ظُلامةُ السيّدةِ فاطمةَ الزهراءِ (عليها السلام) / بقلم وسن فوزي منصور
إنَّ الوقوفَ على ساحلِ بحرِ هذهِ السيّدةِ العظيمةِ، والغوصَ في أعماقِ أسرارِها المليئةِ بالخفايا العجيبةِ، يجعلُكَ تُدرِكُ اضطرابَ الخواطرِ في أمواجِها العتيدةِ؛ بحيث ما إنْ أردتُ أن انتهلَ من مائها حتى ازددتُ عطشًا. فلا شيءَ يجعلُني أرسو على شاطئها غيرَ أنْ أقِفَ بينَ هذه الأحرفِ لأجعلَها الدفّةَ التي تُحرِّكُ البحثَ عن هذه اللؤلؤةِ المكنونةِ..
بدايةً أنقلُ لكم ما وردَ في رسالةِ الشيخ محمد فاضل المسعودي المعنونةِ بعنوان الدُرّةُ البهيّةُ في الأسرارِ الفاطمية والتي كانتْ للسيدِ عادل العلوي لتكونَ مقدمةَ البحثِ في الأسرارِ الفاطمية الذي كانَ بحقِّ يحمِلُ أسرارًا فاطميةً تُذهِلُ العقولَ، فقد وردَ فيها هذا النص:
(إنّ من الأصولِ معرفةَ الصدّيقةِ الكُبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام) فمن عرفَها حقَّ معرفتِها فقد أدركَ ليلةَ القدرِ التي خيرٌ من ألفِ شهرٍ، إلا أنّها سُمّيت فاطمة؛ لأنَّ الخلقَ فُطِموا عن معرفتِها)
كما وردَ في مقطعٍ آخر من الرسالةِ أيضًا:
(وممّا يدلُّ على مقامِها الشامخِ وعظمتِها الذاتيةِ والكُلّية كما في الأنبياءِ والأوصياء (عليهم السلام) أنّ اللهَ يغضبُ لغضبِها ويرضى لرضاها كما وردَ عندَ الفريقينِ السُنّةِ والشيعة).
وقطعًا لا شكَّ في ذلك؛ فهي الكوثرُ وبضعةُ المُصطفى؛ فمن آذاها فقد آذى رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، ومَن آذى رسولَ اللهِ فقد آذى الله (تعالى)، ومن آذى الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) عليه لعنةُ اللهِ أبدَ الآبدين..
وبعدَ أنْ وقفَنا على بيانِ بعضِ مقامِها السامي لابُدّ لنا أنْ نقفَ أيضًا على ظُلامتِها؛ لنعرفَ على من غضبتْ وماتتْ وهي واجدةٌ عليهم.. ولمعرفةِ الظُلمِ الذي جرى عليها بدايةً لنأخذَ فكرةً عامةً عن الظلمِ وأسبابِه وعقابه في القرآن والسنة…
من خِلالِ استقراءِ القرآنِ الكريمِ نجد أنّ أكثرَ الآياتِ القرآنيةِ الواردةِ في كتابِ الله (تعالى) صريحةٌ وواضحةٌ في تحريمِ الظُلمِ سواءَ أكانَ بذكرِ لفظ الظلمِ بصورةٍ مباشرةٍ أم عن طريقِ نقيضهِ (العدل).
والظلمُ عرفًا يعني بخسَ الناسِ أشياءَهم وحقوقَهم، والاعتداءَ عليهم سواء كان قولًا أو عملًا. أما شرعًا فهو وضعُ الشيءِ في غيرِ موضعِه الشرعي، وأصلُه الجورُ ومُجاوزةُ الحدّ…
ولأنَّ النفسَ البشريةَ فيها نوازعُ الخيرِ ونوازعُ الشرِّ ظهرتِ الحاجةُ لتعاليمِ الدينِ الإسلامي وتنميةِ النفسِ نحوَ الأخلاقِ والفضائلِ التي هي الميزانُ الذي يُبرِزُ ذلك النوع من البشرِ. والظُلمُ من عواملِ الشرِّ التي تُسيطرُ عليها القوى الغضبية ودوافعُها الكراهيةُ والحسدُ، وهو مرضٌ من أمراضِ النفسِ المُتوغلةِ بالشرِّ..
