لابد للمبادئ من ان تتجلى في واقع حي ، وعندما هبطت الرسالة الخاتمة على قلب نبينا الأعظم ، إمام الهدى ، وقدوة الصديقين محمد صلى الله عليه وآله ، تجلت هذه الرسالة بعد هذا النبي العظيم في شخصية من الرجال ، وأخرى من النساء؛ فتجلت في علي ابن ابي طالب عليه السلام الذي كان المثل الأعلى للقرآن ، وتجسدت كذلك في فاطمة الزهراء عليها السلام .
ان تجلي الرسالة في شخصية الرجل هي عملية يمكن فهمها واستيعابها ، لان الرجل يمتلك بحد ذاته قوة الكمال والاستعداد . ولكن عندما تصوغ رسالات الله عز وجل امرأة لتضعها في الذرى العالية ، والقمم السامقة ، فان هذا لمعجزة دونها كل معجزة .
وهكذا فإذا كان علي بن أبي طالب عليه السلام معجزة رسول الله صلى الله عليه وآله ، والدليل الى الإسلام ، والهادي الى حقائق القرآن وعلومه . . فان فاطمة الزهراء عليها السلام ستكون الشاهدة الكبرى ، والدليل الأعظم . والى هذه الحقيقة يشير الحديث القدسي المروي عن جابر بن عبد الله الأنصاري عـن رسول الله صلى الله عليه وآله عن الله تبـارك وتعالى انه قال :
” يا احمد لولاك لما خلقت الأفلاك ، ولو لا علي لما خلقتك ، ولولا فاطمة لما خلقتكما ” 1 .
ان امرأة ـ رغم ما جعل الله في طبعها من عوامل الضعف البشري ـ تتحدى كل هذه العوامل ، وتقطع كل صلة لها بالتراب ، وتقف من أول الليل وحتى الفجر لتدعو ولكن ليس لنفسها وإنما للآخرين ، وتقول لابنها الحسن المجتبى عليه السلام توصيه بالإحسان الى الجيران : ” يا بنيّ الجار ثم الدار ” 2 . هذه المرأة قد وصلت الى مرحلة من السمو والكمال ، بحيث إن الله تعالى باهى بها ملائكته ، وأولياءه ، وحملة العرش .
إن فاطمة عليها السلام هي مجد الرسالة الإلهية ، وتجسيد لكل ما في القرآن الكريم من لطائف العبر ، ودقائق الفكر ، وعظمة الحق . . فلابد لكل رسالة من ان تقدم نموذجا ، ورسالة الإسلام هي أعظم رسالة ، فلابد أن يكون الأنموذج الذي تقدمه هذه الرسالة هو الأنموذج الأعظم ، فكانت فاطمة الزهراء عليها السلام التي هي قدوة لكل إنسان؛ ذكرا كان أم أنثى .
وهكذا تسامت هذه المرأة العظيمة نحو معالي القيم والأخلاق ، وذابت في الرسالة ، وتحولت من مجرد شخص إلى نموذج رسالي .
ان رسول الله صلى الله عليه وآله الذي جاء سراجاً منيراً ، وبشيراً هادياً ، ورحمة للعالمين . . كان يركز كل تعاليمه ، وبرامجه التربوية في ابنته فاطمة عليها السلام ، وعلي بن أبي طالب الذي ربّاه على يديه الكريمتين ، وإلا فكيف يمكن ان لا ينجح صلى الله عليه وآله في تربية فاطمة عليها السلام وهو الذي أثر في التاريخ ، وصنع أجيالا من المؤمنين الرساليين يعجز اللسان عن وصف سموّهم وطهارتهم ونقائهم . ولذلك فقد كانت الزهراء عليها السلام مقياسا وميزانا للعفاف ، ومثالا لتجلي الأخلاق الحسنة ، لأنها خلاصة التربية القرآنية ، وعصارة شخصية تمثل القرآن الكريم .
والقرآن الكريم ينقل لنا جانباً من حياة فاطمة وسلوكياتها في سورة كاملة ، هي سورة ” الانسان ” ، حيث تثني على فاطمة الزهراء لأنها ـ وهي ربّة العائلة وسيّدة البيت ـ هي التي حملت رغيفها في البدء ، ثم جمعت أرغفة أطفالها الصغار وهم صائمون لتعطيها خلال ثلاثة أيام متتالية الى المسكين واليتيم والأسير ، متجاوزة بذلك ـ في سبيل العقيدة ـ عواطفها وطبيعتها كأمّ تفضّل أطفالها على غيرهم ، وضاربة بذلك أروع الأمثلة في الذوبان في الرسالة الإلهية ، والاندماج فيها ، وتفضيلها على كل العلائق الدنيوية ، ولكي تقول للمرأة المسلمة ، ان المرأة بإمكانها اذا ما تربّت في أحضان الرسالة ، وعاشت في أجواء القرآن والوحي أن تتحول الى أنموذج في التسامي والتكامل وتحدي غرائز وعوامل الضعف في النفس البشرية .
بمثل هذه المواقف الرائعة جسدت فاطمة الزهراء قيم الرسالة ومبادئ الدين ، وبذلك أصبحت حجة بالغة على البشرية جمعاء 3 .