بسم الله الرحمن الرحيم
﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران: 61].
في حديثنا حول رمزية الزهراء للإنسان الكامل، نتحدث في محاور ثلاثة:
عندما نريد أن نتحدث عن ملامح الإنسان الكامل فهنا عدة أسئلة:
من هو الإنسان؟ وما هو الهدف من وجود الإنسان؟ وما هو الطريق لتحقيق هذا الهدف؟ وما هي معالم الطريق لتحقيق الهدف؟ وما هي مظاهر خلافة الإنسان لله على الأرض؟
السؤال الأول: من هو الإنسان؟
عندنا نقرأ قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ «12» ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ «13» ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ «14»﴾ [المؤمنون: 12 – 14]
نفهم من الآية أن الإنسان هو الخلق الآخر الذي عبر عنه تعالى بقوله: ﴿ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾، إلا أن ذيل الآية المباركة وهي قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ «14»﴾ يدلنا على أن خلقة الإنسان هي أحسن الخلقات، وإلا لماذا يقول هنا في خصوص خلق الإنسان ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ «14»﴾ فهذا تعبير يرشد إلى أن خلقة الإنسان هي أحسن خلقة.
باعتبار أن جوهر الإنسان وهو الإنسانية، يمتلك عناصر أربعة لا يمتلكها مخلوق آخر: العقل والإرادة والشعور والفطرة الصافية النقية التي عبر عنها تعالى بقوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ [الروم: 30]
وقد شرح هذه الفطرة في آية أخرى بقوله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا «7» فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا «8»﴾ [الشمس: 7 – 8]؛ أي أن الخلقة البشرية تتميز على بقية المخلوقات مضافاً للعقل بأنها حين تسويتها ألهمت معرفة الفجور ومعرفة التقوى ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ [الإنسان: 3]
السؤال الثاني: ما هو الهدف من وجود الإنسان؟
الهدف من وجود الإنسان أن يصل إلى مقام الخلافة، خلافة الله في الأرض، لاحظوا قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ «30» وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ «31» قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ «32» قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «33»﴾ [البقرة: 30 – 33]
صحيح أن آدم كان شخصاً ولكنه كان رمزاً للإنسان؛ أي أن الملائكة لم يسجدوا لشخص آدم فقط وإنما سجدوا لوجود الإنسان بما هو إنسان، لحقيقة الإنسان بما هو إنسان، القرآن الكريم يقول: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ﴾ [الأعراف: 11]؛ أي أن آدم كان يمثل الحقيقة الإنسانية برمتها ولم يكن يمثل شخصه فقط، فكان المقام العظيم الذي حظي به هو مقام الإنسانية بكاملها.
إذن الخلافة التي عبر عنها تعالى بقوله: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ المراد بها خلافة الإنسان، فالإنسان خلق لكي يمثل مقام الخلافة لله تبارك وتعالى في الأرض، والخلافة على نوعين: خلافة حسية وخلافة مادية.
الخلافة الحسية: تتقوم بغياب المستخلف وحضور الخليفة، أي لا يمكن أن تصبح خليفة لإنسان وهو ما زال موجود، لابد أن يغيب المستخلف حتى يكون للخليفة حضور لكن هذا المعنى لا يتصور في الله عزوجل، فكيف يغيب الله ليكون الإنسان خليفته في الأرض! إذن ليس المقصود بالخلافة هنا الخلافة الحسية؛ لأن الله تبارك وتعالى كما يقول القرآن الكريم: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد: 4]، وقال تبارك وتعالى: ﴿أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53]، فلا يتصور غياب للمستخلف حتى يكون هناك دور للخليفة.