ولهذا جاءتِ الكثيرُ من الآياتِ القُرآنيةِ الكريمةِ حاملةً بينَ طيّاتِها التأكيدَ على هذا الأمرِ المُهمِّ والضروري لتكامُلِ البشريةِ وهو حُرمةُ الظُلمِ وعدمُ معونةِ الظالمين. جاء في قوله (تعالى): (إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ)
كما أكّدَ (سبحانه) حقيقةَ أنَّه (تعالى) حرَّمَ الظُلمَ على نفسِه؛ فلا يظلم عبادَه كما وردَ في الحديثِ القُدسي: (يا عبادي إنّي حرّمتُ الظُلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم مُحرّمًا فلا تظالموا). وحذّرَ من الركونِ إلى الظالمين، وذلك في قوله (تعالى): “وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ”
ثم إنَّ الله (تعالى) يُجزي الظالمين نار جهنم، وعندئذٍ لا يجدون لهم من أنصار، جاء في القرآن الكريم: “رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ”]
روي عن الإمام الباقر (عليه السلام): (الظلم ثلاثة: ظلمٌ يغفرُه اللهُ (تعالى)، وظُلمٌ لا يغفرُه اللهُ (تعالى)، وظُلمٌ لا يدعُه الله، فأمّا الظلمُ الذي لا يغفرُه اللهُ (عز وجل) فالشرك، وأمّا الظُلمُ الذي يغفرُه اللهُ (عزَّ وجل) فظُلمُ الرجلِ نفسَه فيما بينَه وبينَ الله، وأمّا الظلمُ الذي لا يدعه فالمُداينةُ بينَ العباد)
وبناءً على هذا الحديث فإنَّ الظلمَ ثلاثةُ أنواعٍ:
*ظلمٌ لا يغفرُه اللهُ (تعالى) أبدًا إلا بالتوبةِ؛ لأنّه أشدُّ أنواعِ الظلمِ وأخطرها وهو (الشرك)، قال (تعالى): (إنَّ الشركَ لظلمٌ عظيمٌ).
*وظلمٌ يغفرُه اللهُ (تعالى)، وهو ما بينَ العبدِ وربِّه، كالنظرِ المُحرّم وسماعِ الحرام، أو اقترافِ معصيةٍ وتركِ طاعةٍ وغيرِها، وهذا الظلمُ يغفرُه اللهُ (تعالى) إذا أعقبَ الذنبَ استغفارًا قال (تعالى): (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)
*وأمّا الظلمُ الذي لا يتركُه اللهُ (تعالى) فهو ظُلمُ العبدِ أخاه المسلمَ وهذا النوعُ من الظُلمِ يقتصُّ اللهُ من الظالم للمظلوم يومَ القيامة بقدرِ ظلمه وإساءته. عن رسولِ الله (صلى الله عليه وآله): (اتقوا الظلمَ؛ فإنّه ظُلُماتٍ يومَ القيامة)
عن أيّ ظُلُماتٍ نبّهنا الرسولُ الكريمُ (صلى الله عليه وآله)؟!
وهل يوجدُ أقسى وأشدّ من ظُلُماتِ يومِ القيامة؟!
إذن لماذا لا يتداركُ الإنسانُ ظلمه ويردُّ ما بذمّتِه من حقوقٍ للآخرين لكي يتّقي ظُلُماتِ يومَ القيامة؛ فقد ورد في ثوابِ ردِّ المظالمِ عن رسولِ الله (صلى الله عليه وآله): (درهمٌ يردُّه العبدُ إلى الخُصَماءِ خيرٌ له من عبادةِ ألفِ سنةٍ وخيرٌ له من عِتقِ ألفِ رقبةٍ وخيرٌ له من ألفِ حجةٍ وعمرةٍ)
فإنْ لم يتدارك الظالم ظلمه فإنَّ الله (تعالى) لا يتركُ ظُلامته، وسيقتصُّ من الظالمين حتمًا. فإذا كان الظلمُ ظلماتٍ يوم القيامة كما تقدّم فكيف بظُلمٍ بحجمِ ظُلامةِ الزهراء (عليها السلام) من غصبِ حقِّها من فدك وإحراقِ بابِها وكسرِ ضلعِها وإسقاطِ جنينها وغير ذلك؟!
