما بين القبر إلى المنبر إلى الأساطين التي تلي صحن المسجد[47].
ولا يظهر أن موجب التردد احتمال دخول بيتها الشريف في المسجد النبوي بعد حصول التوسعة له، وإنما وجود احتمال حصول عملية الدفن منذ البداية في الروضة المباركة، ليكون التحديد بها على نحو القسيم لوقوع الدفن في بيتها، فتدبر.
وكيف ما كان، فلا يبعد أن يكون مستند القائلين بهذا القول، هو ما رواه الصدوق بسند معتبر عن البزنطي، قال: سألت أبا الحسن علي بن موسى الرضا(ع) عن قبر فاطمة صلوات الله عليها، فقال: دفنت في بيتها، فلما زادت بنو أمية في المسجد، صارت في المسجد[48].
وقد رواه الكليني(ره) أيضاً في الكافي[49]، لكن بسند ضعيف، لاشتماله على سهل بن زياد، فلاحظ.
وقريب منه ما رواه البزنطي في قرب الإسناد، عن الرضا(ع)، قال: سألته عن فاطمة بنت رسول الله(ص) أي مكان دفنت؟
فقال: سأل رجل جعفرأً(ع) عن هذه المسألة وعيسى بن موسى حاضر، فقال له عيسى: دفنت في البقيع، فقال الرجل: ما تقول؟ فقال: قد قال لك، فقلت له: أصلحك الله ما أنا وعيسى بن موسى؟!أخبرني عن آبائك، فقال الإمام(ع): دفنت في بيتها[50].
الثاني: أن موضوع قبرها الشريف، في الروضة المباركة من المسجد النبوي، وأن ذلك بالتحديد ما بين قبر النبي الأكرم محمد(ص)، وبين منبره المبارك.
وقد أختاره مجموعة من أكابر الطائفة، كالشيخ المفيد(ره)، فقد نص على استحباب زيارتها(ع) في خصوص الروضة الشريفة، قال: ثم قف وزر فاطمة، فإنها هناك مقبورة، فإذا أردت زيارتها فتوجه إلى القبلة في الروضة[51].
وهو مختار شيخ الطائفة(ره) في كتابه النهاية، كما أختاره أيضاً المحقق الحلي(ره) في الشرائع، والعلامة(قده) في القواعد.
وقد حاول القائلون بهذا القول تفسير ما ورد عنه(ص) من القول: ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، بقبر السيدة الزهراء(ع)، على أساس أنه يقع في تلك المنطقة. ففي روضة الواعظين، قال: وتصحيح ذلك قوله(ع): بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، إنما أراد بهذا القول قبر فاطمة[52].
وفي دلائل الإمامة، بعد اختياره دفنها(ع) في الروضة، وتعمية موضع قبرها، قال: وروى أيضاً عن إبراهيم بن كثير بن محمد بن جبرائيل ما يدل على ذلك، وقال: قال أبو جعفر: وحدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد والليث بن محمد بن موسى الشيباني، قالا: أخبرنا إبراهيم بن كثير بن محمد بن جبرائيل: قال: رأيت الحسن بن علي وقد استسقى ماءاً فأبطأ عليه الرسول، فاستخرج من سارية المسجد ماءاً فشرب وسقى أصحابه، ثم قال: لو شئت لسقيتكم لبناً وعسلاً. قلنا: اسقنا، فسقانا لبناً وعسلاً من سارية المسجد مقابل الروضة التي فيها قبر فاطمة(ع)[53].
هذا وقد يستدل على هذا القول، بما رواه شيخنا الصدوق(ره) مسنداً عن أبي عبد الله(ع)، أنه قال: قال رسول الله(ص): ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة، لأن قبر فاطمة صلوات الله عليها بين قبره ومنبره، وقبرها روضة من رياض الجنة[54].
ولا يذهب عليك، أن تمامية الاستدلال بالحديث المذكور تعتمد على أن يكون قوله: لأن قبر فاطمة صلوات الله عليها، صادر من الإمام(ع)، وليس تفسيراً من شيخنا الصدوق(ره)، وإلا أوجب ذلك كون الخبر أجنبياً عن المقام، فلاحظ.
