بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين
ورد عن الرسول الأعظم أنه قال: ”فاطمة بضعة مني يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها“.
انطلاقاً من هذا الحديث النبوي الشريف وفي حديثنا عن عظمة السيدة البتول الزهراء صلوات الله وسلامه عليها نتناول ثلاث جهات في هذه العظمة الجليلة:
الجهة الأولى: ذُكر في كلمات العرفاء أن كل وجود كلما كان ضيقاً كثُرت أمثاله، وكلما كان واسعاً قلَّت أمثاله، كلنا وجودات ولكن كل وجود مهما ضاق وكلما ضاق بمعنى أنه وجود قليل الصفات وقليل المآثر والمواهب كلما كان الوجود ضيقاً في صفاته وفي مواهبه كانت له أمثال وأمثال من الموجودات، ولذلك ترى نحن العاديين في الوجود لنا أمثال كثيرة من الموجودات، وكلما كان الوجود وسيعاً له صفات كثيرة ومآثر متنوعة ومواهب جليلة قل مثيله، لذلك أوسع الوجودات لا مثيل لها، والوجود الذي هو أوسع كل وجود، وهو الوجود الذي ذاته عين الوجود ولا مثيل له، ولا ند له ولا نظير له ألا وهو وجود الحق تبارك وتعالى، والله تبارك وتعالى يُعبر عن نفسه ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، ويُعبر عن نفسه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] لا مثيل له لأنه أوسع الوجودات وأتم الوجودات.
في عالم الإمكان أي العالم الذي نعيش فيه، عالم ما سوى الله، في عالم الإمكان أوسع وجود وأرحب وجود شمل الصفات والمواهب والمآثر وشتات العظمة وأنحاء الفضيلة هو وجود محمد .
فلأن النبي المصطفى هو أوسع الوجودات في عالم الإمكان وأرحبها وأعظمها، لذلك لا مثيل له في عالم الإمكان ولا نظير ولا ندَّ له في عالم الإمكان، فجميع الوجودات الأخرى في هذا العالم غير وجود النبي إما منطوية فيه أو متحدة معه، كل وجود سوى وجود رسول الله إن لم يكن بينه وبين وجود الرسول مسانخة ولا مقاربة فهو ينطوي تحت وجود رسول الله، ويستقي من وجود رسول الله، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، فكل من في العالمين يستقي من وجود رسول الله وينطوي تحت وجود رسول الله ”بكم فتح الله وبكم يختم“.
وهناك نوع ثاني من الوجودات متحد مع وجود رسول الله، لأن بينه وبين وجود رسول الله مسانخة ومشاكلة ولذلك هو متحد مع وجود الرسول المصطفى ، وهذا الوجود المتحد مع وجود النبي المصطفى هو الذي عبرت عنه الزيارة الشريفة ”خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين“، ”أول ما خلق الله نوري ونور علي “.
وللإشارة إلى هذا الاتحاد اتحاد نور النبي النور المحمدي والنور العلوي والنور الفاطمي أبعاد ثلاثة لنور واحد، أنحاء ثلاثة لوجود واحد ”لولاك لما خلقت علياً، ولولا علي لما خلقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما“ فهذه الثلاثة الأنوار هي نور واحد ووجود واحد يغمر البسيطة بأفضاله ونعمه وبركاته ومواهبه.
الجهة الثانية: ربما يقول قائل كما ذكرت بعض الأقلام أن قيمة كل إنسان بصفاته الذاتية لا بصفاته العرضية، أي أنت كإنسان ابن فلان، خُلقت في البلد الفلاني، ومن الأسرة الفلانية، وهذه كلها صفات عرضية لا قيمة لها في الفضل، ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي : ”قيمة كل امرئ ما يحسنه“ أي قيمتك بما تُعطي، قيمتك بكمالك الذاتي، قيمتك بصفاتك التي تنبع من وجودك لا بالألوان والأنساب ولا بالصفات العرضية، قيمتك بك.
إذن بما أن قيمة الإنسان بكماله الذاتي فأي كمال لفاطمة!
هكذا كتب البعض هي بنت رسول الله أخواتها أيضاً بنات رسول الله أم كلثوم وزينب عند العامة أنهن بنات رسول الله هي زوجة علي، وعلي تزوج تسع زوجات، هي أم الحسن والحسين وفاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين، وآمنة أم رسول الله، فأي فضل لها؟! إذا كان فضلها بأنها أم الحسنين فآمنة أم الرسول، وفاطمة بنت أسد أم علي، وإذا كان فضلها أنها زوجة علي فلعلي زوجات متعددة، وإذا كان فضلها أنها بنت رسول الله فلرسول الله بنات غيرها فأين الفضل!