كيف يقتصُّ اللهُ (تعالى) من ظالميها، وهي التي يرضى (سبحانه) لرضاها ويغضب لغضبها؟!
وهذا ما أشارتْ إليه (عليها السلام) في خُطبتِها في مسجد أبيها حيثُ قالت: (والجُرحُ لمّا يندمل، والرسولُ لمّا يُقبَرْ، ابتدارًا زعمتم خوفَ الفتنةِ إلا في الفتنةِ سقطوا وإنّ جهنمَ لمحيطةٌ بالكافرين)
أي إنَّ جرحَ فقدِ النبي (صلى الله عليه وآله) لم يندملْ بعدُ، ولم يُدفنْ (صلوات الله عليه وآله) وبادرتم إلى ظلمنا فادعيتم وأظهرتم للناس كذبًا وخداعًا أنكم اجتمعتم في السقيفة دفعًا للفتنة مع أنَّ الغرضَ الحقيقيَ غصبُ الخلافةِ عن أهلِها وهو عينُ الفتنة.
فعصفت بعترة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الطيبة بعد وفاته الأحداثُ المؤلمةُ والظروفُ العصيبةُ في أقلِّ من أُسبوعٍ، فبدأتِ المصائبُ تنهالُ على الزهراءِ (عليها السلام) وكأنّي بها تقفُ خلفَ بابها ذاك الباب الذي كانَ الرسولُ الأكرمُ (صلى الله عليه وآله) يستأذنُ للدخولِ عليها ويقول: (إنّ اللهَ أمرَ بذلك)؛ وذلك لحُرمةِ بيتِ علي وفاطمة (عليهما السلام) فلم يرعوها…
ولما هجمَ القومُ لاذتِ السيدةُ خلفَ البابِ لتستر نفسَها عن أولئك الرجال فعصروها عصرةً شديدةً كسّرتْ ضلعَها وأسقطتْ جنينَها، وبسبب تلك الأعمالِ الشنيعةِ والأفعال الفظيعة التي ارتكبَها القومُ مرضتْ سيدةُ نساءِ العالمين، حتى ماتت وهي ساخطةٌ على على كُلِّ من آذاها..
وقد يُشكلُ البعضُ على هذا ويُنكرُ هذه الأحداثَ بالرغمِ من ذكرها من قبلِ المُحدثين والمؤرخين في الأخبارِ بالتفصيل بحيث لم يبقَ لأحدٍ مجالٌ للإنكارِ وهذا بعضٌ من كُتُبِهم المُعتبرة ومصادرهم المشتهرة:
*ذكر المسعودي صاحب تأريخ مروج الذهب:
فهجموا على علي وأحرقوا بابَه واستخرجوه كرهًا وضغطوا سيدةَ النساءِ بالبابِ حتى أسقطتْ محسنًا.
*وفي تأريخ الطبري ج /٣ ص ١٩٨ والإمامة والسياسة ج / ١ص١٣ وشرح ابن أبي الحديد ج/ ا ص ١٣٤ وري الشهرستاني في الملل والنحل ص٨٣ عن النظام قال:
إنَّ عمرَ ضربَ بطنَ فاطمةَ يومَ البيعةِ حتى ألقتِ الجنينَ من بطنِها، وكانَ يصيحُ: أحرقوا الدارَ بمن فيها، وما كانَ في الدارِ غيرَ علي وفاطمةَ وحسن وحسين…
أمّا عن غصبِ حقّها من فدكَ فما ذكرَه المُحدّثون في تفسيرِ قوله (تعالى): (وآتِ ذا القربى حقَّه) أنّ المقصودَ في القُربى هم أقرباءُ الرسولِ (صلى الله عليه وآله)، وهم عليٌ وفاطمةُ وحسنٌ وحسينٌ (عليهم السلام) وأنّ النبيَّ (صلوات الله عليه وآله) أعطى فاطمةَ فدكَاً وكانتْ فدكُ خالصةً لرسولِ الله (صلى الله عليه وآله)؛ لأنّه لم يوجفْ عليها بخيلٍ ولا ركابٍ فمنحَها إيّاها وتصرّفتْ فيها، وأخذتْ حاصلَها فكانتْ تُنفقها على المساكين.. ولكن بعدَ وفاةِ الرسولِ الكريمِ أرسلَ أبو بكرٍ جماعةً فأخرجوا عُمّالَ فاطمةَ من فدكَ وغصبوها وتصرّفوا فيها؛ بذريعةِ أنَّ أبا بكرٍ سمعَ من النبي (صلوات الله عليه وآله) قوله: (نحنُ معاشرُ الأنبياءِ لا نورِّثُ وما تركناه صدقة)
