مناقب الزهراء (ع) في الروايات المعتبرة عند أهل السنة
فبل أن نتوقف عند سيرة فاطمة الزهراء (ع) كان من المناسب أن نستعرض بعض فضائلها ومناقبها مما ورد في كتب الفريقين السنة والشيعة، لما في ذلك من معرفة منزلتها من الله عز وجل ورسوله (ص) وأهل بيته (ع)، ومن التأثير في فهم بعض المعاني العميقة في مواقفها واكتشاف شيء من الخلفيات التي منها تصدر أقوالها وأفعالها، وتلك المعاني والخلفيات هي التي تميزها عن غيرها.
وقد رأيت أن أورد في هذه الحلقة بعض مناقبها التي اعترف كبار علماء أهل السنة بصحتها، وقد استعنت بثلاثة مصادر فقط وهي المستدرك على الصحيحين بتصحيح الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم النيشابوري والحافظ شمس الدين الذهبي، ومجمع الزوائد بتصحيح الحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي، وسنن الترمذي للحافظ محمد بن عيسى الترمذي وبتصحيح محمد ناصر الدين الألباني.
أشبه الناس برسول الله (ص)
رسول الله (ص) هو أفضل الخلق أجمعين، وعندما يكون أحد من المخلوقين هو أشبههم برسول الله في صفاته وأخلاقه فهو يلازم تميزه وتفوقه على الآخرين في الكمال، وقد اعترفت عائشة بذلك في الحديث الذي رواه الترمذي عنها حيث قالت:
«ما رأيت أحدا أشبه سمتا ودلا وهديا برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله (ص)» . (صحيح سنن الترمذي ج3 ص571 ح3872)
والسمت: الهيئة ، والدل: حالة السكينة وحسن السيرة، وهو قريب المعنى من الهدي.
ورواه الحاكم النيشابوري عن عائشة أيضا قالت:
“ما رأيت أحدا كان أشبه كلاما وحديثا من فاطمة برسول الله (ص) “.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (المستدرك ج3 ص154، وص167 الحديث 4732/330من الطبعة المحققة من قبل: مصطفى عبد القادر عطا، والمطبوعة في دار الكتب العلمية – بيروت)
وقال الذهبي: بل صحيح. (أي من دون أن يكون حائزا على شرط الشيخين البخاري ومسلم)
فالحديثان يثبتان أن الزهراء (ع) كانت أشبه الناس في هيئتها وسيرتها وتصرفاتها برسول الله، والقيام والقعود عبارة عن كناية فيما يرتبط بعموم التصرفات، ويشهد لذلك أن الحديث الثاني للحاكم النيشابوري أشار إلى كلامها وحديثها.
إجلال رسول الله (ص) إياها
وتتمة لحديث عائشة السابق، تقول:
“وكانت إذا دخلت على النبي (ص) قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبي (ص) إذا دخل عليها قامت من مجلسها فقبلته وأجلسته في مجلسها”. (صحيح سنن الترمذي ج3 ص571)
وفي الحديث الذي صححه الحاكم على شرط الشيخين وقبل الذهبي تصحيحه ولكن من دون أن يكون على شرط الشيخين عن عائشة:
“وكانت إذا دخلت عليه رحب بها وقام إليها فأخذ بيدها فقبلها وأجلسها في مجلسه”. (المستدرك على الصحيحين ج3 ص154)
وفي حديث آخر رواه الحاكم النيشابوري وصححه على شرط الشيخين عن عائشة قريبا منه، قالت:
“وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها ورحب بها، وأخذ بيدها فأجلسها في مجلسه، وكانت هي إذا دخل عليها رسول الله (ص) قامت إليه مستقبلة وقبلت يده”. (المستدرك ج3 ص160)
وهذا المستوى من الحب والتوقير والإجلال العملي لا يجد المرء أن أي امرأة من المسلمين فعلته مع النبي (ص) ولا فعله النبي (ص) مع أي امرأة من نسائه أو أرحامه، مما ينبئ عن تفرد الزهراء (ع) بالمنزلة الخاصة عند الله تبارك وتعالى، إذ النبي (ص) لا ينطق ولا يفعل عن الهوى.
شوقها إلى رسول الله (ص)
روى الترمذي بسنده عن عائشة قالت:
“فلما مرض النبي (ص) دخلت فاطمة فأكبت عليه فقبلته ثم رفعت رأسها فبكت، ثم أكبت عليه ثم رفعت رأسها فضحكت، فقلت: إن كنت لأظن أن هذه من أعقل نسائنا فإذا هي من النساء”. (صحيح سنن الترمذي ج3 ص571)
وهذا القول يصدر من عائشة لعدم معرفتها بمقام الزهراء (ع) وعدم معرفتها أيضا بسر هذا التفاوت في الموقف بين البكاء والضحك في لحظات متقاربة، وأنه عين العقل، وهل يعرف العقل إلا من خلالها عليها السلام؟!