الخلافة الحقيقية: المقصود بخلافة الإنسان لله أن يكون الإنسان مرآة ومظهراً لله تبارك وتعالى في إدارة الكون، ولذلك تجسيد الخلافة هو عبارة عن إقامة حضارة، لا حضارة رأسمالية كالحضارة التي نعيشها، وإنما الحضارة المادية القائمة على ثلاثة أسس:
السؤال الثالث: ما هو الطريق للوصول إلى هذا الهدف؟
إذا أراد الإنسان أن يصل إلى مقام الخلافة فلابد له أن يسلك الطريق للوصول إلى هذا الهدف، وهذا الطريق له مرحلتان:
لا يمكن لشعب أن يتفوق بدون علم، ولا يمكنه أن يفخر بدون علم، فالشعوب التي تفتخر بماضيها من دون أن يكون لها علم ومعرفة، هي شعوب متخلفة، ولا يمكن لشعب كمصر أو كشعب العراق أو أي شعوب أخرى أن تفتخر بأن لها ماض عريق، وأنه كانت لها حضارة عظيمة ما لم يكن الحاضر على نسق الماضي، وما لم يكن الشعب متألقاً بالعلم والمعرفة، فليس له فخر، لأن الفخر بالعلم والمعرفة، يقول القرآن الكريم: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43]، ويقول: ﴿اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]
فكل إنسان لديه قوتان: قوة تسمى عقل نظري؛ وهي القوة التي تحلل وتستنج وتبرمج، وقوة العقل العملي؛ وهي القوة التي تبعث الإنسان نحو السلوك والعمل وهي المسماة بالضمير، التي يعبر عنها القرآن الكريم بالنفس اللوامة ﴿لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ «1» وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ «2»﴾ [القيامة: 1 – 2] فما دام لك قوتان وهاتان القوتان كان بينهما حاجب إذن لا يحصل اتحاد بين القوتين، وإذا ارتفع الحاجب اتحدت قوة العقل النظري مع قوة العقل العملي ووصل الإنسان إلى مقام الخلافة.
ومثال على ذلك الكثير من الناس يقومون بأشياء وهم لا يؤمنون بها، فإما أن يقوموا بها بداعي الخوف، أو بداعي المجاملة، أو بداعي الشهوة، فالعمل النظري لم يتحد مع العقل العملي، أي ما يقرره عقلي أنا لا أعمله وإنما أعمل شيء آخر، وأحيانا أؤمن بأشياء ولكن لا أقوم بتنفيذها لوجود مانع كالخوف والإكراه، كأي شيء آخر، إذن لا يوجد اتحاد بين العقل النظري والعقل العملي، ولذلك يقول القرآن الكريم: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: 14] جحدوا بها أي جحدوا لساناً وعملاً، لا يطبقون مع أنهم يؤمنون بها في داخل أنفسهم.
إذن العقل النظري قد يفترق عن العقل العملي، فإذا اتحدا صار الإنسان يعمل ما يؤمن به، وما يؤمن به يعمل به، حينئذ يتحدث عقله وقدرته وحكمته ويكون هذا الإنسان مثالاً للنفس المطمئنة ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ «27» ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً «28»﴾ [الفجر: 27 – 28]؛ والنفس المطمئنة هي التي اتحد العقل النظري والعقل العملي فيها، يعمل ما يؤمن به ولذلك يعمل باطمئنان وإلا مع وجود الحجاب بين العقلين يدخل تحت قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا «19» إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا «20» وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا «21»﴾ [المعارج: 19 – 21]
السؤال الرابع: ما هي معالم هذا الطريق؟
عندما أصمم على أن أكون خليفة الله في الأرض ومثلاً للإنسان الكامل، وعندما أريد أن أحقق الإتحاد بين قوة العقل النظري وقوة العقل العملي، فمعالم هذا الطريق ثلاثة معالم:
أي القراءة الملكوتية للكون، فعندما يقرأ الإنسان الفيزيائي الكون فأنه يقرأ كيف يحل معادلات ترابط أجزاء الكون وذراته، وهذه تسمى قراءة مادية ملكية، أما القراءة الملكوتية للكون فهي أن تقرأ الكون دليلاً على وجود الله عزوجل، أن تقرأ الكون قراءة طريقية وآلية، وأن تتخذ الكون مظهراً لقدرة الله ومظهراً لعظمته تبارك وتعالى، يقول القرآن الكريم: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [فصلت: 53]، ويقول القرآن الكريم: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ «20» وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ «21»﴾ [الذاريات: 20 – 21]، ويقول: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: 191].
في قوله تعالى: ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]، فليس المقصود به هو الذكر اللساني وإنما الذكر القلبي؛ أي أن تلقن قلبك في كل وقت على وجود الله وحضوره وقيموميته على كل هذا الكون ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 2]
فهذا الذكر القلبي هو الذي يوصل قلبك إلى مرحلة الخشوع والخضوع والارتباط بالله تبارك وتعالى والانتقال إليه.