إنَّ فاطمةَ الزهراء (عليها السلام) احتجّتْ على أبي بكرٍ وردّته وردّت حديثَه بالاستنادِ إلى القرآن الحكيم؛ فإنّه أقوى حُجةً وأدلّ دليلًا وأكبر برهانًا، وأثبتتْ أيضًا في خُطبِها وكلامِها وبإقامةِ الشهودِ أنّ فدكَاً لها وليست فيئًا للمسلمين، وأنّها نحلةٌ من رسولِ الله (صلى الله عليه وآله)، حيث قالت: (يا ابن أبي قحافة! أفي كتابِ اللهِ أنْ ترثَ أنتَ أباكَ ولا أرثُ أبي؟! لقد جئتَ شيئًا فريًّا)
واستدلّتْ (سلام الله عليها) بالقرآن الكريم حيثُ ذكرت قولَ اللهِ (تعالى): (وورثَ سليمانُ داوودَ) وفي قوله (تعالى): (فهبْ لي من لدنك وليًا يرثني ويرثُ من آلِ يعقوب واجعله ربِّ رضيًا) وفي قوله (تعالى): (يوصيكمُ اللهُ في أولدكم للذكرِ مثلُ حظِّ الانثيين..
وبعدَ كُلِّ ما تبيّنَ ينقدحُ في الذهن سؤالٌ:
ما السببُ وراءَ غصبِ فدكَ؟
وما السببُ في استهدافِ الزهراءِ (عليها السلام) مطالبتها بفدك؟
والجوابُ: إنَّ مطالبتَها بفدكَ ليسَ من أجلِ هدفٍ مادي كما يعتقدُ البعضُ؛ لأنّ الجميعَ يعلمُ ما كانتْ تتمتّعُ به السيّدةُ الزهراءُ (عليها السلام) من علوِ النفس وسموِ المقام والزهدِ لكنّ هذا لا يمنعُ من أنْ تُطالبَ بحقِّها؛ وذلك لفسحِ المجالِ أمامَها للمطالبةِ بحقِّ زوجِها أميرِ المؤمنين (عليه السلام).
والواقعُ أنّ فدكَاً صارتْ تتماشى مع الخلافةِ جنبًا إلى جنبٍ؛ فلم تبقَ فدكُ قرية زراعية محدودة، بل صار معناها الخلافةَ والرقعةَ الإسلاميةَ بأكملِها وما يدلُّ على هذا تحديد الأئمةِ لفدك، فقد حدَّها الإمامُ علي (عليه السلام) في زمانِه بقولِه: (حدٌّ منها جبلُ أُحُدٍ، وحدٌّ منها عريشُ مصرٍ، وحدٌّ منها دومةُ الجندلِ)
وهذه الحدودُ التقريبيةُ للعالمِ الإسلامي آنذاك؛ ولذلك كانَ هدفُ الخليفةِ الأول في غصبِ فدكَ إضعافَ الجانبِ المادي لأهلِ البيت (عليهم السلام) لأنّهم كانوا يعلمونَ أنّ عليًا (عليه السلام) غنيٌ بالمعنوياتِ وكفّتُه راجحةٌ في الدينِ والإيمانِ والعلمِ والفضائلِ وما إلى ذلك، فلو ملكَ الجانبَ المادي بالإضافةِ إلى الجانب المعنوي التفَّ الناسُ حولَه ولم يرضوا بغيرِه فذلك كانَ السببُ الرئيسي وراءَ غصبِ فدك..
وبعدَ كُلِّ ما ذُكِرَ عن ظلامتها، رحلت السيدة الزهراء عن الدنيا في جو من الكتمان ليكون تشييع جنازتها سراً تعبيراً عن سخطها على السلطة وعلى كل من أيدها وتعاون معها ليبين لنا مدى تألمها من ذلك المجتمع ومدى تذمرها من الجفاة القساة وليكون اسمها رمزاً للمظلومية والحرمان…