والروايات المتعددة بما فيها رواية الترمذي عن عائشة تذكر أن عائشة طلبت من الزهراء (ع) أن تبوح بما أسره النبي (ص) لها مما جعلها تبكي ثم تضحك، ولكن الزهراء (ع) امتنعت عن ذلك، ثم لما توفي النبي (ص) أفصحت عن السر وبينت أنها لو أفصحت عن ذلك في ذلك الوقت فإنها ستكون بذرة، والبذرة هي الكثيرة الكلام التي لا تتحكم في كلامها فتفشي السر، وعدم إفشاء السر من علامات العقل بخلاف ما توهمته عائشة.
الملفت في هذه الروايات أن الزهراء (ع) عندما أفشت السر في موعده المطلوب قالت:
«أخبرني أنه ميت من وجعه هذا فبكيت، ثم أخبرني أني أسرع أهله لحوقا به، فذاك حين ضحكت». (صحيح سنن الترمذي ج3 ص571)
إنه مستوى من العلاقة والحب لأفضل الخلق قل نظيره بحيث يتحول الحزن على الفراق بموت النبي (ص) إلى فرح باللقاء، وهذا الشوق إلى الموت للقاء النبي (ص) لا يكاد يراه المرء إلا في حالات نادرة جدا لا تعدو أهل البيت (ع)، وقد عقد الأربلي في كشف الغمة مقارنة بين الروايات التي تثبت عدم رغبة كثير من الأنبياء (ع) بالموت ورغبة الزهراء (ع) فيه مع أنها في ريعان شبابها، فعلى روايات أهل السنة توقيت ولها من العمر 28 عاما، وعلى روايات الشيعة الإمامية توفيت ولها من العمر 18 عاما. (كشف الغمة ج2 ص81)
سيدة نساء أهل الجنة
روى الحاكم النيشابوري بسنده عن حذيفة، عن رسول الله (ص) أنه قال:
«نزل ملك من السماء فاستأذن الله أن يسلم علي لم ينزل قبلها (وفي عدم نزول هذا الملك من قبل على رسول الله يدل على أن المخبر به أمر عظيم ومهم)، فبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة».
ثم قال الحاكم: تابعه أبو مري الأنصاري عن المنهال، ثم أورد إسنادا آخر للحديث السابق، ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وعلق الذهبي على السند الأول منهما: صحيح. (المستدرك على الصحيحين ج3 ص151، وص164 من طبعة دار الكتب العلمية ح4721/319)
وكون الزهراء (ع) سيدة نساء أهل الجنة يلازم سيداتها على نساء الدنيا وأنها أفضلهن، لأن سيادة الجنة لاتكون إلا بموجبات التقدم والتفاضل في العلم والعمل في دار الدنيا لأن حال الإنسان في الدار الآخرة تبع لحاله في عالم الدنيا.
ويؤكد هذا الأمر أن ابن حجر العسقلاني قد اعترف بأن إخبار النبي (ص) للزهراء (ص) بأنها سيدة نساء أهل الجنة قد صدر منه في مرض وفاته (ص)، فقد قال:
“ولأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من طريق عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: “ما رأيت أحدا أشبه سمتا وهديا ودلا برسول الله (ص) بقيامها وقعودها من فاطمة، وكانت إذا دخلت على النبي (ص) قام إليها وقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها فعلت ذلك، فلما مرض دخلت عليه فأكبت عليه تقبله، واتفقت الروايتان على أن الذي سارها به أولا فبكت هو إعلامه إياها بأنه ميت من مرضه ذلك، واختلفا فيما سارها به ثانيا فضحكت، ففي رواية عروة أنه إخباره إياها بأنها أول أهله لحوقا به، وفي رواية مسروق أنه إخباره إياها بأنها سيدة نساء أهل الجنة، وجعل كونها أول أهلها لحوقا به مضموما إلى الأول، وهو الراجح، فإن حديث مسروق يشتمل على زيادات ليست في حديث عروة، وهو من الثقات الضابطين”. (فتح الباري ج8 ص103)
وهناك أحاديث معتبرة أخرى تؤكد أنها قال لها في نفس مرضه عبارات تفيد أنها سيدة نساء الأمة وسيدة نساء العالمين، فقد روى الحاكم عن عائشة أن النبي (ص) قال وهو في مرضه الذي توفي فيه:
«يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين وسيدة نساء الأمة وسيدة نساء المؤمنين».
قال الحاكم: هذا إسناد صحيح ولم يخرجاه هكذا.