ولم يعتبر العلامة المجلسي(ره) هذا القول مخالفاً للقول الأول، بل جعلهما قولاً واحداً، عمدة ما كان أن كل واحد منهما ناظر إلى فترة زمنية من تحديد موضع القبر، فإن القبر الشريف أول ما كان موضعه كان في بيتها(ع)، إلا أنه لما جرت التوسعة للمسجد النبوي الشريف، فزيد فيه مما حوله، دخلت دار السيدة الزهراء(ع فيها، فأصبح بيتها داخل المسجد، وقد أوجب ذلك أن يكون قبرها الشريف داخله أيضاً، قال(ره): والأظهر أنها صلوات الله عليها مدفونة في بيتها، والأخبار فيه كثيرة أوردتها في البحار، لكن روى الصدوق في معاني الأخبار بسند صحيح[55] عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله(ع) قال: قال رسول الله(ص): ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على ترعة من ترع الجنة، لأن قبر فاطمة بين قبره ومنبره، وقبرها روضة من رياض الجنة وإليه ترعة من ترع الجنة.
ويمكن الجمع بأن يقال: الروضة متسعة بحيث تشمل بعض بيتها(ع)، الذي دفنت فيه، ويؤيده قوله(ع): فلما زادت بنو أمية إلى آخرها[56].
ولا يذهب عليك أن الجمع المذكور، يتم لو بني على أن الروضة الشريفة المذكورة في الكلمات، والواردة على لسان النبي(ص) ليست محددة المعالم، ولا معروفة، ما يجعل لها القابلية للاتساع والتمدد، أما لو بني-كما هو الصحيح-من كونها محددة المعالم، منذ أيام النبي(ص)، فلن يكون للتوجيه المذكور مجال أصلاً، فلاحظ.
الثالث: أنها(ع) قد قبرت في أرض بقيع الغرقد، وقد قاله ابن عباس، فقد روي عنه في حديث وفاتها، أنه قال: فلما أرادوا أن يدفنوها نودوا من بقعة من البقيع: إليّ إليّ، فقد رفع تربتها مني، فنظر فإذا هي بقبر محفور، فحملوا السرير إليها فدفنوها[57]. وقد استظهر ذلك الشيخ الإربلي(ره)، قال: قلت: والظاهر، والمشهور مما نقله الناس وأرباب التواريخ والسير أنها دفنت بالبقيع[58].
وقد سبقه للقول بذلك المؤرخ المعروف المسعودي، حيث قال بأن موضع القبر الشريف لسيدة نساء العالمين(ع) في بقيع الغرقد[59].
والظاهر أنه مختار ابن شهراشوب(ره) أيضاً فإنه ذكر أن مشهدها الشريف في البقيع، ومن المعلوم أن المقصود بمشهدها، موضع قبرها، ويساعد على ذلك أنه نسب القولين الآخرين للقيل، المشعر بتضعيفهما، وتمريضهما، قال(ره): وتوفيت(ع) ليلة الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة من الهجرة، ومشهدها بالبقيع، وقالوا: إنها دفنت في بيتها، وقالوا: قبرها بين قبر رسول الله(ص) ومنبره[60].
وقد استبعد شيخنا الطبرسي(ره) هذا القول، فإنه بعد ذكره للاختلاف الحاصل في موضع قبرها الشريف(ع)، والأقوال الثلاثة في ذلك، قال(قده): والقول الأول-أن قبرها في البقيع- بعيد، والقولان الآخران أشبه وأقرب إلى الصواب، فمن استعمل الاحتياط في زيارتها، زارها فيا لمواضع الثلاثة[61].
وربما استند القائلون بهذا القول، إلى ما روي أن الإمام الحسن(ع) أوصى أن يكون قبره بجوار قبر أمه الزهراء(ع)، ولما كان قبر أبي محمد الحسن(ع) في البقيع، فإن ذلك يكشف عن كون قبرها الشريف(ع) فيه أيضاً، فقد روى الأصفهاني، أنه لما رفضت بنو أمية دفن الإمام الحسن(ع) عند جده رسول الله(ص)، قال(ع): أما إذا كان هذا فلا حاجة لي فيه، ادفنوني إلى جانب أمي فاطمة، فدفن لى جنب أمه فاطمة(ع)[62].
ولا يخفى أنه بعد التسليم بتمامية هذا المروي، فإنه يتوقف على إحراز أن قبرها(ع) في أرض البقيع، حذراً من المصادرة، لأن من المحتمل جداً أن يكون مقصوده(ع) أن يدفن مع جده رسول الله(ص) إذا لم تمانع المرأة، كما هو في القصة المشهورة.