كلمتي العلم والعقل في مصطلح القرآن لهما معنى مختلف.
فالعلم لا يراد به مجرد المعلومات؛ وإنما هو عبارة عن المادة العلمية التي تتحول إلى مادة روحية، ما لم تتحول المعلومات إلى مادة روحية تستقي منها الروح فهذا ليس بعلم بحسب المصطلح القرآن.
﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9] اعتبر القانت عالم، لأن العلم بنظر القرآن هو العلم الذي يقود إلى القنوت إلى الله عزوجل.
علم فيزياء، وعلم كيمياء، وعلم فلك، وعلم طلب، وكل علم إذا تحول إلى مادة روحية تدل الإنسان على درب القنوت لله عزوجل فهو علم حقيقي بمصطلح القرآن الكريم، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]؛ أي من يمتلكون العلم الذي يربطهم بالله عزوجل.
ويقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28] فقد يكون هو عالم فيزياء وليس فقيه ولا عالم دين، ولكنه اتخذ الفيزياء طريقاً إلى الوصول إلى الله تبارك وتعالى، فيدخل تحت الآية المباركة ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾، إذن العلم ما كان مادة معرفية تتحول إلى مادة روحية.
العقل والمقصود به هو توظيف المعلومات للوصول إلى الله، واستثمار المعلومات للوصول إلى الله تبارك وتعالى، لاحظوا القرآن الكريم كيف يستخدم العقل فيقول: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾ [العنكبوت: 43]
ويقول القرآن الكريم: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10]، هم كانت لهم عقول لكن لم يوظفوا عقولهم للوصول إلى الله، ويقول القرآن الكريم: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا﴾ [الحج: 46] أي يوظفون معلوماتهم للتدبر من أجل الوصول إلى الله عزوجل ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24].
إذن إذا عرفنا مصطلح العلم والعقل عرفنا أن الوجود الرابط بين الفكر والذكر هو توظيف المعلومات بواسطة العقل للوصول إلى تقوى القلوب، وللوصول إلى مقام الخلافة الإلهية.
السؤال الخامس: ما هي مظاهر الخلافة؟
إذا وصل الإنسان إلى مقام الخلافة فإن المظاهر التي تتجلى فيه لنعتبره وصل إلى مقام الخلافة الإلهية هي:
ومقام الإنسانية هو مقام التعليم والتعلم، فالإنسان الذي ليس لديه قدرة على التعليم أو التعلم لم يصل إلى هذا المقام ولذلك ربط القرآن الإنسانية بالعلم والتعليم فقال: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: 30]، وميزة الإنسان عن المخلوقات أنه عنده القدرة على التعليم والتعلم ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31]، فالميزة الأولى لمقام الخلافة هي القدرة على التعلم والتعليم ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 31].
يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]، الإنسان هو القادر على حمل الأمانة؛ والمراد بالأمانة تحقيق خلافة الله على الأرض، فهو القادر عليها دون غيره من المخلوقات، ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : إن الله خلق الملائكة عقلاً بلا شهوة، وخلق البهائم شهوة بلا عقل، وركب في الإنسان عقلاً وشهوة، فمن غلب عقله شهوته فهو خير من الملائكة ومن غلبت شهوته عقله فهو أدنى من البهائم.
كن متميزاً ولا تكن مقلداً وتكراراً لغيرك، طبيب لابد أن تكون متميز في شخصيتك الطبية، مهندس لابد أن تكون متميز في مجال هندستك، عالم في أي مجال كن متميزاً في مجال اختصاصك، خطيب كن متميز في مجال الخطابة، فقيه كن متميزاً في مجال الفقاهة، فالتميز عنصر مطلوب من الإنسان، والقرآن الكريم يركز على هذا العنصر فيقول: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ﴾ [التوبة: 105]، ﴿خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الملك: 2]، أيكم متميز وأحسن عملاً، ويقول القرآن: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114] فلا تقف عند حد، ورد عن الإمام الكاظم : من تساوى يوماه فهو مغبون. إذن أن تتميز بعطائك وأن تتميز بشخصيتك ومعارفك هو عنصر ومظهر مهم من مظاهر الخلافة، ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : قيمة كل امرئ ما يحسنه وما يقدمه من إنتاج.