قد يُعترض على ما أنشده محمد إقبال عندما يقول:
والمجدُ يُشْرقُ مِنْ ثَلاثِ مَطَالعٍ | فِي مَهْد فَاطِمة فَمَا أَعْلَاها | |
هِي بنْتُ مَنْ؟ هِي زَوجُ مَنْ؟ هِي أُمُّ مَنْ؟ | مَنْ ذا يُداني في الفَخارِ أَبَاها |
هذه الانتماءات الثلاثة بنت من، زوج من، أم من، اعتبرها محمد إقبال هي معالم فضل فاطمة، والحال بأن هذه المعالم موجودة عند غيرها فما هو وجه الفضل فيها!
هذه فكرة خاطئة، لأن الكمالات العرضية هي تجليات ومظاهر للكمال الذاتي، فلو لاحظنا لرأينا أن آمنة حظيت بانتماء واحد، وفاطمة بنت أسد حظيت بانتماء واحد، وأم البنين الأربعة حظيت بانتماء واحد، ولكن فاطمة جمعت الانتماءات الثلاثة، بنت الرسول، وزوجة الوصي، وأم الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهذا الكمال من خلال أبيها ومن خلال زوجها، ومن خلال أبنائها هو كمال تجلي لذلك الكمال الذاتي، وانعكاس لذلك الكمال الذاتي، ولو لا أن فاطمة جوهر في الكمال لما تأهلت لأن تكون بنت محمد، وزوجة علي، وأم الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
هناك كلمة يذكرها علماؤنا ومنهم المحقق الاصفهاني أستاذ سيدنا الخوئي قدس سرهما، ومنهم علماؤنا الأبرار يعبرون عن السيدة الصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء بأنها حلقة الوصل بين النبوة والإمامة، وهذه الحلقة كانت في السماء وانعكست في الأرض، كانت في عالم الأنوار وانعكست في عالم المادة، فاطمة صلوات الله وسلامه عليها منذ أن خلق الله نورها، خلق النور الفاطمي جامع لنورين نور النبوة ونور الإمامة، خُلقت وهي تجمع النورين، خُلقت وهي وصل بين الكمالين كمال النبوة وكمال الإمامة، وكما كانت في عالم السماء جامعة بين النورين فهي حينما نزلت إلى عالم الأرض وعالم المادة انعكس ذلك الجمع في عالم المادة فأصبحت بنت النبي محمد وزوجة علي وأم الحسن والحسين.
جمعت بين نور النبوة ونور الإمامة وهي في عالم الذر وعالم الأنوار، وجمعت بين هذه الأنوار وهي في عالم المادة وفي عالم الأبدان، إذن هذا الكمال العرضي هو تجلي وانعكاس لذلك الكمال الذاتي الذي حظيت به السيدة الصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبناءها الطيبين الطاهرين.
الجهة الثالثة: أين يتجلى ويتضح كمال كل معصوم من هؤلاء المعصومين الأئمة الأطهار وفاطمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؟
هناك عدة كمالات وصفات نقتصر على هذا الكمال الواضح الذي أظهرته الآيات والروايات الشريفة، من أسمى الكمالات العلاقة بين القرآن والمعصومين ، علاقة المعصوم بالقرآن ليس كعلاقتنا بالقرآن علاقة القراءة والحفظ والترتيل والفهم والتفسير، العلاقة بين النور القرآني ونور المعصوم هي أعلى العلاقات وهي أسمى الكمالات.
العلاقة بين القرآن وبين العترة هي من أسمى كمالات المعصومين وتتضح هذه العلاقة عندما نتأمل في آية التطهير في قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ [الأحزاب: 33]
في آية التطهير بحوث كثيرة ونحن نتناول عنصرين من عناصر آية التطهير:
العنصر الأول: نلاحظ أن آية التطهير قالت: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ﴾ [الأحزاب: 33] ولم تقل ليذهبكم عنه، مثل قولك أزلت الوسخ عن ولدي، وتارة تقول أزلت ولدي عن الوسخ، فأيهما أبلغ؟ ونفس هذا التعبير ورد في حق النبي يوسف فقال في الآية المباركة: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف: 24] العصمة تعني أن الله قد أبعد كل الرذائل والملوثات والأدران عن المعصوم فلا تقترب منه ولا تدنو إليه، ساحته ساحة الطهارة وساحة النزاهة وساحة العروج والعلو، لا يدنو من ساحته درن ولا ذنب ولا رجس ولا تلوث، أبعد الرجس عنهم بمعنى أن ساحتهم هي ساحة الطهارة لا يدنو إليها ذنب ولا يدنو إليها تلوث.
وأما أبعدهم عن الرجس تعني أمرهم ونهاهم كما أبعدنا، فالله سبحانه وتعالى أبعدنا نحن عن الرجس أي أمرنا ونهانا وكلفنا، أما المعصوم أبعد الرجس عنه وجعل ساحته ساحة طاهرة نزيهة لا يدنو إليها رجس ولا ذنب ولا تلوث.