مضافاً إلى أنه لم يحدد في النص المذكور أي أم أراد، فإن السيدة فاطمة بنت أسد(ع) مدفونة بأرض البقيع، فمن المحتمل جداً أن يكون قد قصدها، فتدبر.
والحاصل، إن النص المذكور لا يشتمل تحديداً وتشخيصاً لمن قصد بفاطمة، وإنما تحديد ذلك بسيدة النساء(ع)، اجتهاد من أبي الفرج الأصفهاني، واجتهاده، لا قيمة له، فلاحظ.
وقد جعل نقض الغرض من سرية الدفن، مبعداً للقول المذكور، إذ كما يعلم أن السيدة الزهراء(ع) قد أوصت أن يكون دفنها في الليل، وهذا يكشف عن إرادتها حصول التجهيز في شيء من السرية، ومن الواضح أن إخراج الجنازة الشريفة، من الدار إلى البقيع، يستوجب انتفاء السرية، لأن من المحتمل جداً أن يطلع بعض المسلمين على ذلك، فيوجب ذلك نقضاً للغرض[63].
وكيف ما كان، فإنه يكفي لرفع اليد عن هذا القول، عدم وجود نص يدل عليه من قبل أهل البيت(ع)، بخلاف القولين الآخرين، كما عرفت.
وبالجملة، إن الذي يساعد عليه الدليل، كون موضع قبرها في بيتها، وأنه قد أدخل في المسجد النبوي بعدما حصلت التوسعة إليه، وإن كان القول بكونه في الروضة الشريفة له وجه. ومقتضى ذلك أنه لابد لمن أراد أن يحرز الوقوف على قبرها الشريف، أن يزورها في بيتها، وفي الروضة الشريفة، وأحوط من ذلك كما سمعت عن الشيخ الطبرسي(ره)، وغيره زيارتها في بقيع الغرقد أيضاً.
ثم إنه لا يتوهم أحد أن تحديد قبرها وفقاً للنصوص المذكورة، موجب لكونه قد أصبح معلوماً ومحرزاً، وهذا قد يوجب انتفاء شيء من مظلوميتها، لأنه حتى وإن بني على أن قبرها الشريف، كان في بيتها، وقد أصبح اليوم في الروضة الشريفة، إلا أنه لا إشكال في كونه غير محدد المعلم ولا المكان ، لأن الروضة الشريفة، وإن كانت محددة المساحة، إلا أن قبر السيدة الطاهرة(ع)، ليس محدداً في أي جهة منها، ما يوجب علماً إجمالياً بوجوده فيها، لكنه لا يكون محدداً، وهذا يبقي المظلومية في خفاء قبرها الشريف(ع)، على حاله، والله العالم.
[1] قد يحتمل أن الدور الذي تكفلته السيدة الزهراء(ع) في الحفاظ على حياة أمير المؤمنين(ع) والدفاع عن حريم الإمامة من أهم الأدوار، وصدور جملة من هذه النصوص غرضه هذا، فتأمل.
[2] في ظلال أهل البيت(ع) فاطمة الزهراء(ع) ص 204-206(بتصرف).
[3] سورة الأعراف الآية رقم 32.
[4] في ظلال أهل البيت(ع) فاطمة الزهراء(ع) ص 207-210(بتصرف).
[5] المصدر السابق ص 211-214(بتصرف).
[6] تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 115.
[7] كشف الغمة ج 2 ص 127، بحار الأنوار ج 43 ص 180، ص 186، مناقب آل أبي طالب ج 3 ص 356، تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 115.
[8] تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 115، التنبيه والإشراف ص 250، روضة الواعظين ص 143، بحار الأنوار ج 43 ص 156، عيون المعجزات ص 55، دلائل الإمامة ص 10.
[9] بحار الأنوار ج 43 ص 215.
[10] التنبيه والإشراف ص 250، بحار الأنوار ج 43 ص 189.
[11] تهذيب التهذيب ج 12 ص 469.
[12] بحار الأنوار ج 43 ص 180.
[13] مصباح الكفعمي ص 511، مسار الشيعة ص 66، دلائل الإمامة ص 45.
[14] دلائل الإمامة ص 46، بحار الأنوار ج 43 ص 171.