فالإنسان إذا تسامى في الإيمان يكلمه الله سبحانه وتعالى وإن كان لا نبي ولا رسول، فمن الممكن أن يكلمه الله إذا وصل إلى مقام روحي سامي، يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51] هناك ثلاثة طرق لكلام الله مع الإنسان، والطريق الأول هو أعظم الطرق، أن يكلمه مباشرة، وما كان الله ليكلم بشراً إلا وحياً، ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ «42» يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ «43» ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ «44» إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ «45»﴾ [آل عمران: 42 – 45] كلمت الملائكة مريم ولم تكن رسولاً ولا نبياً، الزمخشري يقول أنها معجزة لعيسى، والقرطبي يقول أن مريم كانت نبي، وهذا أمر غير صحيح فهي لم تكن نبي ولم تكن رسول، والمعجزة ليست لعيسى، وإنما تسامت مريم عند الله تبارك وتعالى فاستحقت هذا المقام؛ وهو أن الله تبارك وتعالى كلمها شأن لمريم، وليس شأن لشيء آخر.
زوجة إبراهيم التي لم تصل إلى مقام مريم، يقول القرآن: ﴿وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ «71» قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ «72» قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ «73»﴾ [هود: 71 – 73]
إذن الوصول إلى هذا المقام منوط بمقام روحي معين يمكن أن يصل الإنسان إليه.
هناك قسم من البشر ضائعون يقول عنهم القرآن: ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]، وقسم يقول عنهم الإمام علي: الناس ثلاثة عالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع ينعقون مع كل ناعق. ف
القسم الذي يصل إلى العالم الرباني يكون مظهراً للأسماء الحسنى، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا﴾ [الأعراف: 180]، ويقول الإمام الصادق : نحن الأسماء الحسنى؛ أي نحن مظهراً ومرآة للأسماء الحسنى، ولذلك فإن التوسل بأهل البيت صلوات الله عليهم في مجال الدعاء يفتح باب الإجابة، ويفتح أبواب البركات.
يُظْهر القرآن الكريم أن لله عناية ملكوتيه لبعض عباده؛ أي أن الله سبحانه وتعالى يعتني بهم منذ ولادتهم إلى وفاتهم، موسى يقول القرآن الكريم عنه: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى «36» وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى «37» إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى «38» أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي «39» إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى «40» وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي «41»﴾ [طه: 36 – 41] أنا ربيتك وصنعتك وحولتك إلى هذا المقام العظيم، أن تكون نبياً ورسولا، فهذه عناية ملكوتيه مشت مع موسى منذ ولادته إلى أن أصبح موسى بهذا المقام.
مريم بنت عمران يقول عنها القرآن: ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «35» فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ «36» فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ «37»﴾ [آل عمران: 35 – 37] نالت عناية ملكوتيه من البداية إلى الأخير.
وكما حصل لموسى ومريم عناية ملكوتيه من البداية فقد حصل لفاطمة بنت محمد، وُلِدت من ثمار الجنة وحملتها أمها، وكانت تحدث أمها وهي جنين في بطنها، ورد في رواية المفضل بن عمر وورد في رواية غيرها: إنما سميت محدثة لأنها كانت تحدث أمها وهي في بطنها. وفي رواية علل الشرائع: إن الملائكة نادتها كما نادت مريم: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 42].
ربما يقول أحدهم هذه خرافات وأمور لا يصدقها العقل، والاعتقاد بها هو اعتقاد بالخرافة، وهنا ثلاثة أجوبة على هذا السؤال:
الجواب الأول: من أسس الإيمانِ الإيمان بعالمين، عالم الأمر وعالم الخلق، يقول القرآن: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54]، عالم الأمر هو عالم الغيب، وعالم الخلق هو عالم الشهادة، يقول القرآن الكريم: ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: 94].