العنصر الثاني: ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ ما استخدم في الآية الفعل الماضي بل استخدم الفعل المضارع إشارة إلى استمرار الفيض، فالمعصوم محفوف في كل لحظة بفيض الله ومدده وعطائه، الفيض مستمر والمدد مستمر وإرادته مستمرة وإذهابه مستمر وتطهيره مستمر، لا تمر لحظة ولا آن على المعصوم إلا وهو وعاء لفيض الله ولمدد الله، إلا وهو وعاء لكرامة الله ومواهب الله تبارك وتعالى من خلال الصفات الجلالية أو الصفات الجمالية، واستخدم الفعلين ﴿يُرِيدُ اللَّهُ﴾ ﴿لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ﴾ إشارة لصفات الجلال، لا ذنب لهم ولا رجس لهم ولا خطأ فيهم ولا زلل.
﴿وَيُطَهِّرَكُمْ﴾ هذه صفات الجمال، أنتم أهل العصمة وأنتم أهل العلم وأهل الولاية، وأهل القرب، أنتم أهل العبادة، وهبهم صفات الجلال وهي الصفات السلبية عندما قال﴿لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ﴾ وصفات الجمال وهي الصفات الثبوتية عندما قال ﴿وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾
أين العلاقة الآن بين الآية وبين القرآن، العلاقة واضحة، يقول الله تبارك وتعالى ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ «77» فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ «78» لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «79»﴾ [الواقعة: 77 – 79]، لا يمكن أن ينال القرآن عقلاً وفهماً وسلوكاً إلا المطهر، الناس العاديون يمتلكون من القرآن ظاهره ومعالمه العامة وبعض شذراته، أما الذي ينال جوهر القرآن ويتصل بعمق القرآن ويكون نوره انعكاساً لنور القرآن فهو خصوص المعصوم المطهر، وقال في آية أخرى: ﴿بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ [العنكبوت: 49]
وقال: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 7] المطهرون هم وعاء القرآن، المعصومون هم نور القرآن ولذلك تتضح من هنا ميزة الزهراء .
في رواية الحسين بن أبي العلاء عن الإمام الصادق قال: ”وإن عندنا مصحف فاطمة، قيل: وما مصحف فاطمة؟ قال: ما أزعم أنه قرآن وفي رواية ما أزعم أن فيه قرآن ولكن فيه علم ما كان وما يكون وما هو كائن“.
مصحف فاطمة في الروايات الصحيحة الشريفة لما رحل رسول الله إلى جوار ربه دخل على فاطمة حزن شديد وغم شديد، فنزل عليها ملك يسليها كما نزلت الملائكة على مريم بنت عمران ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 42]، كذلك نزلت الملائكة على الزهراء وهي المحدثة العليمة، نزلت الملائكة عليها وكانت تُملي على الإمام علي ما تسمعه من الملائكة ويقوم الإمام علي بتدوينه وكتابته فكان ذلك الكتاب مصحف فاطمة.
التنزيل هو القرآن الكريم الذي نزل على قلب النبي المصطفى كما قالت الآية: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ «193» عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «194» بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ «195»﴾ [الشعراء: 193 – 195]
النبي نزل عليه التنزيل «نفس القرآن»، وفاطمة نزل عليها التأويل، قلب النبي وعى التنزيل وقلب فاطمة وعى التأويل، فكانت فاطمة متصلة بالقرآن اتصال التأويل، وهذا الكتاب الذي هو تأويل القرآن توارثه الأئمة كابر عن كابر من علي وحتى الإمام الحسن العسكري توارثوا هذا الكتاب كتاب تأويل القرآن المسمى بمصحف فاطمة وكله كان عن لسان فاطمة وعن حديث الملائكة مع فاطمة .
من هنا تتبين عظمة الزهراء ، ومن هنا يتبين ما ورد عن الإمام العسكري عندما قال: ”نحن حجج الله على الخلق وفاطمة حجة علينا“ لأن كتاب تأويل القرآن جاء منها، فالحجية جاءت منها.
لمّا رأتها الكعبة العصماءُ | تفيض من جبينها الأضواءُ | |
تساءلت مَن هذه النوراءُ | فقيل بشرى هذه الزهراء | |
تفاحة من سدرة المنتهى | تكوّنت من السنا والبها | |
ذابت بصلب المصطفى فازدهى | والتقت الأنوار والاشذاءُ | |
من تربة الأرض وماء الجنانْ | تورّدت في وجهها جنتانْ | |
لو كان إنسان له معنيان | فإنّها الإنسية الحوراءُ | |
منابر الوحي لأجدادها | خلافة الأرض لأولادها |