مركز الدراسات الفاطمية
مركز الدراسات الفاطمية
مريم بنت عمران وفاطمة الزهراء عليهما السلام حجتان إلهيتان / آية الله الشيخ محمد سند – بتصرف
+ = -

مريم بنت عمران وفاطمة الزهراء عليهما السلام حجتان إلهيتان

صرّح القرآن بحجية السيدة مريم (عليها السلام) في قوله تعالى: ﴿وجعلنا ابن مريم وأمّه آية﴾[1] والآية هي الحجة أي جعلنا عيسى وأمّه حجة، وعن يحيى بن أبي القاسم عن أبي عبدالله (عليه السلام) في قول الله عزّوجل: ﴿وجعلنا ابن مريم وأمّه آية﴾ قال: أي حجّة[2]، فحجيّتها (عليها السلام) في عرض حجية ولدها نبي الله، بل حجيتها سبقت حجية عيسى (عليه السلام)، كما أن حجية عيسى تلت حجيتها زماناً واقتضاءً.

فالترتب الزماني بين الحجتين ظاهر، اذ كان تكليم الله لها وكذلك الملائكة قبل ولادة عيسى بفترة، على أن السبق الزمني لا يكون بالضرورة لخصوصية معينة، وانّما هي أشبه بحالات إرهاص لنبوّة عيسى(عليه السلام) ولا شك أنها خصوصية عظيمة ومنزلة رفيعة. فقوله تعالى ﴿وجعلنا ابن مريم وأمّه آية﴾ أي انّ المسيح وأمّه كليهما من أصول الديانة المسيحية بل من الاعتقادات اللازم الاعتقاد بها عند المسلمين أيضاً لوجوب الايمان بكل كلمات الله وآياته وكتبه ورسله وآياته وحججه لقوله تعالى ﴿آمن الرسول بما أُنزل اليه من ربّه والمؤمنون كلٌ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورُسله لا نُفرق بين أحد من رسله﴾[3] أي أنّ مريم (عليها السلام) من الحجج الالهية. كما سيأتي بيان الآيات الأخرى المفسرة لمعنى كونها آية.

كما أنها مقتض لنبوّة عيسى (عليه السلام) لكونها قد حضيت بتكليم الله تعالى فضلاً عن تحديث الملائكة لها، وتلقيها البشارة كما أن تبتلها ومقامها وفضلها كان احدى مرتكزات بني اسرائيل كما يشير الى ذلك قوله تعالى ﴿وما كنت لديهم اذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم﴾ [4]وقوله ﴿وأنبتها نباتاً حسناً وكفّلها زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزق﴾[5] مما أكد على مصداقيتها لديهم فكان قبول معجزة عيسى ونبوّته بعد ذلك احدى موجبات حجيتها لديهم، لذا فان أخيارهم وعقلائهم قبلوا المعجزة وسلّموا لها، وبقي جهالهم وطغاتهم يخوضون في بهتانها وايذاءها وهو شأنهم.

فأمر الله تعالى لها بتحمّل مسؤولية الإنجاب بطريقة المعجزة من دون زوج إحدى مقتضيات نبوّة عيسى وشريعته المباركة، فحجيتها (عليها السلام) هي من حيث إنها المبلّغ الأول لبعثة النبي عيسى وشريعته المسيحية، حيث إنها أمرت من قبل الله تعالى بتحمل مسؤلية الانجاب بطريقة المعجزة من دون فحل ليمهد الطريق لبيان المعجزة لنبوّة عيسى وشريعته، ثم أمرت من قبله تعالى بحمله والمجيء به الى بني إسرائيل وأن لا تكلمهم وأن تشير اليه ليستنطقوه فيتكلّم في المهد فهي قد قامت بكل هذه المسؤوليات الموظفة من قبله تعالى لها لتبليغ وإظهار المعجزة الأولى على نبوّة عيسى (عليه السلام) وكان ذلك عن اعتقاد منها بنبوة عيسى بتوسط ما أوحي لها من دون وساطة النبي زكريا أو غيره من الانبياء في زمانه، فهي ابتدأت بإبلاغ شريعة جديدة من دون أخذ هذا الأمر الإلهي ذو الشأن العظيم الخطير من نبي ولا رسول ولا بوساطة النبي عيسى أيضاً، وهذا ما تعنيه الآية الكريمة ﴿وجعلنا ابن مريم وأمّه آية﴾ فلولا حجيّة مريم وحجية ما يوحى إليها لكان بإمكانها ابطال المعجزة الالهية وهي ولادة عيسيى من دون أب، بأن تدعي -والعياذ بالله- أنه لقيط وجدته في الطريق أو أنها ولدته عن زوج غائب أو ما شابه ذلك، فانظر الى مقام كمال حجيتها ودورها في ابلاغ الرسالة في قوله تعالى ﴿فأشارت اليه فقالوا كيف نكلم من كان في المهد صبي﴾. فهذا النمط من المجاهدة والمخاطرة بالعرض بأمر من الله تعالى وتعيين منه، فهو حكمة بالغة من الله تعالى في اختيار هذا النمط من الجهاد، بحيث لا يتأدى إقامة الدين إلا بذلك من دون تدنس وابتذال في العِرضْ ولا زوال لطهارته وعصمة مناعته، وانّما هي مخاطرة ظاهرية بالسمعة، وهذا نظير ما وقع لعترة النبي (صلى الله عليه وآله) بعد واقعة كربلاء المفجعة، حيث كان فضح بني أمية وزيغهم، عن الدين وعدائهم لصاحب الرسالة لا يتم إلا بالمخاطرة بعيالات النبوة وتعريضهم للسبي من قبل بني أمية، ووقوف عقيلة بني هاشم وخفِرة الطالبيين في مجلس الطاغية ابن زياد ومجلس يزيد والقاء خطبها لبيان حقانية سيد الشهداء(عليه السلام) وبطلان بني أمية وحزبهم.