ومن أسس الإيمان أن عالم الغيب يسيطر على عالم الشهادة، عالم الغيب يتصرف في عالم الشهادة، عالم الأمر يتصرف في عالم الخلق، فليس العالمين معزولين بل العكس، فعالم الغيب هو المتحكم والمسيطر والمتصرف في عالم الخلق، لأجل ذلك بما أن عالم الأمر متصرف في عالم الخلق فإنك تجد مظاهر لهذا التصرف، مثلاً ولادة عيسى من غير أب كيف حصلت؟ إذا جئنا إلى عالم الخلق لا تحصل بذاتها، لابد أن تحصل من تدخل عالم الغيب في عالم الشهادة حتى يُمْكن تحقيق هذه الولادة ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59]، فكيف ولد عيسى من غير أب! وهذه حقيقة دينية لا تقبل الشك ولا يمكن أن تحصل إلا بتدخل من عالم الأمر في عالم الخلق.
أيضاً كل إنسان قبل أن يكون إنساناً فهو مادة منوية عمياء صماء، بعد 12 أسبوعاً حسب المنطق العلمي تتحول هذه المادة المنوية إلى عقل وشعور وإرادة، فكيف يكون ذلك؟
إذا أردت أن تقس على مقاييس عالم الخلق فهو أمر لا يحصل، المادة المنوية تتحول إلى عقل وشعور وإرادة بحسب مقاييس عالم الخلق لا يمكن، إذن هناك تدخل من عالم الأمر عالم الغيب في عالم الخلق عالم الشهادة لذلك تحولت المادة المنوية الصماء العمياء إلى إنسان، أي إلى عقل وإرادة وشعور وطاقة.
الجواب الثاني: ربما يقول إنسان حسناً هي أمور قبلناها ولكن كيف تتحقق الكرامة؟ الكرامة نفس الشيء، فكما أن تدخل عالم الأمر في عالم الخلق أولد عيسى من غير أب، وأولد من المادة المنوية الصماء إنساناً، كذلك نفس المناط ونفس الملاك ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [آل عمران: 37]، وولادة إنسان من غير أب أعظم من وجود طعام في المحراب.
قد يقول أحدهم أن هذه القصص المذكورة في القرآن هي مجاراة؛ أي أن القرآن ذكرها مجاراة لثقافة زمانه، فقد كان الناس في زمان نزول القرآن يتناقلون هذه القصص التي ورثوها من العهدين التوراة والإنجيل، فالقرآن جاراهم وتحدث على مستوى ثقافتهم ليحتج بها عليهم، وإلا فالقرآن لا يؤمن بهذه القصص، قصص موسى وعيسى ومريم.
هذا أولاً تفكيك في ظواهر القرآن بلا مبرر، أي أن القرآن إذا أخبر عن أشياء أخرى نقبل خبره، لكن إذا أخبر عن الأنبياء السابقين نقول لا هي مجاراة لثقافة زمانة، فالقرآن عندما يقول: ﴿وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [آل عمران: 123] فهذا خبر واقعي.
﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا﴾ [الفتح: 1] وهذا خبر واقعي.
﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ «1» وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا «2»﴾ [النصر: 1 – 2] هذا خبر واقعي.
ولكن عندما يتكلم عن مريم ﴿﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ يقولون هذا خبر غير واقعي وإنما هو مجاراة لثقافة قومه!
فهذا تفكيك في حجية ظواهر القرآن بلا مبرر منطقي ولا مبرر علمي، فإما أن تقبل كل إخباريات القرآن أو ترفضها، أما أن تنوع الإخباريات بحسب مذاقك وبحسب ما يفرضه عقلك الضيق في التأمل في هذه الأمور فهذا بلا مبرر منطقي.
ثانياً: لو افترضنا أن هذا مجاراة لثقافة زمانه فماذا تقول عن ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1] في ليلة واحدة ذهب ورجع، فإذا كانت هذه الخوارق للعادة لا يصدقها العقل فكيف حصل أن الله أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا؟
يقول لك ما كان يوجد مسجدٌ أقصى في زمان النبي محمد ، فبيت المقدس أو مسجد الصخرة لم يكن مسجداً إلا في زمن عبدالملك بن مروان لما اختلف مع عبدالله بن الزبير قام وبنى مسجداً على إيليا بيت المقدس أي على الصخرة وصار مسجداً وسمي بالمسجد الأقصى، وإلا في زمن النبي لم يكن له وجود، ولم يكن له وجود إلا في سنة 65هـ .