واعترف الذهبي في التلخيص بصحته. (المستدرك على الصحيحين ج3 ص156، وص170 من طبعة دار الكتب العلمية ح4740أ / 338 أ )
وروى الطبراني عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) قال:
«إن ملكا من السماء لم يكن زارني فاستأذن الله في زيارتي، فبشرني أو أخبرني أن فاطمة سيدة نساء أمتي».
قال الهيثمي:
“رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن مروان الذهلي، ووثقه ابن حبان”. (مجمع الزوائد ج9 ص201)
وهذا يعني تفوقها على جميع النساء من الأولين والآخرين بما فيهم مريم (ع) إذ الحديث لم يستثن أحدا من النساء، وما جاء من أحاديث مدسوسة تستثني أفضلية الزهراء (ع) على غيرها فهي من المجعولات التي أريد منها التنقيص من مقام أهل البيت (ع)، وكم له من نظائر!!!
والملاحظ في الحديث المروي في المستدرك أن كلام النبي (ص) بسيادتها صدر في حال وفاته، وهذا يعني أننا لو قبلنا جدلا ببعض الأحاديث التي كانت تفضل غير الزهراء (ع) على بقية النساء فإن هذا الحديث يلغي تلك الأحاديث ويثبت أن الزهراء (ع) قد طوت في مدارج الكمال من الفضل ما تفوقت فيه على غيرها من النساء.
أحب النساء إلى رسول الله (ص)
ومما يؤكد أفضليتها على بقية النساء ويشكك في بعض الروايات التي تحاول تفضيل عائشة عليها، إقرار عائشة بأن الزهراء (ع) هي أحب النساء إلى النبي (ص)، فقد روى أحمد وأبو داود عن النعمان بن بشير قال:
“استأذن أبو بكر على رسول الله (ص) فسمع صوت عائشة عاليا، وهي تقول: والله لقد عرفت أن عليا وفاطمة أحب إليك مني ومن أبي مرتين أو ثلاثا، فاستأذن أبو بكر فأهوى إليها، فقال: يا بنت فلانة، لا أسمعك ترفعين صوتك على رسول الله (ص).
قال الهيثمي: رواه أبو داود غير ذكر علي وفاطمة، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (مجمع الزوائد ج9 ص201)
وهناك رواية أخرى عن بعض الصحابة تؤكد المضمون الذي أقرت به عائشة، فقد روى الحاكم بسنده، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: كان أحب النساء إلى رسول الله فاطمة، ومن الرجال علي.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال الذهبي في التلخيص: صحيح. (المستدرك على الصحيحين ج3 ص155، وص168 من طبعة دار الكتب العلمية)
غضب الله عز وجل لغضب فاطمة (ع)
روى الطبراني بسنده عن أمير المؤمنين (ع) قال: قال رسول الله (ص):
«إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك».
قال الهيثمي: وإسناده حسن. (مجمع الزوائد ج9 ص203)
ليس من السهل أن يكون غضب الإنسان ورضاه تابعين لغضب الله عز وجل ورضاه، ولكن لا يبلغ مقام أن يكون غضب الله عز وجل ورضاه مرتبطا بغضبه ورضاه سوى من بلغ مقام العصمة والتنزه عن الخطأ والمعصية، ومن ثم فإن هذا الحديث يبين أحقية الزهراء (ع) في نزاعها مع أبي بكر في أمر فدك، فلم تكن لتغضب لهوى أو ميل نفساني، بل كان غضبها في ذلك النزاع لله عز وجل.
ويكفي أيضا في إثبات أحقيتها فيما تنازعت فيه مع أبي بكر في أمر فك أو حق أمير المؤمنين (ع) في الخلافة اعتراف ابنة أبي بكر عائشة حين قالت:
“ما رأيت أحدا كان أصدق لهجة منها إلا أن يكون الذي ولدها”.
قال الحاكم النيشابوري: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وقال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم. (المستدرك على الصحيحين ج3 ص160، وص175 من طبعة دار الكتب العلمية)
وروى الطبراني وأبو يعلى الموصلي بإسنادهما عن عائشة قالت:
“ما رأيت أفضل من فاطمة غير أبيها”، وقالت: وكان بينهما شيء، فقالت: يا رسول الله، سلها فإنها لا تكذب”.
قال الهيثمي:
“رواه الطبراني في الأوسط وأبو يعلى، إلا أنها قالت: ما رأيت أحدا أصدق من فاطمة، ورجالهما رجال الصحيح”. (مجمع الزوائد ج9 ص201)
وأكتفي بهذا المقدار من ذكر بعض مناقبها فيما جاء في الروايات المعتبرة في كتب أهل السنة، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
المصدر : الجوار