اذن فما جرى للسيدة مريم (عليها السلام) من المخاطرة بحرمتها وقدسيتها قد جرى على حرمة وقدسية فاطمة(عليها السلام) اذ خاطرت بحرمتها وقدسها في الذب عن إمامة علي(عليه السلام) وذلك بالتصدي للمهاجمين على بيته، ولمغتصبي مقام الخلافة على المسلمين منه عليه السلام.

فبلوغ مريم إلى مراتب الحجية كان سبباً في تأسيس الشريعة العيسوية واكتمالها. وحجية الزهراء عليها السلام ومقامها ورفعتها وصبرها هو الذي سوّر مقام الإمامة وأعطاه ما يحتاجه من وقود ليستمر إلى الإمام الثاني عشر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
كما أن حمل المولود المعجزة والمجيء به الى قومها تُعد احدى أخطر مهامها وأصعبها تحمّلاً فهي مجاهدة ومخاطرة بالعِرض وهو أشد للغيارى من قتل النفس. اذ لم يكن من اليسير أن تتحمل أقدس عفيفة في زمانها مسؤولية التهمة والبهتان ومحاولة تحدي أمّة لم تصل الى مستوى الرشد، بل لازالت في حضيض الجهل والسوء فكانت معاناتها النفسية مما هي فيه من الاستحياء ومخافة اللوم ما ادّى بها الى تمني الموت ﴿قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسي﴾[6] قال ابو عبدالله الصادق (عليه السلام): “لأنها لم ترَ في قومها رشيداً ذا فراسة ينزّهها من السوء”[7]. مما يكشف شدة معاناتها ووطأة المهمة الملقاة على عاتقها، الا أن ذلك لم يفتَّ في عضدها، ولم يحبط همّتها، ولم يزعزع تسليمها وانصياعها وطاعتها لله تعالى ولأمره شعرة، بل ذهبت مع ما فيها من آلام التوجسات والخواطر، تحمل ولدها المعجزة لتثبت بكل تسليم واقتدار تحمّل المسؤولية المباركة، ويكشف في الوقت نفسه ما وصلت اليه من الاكتمال في التسليم والانصياع وتحمل المسؤولية من حين تحديثها الملائكة وقبولها لذلك، ولم يصدر منها أدنى تردد أو اعتذار لقبول المهمة، مما يعني بكل تأكيد كونها طرفاً مهماً في بلوغ الرسالة العيسوية هذا المبلغ من الاقتدار على تحدي طغام بني اسرائيل ولئامهم وزحفها مخترقة كل حواجز اليهودية المتربصة .

والزهراء (عليها السلام) كان في مواجهتها شرائح اجتماعية غير رشيدة، جحدوا بمقامها من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وصموا آذانهم عن سماع حجتها المضيئة والباهرة، طمعاً في حطام الدنيا وملك لا يبقى.
 
*


[1]  المؤمنون: 50 .
[2]  البرهان 3: 113 .
[3]  البقرة: 285 .
[4]  آل عمران: 44 .
[5]  آل عمران: 37 .
[6]  مريم: 23 .
[7]  كنز الدقائق 8: 210 .