الجواب على هذا الإشكال: المسجد الأقصى ليس المقصود به ما يسمى مسجد، المقصود بالمسجد هو مكان السجود والعبادة وليس المسجد حتى يقال أنه لم يكن، المسجد الأقصى هو بيت المقدس وليس مسجد الصخرة الذي استحدث في زمان عبد الملك بن مروان، المقصود بالمسجد الأقصى في الآية على بعض الروايات هو بيت المقدس، وبين المقدس كان معبد يتعبد فيه الأنبياء والرسل، القرآن نفسه يقول عن مريم: ﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا﴾ [آل عمران: 37] أي كان فيه محراب ومريم كانت تتعبد فيه، ويقول القرآن: ﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ [آل عمران: 43] أي كان فيه مكان عبادة ومحراب وركوع وسجود، فبيت المقدس هو المقصود به المسجد الأقصى أي مكان السجود، ما كان مكاناً للعبادة في زمن النبي محمد .
إذن الاعتقاد بالكرامات والمقامات أن مريم محدثة، وفاطمة محدثة ليس اعتقاداً بالخرافة، بل هو عبارة عن تدخل من عالم الامر في عالم الخلق.
الجواب الثالث: الكثير من الناس يرون رؤى صادقة، والرؤية الصادقة هي عبارة عن حديث الله مع الإنسان، فالله سبحانه وتعالى يحدث الإنسان بما يقع له مستقبلاً، استشراف النفس على المستقبل هو عبارة عن اتصال بين الإنسان وبين عالم الغيب، بين الإنسان وبين عالم الأمر.
وكما يصل للإنسان أثناء نومه حديث من عالم الغيب فيتحقق في المستقبل ويكون رؤية صادقة، كذلك بعض الناس لمقامهم الروحي السامي يحدثهم الله وهم في عالم اليقظة، كما كانت فاطمة بنت محمد صلوات الله وسلامه عليها، محدثة عليمة.
الزهراء مضافاً لاشتراكها مع بقية الخمسة في آية التطهير ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾ [الأحزاب: 33]، ومضافاً لاشتراكها مع علي والحسن والحسين في آية الأبرار ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا «5» عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا «6»﴾ [الإنسان: 5 – 6]، فهي لها مقامات خاصة بها، نذكر منها:
المقام الأول: أن الزهراء مظهر للأسماء الحسنى لله عز وجل، ورد عن النبي : فاطمة بضعة مني يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها. ويروي البخاري في صحيحه: من أغضبها فقد أغضبني. دوران رضى الله مدار رضى فاطمة ودوران غضب الله مدار غضب فاطمة؛ أي أن فاطمة مضافاً إلى أنها إنسان معصوم وإلا كيف يدور رضى الله مداره فهي حجة لله على الخلق، وأنها مظهر لأسماء الله تبارك وتعالى لأن الرضى حسب ما يُذْكر في علم الكلام هو عنوان لأفعال الله تبارك وتعالى وهو يدور مدار رضى فاطمة صلوات الله وسلامه عليها.
المقام الثاني: أن فاطمة وعاء أم الكتاب، القرآن الكريم له وجودان: وجود مادي وهو اللفظي والكتبي، ووجود ملكوتي، فقد كان للقرآن وجود قبل نزوله على النبي ، يقول القرآن الكريم عن نفسه: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الزخرف: 4]؛ أي أنه كان للقرآن وجود في أم الكتاب، ويقول: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ «21» فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ «22»﴾ [البروج: 21 – 22] كان للقرآن وجود قبل أن ينزل إلى هذا العالم، من وصل إلى القرآن وهو في ذلك العالم، ومن وصل إلى القرآن وهو في أم الكتاب، ومن وصل إلى القرآن وهو في اللوح المحفوظ فقد اكتشف تأويل القرآن الكريم.
عندما تقرأ قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89] القرآن تبيان لكل شيء، ولكن نحن لا نجد القرآن تبيان لكل شيء، فإذن هو ليس تبياناً للكل شيء بالصراحة، وإنما هو تبيان لكل شيء على نحو الشفرات والرموز، ولا يَعْرف هذه الشفرات والرموز إلا من وصل إلى تأويل القرآن، ومن وصل إلى تأويل القرآن هو من وصل إلى القرآن وهو في أم الكتاب، والذي يصل إلى القرآن وهو في أم الكتاب هم المطهرون، يقول القرآن الكريم: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ «77» فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ «78» لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «79»﴾ [الواقعة: 77 – 79]؛ أي لا ينال القرآن في أم الكتاب إلا المطهرون، والمطهرون هم ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾ [الأحزاب: 33]، فعرفوا تأويله ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 7]، والزهراء منهم، لذلك من الروايات الصحيحة الكثيرة أن لدى الأئمة مصحف فاطمة.