[15] التنبيه والإشراف ص 250.
[16] أغلب ما كيناه من التحديد الزمني، قد ذكره شيخنا المجلسي غواص بحار الأنوار(ره)، فلاحظ ج 43 ص 180، 189.
[17] كلام في نسبة الكتاب لغيره أيضاً، وقد نسبناه له وفقاً لشيخ البحار المجلسي(ره)، فلاحظ.
[18] بحار الأنوار ج 43 ص 212.
[19] بحار الأنوار ج 43 ح 24 ص 195..
[20] بحار الأنوار ج 43 ح 11 ص 170..
[21] بحار الأنوار ج 43 ص 196. وقد أصبح المؤمنون عند إحيائهم ذكرى شهادتها اعتماداً على هذه الرواية يعبر: وفقاً لرواية السيد ابن طاووس(ره).
[22] بحار الأنوار ج 43 ص 213.
[23] بحار الأنوار ج 43 ح 30 ص 200..
[24] بحار الأنوار ج 43 ح 30 ص 201.
[25] وجه التأمل، إن الشهرة التاريخية لا تصلح لرفع اليد عن شيء من النصوص، خصوصاً إذا كان النص مستجمعاً لشرائط الحجية في مورده، لأنه رب مشهور لا أصل له، ولهذا قد ذكرت في مطلع الحديث أن الأجدر بالمؤمنين أن يعمدوا إلى احياء جميع الروايات التي تضمنت ذكر شهادة مولاتي الزهراء(ع)، لأنه قد يكون تقديم بعضها من الترجيح بلا مرجح، فلاحظ.
[26] عنى بذلك معتبرة هشام بن سالم المتقدمة، فلاحظ.
[27] تقدمت الإشارة إليه عند ذكر النصوص على الأقوال الثلاثة.
[28] بحارا لأنوار ج 43 ص 215-216.
[29] بحار الأنوار ج 43 ص 187.
[30] وفاة الصديقة الزهراء(ع) ص 112..
[31] بحار الأنوار ج 43 ص 172.
[32] بحار الأنوار ج 4 ص 172.
[33] بحار الأنوار ج 43 ص 184، ص 206 ح 32 وقد تضمن زيادة في ذيله: أما علمت أن مرين لم يغسلها إلا عيسى(ع)، ولاحظ حد 33 من نفس الصفحة.
[34] معالم الزلفى ج 1 ص 388.
[35] تذكرة الخواص ص 286.
[36] المصدر السابق.
[37] بحار الأنوار ج 43 ح 19 ص 189.
[38] بحار الأنوار ج 43 ص 187.
[39] بحار الأنوار ج 43 ص 184.
[40] بحار الأنوار ج 43 ح 32 ص 206.
[41] المصدر السابق ح 33.
[42] من الذين حكوا كونه مشهوراً المحقق الخوئي(ره) في منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج 13 ص 12.
[43] معاني الأخبار ص 268.
[44] من لا يحضره الفقيه ج 2 ص 356 زيارة فاطمة بنت النبي(ص).
[45] بحار الأنوار ج 43 ص 188.
[46] تاج المواليد ص 299.
[47] بحار الأنوار ج 43 ص 185.
[48] معاني الأخبار ص 268، بحار الأنوار ج 43 ص 185 ح
[49] الكافي ج 1 ص 461 ح 9.
[50] قرب الإسناد ح 1314 ص 367.
[51] المقنعة ص 71.
[52] روضة الواعظين ص 152.
[53] دلائل الإمامة ص 66.
[54] معاني الأخبار ص 267.
[55] لا يخفى أن الحكم بصحة الخبر المذكور على بعض المباني، فإنه مرسل، لكن بناء على التسليم بأن مراسيل ابن أبي عمير كمسانيد غيره، يبنى ما أفاده(قده)، فلاحظ.
[56] مرآة العقول ج 5 ص 349.
[57] منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة ج 13 ص 12.
[58] كشف الغمة في معرفة الأئمة(ع) ج 1 ص 473.
[59] التنبيه والاشراف ص 250.
[60] بحار الأنوار ج 43 ح 16 ص 180.
[61] إعلام الورى بأعلام الهدى ج 1 ص 301.
[62] مقاتل الطالبيـين ص 49.
[63] حياة الصديقة فاطمة(ع) ص 284.