يقول الإمام الصادق في معتبرة أبي بصير: وخلفت مصحفاً ما هو بقرآن، وإنما هو تأويل للقرآن؛ أي أنها وصلت إلى علم التأويل صلوات الله عليها وفيه خبر ما كان وما يكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة.
المقام الثالث: مقام السيادة، قال القرآن الكريم عن مريم: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 42] هل هذا يعني أن مريم أفضل نساء العالمين من الأولين والآخرين؟ لا، فهذه الآية تدل على العموم الأفرادي لا على العموم الأزماني؛ أي أن مريم أفضل نساء العالمين في زمانها لا في جميع الأزمنة وذلك بقرينة قوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 122]، مع أن بني إسرائيل ليسوا أفضل العالمين لأن أمة النبي أفضل منهم لقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]، إذن هم كانوا أفضل العالمين في زمانهم لا في جميع الأزمنة، ولذلك المفضل بن عمر سأل الإمام الصادق : ما تقول في قول النبي فاطمة سيدة نساء العالمين، أهي سيدة نساء عالمها؟ قال: لا تلك مريم سيدة نساء عالمها، وأما فاطمة فهي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
المقام الرابع: أن فاطمة التي عبر عنها القرآن الكريم بالكوثر ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ [الكوثر: 1] كوثرٌ لأنها مصداق الخير الكثير، وعبر عنها القرآن الكريم بذي القربى ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: 23]، وفاطمة شريكة النبي في رسالته فيقول الرسول : فاطمة أم أبيها؛ وهذا التعبير لأنها المرأة الوحيدة التي تتلقى رسول الله وتضمد جراحه وتمسح عرقه وتضمه وتشمه وتعامله معاملة الأم لولدها، تخفف عنه كل آلامه، وتخفف عنه كل همومه، ينسى كل الآلام إذا رأى فاطمة، وكانت كما قالت بعض زوجاته: ما رأيت أحداً أحب إلى رسول الله من ابنته فاطمة كانت كلما دَخَلَت عليه قام إليها وقبل ما بين عينيها وأجلسها في مجلسه فقلت له: أتقبلها وهي ذات زوج، فقال: إني كلما شممتها شممت رائحة الجنة.
فاطمة شريكة النبي في دعوته لأنها هي التي تنسيه كل هموم الدعوة وكل هموم الرسالة، ولذلك أخرجها معه يوم المباهلة ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران: 61]، فالرسول أحضر أركان الرسالة، والنصارى أحضروا أركان رسالتهم، أحضر علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، وما أخرج معه امرأة من نسائه غير فاطمة، ليبين للعالمين أنها حجة من حجج الله على خلقه وأنها شريكته في دعوته ورسالته، ولذلك أخرجها في مقام التحدي بينه وبين نصارى نجران.
لم تزالي في نذور الأمهاتْ واسمك الخالد في أفواهنا كلّما نُودِيَ: يا فاطمةٌ يا فتاة الوحي، يا أم الهدى حدثينا عن لياليك بها يا ترى كنتِ تديرين الرحى هل غزلتِ الصوفَ في مغزلِهِ | جوهرَ اليُمْنِ وسرَّ البركاتْ لم نزل نحرسهُ بالقُبُلاتْ هَرْوَلَتْ أرواحنا بالصلواتْ ياهدى الأم، ويا وحيَ الفتاةْ ودعينا من أحاديث الرواةْ أم تديرين بيمناك الحياةْ أم غزلْتِ الحب بين الكائناتْ |
الزهراء المرأة العظيمة كان لها المقام العظيم في نفوس أصحاب رسول الله وفي نفوس أهل البيت صلوات الله عليهم، ولذلك جملة من أنصار الحسين بن علي تفانوا في نصرة الحسين ودون الحسين لأنه ابن فاطمة الزهراء، تفانوا في نصرته تقرباً إلى فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها، ومن هؤلاء الأنصار حبيب بن مظاهر الأسدي الذي كان متفانياً في حب فاطمة الزهراء .